قسمتي ونصيبي
عم «محسن خليل» العطار، أجزل الله له العطاء فيما يحب ويتمنى عدا الذرية … دهرٌ طويل مضى دون أن يُنجبَ، مع مجاهدة للنفس لترضى بما وهب الله وبما منع، كان متوسطَ القامة، ممن يؤمنون بأن الخير في الوسط، وكان بدينًا، وعنده أن البدانة للرجل — كما للمرأة — زينةٌ وأبَّهة، وكان يزهو بأنفه الضخم وشدقَيه القويَّين، وبالحب المتبادل بينه وبين الناس. وحباه الحظُّ بست «عنباية»، ذات الحسن والنضارة والطيات المتراكمة من اللحم الوردي الناعم، إلى كونها ست بيت ممتازة، يغنَى سطحُ بيتها المكون من دور واحد بالدجاج والإوز والأرانب، ويلهج عشاق مائدتها بطواجنها المعمرة وفطائرها السابحة في السمن البلدي، دنيا مقبلة في كل شيء، ولكنها ضنَّت بنعمة الإنجاب في عناد تطايرت دونه الحِيَل … نشدَت شورى الأحبَّة، ولجأت إلى أهل الله من العارفين والواصلين، وطافت بالأضرحة المباركة، حتى الأطباء زارتهم، ولكن أصدروا فتوى غير مبشرة شملت الزوجين معًا «عم محسن» و«ست عنباية»، وقالوا إن الأمل الباقي أضعف من أن يُذكر. ووقفَت في سماء النعيم الصافية غمامةُ حزن مترعة بالحسرة لا تريد أن تتزحزح، ولما شارف عم محسن الخامسة والأربعين وست عنباية الأربعين، تلقَّيَا من الله رحمة … هتفت ست عنباية بعد تدقيق وعناية: «يا ألطاف الله! إني حامل وحق سيدي الكردي!» كان عم محسن أول من طَرِب وشكر، وتردَّد الخبر في «الوايلية» على حدود «العباسية» حيث يوجد بيت الأسرة ومحل العطارة. وانقضت الأشهر التسعة في انتظار بهيج، وجاء المخاض يهزج بالأنين السعيد … ولما تلقَّت الحكيمة الوليد حملقَت فيه مذهولة مبهوتة، وراحَت تُبسمل وتحوقل … وهرعت إلى الصالة الشرقية الوثيرة … فوقفَت أمام عم محسن مضطربة، حتى تمتم الرجل خافق القلب: ربنا يلطف بنا، ماذا وراءك؟
همسَت بعد تردُّد: مخلوق عجيب يا عم محسن.
– كيف؟
– أسفله موحَّد وأعلاه يتفرع إلى اثنين!
– لا!
– تعالَ انظر بنفسك.
– وكيف حال الست؟
– بخير، ولكنها غائبة عما حولها!
وذهب في أثرها مضطربًا خائب الرجاء، وحملق في المخلوق العجيب … رأى أسفله موحدًا ذا رِجْلَين وبطن واحد، ثم يتفرع بعد ذلك إلى اثنين؛ لكل منهما صدره وعنقه ورأسه ووجهه، وكانَا يصرخان معًا، وكأن كلًّا منهما يحتجُّ على وضعه، أو يطالب باستقلاله الكامل وحريته الشرعية. هيمن على الرجل شعورٌ بالارتباك والحيرة والخجل وحدس المتاعب تتجمع فوقه كالسحب المليئة بالغبار، وترددت في داخله العبارة التجارية التقليدية التي يحسم بها الموقف عند فشل صفقة من صفقات العطارة، وهي «يفتح الله». أجل … ودَّ لو في الإمكان التخلص من هذه العاهة التي لن يذوق معها راحة البال، وقالت الحكيمة وهي مستغرقة في عملها الروتيني: صحة جيدة، كأن كلَّ شيء طبيعي تمامًا.
فتساءل عم محسن خليل: الاثنان؟
فقالت الحكيمة بحيرة: ليسَا توءمَين … هذا وليد واحد!
فجفَّف الرجلُ عرقَ وجهه وجبينه المتصبِّب من داخله ومن جو الصيف، وتساءل: ولِم لا نعتبرهما اثنين؟
– كيف يكونان اثنين على حين أن انفصال جزء عن الجزء الآخر مستحيل!
– إنها مشكلة، ليتها لم تكن أصلًا!
فقالت الحكيمة بلهجة وعظية: إنه منحة من الله على أي حال، ولا يجوز الاعتراض على حكمته.
فاستغفر الرجل ربَّه، فواصلت الحكيمة: سأسجله باعتباره واحدًا.
فتنهد عم محسن، قائلًا: سنصبح أحدوثة ونادرة!
– الصبر جميل!
– ولكن ألا يستحسن اعتباره اثنين ذوي بطن واحد؟
– لا يمكن أن يتعامل مع الحياة إلا كشخص واحد.
وتبادلَا النظر صامتَين، حتى سألته: ماذا تسميه؟
ولما لازم الصمت، تساءلت: محمدين! ما رأيك في هذا الاسم المناسب؟
فهزَّ رأسه مستسلمًا دون أن ينبس، ولما انتبهت ست عنباية لما حولها صُعقت، وبكت طويلًا حتى احمرَّت عيناها الجميلتان، وشاركت زوجَها عواطفَه … غير أن ذلك لم يستمرَّ طويلًا، فاستجابت ست عنباية في النهاية إلى عاطفة الأمومة وعم محسن للأبوة، وراحت تُرضع الأيمن، فما سكت البكاء حتى أرضعت الأيسر … وبعفوية جعلت تُنادي الأيمن بقسمتي والأيسر بنصيبي، فمنذ الأسبوع الأول عرُف الولد باسمَين، وتميز كلٌّ بفردية، فربما نام قسمتي وظل نصيبي صاحيًا يتناغى أو يبكي أو يرضع، ومع الزمن خفَّت الدهشة، وإنْ لم تخفَّ أصداؤها في الخارج، وألفت الغرابة، وزالت الوحشة … ونال قسمتي ونصيبي حظَّهما الكامل من الرعاية والحب والحنان، ومضت الأم تقول للزائرات من أهلها: ليكن من أمره ما يكون، فهو ابني، أو هما ابناي.
واعتاد الحاج محسن — فقد أدى الفريضة بعد التجربة — أن يقول: لله حكمته!
وعلم بفطرته أن الطفولة ستمرُّ كدعابة، ولكنه فكَّر في المستقبل بقلق واختناق … أما ست عنباية فاستغرقتها متاعبها المضاعفة، كان عليها أن تُرضع اثنين، وأن تنظف اثنين، وأن تربيَ اثنين، وأن تملك أعصابها إذا نام أحدهما واحتاج للهدوء وصحَا الآخر ورغب في الملاعبة. واختلفت بقدرة قادر صورتاهما، فبدَا قسمتي عميقَ السمرة رقيقَ الملامح عسليَّ العينين، أما نصيبي فكان ذا بشرة قمحية وعينَين سوداوين وأنف يُنذر بالضخامة. وأخذ الوليد يحبو على قدمين وأربع أيدٍ، وينطق كلمة بعد أخرى، ويحاول المشي … ولوحظ أن قسمتي كان أسرع في تعلُّم النطق، ولكنه كان يُذعن لمشيئة نصيبي في الحبو والمشي، وفي العبث بالأشياء وتحطيمها … لبثت القيادة طيلة تلك الفترة المبكرة بيدي نصيبي، واتسمت بالعفرتة والتدمير ومطاردة الدجاج وإيذاء القطط، غير أن خضوع قسمتي لنصيبي أعفاهما من الشجار، عدا الأويقات النادرة التي كان يميل فيها قسمتي للراحة، فلا يتورع نصيبي عن لكزة بكوعه حتى يسترسل في البكاء. ولما بلغَا الرابعة من العمر وجاوزاها، أخذَا ينظران إلى الطريق من النافذة ويشاهدان الأطفال، ويرفعان أعينهما نحو السماء من فوق السطح، فانهمرت الأسئلة مع اللعاب: كل ولد ذو رأس واحد، لماذا؟
فتجيب ست عنباية مرتبكة: ربنا يخلق الناس كما يشاء.
– دائمًا ربنا … ربنا … أين هو؟
فيجيب عم محسن: هو يرانا ونحن لا نراه، وهو قادر على كل شيء، والويل لمن يعصاه!
ويحدثهما الرجل عما يجب ليحوزَا رضاه فيخاف قسمتي، ويقول نصيبي لقسمتي: اسمع كلامي أنا وإلا ضربتك.
ويريان القمر في ليالي الصيف فيمدَّان نحوه أيديَهما، يتنهد قسمتي مغلوبًا على أمره ويثور نصيبي غاضبًا، ويتساءل الحاج: هل نحبسهما في البيت إلى ما شاء الله؟
فتقول ست عنباية: أخاف عليهما عبث الأطفال.
وقرر الحاج أن يقوم بتجربة، فجلس أمام البيت على كرسي خيرزان وأجلسهما إلى جانبه على كرسي آخر … سرعان ما تجمَّع الصغار من مختلف الأعمار ليتفرجوا على المخلوق العجيب، ولم ينفع معهم زجرٌ أو نَهْر، حتى اضطر الرجل أن ينسحب من مجلسه وهو يحملهما على ذراعه، وتمتم في أسًى: بدأت المتاعب.
ولكن الله فتح على ست عنباية بفكرة … فاقترحت أن تُقنع جارتها بإرسال ابنها «طارق» وبنتها «سميحة» للعب مع محمدين، ووافقت الجارة مشكورة، فجاء طارق وسميحة، وكان طارق أكبر من محمدين بعام، أما سميحة فكانت تُماثله في عمره. وقد فزعَا أول الأمر ونفرَا من الصحبة، غير أن ست عنباية استرضتهما بالهدايا حتى زايلتهما الوحشة وجرفهما حبُّ الاستطلاع والمغامرة، وسعد قسمتي ونصيبي بالرفيقَين الجديدَين، وأحبَّا حضورهما حبًّا فاق كلَّ تقدير، رغم أنه لم يَفُز بحبٍّ في مثل قوته، وتنوَّع الحديث واللعب وابتكرت الحكايات. وجدت الكرة الصغيرة مَن يتبادل رمْيَها، ووجد الحبل مَن يتصارع على شدِّه، وباتت سميحة هدفًا ورديًّا كلٌّ يرغب في الاستحواذ عليه، وكلٌّ يدعوها إلى الجلوس إلى جانبه إذا جمعهم التلفزيون. وبسبب سميحة نشبت بينهما أول معركة حقيقية على ملأ من الأسرة، فدَمِيَت شفة «نصيبي» ووَرِمت عين «قسمتي»، وبها تحرَّر قسمتي من الذوبان في نصيبي … وأخذ يشعر بأنه فردٌ بإزاء آخر، فتبادلَا من الآن فصاعدًا التوافق كما تبادلَا التنافر، وقال الحاج ذات يوم: جاءت السن المناسبة للمدرسة.
فتجهم وجهُ عنباية وارتسم في أساريره الشعور بالذنب، فقال الحاج: إنه باب مغلق!
وتفكَّر مليًّا ثم قال: سأجيء لهما بالمعلمين، يجب أن يُعدَّا على الأقل ليحُلَّا محلِّي في الدكان.
وجاء المعلمون، ولقنوهما مبادئ الدين واللغة والحساب، واستجاب «قسمتي» للتعلُّم بدرجة مشجعة، أما «نصيبي» فبدَا راغبًا عن العلم متعثرًا في الفهم والاستيعاب، ومن أجل ذلك حَنِق على الآخر، وكدَّر ساعات مذاكرته بالعبث والغناء والمعاكسات الصبيانية، وبدَا الخلاف مزعجًا في تقبُّل التربية الدينية التي أقبل عليها قسمتي بقلب مفتوح، على حين وقف فيها نصيبي موقفَ اللامبالاة. وضاعف زجرُ المدرس من عناده، ونهرَه أبوه كثيرًا، ولكنه أشفق من ضربه … وعند بلوغ الثامنة أراد قسمتي أن يصلي ويصوم، ومع أن نصيبي لم يَمِل إلى ذلك، إلا أنه وجد نفسه يشارك بقدرٍ لا يستهان به في الوضوء، وأنه يرغم تقريبًا على الركوع والسجود … ولشعوره بضعف مركزه أذعن للواقع وهو يمتلئ حنقًا وغيظًا، وأمرَه أبوه بالصيام، وحاول أن يُشبع جوعه في الخفاء، ولكن قسمتي احتج، قائلًا: لا تنسَ أن بطننا واحد، وإذا تناولت لقمة واحدة أخبرت أبي.
وصبر يومه حتى نفذ صبره، فبكى، فرقَّت له أمُّه، وقالت للحاج: الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، دَعْه حتى يكبر عامًا أو عامين.
فقال الأب في حيرة: ولكنه إذا أفطر أفطر الآخر!
وهي مشكلة لم يحلَّها إلا إمام سيدي الكردي … فقال إن العبرة بالنية، وإن صيام «قسمتي» صحيح حتى لو أفطر «نصيبي»، وصام قسمتي رغم إفطار نصيبي مستندًا إلى نيته أولًا وأخيرًا. وتوكَّد لكلٍّ شخصيته، وحال بينهما نفورٌ دائم آخذٌ في الاستفحال، وندرَت بينهما أوقات الصفاء، وقالت الأم بعين دامعة: يا ويلي، لا يطيق أحدهما الآخر، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، فكيف تمضي بهما الحياة؟!
مضت على الشوك، وشمل الخلاف أشياء وأشياء … قسمتي يحب النظافة ونصيبي يكره فكرة الاستحمام إلا أن يُضطرَّ إليه اضطرارًا، وتوسَّط الوالدان على أن ينزل قسمتي عن شيء من النظافة نظير أن ينزل نصيبي عن كثير من القذارة. ونصيبي نَهِمٌ لا يشبع، فكثيرًا ما كان يصاب قسمتي بالتخمة … ولقسمتي ولعٌ بالأغاني العاطفية على حين يعشق نصيبي الأناشيد الصاخبة، أما ذروة الخصام فقد احتدمَت لحبِّ قسمتي النامي للقراءة والاطلاع، يحب أن يقرأ كثيرًا، والآخر يفضِّل اللعب فوق السطح ومعاكسة السابلة والجيران. ونصيبي يمكن أن يصبر ساعةً على انهماك الآخر في القراءة، ولكنه عند الضرورة يعرف كيف يُفسد عليه تركيزه واستغراقه حتى يشتبكَا في معركة تُسفر عادة عن انتصار نصيبي، وقال له قسمتي مجربًا المناقشة بدلًا من العنف غير المجدي: لي هواياتي ولك هواياتك، ولكن هواياتي أنسب لظروفنا غير الطبيعية.
فقال «نصيبي» بحدة: معنى ذلك أن تتحول الحياة إلى سجن دائم.
– لكن لا نصيب لنا في الدنيا الخارجية.
– السعادة في الدنيا والكآبة في الحجرة.
فقال «قسمتي»: إنك تعاكس الناس فينهالون علينا بالسخرية.
– أموت لو فعلت غير ذلك … بل إني أفكر في اقتحام الطريق.
– ستجعل منا أضحوكة وفرجة.
فصاح «نصيبي»: إني أكره السجن وأحسد النجوم.
فقال «قسمتي» برجاء: يلزمك الكثيرُ من العقل.
فقال «نصيبي» بازدراء: لا سبيل إلى الاتفاق.
– لكننا واحد كما ترى، رغم أننا اثنان!
– هذه هي المصيبة، ولكن عليك أن تُذعنَ لي دون مقاومة.
– إنك عنيد وتحب الخصام.
ودعاهما الوالدان إلى الاجتماع في حجرة المعيشة. حقًّا إنهما فقدَا الشعور براحة البال وتنغَّص عليهما صفوهما، وآمنَا بأن كارثة ستحل بالبيت إن لم يسارعَا إلى حسم الداء، قبَّلَتهما عنباية، وقالت: فليحب أحدكما الآخر، إن وُجد الحب تلاشَت المشاكل!
فقال «نصيبي»: هو الذي يكرهني!
ولكن «قسمتي» بادره قائلًا: بل أنت الذي تكرهني!
فقالت ست عنباية متأوهة: إنكما اثنان في واحد لا يتجزأ، ولا بد من الحب.
وقال الحاج محسن خليل: الحكمة تطالبكما بالوفاق، وإلا انقلبت الحياة جحيمًا لا يطاق، ذوبان أحدكما في الآخر مرفوض، والوفاق ممكن، فليصبر «نصيبي» عندما يرغب «قسمتي» في القراءة، وفي مقابل ذلك على قسمتي أن يرحِّب بالحركة واللعب مع نصيبي، وليكن كلُّ غناء مقبولًا، ليستمتع كلٌّ بأغانيه المفضلة، أما الدين فلا مناقشة فيه.
فقال «قسمتي»: إني على استعداد طيِّب للوفاق رغم ما يكلفني من ضيق.
ولاذَ «نصيبي» بالصمت، فرجع «قسمتي» يقول: إنه لا يحب الوفاق، ولا يُعدُّ نفسه ليوم تدعونا فيه إلى العمل في الدكان!
فقال الأب بحزم: لا بد مما ليس منه بدٌّ!
وعادَت ست عنباية تقول بحرارة وضراعة: عليكما بالحب، ففي رحمته النجاة.
ولكن الوالدَين لم يَصْفُ لهما بال، وتابعَا ما يحدث بقلق وأسًى، وبذل «نصيبي» في سبيل الوفاق جهدًا مترددًا لغلبة الأهواء الجامحة عليه، على حين مضى قسمتي في الطريق الجديد بإرادة أقوى ورغبة أنقى مستأنسًا بعواطفه الصادقة وميله المخلص لوضع حدٍّ لعذاباته، ومستعينًا عند الضرورة بوالدَيه. ولمَّا ناهزَا الحلم وشارفَا المراهقة تصاعدَت أزمتهما إلى الذروة … احتدمَت الأحلام المكبوتة منذرة بالانفجار … وتبلورت لكل منهما ذاتية مستقلة، فبدَا الآخر غريبًا مهددًا للأمن وعدوًّا يجب أن يُقهر … ضاق كلٌّ منهما بالرابطة القدرية التي فرضت عليهما وحدة كريهة لا فكاك منها. وتلاطمَا في دوامة من الانفعالات المحرقة الجنونية، وفارَت من الأعماق موجةٌ عمياء جرفَت سترَ الحياء، فارتطم الاندفاع بالندم، واشتعل الغضب، فانخرط الاثنان في معركة وتبادلَا الضربات القاسية، وهمدَت الحركة غائصةً في الصمت والشجن … استمرت فترة غير قصيرة، إلى أن قال «قسمتي»: إنها لعنة لا يمكن أن تمضيَ معها الحياة في سلام.
فقال «نصيبي» بهدوء عنيد: لكنها ستمضي في طريقها على أيِّ حال!
فأظلمت عينَا «قسمتي» العسليتان، وقال: قُضيَ علينا بالحرمان من الانسجام الذي تحظى به جميعُ المخلوقات.
– إنك مريض ذو أفكار مريضة.
فقال «قسمتي» بسخرية: أحدنا مريض ولا شك!
فقال «نصيبي» بتحدٍّ: لن أنزل عن حقٍّ من حقوقي، فلا مهادنة بعد الآن.
– لي أيضًا حقوقي.
وتبادلَا نظرةً متحدية وبائسة، فانقطعَا عن الحوار على أسوأ حال، وفي ذلك الوقت رأيا سميحة — زميلة الطفولة — بعين جديدة … كانَا يريانها من النافذة وهي تذهب وتجيء منفردة أو بصحبة أمها، فتوقظ ذكرى عابرة ثم تختفي. أما ذلك اليوم فرأياها بعين جديدة، رأياها وقد أنضجَتها شعلةُ الصبا فأضفَت عليها بهاءً وأثْرَتها بشهد الرغبة، أُترع قلبُ قسمتي برحيق الفتنة فثمل، على حين جنَّ نصيبي بالأخيلة الجامحة. تلقَّى قلب قسمتي شعاع الحسن كما يتلقَّى البرعم شعاع الشمس فيتفتَّح، تمنَّى لو تحلُّ محلَّ نصيبي من وجوده التعيس، ولأول مرة يشعر بأن نصيبي ليس قيدًا فحسب، ولكنه سدٌّ منيع في طريق السعادة الحقيقية. أما نصيبي فظل رأسه يتحرك في اضطراب، ولمَّا وجد الفتاة واقفة قريبة من مدخل بيتهما تنتظر، اندفع إلى الطريق جارًّا معه «قسمتي» … مرَق من الباب إلى الطريق، فرأَته سميحة فتراجعَت مبتعدةً باسمةً، ولكنه اندفع نحوها مسدِّدًا يدَيه إلى صدرها … ففزعت ووثَبَت داخلة إلى بيتها. ولفتَت الهجمة الحيوانية أنظار بعض المارة في شارع «الوايلية»، ولكن قسمتي رجع إلى بيتهم بسرعة وهو يسبُّ ويلعن، والآخر مستسلم له بعد إفاقة مباغتة، وغضب «قسمتي» وصاح به: إنها فضيحة وما أنت إلا مجنون.
فلم يُجِبْه نصيبي مغلوبًا على أمره، وعلمَت الأم بما حدث فجزعت، ولما عرفَت الحقيقة من قسمتي، قالت للآخر: ستُهلِك نفسَك ذات يوم.
فهتف قسمتي: وسوف يُهلكني معه دون ذنب.
فقال نصيبي بجرأة: نحن في حاجة إلى زوجة!
فبُهتَت الأم ولم تَدْر ماذا تقول، فواصل نصيبي: كما ولدتِنا فإنكِ مسئولة عن تزويجنا من بنت الحلال.
فقال قسمتي: لن توافق بنتٌ على الزواج من اثنين!
فقال نصيبي بتحدٍّ: ابحثي لنا عن زوجتَين.
فقال قسمتي بحزن: قُضي علينا أن نعيش وحيدَين!
فقال نصيبي: فلنعتبر شخصًا واحدًا كما نحن مسجلون في دفتر المواليد.
فقال قسمتي بأسًى: شخص للفرجة لا للزواج.
واضطرت الأم أن تُغادر الحجرة، وهي تقول: قد يكون عند الحاج حل!
وثار غضب نصيبي، وقال للآخر: لا حلَّ إذا لم نعثر عليه بأنفسنا، فلننتظر حتى ينتصف الليل ويندر المارة ثم ننطلق في الظلام وراء أيِّ صيد يقع.
فهتف قسمتي: خيال جنوني.
– لا تكن جبانًا.
– لا تكن مجنونًا.
وقال الحاج محسن لزوجته: لم يَغِب عني هذا الموضوع، ولكن لا توجد أسرة ترضى بمصاهرتنا.
– والحل؟
فقال الرجل وصوته يخفض.
– ستجيء امرأة مسكينة في الحلقة الخامسة لتقوم على خدمتهما!
وجاءت امرأة تعيسة الحال والمنظر، نشطوا إلى تغذيتها وتنظيفها لترضى بما يُراد بها، وأعقب ذلك سكون ظاهري على الأقل … أما في الواقع فإن نصيبي كان يسيء معاملة المرأة نهارًا كتعويض عن اندفاعه الليلي، وأما قسمتي فبدَا كئيبًا مشمئزًا، ويسأل الآخر: ما ذنبي أنا؟
فنهره نصيبي متسائلًا: وهل الذنب ذنبي؟!
لم يُحِرْ جوابًا، لكنه تذكَّر سميحة بقلبه المسلوب، وعواطفه المتأججة المحرومة، فتضاعف أساه، والحق أن كليهما شعر بالضياع والهوان، ولكن لم يشعر أحدهما بتعاسة الآخر … وعلى العكس، اتهمه بأنه المسئول عن مأساته، وودَّ لو يتخلص منه بأي ثمن. ودعاهما الأب للعمل في الدكان ولو كتجربة لا مفرَّ من ممارستها … كان يوم حضورهما في الدكان يومًا معتدل المناخ من أيام الربيع … تجلَّيَا للأعين في بنطلون رمادي، وقميصين أبيضين نصف كم، أما شعر رأسَيهما فاستوى مشذَّبًا متوسط الطول. وقفَا وراء الطاولة مرتبكَين، وسرعان ما تجمَّع كثيرون ما بين زبون ومتفرج حتى ازدحم الطريق إلى نصفه، وقال الحاج موجهًا خطابَه لابنَيه: استغرقَا في العمل، ولا تُباليَا بالناس.
ولكن الغضب تملَّك نصيبي، على حين دمعَت عينَا قسمتي، وإذا بمصور صحفي يشقُّ طريقه بين الجموع، ويلتقط العديد من الصور ﻟ «محمدين» أو «قسمتي ونصيبي». وفي النصف الثاني من النهار جاء مندوب من التلفزيون يستأذن في إجراء حوار مع الشابَّين، ولكن الحاج رفض بحزم وبنبرة شديدة الغضب … وبنشر الصور في الصحيفة الصباحية اشتدَّ إقبال الناس وهبط البيع للدرجة الدنيا، فاضطر الحاج محسن خليل لمنعهما من الذهاب إلى الدكان، وقال لامرأته بقلب محزون: سوف تصفَّى التجارة عقب انتهاء الأجل.
وعند ذاك تساءل «نصيبي» غاضبًا: لِم لمْ تتخلص منا عقب ولادتنا؟ لِم لمْ ترحمنا وترحم نفسك؟
فقال الحاج في تأثُّر شديد: لن تعرفَا الضيم أبدًا، وسترثان ما يحقق لكما الستر والكرامة.
فهتف «نصيبي»: لا قيمة للمال وحده، الواقع أننا ميتان، كم تمنيتُ أن أُمارسَ التجارة وأبتاعَ سيارة وأتزوج من أربع!
وقال «قسمتي» في حسرة: وعندي الاستعداد لأكون أستاذًا، وأمارس السياسة أيضًا.
ونظر نصيبي إلى قسمتي، وقال بحنق: إنك العقبة التي تسدُّ طريقي.
فقال قسمتي بإصرار: أنت … أنت العقبة.
فتساءل الحاج: ألَا تُسلِّمان بالواقع وتسعيان إلى السعادة معًا؟
فقال قسمتي: لو خُلقنا برأس واحد وأسفلين منفصلين لهان الأمر!
فقال الحاج برجاء: لن تعزَّ السعادة على مَن ينشدها بصدق.
فقال قسمتي بحنق: هذه السعادة هي سبب تعاستنا!
ثم التفت نحو نصيبي قائلًا: تخلَّ عن عنجهيتك واتبعني تبلغ أقصى درجات الرفعة والسعادة، أما لو تبعتك أنا فيكون مصيرنا السجن.
فقال نصيبي ساخرًا: محاولة خائبة لن تنجح، نحن مختلفان تمامًا، أنا لا أحب المعرفة، أما السياسة فإنك إن اخترت الحكومة اخترت من فوري المعارضة والعكس بالعكس، لن أتبعك ولن تتبعني، ولن تهدأ المعركة.
فقال الأب بنفاد صبر: ارجعَا إلى الوفاق، لا مفرَّ منه، إنه قدَرٌ، كما أن اتحادكما قدرٌ.
وعادَا كارهَين إلى المحاولة، تجنَّبَا الخلاف ما استطاعَا، وجارَى كلٌّ الآخر رغم تقزُّز قسمتي الخفي وسخرية نصيبي بعيدًا عن عينَي صاحبه. بدوَا صديقَين بلا صداقة، متحالفَين بلا إخلاص، فعاش كلٌّ منهما نصف حياة، وتعلَّق بنصف أمل … غير أن آثار العمر طُبعت في وجه نصيبي قبل الأوان، وتوكَّد أنه يُسرع نحو شيخوخة مبكرة … لعله نتيجة لإفراطه في كل شيء. وراح يشكو من فتور في الجنس وحساسية من الشراب، وسوء الهضم … ولم تنفعه العطارة ولا الطب، وفي معاناته أعلن ما يُخبِّئ من حنق على صاحبه، فاتهمه قائلًا: حسدتَني، عليك اللعنة!
فتسامح معه قسمتي متمتمًا: سامحك الله!
فصاح به: لن تشمت بي، إذا متُّ فستحمل جثتي إلى نهاية العمر وتتحول من بشر إلى قبر!
واشتد به الضعف حتى ركبه الخوف من الموت، ورق له قسمتي في تدهوره … فشجعه قائلًا: سترجع إلى خير مما كنت!
فلم يحفل بقوله ولم يصدِّقه، وذات صباح صحَا مبكرًا وهتف: إني ذاهب إلى موطن الحقيقة الباكية!
وهرولت إليه ست عنباية، فأدركَت أنه يحتضر فأخذَته في حضنها، وراحت تتلو الصمدية وانتفض صدره، وبكى قسمتي أيضًا … ولكن سرعان ما غشاه الفزع من الموت المزروع في جذعه، وتبادل الوالدان نظرةً حائرة. ماذا يفعلان بهذه الجثة التي لا يمكن دفنها؟ واستُدعي طبيب على عجل، فتفحص الحال، وقال: إنها مشكلة تتضمن مشكلات، ولكن لا حلَّ إلا تحنيطه؛ إذ لا يمكن فصله.
هكذا عاش قسمتي حاملًا جثة صاحبه المحنطة، أدرك من اللحظة الأولى أنه سيعيش نصف حي ونصف ميت … وأن الحرية التي حَظيَ بها، والتي طالما تمنَّاها ليست إلا وهمًا، وأنها نصف موت أو موت كامل. أجل قرر أن يهَبَ نفسه للعمل طيلة الوقت بعد أن زال العائق، ولكنه اكتشف أنه شخص جديد آخر … وُلد الشخص الجديد فجأة وبلا تدرج، شخص فتر حماسه، وجفَّت ينابيعه، وتلاشَت همَّتُه، وخمد ذوقه … شخص جفا الحياة والعبادة والمسرات اليومية البريئة … شخص يعيش تحت سماء ماجت بالغبار فلا زرقة ولا سحب ولا نجوم ولا أفق، وقال بأسًى عميق: الموت في الكون.
ورُئيَ طوال الوقت صامتًا واجمًا شبه نائم، فسألته أمه: ألَا تُسلِّي نفسك بفعل شيء؟
فأجابها: إني أفعل ما في وسعي، إني أنتظر الموت.
وبدَا لعينَيه أن الظلام يهرول نحوه واعدًا بالسلام.