الرسالة الثانية عشرة
رسالة حضرة الفاضل محمود أفندي شكري مدير جريدة البستان الغراء.
كشف الإزار عن مسألة الزار
ونشرت في العدد ٢٠٩ من النيل بتاريخ ٢٩ صفر سنة ١٣١٠ أيضًا هذه الرسالة:
«بينما أنا أسبح — كعادتي — في جداول النيل المبارك لالتقاط درره القيِّمة، إذ عثرت فيه على درة مصوغة بيد الحكمة مفرغة في نموذج الكمال، لصائغتها ربة الفضل واليراع الكاتبة الشهيرة الست زينب فواز، التي نبهت الأفكار بدرتها هذه على أفظع العوائد المصرية، ألا وهي مسألة الزار ذي الثقل الفادح على كاهل الهيئة الاجتماعية، وحينما تأملت تلك الدرة همَّ لساني في الحال بالشكر أولًا للنيل الذي لا تفتأ تأتينا فوائده يوميًّا فلا نهاية لها، وثانيًا لحضرة الكاتبة الفاضلة، ولكل ما أتَوْه من باهر الآيات.
هذا ولقد أسفت كل الأسف على ما هو مبثوث في عقول بعض أبناء الوطن من اعتقاد الأمور المخالفة للشرع والعقل مثل هذه المسألة الوخيمة، وأخذتني لذلك الحمية الوطنية، وكنت وقتها معتقلًا بالقلم، فجرى ما جاش في فكري معربًا عن حقيقة هذا الأمر، من حيث إنه مخالف للقواعد الدينية والنواميس الطبيعة، مبينًا أن ما كان كذلك كان آفة على الإنسانية تستوجب العلاج لاستئصال شأفتها، ومنع سريان سُمِّها في بدن الهيئة الاجتماعي، وهذا ما كُتب:
الأدلة الدينية على بطلان الزار
الدعامة التي يعتمد عليها من يعتقدون في الزار هي أن الجسم مصاب بأرياح، يزعمون أنها مؤمنة تحدث فيها مؤثرات ناتجة عن عدم رضائها على الشخص، وباستعمال الزار تزور تلك الأرياح عن الجسم، فيحصل الاتفاق معها على الطريقة التي ترغب فيها، وبتنفيذ ما اتُّفق عليه يرتاح من مؤثراتها.
هذا محصل قولهم، ولعمري إذا كانت هذه الأرياح مؤمنة كما يزعمون، ويسمونها بأسماء المشايخ، ويقولون بولايتها، ما بالها توقع بالجسم هذه الأضرار الجسيمة، وتكلفه فوق الطاقة من حيث لبس الحلي وغيره، وكل ذلك بدون أدنى سبب، ألم تكن — والحالة هذه — من الأرياح الشريرة؟! ولنضرب صفحًا عن كونها شريرة أولًا، ونبحث في هل تدخل تلك الأرياح بدن الإنسان وتتلبس كما يزعمون؟
نقول: لا تدخل هذه الأرياح الجنية أبدان البشر، وما ورد موهمًا لذلك من النصوص تأولته العلماء بما يناسبه من التأويل، قال في الجوهرة:
فما ورد موهمًا كون الشياطين تتلبس بجسم الإنسان قول النبي ﷺ: «إن الشيطان يتمكَّن من وسوسته كتمكُّن الدم من العروق.» لقائل يقول: إن النصوص سواء أن كانت قرآنية أو نبوية لا يجب تأويلها إلا إذا استحال تطبيقها على ظاهرها، وهذا الحديث لا يستحيل أن يكون على ظاهره، فقد قال القاضي عياض: لا مانع من أن يجريَ الشيطان في باطن الإنسان في مجاري دمه، أقول قال النبي ﷺ: «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها.» فإذا كان الإنسان يستهل صارخًا من مس الشيطان إياه، فما باله لو سرى في مجاري دمه. إذن لا محالة في أنه هالك، وقد أوَّل الزمخشري هذا الحديث بأن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومَين، وإلا المخلصين لقوله تعالى حكاية عن إبليس: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، وأما استهلاله صارخًا فتخيُّل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه، ويقول هذا ممن أغويهم، لكن هذا التأويل لا يعكر علينا جوابنا عن قول القائل القائل المار الذكر، فإن قوله تخيُّل وتصوير يؤخذ من فحواه أنه لو حدث حقيقة لكان مصحوبًا بالصراخ.
ومذهب الزمخشري في هذه المسألة أن الشيطان فضلًا عن كونه لا يدخل باطن البدن، لا يمسه أيضًا، وفسَّر قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، بأن هذه الآية نزلت على حسب ما تزعمه العرب من أن الشيطان يخبط الإنسان فيُصرع، فكأن الله — سبحانه وتعالى — قال: «الذين يأكلون الربا يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين.»
وقال في تفسير قوله تعالى: إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ أي: من إغوائه.
وقال في آخر كلامه على هذه الآية: «وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلَّط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخًا وعياطًا مما يبلونا به من نخسه.» وقد عارض ابن المنير الذي كتب على الكشاف للزمحشري، وعرض عند تفسير آية الذين يأكلون الربا إلخ، فقال: «اعتقاد السلف وأهل السنة أن هذه الأمور على حقائقها واقعة كما أخبر الشرع، وإنما القدرية خصماء العلانية، فلا جرم أنهم ينكرون كثيرًا مما يزعمونه مخالفًا لقواعدهم، من ذلك السحر وخطبة الشيطان، ومعظم أحوال الجن، وإن اعترفوا بشيء من ذلك فعلى غير الوجه الذي يعترف به أهل السنة، وينبئ عنه ظاهر الشرع في خبط طويل لهم، فاحذرهم قاتلهم الله أني يؤفكون.» هذا نص كلامه.
وعندي أن الزمخشري مصيب كل الإصابة فيما أتي به من التأويل؛ إذ به طابق بين الحقائق الثابتة والنصوص الشرعية؛ لأنه لا يخفي أن الأطباء والحكماء الفزيولوجيين متفقون على أن الصرع مرض عصبي سببه ليس مس الجن، بل مؤثرات أخرى مبسوطة في كتبهم يضيق بنا المقام لو سردناها هنا، وكون القرآن الشريف يأتي بما ظاهره يفيد المغايرة بينه وبين تلك الحقائق أمر يجعله مضغة في أفواه أولئك الأقوام؛ ومن ثَمَّ رأى الزمخشري — ومعه الحق — أن لا مندوحة عن التأويل؛ حيث لا ضرر، ويمكنني أيضًا أن أجاوب عن الزمخشري بأن الأطباء والحكماء الفزيولوجيين كما لا يسلِّمون بأن الصراخ ناشئ عن مس الجن، لا يسلِّمون أيضًا بأن الصراخ كذلك، أي من مس الجن، بل إنهم يقولون إنه ناتج عن تنبيه الجلد من تأثير الهواء الجوي فجأةً في بدن المولود. وحينئذٍ يكون تأويل الزمخشري لهذا الحديث من باب المطابقة أيضًا.
هذا، وعلى فكري أن ما تقدَّم كافٍ في إثبات أن الجن لا تدخل بدن الإنسان ولا تمسه، وفقط الدخول والمس المستفادان من القرآن والحديث ليسا إلا أمرين معنويين ينحصران في الإغواء والوسوسة؛ ومن ثم تكون مسألة الزار التي هي عبارة عن زيارة الجن بدن الإنسان باطلةً بطلانًا دينيًّا، وسأتكلم في فرصة أخرى عن بطلانها من حيث العلوم الطبيعية، ذاكرًا نوع المرض المعمول لأجله الزار، مفسرًا للحوادث التي يُظن أنها خارقة للعادة، وذلك على قدر ما تهديني إليه المطالعة، والله الهادي إلى الصراط المستقيم.»