الليلة المباركة
ما هي إلا حجرة وحيدة يتوسطها البار والرف المزيَّن بالقوارير في عطفة نوري المتواضعة، والمتفرعة عن «كلوت بك»، اسمها «الزهرة»، ولكن يعشقها لحدِّ الولَهِ الشيوخ المدمنون، وخمَّارُها طاعنٌ في السن، متمادٍ في الهدوء، مؤثِرٌ للصمت، غير أنه يشعُّ مودة وأنسًا، وبخلاف الحانات تهيم في سكينة رائعة، وكان روادها يتناجَون في الباطن ويتحاورون بالنظرات، وفي الليلة المباركة خرج الخمار عن صمته التقليدي، وقال: حلمت أمس بأن هدية ستُهدَى إلى صاحب الحظ السعيد.
فشدَا قلب «صفوان» بنغمة مصحوبة بعزفِ عودٍ خفيٍّ … فتدفَّقت موجات الخمر في أرجائه كالكهرباء، فهنَّأ نفسه قائلًا: «مباركة الليلة المباركة» … وغادر الخمار ثملًا يترنَّح، غائصًا في الليل الجليل تحت سماء خريف لم يخْلُ من وميض نجوم، مضى نحو «شارع النزهة» مخترقًا الميدان متألقًا بنشوة لم يعتورها أدنى خمول، بدَا الشارع خاشعًا تحت ستار الظلام عدا أضواء المصابيح الرسمية المتباعدة، بعد أن أغلقت الحوانيت أبوابها وركنت المساكن للنوم، ووقف أمام بيته … وهو الرابع إلى اليمين ذو الرقم ٤٢، من دور واحد، يتقدَّمه فناءٌ قديم لم تبقَ من حديقته إلا نخلة فارعة، وعجب للظلام الكثيف الذي يحتويه، وتساءل لِم لَم تُضِئْ زوجتُه مصباحَ الباب الخارجي كالعادة؟! وخُيِّل إليه أن شبح البيت يتبدَّى في صورة جديدة، جهمة غليظة موحشة، وأن رائحة تفوح منه كالشيخوخة … ورفع صوته هاتفًا: يا هوه!
فاستوى أمام عينَيه وراء السور شبحُ رجل يسعل، ثم يتساءل: مَن أنت، وماذا تريد؟
فذُهل صفوان لوجود الغريب وسأله بحدة: مَن أنت؟ … وماذا أدخلك بيتي؟!
فقال الرجل بخشونة وغضب: بيتك؟
– مَن أنت؟
– أنا خفير الأوقاف.
– لكن هذا بيتي.
فصاح الرجل ساخرًا: هذا بيتٌ مهجور من قديم، تجنَّبه الناس لمَا يُشاع عنه من أنه مسكون بالعفاريت.
سلَّم بأنه ضلَّ طريقه، وهرول نحو الميدان، وشمله بنظرة شاملة، ثم رفع رأسه إلى لافتة الشارع، وقرأ بصوت مرتفع «النزهة»، ودخل هذه المرة وهو يعدُّ البيوتَ عدًّا حتى بلغ الرابع … وقف مذهولًا يكاد يُجنُّ. لم يجد بيته، ولا البيت المسكون، ولكنه رأى أرضًا، فضاء، خرابة، مبسوطة بين البيوت، وتساءل: أفقدت بيتي أم فقدت عقلي؟!
ورأى «الشرطي» قادمًا وهو يتفقَّد أقفال الحوانيت، فاعترض سبيله، وسأله وهو يشير نحو الخرابة: ماذا ترى هنا؟
فحدجه الشرطي بنظرة مستريبة، وتمتم: هذه خرابة كما ترى، وتُقام فيها سرادقات الموتى أحيانًا.
فقال «صفوان»: كان يجب أن أجد مكانها بيتي، تركته وفيه زوجتي وهي في تمام الصحة والعافية عصر اليوم فقط … فمتى هُدم وأُزيلت أنقاضه؟!
فدفن الشرطي ابتسامة طارئة في عبوسة رسمية، وقال له بخشونة: اسأل السمَّ الزعاف في بطنك!
فقال صفوان بكبرياء: إنك تخاطب مديرًا عامًّا سابقًا!
فقبض الشرطي على ذراعه ومضى به قائلًا: سكر وعربدة في الطريق العام!
وسار به إلى «قسم الظاهر» على مبعدة يسيرة، وأوقفه أمام الضابط في حال تلبُّس، ورثَى الضابط لوقاره وسنِّه، فقال: البطاقة؟
وأخرج له بطاقته، وهو يقول: إني في تمام وعيي، ولكن بيتي لم يَعُد له أثر.
فقال الضابط ضاحكًا: سرقة من نوع جديد لا أدري كيف أصدِّقها.
فقال صفوان بقلق: ولكني أقول الحقيقة.
– الحقيقة مظلومة، ولكني سأعاملك برفق إكرامًا لسنِّك.
ثم قال للشرطي: اذهب به إلى البيت رقم ٤٢ بشارع النزهة.
وذهب به الشرطي، وأخيرًا وجد نفسه أمام بيته كما يعرفه، ورغم سُكْره دهمه الحياء … وفتح الباب الخارجي، وعبر الفناء، وفتح الباب الداخلي، وأضاء مصباح المدخل، وعند ذاك بُهت، وجد نفسه في مدخل لم تقع عليه عيناه من قبل لا صلة البتة بينه وبين مدخل بيته الذي عاش فيه حوالي نصف قرن حتى أبلى أثاثه وجدرانه … وقرر التراجع قبل انكشاف أمره، فمرق إلى الطريق، وقف يتفحص البيت من الخارج، إنه بيته، من ناحية الشخصية والموقع، وقد فتح أبوابَه بمفتاحه، فلا منفذ إلى الشك في ذلك، فماذا غيَّره من الداخل؟! ثمة نجفة صغيرة بهيئة الشمعدان، والجدران مورقة، وسجادة جديدة! من ناحية هو بيته، ومن ناحية أخرى هو بيت غريب، وماذا عن زوجته «صدرية»؟!
وقال بصوت مسموع: إني أشرب منذ نصف قرن، فماذا حدث في هذه الليلة المباركة؟!
وخُيِّل إليه أن بناتِه السبع المتزوجات ينظرْنَ إليه بأعين دامعة، ولكنه عزم أن يحلَّ مشكلته بنفسه دون لجوء إلى السلطات وإلا عرَّض نفسه لسيف القانون، واقترب من سور الفناء وراح يصفِّق بيدَيه، وفُتح الباب الداخلي عن شخص لم تتضح معالمه، وجاءه صوتُ امرأة متسائلًا: ماذا يوقفك في الخارج؟!
خُيِّل إليه أنه صوت غريب، أو شكَّ في ذلك، وتساءل: بيت مَن مِن فضلك؟!
فهتفت المرأة: لهذا الحد؟! لا … لا …
فقال بحذر: أنا صفوان.
– ادخل وإلا أيقظت النائمين.
– أأنت «صدرية»؟!
– لا حول ولا قوة إلا بالله، يوجد مَن ينتظرك في الداخل.
– في هذه الساعة؟!
– إنه ينتظر منذ العاشرة.
– ينتظرني أنا؟!
فتأفَّفت بصوت مسموع، فتساءل: أنت صدرية؟!
فهتفت بنفاد صبر: لا حول ولا قوة إلا بالله!
وتقدَّم، في حذر أولًا ثم باستهانة، وجد نفسه في المدخل الجديد … ورأى باب حجرة الاستقبال مفتوحًا والأضواء تُنير الداخل بقوة … أما المرأة فقد اختفت، ودخل حجرة الاستقبال فطالعته بمنظر جديد مثل المدخل. أين ذهبت الحجرة القديمة بأثاثها العتيق؟! جدران حديثة الطلاء، ونجفة كبيرة تتدلَّى منها فوانيس من طراز إسباني، وسجادة زرقاء، وكنبة وثيرة وفوتيات مريحة، فهي حجرة فاخرة … وفي الصدر جلس رجل غريب لم يرَه من قبل، نحيل غامق السمرة ذو أنف يذكِّر بمنقار «الببغاء»، وفي بصره حدَّة، ويرتدي بدلة سوداء رغم أن الخريف كان يسحب خطاه الأولى، بادره الرجل بضيق: شدَّ ما تأخرت عن ميعادنا!
فذهل «صفوان» وغضب في آنٍ، وتساءل: أي ميعاد؟ مَن أنت؟!
فهتف الرجل: هذا ما أتوقعه، النسيان! صادق أو كاذب، الشكوى نفسها، تتكرر كل يوم لا فائدة، ولكن هيهات.
فصاح صفوان بحدة: ما هذا الهذيان؟
فقال الرجل وهو يضبط أعصابه: أعرف أنك صاحب «مزاج» وأنك تُفرط أحيانًا.
فقاطعه: إنك تخاطبني وكأنك وليُّ أمري، على حين أنني لا أعرفك، ويدهشني أنك تفرض نفسك على بيت في غياب صاحبه.
وهو يضحك ضحكةً باردة: صاحبه؟!
فتساءل في عنْف: كأنك تشك في ذلك … أرى ضرورة استدعاء الشرطة!
فاندفع الرجل في غضب: كي تقبض عليك بتهمة السُّكر والعربدة والاحتيال!
– اخرس، إنك محتال وقليل الأدب.
فضرب الرجل كفًّا بكفٍّ، وقال: تتجاهلني لتهرب من تعهداتك، ولكن هيهات.
– أنا لا أعرفك ولا أفهمك.
– حقًّا؟! أتدَّعي النسيان والبراءة؟ ألم توافق على بيع البيت والزوجة، وتحديد هذه الليلة لإنهاء الإجراءات النهائية؟!
فذُهل صفوان، وصاح: يا لَك من شيطان كذاب!
فقال بهدوء، وهو يرفع منكبَيه: كالعادة كالعادة أُفٍّ لكم!
– أنت مجنون بلا شك.
– لديَّ الدليل والشهود!
– لم أسمع عن إنسان فعل ذلك من قبل.
– بل يحدث كلَّ ساعة، ولكنك ممثل بارع وسكران.
فقال صفوان وهو ممزَّق بين انفعالاته المتضاربة: أطالبك بالخروج في الحال.
فقال بصوت مليء بالثقة: بل نُنهي الإجراءات الناقصة.
ونهض نحو الباب المغلق المفضي إلى الداخل ونقرَه، ثم رجع إلى مجلسه، وفي الحال دخل رجل قصير مربع الأنف بارز الجبهة يتأبَّط دوسيهًا متخمًا بالأوراق … فانحنى تحية وجلس، ثقبه صفوان بنظرة قاسية، وصاح: متى أصبح بيتي مأوًى للأغراب؟!
فقال الرجل الأول مقدِّمًا الداخل: الأستاذ المحامي.
فسأله صفوان بشدة: مَن أَذِن لك بالدخول في بيتي؟
فقال الأستاذ مبتسمًا: أنت مرهق، ولكن الله يسامحك، ماذا يغضبك؟
– يا لَك من صفيق!
فقال الأستاذ دون مبالاة بقوله: الصفقة في صالحك دون ريب.
فسأله بذهول: أيُّ صفقة؟!
– أنت تعرف تمامًا ما أعنيه … وأود أن أقول لك إن التفكير الآن في التراجع غيرُ مُجدٍ، القانون معنا والعقل أيضًا، دعني أسألك … أترى أن هذا البيت هو بيتك حقًّا؟!
لأول مرة يشعر بالحرج، ويقول: نعم ولا.
– أكان على هذه الحال عندما غادرتَه؟!
– كلَّا.
– إذن فهو بيت آخر.
– لكنه نفس الموقع والرقم والشارع.
– جميع ذلك أعراض لا تمس الجوهر، وإليك أمرًا آخر.
وقام فنقر الباب ثم رجع إلى مجلسه، وسرعان ما دخلت امرأة متوسطة العمر والجمال مهذبة المظهر مع ميل إلى الحزن، فجلست إلى جانب الرجل الأول، وعاد المحامي يسأله: هل ترى في هذه السيدة زوجتك؟
خُيِّل إليه أنها تمتُّ بشبهٍ إليها، ولكنه لم يملك أن قال: كلَّا.
– عظيم … لا البيت بيتك ولا السيدة زوجتك … فما عليك إلا أن توقِّع على الاتفاق الأخير ثم ترحل.
– أَرحلُ! إلى أين؟!
– يا سيدي لا تكن عنيدًا، الصفقة في صالحك تمامًا وأنت تعلم ذلك.
ودق جرس التليفون في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وكان المتحدث الخمار.
وعجب صفوان لأنه كان يتلفن له لأول مرة في حياته، قال له: «صفوان بك»، وقِّع دون تأخير.
– لكن هل تعلم …
– وقِّع، إنها فرصة لا تعوَّض في العمر إلا مرة واحدة.
وأغلق السكة، تذكَّر صفوان الحوار القصير، وإذا بأعصابه تهدأ وتستقر وتستسلم من أقصى طرف إلى أقصى طرف … في ثانية تغيَّر حاله تمامًا، فانبسطت أساريرُه وزايله التوتر فوقع، عند ذاك سلَّمه المحامي حقيبة صغيرة وثقيلة نوعًا ما وهو يقول: فليبارك الله خطاك، في هذه الحقيبة كل ما يلزم الإنسان السعيد في هذه الدنيا.
وصفَّق الرجل الأول فدخل رجلٌ بدينٌ جدًّا باسمَ الثغر جذَّاب الروح، فقال المحامي يقدِّمه إلى صفوان: هذا رجل أمين وخبير في عمله، وسيوصلك إلى مأواك الجديد … حقًّا إنها صفقة رابحة!
ومضى الرجل البدين إلى الخارج فتبعه صفوان ساكنًا مطمئنًا ويدُه تشدُّ على مقبض الحقيبة، تقدَّمه الرجل في الليل فتَبِعه، ولما لفحه الهواء ترنَّح فأدرك أنه لم يُفِق بعدُ من سكرة الليلة المباركة، وأوسع الرجل خطاه فطالت المسافة بينهما، فأسرع بدوره رغم سكره مسدِّدًا بصرَه نحو شبح الآخر، وهو يعجب لجمعه بين الخفة والبدانة، وهتف به: تمهَّل في سيرك يا حضرة.
فكأنه حثَّه على مزيد من السرعة، فتدفَّق في خُطًى متلاحقة، فاضطر صفوان إلى الهرولة خشية أن يفقده فيفقد أملَه الأخير، ولكنه خاف أن يعجز عن الصمود، فهتف به مرة أخرى: تمهَّل وإلا ضللت طريقي.
فإذا بالآخر غير عابئ به، ففزع صفوان واندفع يجري غيرَ مبالٍ بالعواقب، وناله من ذلك عناء شديد وغير مُجْد أيضًا؛ لأن الرجل غاص في الظلام وتوارَى عن عينَيه، وخاف أن يسبقه إلى «ميدان الينابيع» حيث تتفرَّق طرق شتى فلا يدري في أي طريق ذهب، فراح يجري بأقصى سرعة مصمِّمًا على اللحاق به، وأثمر جهاده، فلاحَ له شبحُه مرة أخرى عند مفترق الطرق، رآه ينطلق صوب الأمام نحو الحقول متجاهلًا الفروع المائلة نحو المدينة شرقيَّها وغربيَّها … فانطلق وراءه، وتواصل العدو بغير انقطاع ودون أدنى شعور بالعجز من ناحيته، وفغمَت خياشيمَه روائحُ طيبة، مستثيرة ذكرياتٍ شتى لم يجِدْ وقتًا لتملِّيها ومعايشتها، وعندما انفرد بهما فضاءُ السماء والأرض أخذ الرجل يُهدِّئ من سرعته على مهل، حتى رجع إلى الهرولة فالمشي، ثم توقَّف، ولحق به وتوقف وهو يلهث … نظر إلى الظلمة الشاملة المشعشعة بأضواء النجوم الخافتة ثم تساءل: أين المأوى الجديد؟
فلزم الرجل الصمت، على حين راح وهو يشعر بغزو ثقل جديد ينقضُّ على منكبَيه وسائر جسمه، ونما الثقل وتصاعد حتى خُيِّل إليه أن قدمَيه ستغوصان في الأرض، واشتدَّت وطأته حتى لم تَعُد تحتمل الصبر، وباندفاعة عفوية خلع حذاءَه، ومضَت الوطأة في صعود فنزع جاكتته وبنطلونه وطرحهما أرضًا، ولم يُحدث ذلك أثرًا يُذكَر، فتخلَّص من ملابسه الداخلية غير مبال برطوبة الخريف، غير أن الألم ألهبه، فلم يجد بدًّا من ترك الحقيبة تهوي إلى الأرض وهو يتأوَّه … عند ذاك خُيِّل إليه أنه استعاد توازنَه وأنه يستطيع أن يُتابع الخطوات المتبقية، وانتظر أن يفعل صاحبه شيئًا، ولكنه غرق في الصمت، وأراد أن يحاوره فامتنع عليه الحوار، وتسلَّل الصمت الشامل من مسامه إلى صميم قلبه، وخُيِّل إليه أنه سيسمع بعد قليل الحوار الدائر بين النجوم.