الرسالة الرابعة عشرة
بينما كنت أتفكر في فن التشخيص وما له من الفوائد الجمة، التي لا تخفى على أُولي الألباب النيرة والأفكار الرائقة، وما يشتمل من خدمة الآداب، وكيف أنه هو الوسيلة الوحيدة لتهذيب النفوس وتمرين الأخلاق على قواعد الفضيلة وصيانة الأبدان من تولُّد الأمراض؛ إذ عليه مدار قسم مهم من الصحة أيضًا، فضلًا عن اكتساب الآداب.
إذ إن الإنسان بعد أن يأتيَ في محل أشغاله متألمًا من ثقل الأعمال أو متكدرًا من أمر يهمه تدبيره أو شيء يحزنه … إلخ، فإنه إذا أوى إلى منزله وهو بصفة من هذه الصفات، فلا بد أن تتراكم عليه الأفكار وتتكاثر عليه الأكدار، فيلتزم أن يلقيَ بنفسه إلى إحدى الحانات يتعاطى شراب العقار ليصرف عنه ما يكابده من الأكدار — هذا إن كان من أهل هذه الطبقة — فتضر المداومة عليه بصحته، وربما استهدف به ذلك إلى الأمراض الشديدة والآلام المستمرة.
وإن لم يكن من أهل ذلك، يلازم الحزن بسبب ملازمته للأفكار والأكدار والأتعاب حتى يمل ويكل؛ وحينئذٍ يضر ذلك بصحته أيضًا وربما كانت هي شرًّا من الأولى.
أما إذا كان وُجد جوق عربي بلسان أهل الوطن ترتاح له النفس، وتشنف به الأسماع، وهو جدير بأن يُذكر فيُشكر لحسن انتظامه وجدارة وإتقان مشخصيه ومشخصاته؛ فإنه يكون أعظم طريق للتخلص من هذه الويلات العظمى، وأجمل وسيلة لجلاء الصدأ عن صفحات القلوب؛ حيث إنه جامع لكل فن من الفنون الأدبية والتاريخية والسياسية وغيرها، وللمناظر فيه مواعظ لا تُنكر.
إذ يرى كأنه في ذلك الزمان الذي فيه الرواية الموجودة، فإن كانت سياسية تخيل للناظر ما يظهر من حلم ذلك الملك إن كان حليمًا فيشكر عليه، وإن كان ظالمًا فيتعظ به، وحسن سير الوزراء والأمراء، وصدق ولائهم بمليكهم، أو ضد ذلك، وكيف تدور الدوائر على الباغي، وكيف يجازَى الصادق على صدقه، فإذا كان الرائي من أرباب السياسة، فبالطبع تتوق نفسه إلى الشيء الذي يُشكر ويتجنب الذي يُذم، ويعتبر بأحوال من سلف.
وإن كانت الرواية تاريخية فإنه يرى ما كان عليه أهل ذلك العصر من العادات والأخلاق، وكيف كان سيرهم وأديانهم وعباداتهم؛ فيكتسب منها الرأي المستحسن ويترك المستقبحات، فضلًا عن اكتساب شفاء النفس من دون الأكدار، وصرف الهموم عن مخيلة الإنسان، والاطلاع على أحوال من سبقونا بجملة قرون، وعلى ما كانوا عليه في أيامهم الغابرة.
وقد يعلم أن من يرى أحوال التشخيص بخلاف من يطَّلع على فصول التاريخ؛ لأن الأولى تُرى رؤية العين الواقع، والثاني يُسمع عنه بالنقل، وليس الخبر كالنظر.
وإذا كانت الرواية محزنة، تُكسب الرائيَ رقة القلب والرأفة، وتُهوِّن عليه المصائب التي هو فيها؛ وإن كانت وعظية يلتقط ما يُنثر في ذلك المرسح من الدرر الأدبية والألفاظ الجوهرية، فيكتفي الإنسان عما سواه من الملاهي.
ولقد كنت أطلقت للقلم العنان إلى أن وصل إلى هذا الحد، وإذا بالنيل قد أقبل تتلاطم أمواجه على دركات الأفكار مشحونة بالفوائد الأدبية، فتركت القلم وتلقيته لالتقاط ما فيه من الدرر، وإذا أنا بنظرة ١٠٧ ساطعة الأنوار يتلألأ منها نور الحقيقة، وتُخبر تفصيل ما للجوق العربي من الفوائد وما يلزم له من امتداد يد المساعدة، فتركت ما كنت فيه من تفصيل فوائده؛ إذ إن نظرتكم مستوفية التفصيلات، واشتغلت بأداء الشكر الذي لم أقدر أن أقوم بواجباته.
نعم، إن من الضروريات الالتفات لهذا الجوق، والاستنهاض له بالمساعدة المادية والأدبية مع الشكر لهمة مديره ومشخصيه؛ حيث إنه أوجد من الضعف قوة ومن العدم وجودًا بحسن مثابرته على الجد والاجتهاد، وتوشُّحِه بالحزم والسداد.
فإليكم أوجِّه سؤالي يا أعيان الوطن، وأرباب الهمم العالية، ومحبي نشر الفضيلة وبث روح التمدن والآداب في قطرنا السعيد، الذي سيفوق على جميع الأقطار الشرقية في ظل عناية سموِّ خديونا المعظم وهمم رجاله الكرام، إلى تلبية ما نشره النيل الأغر في عدد ٢١٧ من خصوص مساعدة الجوق العربي، الذي ستزيد فوائده ما زادت مساعداتكم له وتبقى منافعه للعموم.