الرسالة العاشرة
حقيقة إنصاف الحق
لا نميل مع الهوى ولا نسير مع الغرض ولا ننطق إلا بالحق، وغايتنا المنفعة العامة لبنات جنسنا، والقصد منا خدمة العلم والأدب، وهي خدمة نباهي بها مفتخِرات، ونجاري بها معتزات، ولا تأخذنا في الحق لومةُ لائم، ولا نقول إلا بعد العلم والبحث في الأمور، فماذا على المرأة منا لو شمَّرت عن ساعد الجد لتنشيط النوع النسائي عوضًا عن التعنيف والتبكيت والتنكيت الذي تتخذه من باب الخلاعة، وإن قامت منا ذات غَيرة ونشاط وحمية، كتَّفنا يديها عن العمل، وأوثقنا قدمَيْ مساعيها عن المسير في طريق النجاح، وقلنا: لا يجوز لها أن تتخطى حدها لئلا تميد الأرض بمن عليها، وأتينا بالأخبار والأمثال عن الأقدمين، وقلنا قال فلان وحدَّث فلان، وجئنا محتجين بالحجج التي لا حاصل لها ولا فائدة، والقصد بذلك كسر حدة الهمم، وصد النفوس عن العمل، وقد رضينا والله بالعزلة والكسل، ولم نختَرْ عنهما عوضًا كما قال البارع الأديب نقولا أفندي إلياس: «ولكن لا يخفى على كل ذي لب سليم أنَّ من أُوصِدت دونه أبواب الرجاء والسعي، عاش كسلانَ بليدًا لا يُبدي حراكًا، وتعَود التواني والتقاعد حسب ذلك شأنه، وتلك وظيفته ومكانته، وهذه حالة نساء شرقنا.» وقد أجاد من قال:
وقد كنت أسلفت في مقالتي الأخيرة أني لم أجد في مقالة الست الفاضلة هنا كوراني المسماة «إنصاف الحق» ما يستحق الرد، ولكن ذكرت لحضرتها أني سأُبين خطأها إن لم تكتفِ، وها أنا — بكل أسف — أمسك القلم؛ لأني لا أُحب أن أُظهر خطأ إحدى بنات جنسي، ولكن الضرورة أحوجتني.
فلنبدأ أيتها السيدة بمقالتك الأولى التي هي تحت عنوان «المرأة والسياسة»، ألستِ حضرتك القائلة في مقدمتها استهزاءً بنساء إنكلترا حين إبطال اللائحة: «فينهزم البطل متقهقرًا يجر ذيول الخجل، ويفر البهتان ناكصًا يَعَضُّ على أنامل الخيبة والفشل.» إلى آخر ما تقدم من هذا القبيل؟!
وقلت أيتها الفاضلة في «إنصاف الحق»: فقد ابتدأت — أي المرأة — أن تثبت أقدامها في مقام الرفعة، وتطالب بحقوق حُرِّمت عليها بظلم السالفين؛ أعني بها التهذيب والإكرام في دائرة الاجتماع، واعتبارها كمخلوق مساوٍ للرجل في الإنسانية، وما شاكله في الحقوق الشرعية والطبيعية للمرأة، وقد كان لصوتها في البلاد رنة تتردد في قلوب الرجال الأفاضل، فأحلوه منزلًا رفيعًا لعلمهم أن ذلك هو الحق، ولا يعاند الحق إلا القوم الضالون، ومن ختم الله على قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون.
فأرجوك أيتها السيدة أن تفتكري قليلًا أي حق للمرأة بعد أن كان بهتانًا باطلًا، وما هذه الحقوق الشرعية والطبيعية للمرأة، أليست هي العلم والعمل مع الحمل والوضع والتربية والطبخ والعجن وما أشبه كما أوضحت — أيتها الفاضلة — في المرأة والسياسة؟! وكنت شهدت للمرأة بالعقل بقولك: «فالمرأة — والعاقل يدري — لها حظ كبير من العقل والذكاء، ولكنها لم تُعطَ ذلك لمصادمة الأعمال الشاقة، وتقلُّد أزِمَّة السياسة، بل لتربيَ أولادها أطفالًا رجال المستقبل، ومركزها الحقيقي — لو تدري — أشرف من مقام الملكات على العروش.» فإن كانت هذه حقوقها الطبيعية فإنها لم تكن مسلوبة، ولا أحد ظلمها من السالفين.
وإن كانت حقوق المرأة هي العلم والعمل، فيجب أن تُقِري على وجوب عمل المرأة، كما أقرَّ بذلك غيرك من الرجال الأفاضل أولي العلم والاقتدار، والنساء العاقلات الفاضلات ذوات العلوم والآداب؛ فإن الجنسين أجمعوا على وجوب عمل المرأة بكل ما تقدر عليه.
فمن ذلك ما قاله حضرة العالم النحرير صاحب امتياز، ومحرر جريدة النيل السعيد في إحدى نظراته المندرجة في عدد ١٣٧ من الجريدة: «نحن نعلم أن العالم قسمان يتساويان.» إلى أن قال: «إن نصف الكمية من الرجال والنصف الآخر من النساء.» وقال سعادته: «نتأمل ما عليه هذا القسم العظيم من الأحوال المحبوبة، فنجده يشارك القسم الآخر في كافة أفعال الحياة من التأثر والإدراك والعمل في جميع ما يمكن أن يمتاز به النوع الإنساني، ثم نتصور في العلة التي جعلت للرجال حقوقًا فلا نجدها طبيعية، وإنما هي لحصول الإدراك، وهما طبيعيان في النساء أيضًا، فالقسمان والحالة هذه شريكان في حق تعين الحقوق لأنفسهما.» إلى أن قال: «إن الذي عين لهن ما لهن من الحق، وقضى عليهن بما عليهن من الواجبات هو قسم الرجال بدون أن تؤخذ آراؤهن، أو تُستشار ميولهن، أو أن ينوب نائب عنهن بتنويبهن.» وقال أيضًا: «وانتزع الرجال من النساء حق الحكم والتشريع والقوة الفعالة والملك من قديم الزمان وحديثه، فقضَوْا لغاياتهم لما سوَّلته أفكارهم، وعجز النساء عن مقاومة القوة القهارة فخضعن وتوارثن ذلك الخضوع حتى عددنه من أنواع الرفاه والنعمة انقيادًا لحكم الألفة والعادة.» وهذا دليل كافٍ على أن الطبيعة لا تمنع النساء شيئًا مما ذكرته حضرة الكاتبة.
وأما قول حضرتها في «المرأة والسياسة»: «فلو بذل الإنسان جُلَّ قواه في إبدال النظام الطبيعي أو استخدامه لغير شأنه، لخاب أملًا وفشل عملًا.» وقد أوضحت عنها في مقالتي «الإنصاف»، فلتراجع فإنه مضاد لقول حضرتها في «إنصاف الحق»، وهو قولها: «ولا يخفى أن كثيرات من النساء قمن بأعظم الأفعال وأخطر المشروعات، ولكن عددهن لا يُذكر بالنسبة للرجال الذين قاموا بمثل هذه العظائم.» فليت شعري بماذا كان عمل المرأة من المستحيل، وبماذا صار لهن وجوب العمل، فأشكر فضلها على ذلك الإقرار.
ولم أقل في الإنصاف إن النساء اللواتي قمن بأعباء السياسة هن بعدد الرجال، ولكن قلت: هن قادرات على العمل كما تعمل الرجال لو تعلمن كما يتعلمون، مع اقتدارهن على تدبير المنزل وتربية الأولاد. ولم يزل هذا دأبي، وقولها هذا مشابه لنص ما قلته، فكيف ردت على شيء استصوبت الرأي فيه ثم قابلته بالمضادة والرفض.
وأما قولها: «بُلينا — نحن الشرقيات — بداء عضال سرى سُمُّه في كل عروقنا، حتى صار يُخشى علينا من هلاك قريب، وهذا يُعرف بداء التشبه.» إلى أن قالت: «إذ ترانا جميعًا قد أخذنا نتشبه بالغربيين بدون تروٍّ أو إمعان نظر.» فإن هذا القول ليس من موضوعنا في شيء، بل ما أرادت حضرة الكاتبة أن تزيد الأسطر بشيء لا طائل تحته، ولا موجود في مقالتي معنًى مثل هذا، وهلَّا أمعنت النظر فيها حتى كانت تَسلَم من الخطأ واللوم، ويتضح لها أن كلامي كان مختصًّا بالمرأة الغربية لا الشرقية بشاهد قولي: «وإلا، فلماذا تتعلم المرأة الغربية جميع العلوم التي يتعلمها الرجال من فلسفة وحكمة ورياضة وهندسة وتدرس القوانين السياسية إن لم تعمل بمقتضاها، وتخدم النوع البشري، وتعد من أعضاء الهيئة الرئيسية؟ وإلا فما خُلقت قط إلا لكونها لا تخرج من دائرتها المنزلية، مثل ما نحن فيه من العوائد.» إلى أن قلت: «لا لعمري بل عوائدهن تسمح لهن بأن يكتسبن كل فن من الفنون ويعملن بها.»
فمن أين فهمتِ أيتها الكاتبة أني قصدت بمقالتي المنوَّه عنها التشبه بالنساء الغربيات؟! أغرب عن فطنتك أنه لا يليق بنا — نحن النساء المسلمات خاصة — التشبه بنساء الغرب، فضلًا عما حده لنا الدين الإسلامي.
وإن الفطرة الغريزية فينا لا تبيح لنا أن نسعى وراء التقليد الغربي، لا كما زعمت بلا مؤاخذة يا حضرة الكاتبة بقولك، ولكني أراها قد ذهلت فورًا عن أمرين مهمين؛ أولهما: مقامها الطبيعي، وثانيهما: حالة البلاد إذا قامت تناضل الرجل في أعماله ظنًّا منها بأن هذا من جملة حقوقها المهضومة، واقتداءً ببعض النساء الغربيات اللواتي قد تقلدن الأعمال الخارجية من تجارة وصناعة وما شاكل ذلك، وقد غاب عنها أن اللواتي وضعتهن مثلًا للاقتداء أكثرهن من الكاسدات في سوق الزواج.
فتفرغي يا حضرة الكاتبة لسماع ما أقول ولا تأخذك الحدة كما أخذتك من قبل.
أما حالة المرأة الطبيعية، فقد سبق القول عنها ولا فائدة بالتكرار، وأما حالة البلاد فالظاهر أن هذه أحدوثة أخذتها حضرة الكاتبة على لسانها فيسبق بها قلمها، حتى صارت تُدخلها في كل نوع من الكلام إن كان باللزوم أو بغير اللزوم، مثل التشبه والتقليد والعوائد والتفرنج والأزياء، وغير ذلك من هذا القبيل الذي هو خارج عن موضوعنا الذي نحن في صدده؛ إذ نحن كلامنا عن وجوب عمل المرأة بأعمال الرجال وعدمه، فما أدخل هنا حالة البلاد، ومن هي المرأة التي قامت في بلاد الشرق تناضل الرجل في طلب أعماله، وأية جمعية جمعت بهذا الخصوص! وهذا غلط فاحش، ويا حبذا لو صحت أحلام حضرة الفاضلة حتى يكون لنا الافتخار الأبدي، وليتنا نجد من يعضدنا حتى كنا نجتهد ونُرجع لشرقنا نشأته الأولى، ونعيد له ذكر شهيرات العرب، وعالمات الشرق اللواتي ذهبن ولم يذهب لهن ذكر، وشمس آدابهن محفوظة من الزوال، وذكر أعمالهن باقٍ على مرور الليالي لا يمحوه تعاقب الدهور والأعوام.
وأما بعض النساء المصريات اللواتي قد استشهدتْ بهن وجعلتْهن حضرتها بحجتها الدامغة كاسدات في سوق الزواج لم يقمن اليوم، بل هن من قديم الأزل، وهن على هذه الخطة لم يبدلنها، فإن كان تقلدهن الأشغال سببه كسادهن، فكيف كان تداخلهن في العمل مستحيلًا ويترتب عليه فساد الكون واختلال نظام الطبيعة — كما قالت سيادتها؟! والوجه الثاني كيف كثر التناسل في مدة هذه القرون الغابرة إن كانت كل هذه النساء لم يتزوجن، وإن كان على زعم حضرة السيدة أنهن لا يقدرن على أداء أشغال مع تدبير المنزل؟! فإن هذا الكلام صادر عن عجز في الفطرة الغريزية ولا تثريب، وقد يكون العاجز والقوي والفرق ظاهر وأراها، وللكتابة آداب لا يمكنني أن أتعدى حدودها كما فعلت تلك الفاضلة، وقد وجَّهتْ إليَّ أشد اللوم لقولي إن التربية لا يلزم لها درس قوانين ولا قواعد، واستهجنَت الأمر، ولكن لم تدحض حجتي بشيء قريب للعقل سهل التصديق غير أنها قالت: «ذلك لأن أعظم فلاسفة العصر الحاضر، وأشهر العلماء من المتقدمين والمتأخرين قد صرفوا العمر في شأن التربية، وزبدة بحثهم في المجلدات.» فهذا القول مَكسوٌّ بالحق، مع أنه لم يوجد من هذه المجلدات شيء كافٍ على الحقيقة، تختص بتعليم النساء أصول التربية، ولا لها تأثير، ولا نشر منها شيء في المدارس العامة ليقتبس من نورها النساء ذوات المنازل، بل هي اسم بدون فعل في الأغلب، ولم توجد مدرسة فُتحت بهذه الصفة، ويا للعجب كيف استعظمت قولي: «والمتوحشات من النساء يربين أولادهن بقدر الإمكان.» وغاب عن فطنتها أننا لم نبلغ درجة التمدن إلى الآن، وأن أمهاتنا لم يعلمن شيئًا مما نعلمه، ولا يعرفن القراءة والكتابة سوى ما جُبلن عليه من الفطرة الغريزية التي ربيننا عليها، فلماذا لم نكن برابرة كما قالت حضرة الأديبة: «أجل، إن المتوحشات يربين الأولاد، ولكن أولادهن برابرة.» وها نحن والحمد لله انقشع عن أبصارنا ضباب الجهل، وأشرقت أمامنا شمس المعارف، وسنهتدي بنورها إن شاء الله إذا ثابرنا على الجد والاجتهاد، ولو افتكرت أن التربية يلزم أن تكون جسمًا قبل العقل، لعلمت أن كل امرأة يمكنها ذلك، ولم تقل إن أولادهن برابرة.
ولي من رسالتها «إنصاف الحق» أعظم شاهد؛ إذ قالت: «مرَّ حين من الدهر على المرأة الشرقية لم تكن فيه شيئًا مذكورًا.» ولعلها عندما تكتب آخر السطر تنسى أوله حتى تجمع بين الضدين في آنٍ واحد، ولكني ألتمس لها عذرًا لدى القراء؛ لأنها مشتغلة بالتربية وتدبير المنزل، فلا لوم على سيادتها ولا تثريب، وهو من رأي حضرتها حيث؛ قالت: «إذ يستحيل على من كانت ذات ولد أن تتعاطى الأعمال الخارجية بدون أن تهدم بنيان عائلتها.» فأقول أيضًا: إن الكتابة أيضًا يلزم أن تكون للعازبات فقط؛ لأنها تحتاج إلى خلو الفكر من عدمه كما تحتاج الأعمال الخارجية للفراغ من تدبير المنازل، فلماذا تأمريننا بها؟! وعلاوةً على كل خبر أن حضرة الأديبة وجَّهتْ إليَّ كل تعنيف بدعواها أني اخترت الظلم والشتم في مقالتي «الإنصاف» بقولي: «وإن النساء اللواتي استحسنَّ رفض اللائحة هن أحق باللوم من غيرهن.» وذلك ردًّا على قول حضرتها: «وقد صادق على قول المستر غلادستون عدد من الإنكليزيات، ولم يحسبن معارضته إجحافًا بحقوقهن واستخفافًا بشأنهن، بل شكرنه على خدمته الخاصة.» فأي ظلم بهذا أو أي شتم شخصي وجهته إلى حضرة الكاتبة؟! حاشا لله أن أدنس قلمي بالشتم كما فعلت هي بقولها: «تطلب الإنصاف وهي لا تنصف غيرها، فضلًا عن أنها تجهل ماهيته وشروطه.» وقول حضرتها: «أبطلت بدعوى فارغة ما تضمنته من الحجج الدامغة.» وقولها: «قد أقرت بعد المكابرة.» وقولها: «كافر غبي لئيم.» فإن كانت دعواي فارغة كما زعمت، فسلوها لِمَ أبطلت حجتها الدامغة، وإن أبطلتها كما قالت، فإنها لم تكن دامغة، بل مبنية على أساس غير متين.
وأراها لم تقصد بمقالاتها هذه المناظرات والمباحثات العلمية، بل قصدت المخاصمات والمشاحنات، وهذا لا يحسن بأهل الآداب اللواتي هي منهن كما زعمت بقولها: «وهذا كما لا يخفى على المطالع ادِّعاء باطل وتحامُل على الحق، وازدراء بذوات الفضل والآداب وربات العرف والدراية.» أتمدحين ذاتك الشريفة؟! وهلَّا قارنت هذا القول بالعمل، ولم تستعملي حدة اللسان — إن لم أقُل سفاهته — آلة لتُزكِّي نفسك الطاهرة، ولكن يا صاحبة الحقيقة كيف تأمريننا بمسك القلم بقول سيادتك: «ولما كان القلم آلة خفيفة الحمل لا يُكلِّف استعمالها ركوب الأخطار، كان أَولى بالمرأة أن تتقلده.» فهذا كلام لطيف في غاية ما يكون من التركيب على قواعد الحقيقة، إلا أنه يا أيتها العزيزة يلزم لمن يمسك القلم أنه يدرس علم الآداب الكتابي قبل كل شيء، حتى إنه إذا كتب شيئًا تثمر أغصان قلمه ثمارًا غير قابلة الاستنكار لدى فكر المخاطب بلفظ من مثل هذه الألفاظ، وهلَّا فعلت ذلك قبل أن تنهينا عن شيء، وقبل أن تأمرينا باتباع هذا الفن حتى كنا نتبع نصائحك عن طيب نفس وانشراح خاطر، وتكوني لنا قدوة أيتها الفاضلة؛ «طبيب يداوي الناس وهو عليل». والوجه الثاني: أظننتِ أن الأشغال التي يلزم أن تتعاطاها النساء هي حفر الآبار ومد السفن وقطع الأشجار وما أشبه ذلك حتى إنك استخففتِ بالقلم دون غيره؟! وهل الأشغال السياسية خارجة عن استعمال القلم؟! فلماذا استعظمتِها واستخففتِ آلتها؟! أوليس علم الكتابة هو من أشغال الرجال التي نحن بصددها، فأراكِ قد وافقتِني واجتمعت آراؤنا على غير قصد منك؛ لأن طريق الحق واضح.
وأما قول حضرتها: «والأوروباويون وإن كانوا قد سبقونا بمراحل في سبيل الارتقاء، وكانوا هم البادئين في تعزيز شأن المرأة.» إلى أن قالت: «إن تعاطيَ المرأة في معاناة الأعمال مع الرجال قد نتج عنه من الكبائر والفواحش ما لا يُحصى ولا يُستقصى، فضلًا عن أن مزاحمة المرأة في العمل قد تركت كثيرًا من الرجال بطالي الأشغال فارغي الأكياس، يئنون تحت أثقال الفاقة وآلام الحاجة، سوى ما حدث من سوء تدبير المنازل.» وقالت: «الأشغال المختلطة بالرجال والنساء كشباك لاقتناص طهارة المرأة.» قد علم العموم أن اختلاط النساء والرجال في الغرب ليس بممنوع، ولا مختصًّا بالعمل خاصة بل هو عادة مألوفة، فإذا كان اختلاط الجنسين مع العمل فإنه يُلهي النفس عن اتباع الشهوات، بخلاف ما إذا كانت المجتمعات في محافل الأنس والسرور والمتنزهات العامة، فإنها أقرب لما ذكرته حضرة الكاتبة، وأيضًا فالمرأة العاقلة التي درست العلوم ونشأت في مهد الآداب وغُذيت بلبان التهذيب، فإنها تجهل أن تسحق شرفها تحت أقدام الشهوات والأغراض، وأما قول حضرتها إن مزاحمة المرأة للرجال تركت كثيرًا من الرجال فارغي الأكياس إلى آخر ما تقدم؛ هذا دليل على اقتدار المرأة في العمل وإتقان ما نُدبت إليه من الأعمال، حتى إنها غلبت الجنس القوي وفاقت عليه، وقد أقرت حضرة الكاتبة أن الجنسين متشاركان في الحياة والمعيشة، وأن ذوات الأعمال هن ربات منازل بقولها: «سوى ما حدث من سوء تدبير المنازل.» فكيف يكون حرمان الرجال من المعايش وهن المساعدات لهم بدليل قول حضرة الأديب الفاضل صاحب جريدة لسان الحال الغراء: «وإننا لا نغار على صنائعنا من مشاركة النساء لنا فيها، بل يجب أن نتفق سويًّا فنقوى على صعوبات جمة بصبر المرأة لم يقوَ عليها الرجال.»
وهذا دليل كافٍ صادر عن مثل هذا الفاضل، وقول حضرة البارع نقولا أفندي إلياس حداد في مقالته «منزلة المرأة» المدرجة في عدد ١٤١٢ من لسان الحال: «إن الله قد خلق الإنسان ذكرًا وأنثى ليتعاونا على هذه الحياة في تدبير أمر المعيشة؛ فهما في أمر السعي وراء الرزق في رتبة واحدة.» وقول حضرته: «وكان أكثر النساء أفَدْنَ المجتمع الإنساني الفوائد التي تزيده عما هو عليه في الراحة والثروة والعلم.» إلى أن قال: «المرأة تساوي الرجل عقلًا، ويمكن أن تساويَه عملًا إن مُهدت لها السبل.» فكل هذه الأقوال دالة على أن عمل المرأة مساعد للرجل؛ فحينئذٍ لا محل للشكوى بأن الرجل يُحرم بسبب اشتراك المرأة له في العمل.
وأما ما ذكرته من أمر فساد منازلهن، فهذا شيء بعيد؛ لأن الأطفال يخرجون من دور القول إلى حيز العمل؛ إذ يرى الطفل أمه مجتهدة بالعمل فيقتدي بها، كما أنَّا نرى من أطفالنا الآن، فإنه لو وجد أمه تغسل مثلًا لاجتهد أن يغسل معها، وذلك اقتداءً بأمه ورغبةً بأن يجاريَها في ميدان العمل، كما أنه يحسب أن يقلد أباه في كل أعماله، فهذا دليل كافٍ على أن عمل المرأة لا ينتج عنه فساد كما زعمت حضرة السيدة، بل العكس يدور عليه محور العالم الإنساني، وإني لأعجب منك يا عزيزتي هنا، كيف أنك تتكلمين بالضدين! فمن برهة أنكرت عليَّ قولي، وقلتِ إن اللواتي وضعتهن محلًّا للاقتدار هن كاسدات في سوق الزواج، والآن قلتِ إنهن ربات منازل. فأنا — واللهِ — احترت أرد عليك بأي نوع، وإلا فلنجعلها كا … فيها من كل معنًى طرب حتى لا يمل القارئ من هذه الفكاهات المتنوعة.
هذا وقد أظهرت العجب من قولي بأن المعاش منوط بالرجال بقولها: «وقد أقرت صاحبة الإنصاف أن أمر المعاش منوط بالرجال.» فإنها فهمت من مقالتي أني أردت بها أن الرجل مختص بأمر المنزل، والمرأة مختصة بأمر المعاش، ثم وجدت لها حجة من عين كلامي تحجني بها، أن هذا لشيء عجاب! كيف تأتي بالحجة التي هي أوهى من حبل العنكبوت وكأنها لم تطَّلع على قولي؟! فالعاقل ينظر في أمر هذه الدنيا يجد الجنسين متساويين، وإنما سبب تأخير المرأة الإهمال ليس إلا.
وقد نسبت لي المكابرة — سامحها الله على قدر ما تستحق — ولم أقل إنها قالت بعد المكابرة حين قولها: «ولا يخفى أن كثيرًا من النساء قمن بأعظم الأعمال … إلخ.» بل قابلتها عن مثل هذه المزايا، والحاصل سيتساهل الأمر، والحمد لله قد قربت أن تقر بوجوب عمل المرأة بعد أن كانت جزمت باستحالته، فأفسحت للعازبات منهن بالعمل، والأمل وطيد أن حضرتها ستتمم لهن واجبات العمل، وفي المقالة الآتية يصدر الأمر إن شاء الله تعالى، وتنفرج الأزمة إن لم يأخذ الغضب سيادتها، وتشحنها بالشتم والسب.
وملخص كلامنا أني أقول بوجوب عمل المرأة بأعمال الرجل متى تعلمت أي فن من الفنون التي تختص بالرجال والنساء، وأن تأخيرنا عن العمل غير طبيعي بل من الإهمال فقط، وإذا وجدنا التعليم والانتباه فإننا نعمل كما يعمل الرجال ولا تؤخرنا أشغالنا المنزلية عن شيء من الأعمال، اللهم إلا ما كان خارجًا عن أصول الخدر والحجاب الإسلامي؛ حيث نحن مسلمات فإنه يُستثنى من ذلك بالطبع، وخير لنا أن نتعلم العمل ونعمل به، ولا يحصل العلم إلا بالعمل، وقول حضرة الفاضلة: إنه لا يجب للمرأة أن تتداخل في أعمال الرجال، بل تبقى مثابرة على أعمال المنزل. وذلك ظنًّا منها أن الخطة التي نحن فيها هي طبيعية، وأنه لا يجوز لنا أن نتجاوزها، وأننا نتعلم العلوم لنُعلِّمها أولادنا فقط لا لنعمل بها؛ هذا موضوع الخلاف بيننا، فليحكم الحاكمون أولو الفضل، وذوو المعارف والعلوم.