الرسالة التاسعة عشرة
صورة الرقيم الذي بعثته حضرة الفاضلة الكاتبة السيدة زينب فواز إلى حضرة الست بارثا هونوري بالمر، رئيسة قسم النساء في معرض شيكاغو، جوابًا لها عن رقيمها الذي نشرناه في أحد أعدادنا، وهي قالت — حفظها الله — بعد الديباجة: قد وصلني كتابك العزيز المؤرخ ٢٠ سبتمبر وتلوته، وأنا في غاية السرور والممنونية، وشكرت لك إنسانيتك المزدانة بحلية الآداب التي أتت من معدنها، وزادني سرورًا قبولك لهديتي، والذي ضاعف مسراتي وقلدني قلائد الممنونية هو سؤالك عن السبب الذي يمنعني من الحضور إلى المعرض في ديانتنا الإسلامية، وها أنا أشرحه لك شرحًا موجزًا، ولي في كل جارحةٍ لسان ناطق بالثناء على همتك العالية.
ولْأبدأْ أولًا بذكر العادات الإسلامية التي نشأنا عليها، ونحن نجدها من الفروض الواجبة، ونتوارثها فنتلقاها بغاية الانشراح، حتى إن المرأة منا لو أُجبرت على كشف وجهها الممنوع عندنا، لوجدته من أصعب الأمور، مع أن كشف الوجه واليدين ليس محرَّمًا على قول فريق عظيم من العلماء، ولكن منعته العادة قطعيًّا، وهي التي توارثناها؛ إذ إن البنت منا لا تتجاوز الثانية عشرة من سنها إلا وهي داخل الحجاب، والولد متى بلغ الحلم لا يحل له قطعًا النظر إلى النساء.
وإن من عاداتنا المحترمة عندنا عدم حضور المرأة في المجتمعات العامة التي يجتمع إليها الرجال كالقهاوي والملاعب والتياترات إلا من وراء حجاب، والبالوات والكلوبات وكل ما كان كذلك، ولكن للنساء محافل خصوصية لا تختص إلا بهن، ليس للرجال فيها محل، حتى إن الرجل لا يجوز له أن يدخل دائرة النساء من منزله ما دُمْنَ فيها إلا بالإذن عند الحاجة؛ حتى لا يرى إحداهن.
وهذه المحافل قد تكون للأفراح والدعوات العامة، والأحوال الاستثنائية كالمآتم وما أشبه، وأكتفي بشرح البعض منها مثلًا لغيرها، وهو أنه إذا صار عندنا الاهتمام بفرحٍ لزفاف خصوصًا بين أحد الشبان وإحدى الآنسات، تجتمع النساء في دائرة الحرم من داخل المنزل، ويجتمع الرجال في الخارج كي لا يختلط الجنسان، وإذا أراد النساء أن يسمعن ما عند الرجال من آلات الطرب، يجلسن في النوافذ المشرفة على المحل؛ بحيث إنهن يرين ولا يراهن أحد من الخارج؛ وذلك بسبب الأستار المسدولة على تلك النوافذ — والنوافذ مصنوعة من الخشب، شرقية الصنع، مركبة تركيبًا محكمًا، وفائدتها أن تحجب ما وراءها فيرى الذي في داخلها من كان خارجًا عنها ولا عكس — وهي بعض عادات الشرق المختصة بالحجاب، ولها فوائد أخرى لمنع الحر والبرد، ولا أعلم إن كانت مستعلمة عندكم على هذه الصفة أم لا.
وتتولى النساء أمر العروس من كافة ما يلزم لها من أمرَي الزينة والزفاف، وضرب الآلات والترنم بالألحان المطربة، كما يتولى الرجال شأن العريس ويأتون به، ويتم الزفاف وكلٌّ من الجنسَين المجتمِعَين لا يرى الآخر، وهكذا سائر الاحتفالات المعتادة.
والحجاب عندنا مأمور به في الدين بنصوص الكتاب الكريم، كقوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ إلخ الآية، قال بعض العلماء: المراد بها مواضع الزينة لا الملابس والحلي؛ ولذلك وجب علينا الستر والحجاب.
وأما عدم الإباحة لنا بالسفر، فعلى ما يفهم من أقوال بعض العلماء والأعلام لأنَّ عندنا في شريعتنا الغراء لا يباح مس جسم المرأة لرجل أجنبي عنها، قالوا وهذا إذا كانت شابة، ولو حل النظر فيها في مثل الوجه مثلًا. وعلى رأي من قال: بأنه ليس عورة فإنه يحل النظر إليه دون الشعر، ولكن لا يحل مسه إلا إذا كان لذي محرم، بخلاف العجوز الشوهاء، فإنه يجوز للأجنبي أن يمسها ويسافر بها أيضًا، أما الشابة فلا يحل لها السفر إلا بصحبة أحد ذوي قُرباها إن لم يكن الزوج، وأعني بذوي قرباها ذوي محرم منها؛ الذين لا يحل لها التزوج بهم، كقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم إلخ، فإذا سافرت المرأة مسافة ثلاثة أيام فأكثر يلزم أن يكون معها أحد من هؤلاء المذكورين في الآية الشريفة، كالأب والابن والأخ والعم والخال … إلخ، أو الزوج؛ وذلك لأنه إذا مس جسمها في وقت الركوب والنزول أو غير ذلك لا يكون محرمًا، وهؤلاء بخلاف غيرهم من ذوي القربى الذين لا يحرم الزواج بينها وبينهم، كابن العم وابن الخال وابن العمة وابن الخالة … إلخ، فإنها تحتجب عنهم أيضًا؛ فلذلك لا تسافر مع أحدهم من حيث المسألة مبنية على المس، ومتى جاز المس جاز السفر؛ فهذا الذي يمنعني من الحضور إلى المعرض من وجه، والوجه الآخر هو ما تقدَّم من عدم تعودنا على الخروج إلى المجتمعات العامة؛ إذ إن المرأة منا لا يجوز لها الخروج إلى خارج المنزل إلا مؤتزرة بإزار يسترها من الفِرق إلى القدم — وهو من الحرير الأسود نسميه عندنا الحبرة — وبرقع يستر وجهها حتى لا تبين منه إلا العيون، وإذا مرت إحدانا على قهوة — أو مجتمع مع أنها مؤتزرة لا يظهر منها شيء — يستولي عليها الخجل حتى تكاد لا ترى أحدًا ولا الطريق، وهذا كله ناشئ عن التمرن من الصغر على حسب العادة المألوفة.
والشروح المختصة بأمر الحجاب كثيرة والعادات جمة، قد اكتفيت منها بهذا القليل. وأُخبرك أيتها العزيزة الفاضلة بأنني ألفت رواية تشخيصية من حوادث عصرنا الحالي، وأشخاصها من أعز أصدقائي، فإن سمحتِ لي أن أرسلها لك لتأمري بترجمتها وتشخيصها في المعرض، تصيريني ممنونة بقبولها وأني رهينة أوامرك، ويمكن إرسالها قبل إرسال الكتاب؛ لأنني فرغت من تأليفها، فإنها صغيرة جدًّا بالنسبة للكتاب، فاقبلي مني سلامًا عاطرًا صادرًا عن فؤاد شاكر، وأرجو من عواطفك العلية أيتها الفاضلة أن تشرفيني بكل ما يلزم الاستخبار عنه من عاداتنا الشرقية، فأفيدك منها بكل ما أقدر عليه، مع شكري لك وممنونيتي منك، ودُمت لمُحبتك.