الرسالة الحادية عشرة
أتتنا هذه الرسالة من حضرة الكاتبة الأديبة السيدة زينب فواز، فأدرجناها بحروفها.
قالت مخاطبة صاحب جريدة النيل:
باعث العجب
إنني — بلسان قاصر عن أداء واجب الشكر — أقدِّم لحضرتكم شكرًا زائدًا منبعثًا عن فؤاد مملوء امتنانًا على ما خدمتم به الإنسانية، وهي خدمة يثني على سيادتكم بها لسان الدهر، وإن كانت آثاركم أجلَّ من أن تقوى وصفها الأقلام، إلا أنكم قلدتم جيد جريدتكم بهذه الدرر الباهرة؛ إذ كشفتم النقاب عن مُحيَّا الحقائق بما أظهرتموه من أخبار هذه الطائفة التي يسمونها بعلماء الروحانية، وقلَّما كان سوادنا الأعظم يكترث بهذا الأمر الذي عمَّ ضرره على جميع الأقطار الشرقية، ولطالما سمعنا عن أخبارهم المريعة وعاينَّا من أفعالهم الفظيعة ما يدهش العقول ويضيق الصدر، وبالأخص الذين يتصفحون الطرق والأزقة وهم مستترون تحت جلباب التقوى متخذين كلمة التوحيد شعارًا لاقتناص أموال عباد الله، مستحوذين على عقول أولي السذاجة والبساطة، وقد رأيت ذلك عيانًا في ذات يوم وأنا في حجرة مشرفة على إحدى أزقة القاهرة، وإذ بامرأة يظهر من حالها أنها قادمة من عند الطبيب لمرض ألمَّ بعينها الواحدة، وإذ برجل ربع القامة نحيف الجسم متعمم بعمامة خضراء وعليه حلة الدراويش، وفي عنقه سبحة طويلة وعلى عينيه رباط أزرق، يقوده غلام يناهز الخمسة عشر، فلما رأى تلك الساذجة نطق بكلمة «الله الله» وأقبل نحوها، وألقى يده على رأسها وهو يزيد من كلمة الجلالة، فنفرت منه المرأة إلى الوراء، فلما رأى الغلام نفورها قال لها: «لا تُغضبي الشيخ لئلا يتصرف فيك، ودعيه يضع يده على رأسك لأجل أن يزيح الحملة عن عيونك.»
فلما سمعت تلك المسكينة ما قاله الغلام تقدَّمت إلى الشيخ، وأخذت يديه تقبلهما وتضعهما على رأسها وتقول: «ادعي لي ادعي لي يا سيدي الشيخ لأجل أن يشفيَ الله عيني؛ لأنها منذ مدة وهي مريضة، وأنا أصرف عليها النقود الكثيرة، وها أنا آتية من عند الحكيم.» فقال لها: لا تخافي أنا أحمل عنك الألم. فقال الغلام أعطي الشيخ «قرشًا» لأجل أن تحصل البركة في نقودك؛ فأخرجت الكيس من جيبها وهي بغاية البشاشة مستبشرة بشفاء عينها، وفتحت الكيس لأجل أن تُخرج له قرشًا كما طلب الغلام؛ لأنه كان أخبرها أنه لا يقبل الدراهم، وأنه يصرف من تحت السجادة، وإنما طلب منها هذا القرش لحسن حظها، وأنها مقبولة عنده لعظم سعدها، وكان في الكيس ثلاثة جنيهات أفرنكية، وثلاثون قرشًا صاغًا وريال، فلما رأى الشيخ ذلك قال: هاتي النقود حتى أقرأ لك عليها لأجل البركة، وأنت مسعدة وقد أخذت عنك الحملة «الله الله يا حي»، وجعل يقرأ على رأسها ويكبسه حتى سلمت له المسكينة وناولته الكيس، وكان الغلام قد قبض قبضة من التراب ورماها بها وفر كلاهما؛ فصرخت المسكينة صرخًا يفتت الأكباد ويذيب الجماد، وهممتُ أنا أن ألقيَ نفسي من النافذة لِمَا حصل عندي من التأثير والغيظ الشديد، وناديت الخادم وأمرته أن يُدخل تلك المسكينة إلى داخل منزلنا، فدخلت وهي على آخر رمق مما أصابها من فقْد عينها الطيبة من تأثير التراب الذي أصابها وملأ عينها، وكل ذلك حصل ببركة الشيخ، حيث إنه رفع عنها الألم، ثم سألتُها عن حالها، فأخبرتني أنها أم أيتام وأنها مضطرة لهذه النقود جدًّا لسد احتياجاتها، وأخبرتني أخبارًا محزنة، فأحضرنا لها عربة وأرسلناها إلى منزلها وهي عمياء لا تبصر الضوء؛ وذلك بسبب الطبيب الروحاني.
ولم أعلم أية الطائفتين أشد نكالًا على الجنس البشري؛ أطائفة اللصوص وقطاع الطريق، أم هذه الطائفة الروحانية التي عقدت العزم على سلب أرواح العالم عن الأموال! وكيف سها عنها بعض رجال الحكومة السنية مع أنها بذلت الجهد في تدمير طائفة اللصوص واستتباب الراحة وبث روح الأمن بين أفراد رعيتها.
وكذلك توجد طائفة من النساء يسمونهن الكديات، هن اللواتي يعملن الزار، وهؤلاء أفظع وأشنع من طائفة الدجالين؛ إذ هن دجالات أيضًا، ولهن أفعال تشمئز منها النفوس وتقشعر منها الأبدان، وأما النساء اللواتي على شاكلتهن فيكَدن أن يعندنهن لعظم ما يزخرفن لهن من القول حتى يُدخلن في اعتقادهن أنه لو تكلمت إحدى النساء في محلها لسمعت الكودية وهي في منزلها؛ وذلك بسبب الشيخ أو العفريت الذي على الكودية، فإنه ينقل الكلام إلى مريدته، وبهذا السبب لا تقدر أن تتكلم، ولا إذا طلبت الكودية شيئًا تقدر أن تخالفها لئلا يغضب عليها الشيخ الكبير الذي كل العفاريت تحت حكمه، فتأتي حينئذٍ إلى زوجها بالرقة أو بالعنف، فإن قدرت على سلب شيء منه، وإلا التزمت بأن تبيع شيئًا مما تملكه، وتسدد طلبات الكودية بأية طريقة كانت، وأما إذا اقترحت على إحداهن عمل الزار فإنها لا تقل كلفته ومصاريفه عن العشرين أو الثلاثين جنيهًا، فضلًا عن المصوغ والحلي والملبوسات الثمينة التي تقترحها عليها الكودية بدعوى أن العفريت جاءها في الرؤيا، وطلب منها ما هو كذا وكذا، فتلتزم أن تفيَ بالطلب خوفًا من أن يعاكسها ويوقعها في المرض.
وها أنا أشرح لحضرات القراء الكرام ما رأيته رؤية العين، وهو أنه دعتني ذات يوم إحدى صديقاتي أن أحضر عندها في يوم كذا لأنها ستعمل الزار، وكنت في أشد الشوق لرؤيته؛ لأني لم أكن رأيته قبلها أبدًا، بل كنت أسمع به فقط، فلما دخلت ذلك المحل وجدت فسحة متسعة مفروشة، وفي جوانبها الفرش مطروحًا على الأرض بدون أن يكون شيء منه مرتفعًا عن شيء، وذلك احترامًا للكوديات اللواتي لا يتسنى لهن أن يرتقين على الأَسِرَّة، ولا يجوز لأحد أن يكون مرتفعًا فوقهن، ذلك إطاعة لأمر الدين؛ إذ اعتقادهن أن الذي يعلمنه هو من نص الشريعة، وذلك ناشئ من جهل النساء، وعدم اطِّلاعهن على الحقائق؛ إذ إنهن لا يعرفن من أمر الدين شيئًا سوى أسماء الأولياء، مثل السيد البدوي والرفاعي والبيومي والمتولي ومثل هذه الأسماء، فإذا حصل لإحداهن أدنى مرض أوهمتها الكودية أنه سيحضر عليها السيد البدوي، أو أي اسم من هذه الأسماء — ولا يخفى على العاقل ما للوهم من التأثير على إحساسات الإنسان — فيتبركن بها، ويأتينها من كل جانب، وعددن احترامها من أعظم شروط الديانة لأجل أنها يسكن في جسمها الطاهر السيد البدوي، أو الشيخ محمد أو غيره من الأولياء، وهذه نتيجة الجهل الذي هو من عدم تربية البنات.
ولَمَّا استقر بنا الجلوس قامت الكودية ووضعت كرسيًّا في وسط المجلس، وأجلست عليه صاحبة المنزل التي نحن في ضيافتها، وأحضرت فرختين وديكًا، وربطت أرجلها ووضعت الديك على رأسها والفرختين على أكتافها، وصارت تتلو قراءتهن المعهودة وتنشد الأناشيد، والفراخ لخوفها تقابل إنشادهن بالصراخ والنقيق حتى ارتج ذلك المحل، وجميع الجالسات يمسحن وجوههن ويقلن «دستور يا أسيادي، مدد يا أهل الله، نظرة يا أسيادي» وهي تتلو، وفي يدها الدف الذي يسمونه البندير في عُرف أهل الطريقة، ثم صارت تضرب عليه، وتأتي بالأناشيد التي على تلك الطريقة، حتى إذا فرغت من ذلك أنزلت الديك والفرختين، وخرجت إلى صحن الدار، وأحضرت كبشًا من أحسن الموجود وأمرت بذبحه، فلما نُحر أحضرت طبقًا، واستقلت فيه الدم، وأمرت الست أن تشرب من ذلك الدم وتدهن به أعضاءها؛ ففعلتْ ذلك، ونحن كلنا ننظر إلى شيء تقشعر منه الجلود وتشمئز منه النفوس الأبية؛ إذ نحن نعلم أن الدم محرم كالميتة ولحم الخنزير، ولما فرغن من تلك الفعلة الشنعاء احتطن بها، وفي أيديهن الدفوف والصنوج، وأدخلنها بالاحتفالات العظيمة التي ما أظن أنها نالتها حين زواجها، ملطخة بالدماء عوضًا عن حلة الزفاف، إلى أن أجلسنها أمام محل الكودية وأتباعها، فجلسن جميعًا كلٌّ منهن في محلها، والسيدات المدعوات أيضًا جلسن، وانتظم المجلس، وجيء بالقهوة وأخذن الراحة قدر نصف ساعة، ثم مسكن الدفوف، وضربن ضربًا مزعجًا مع الإنشاد المدهش، والست راكعة أمام الضاربات منكِّسة رأسها إلى الأرض إلى أن جاءت إحداهن، ومعها بقجة فيها بدلة من ملابس الرجال، وهي عباءة مزركشة بالقصب على أحسن ما يكون، وأسبلتها وأخرجت ملاءة من الحرير الهندي مشغولة أطرافها بالكنتير الفضي، وطربوش مكلل باللؤلؤ، وأخرجت لها سيفًا وخنجرًا ملبسين بالفضة، فتقلدت بالسيف ومسكت الخنجر بيدها، ووقفت تتمايل في وسط ذلك الجمع العظيم والآلات تضرب، ثم انتفضت وقالت السلام عليكم، فقيل لها أهلًا وسهلًا من أنت؟ قالت «أنا الشيخ عبد السلام»، ثم ضربن لها على الطريقة المعتاد عليها الشيخ المومأ إليه.
فرقصت رقصًا يعجب ويطرب، حتى إذا فرغ الدور قامت زعيمة القوم وكبستها، وبذلك انصرف الشيخ إلى حال سبيله، ثم حضرت زوجته واسمها السيدة رقية ودخلت في جسم المرأة، وقالت «السلام عليكم يا ستات» بصوت رفيع عليه آثار التصنع، فسلمت على الجميع وطلبت الملبوس والحلي، فأحضرت لها سبع بدل من الحرير كل بدلة لون، وكلها مزركشة بالقصب، وعلى كل بدلة قطعة من البرنجك بلون البدلة يسمونها «الطرحة»، وعلى أطرافها الخيريات الذهب، وأحضرن لها المصوغ من أطواق وأساور وخلاخل وكرادين ومعاضد وخواتم كبار خلاف الخواتم المعتادة وأحجبة وغير ذلك، فدققن لها على السبع طرائق، وكل طريقة تلبس لها بدلة وصنفًا من الحلي، وفي أثناء ذلك قام بعض المدعوات ورقصن معها، وكلهن لا تقل ملابسهن ومصوغهن عما وصفت، والفقيرات مصوغهن فضة، ولو أحصينا أثمان ما في ذلك المحل لزاد عن السبعمائة جنيه من حلي وحلل وغيره.
ولما فرغن من ذلك انصرفت الست زوجة عبد السلام بعد أن ودَّعت الجميع، ثم إن ابن الشيخ عبد السلام الصغير حضر ولبس جسم المرأة، وحينئذٍ تغيرت أحوالها ورجعت إلى حال الطفولية، وقعدت في الأرض تلعب كالأطفال، ولكن التصنع ظاهر، فعملن لها الطريقة التي اعتادت عليها، وهي تنط كنط الأطفال حتى فرغت الطريقة، ثم انصرف عنها إلى أمه، وحضر بعده العبد، واسمه مرجان، وتكلم بلسانٍ كلسان العبيد، ورقص على الطريقة التي اعتاد عليها، ثم انصرف هو وجاءت الجارية زوجته فحلت جسمها ووقفت في وسط المرسح، وصرخت صراخًا مزعجًا يشوش الأفكار ويرعب القلوب، وقالت: لا أطبخ إلا بالمغرفة الفضة، ولا أمسك إلا الجندرة الفضة، وإن لم تحضروها لي، وإلا أعميها وألقي عليها المرض ولا أتركها تقوم من الأرض. فقامت السيدات من كل جانب واحتطن بها وكلٌّ منهن تقبِّل أيديَها، ويستسمحنها لتعفوَ عنها، وهي لا تزداد إلا جماحًا ونفورًا حتى قامت الكودية الكبيرة، وتعهدت لها أنها في الأسبوع الآتي ستحضر لها ذلك.
وحينئذٍ ضاق صدري، والتفتُّ إلى إحدى السيدات وكانت إلى جانبي وسألتها: ما هذا الجسم الذي يسع كل هذه العائلة حتى العبيد والجواري أيضًا، وأين كانوا من قبل، ولماذا لم يحضروا الزوج والزوجة والولد مع بعضهم، والجارية والعبد يقفون لهم بالخدمة، ولماذا الجارية لها سلطة بهذا المقدار؟! فلما سمعتْ كلامي رمقتْني بعين التعجب وقالت: اسكتي يا أختي لئلا الأسياد يغضبوا «دستور يا سيادي»، فقلت: ما هذا قصدي، وإنما قصدت الاستفهام لماذا لم تمتثل وتفعل كما فعلوا، وترجع من حيث أتت؟ قالت: إن المريدة عملت لهم الأشياء اللازمة إلا هذه الست ريحانة لم تعمل لها شيئًا؛ فلذلك هي غضبانة «شيء لله يا ستي ريحانة».
ثم بعد ذلك أُعِدَّ الطعام، وقامت السيدة صاحبة الزار تحيِّي الضيوف بكل أنس ولطف وإنسانية ورقة على غاية ما ينبغي حتى انصرفن، وكلهن لها من الداعيات ولفضلها من الشاكرات.
هذه طريقة الزار هي الداهية الدهماء، والمصيبة العظمى التي هي أشد نكالًا ووبالًا على سخيفات العقول، هي التي جديرة بأن تُذكر، ويبحث فيها الباحثون من ذوي الفضل والآداب.