الرسالة الحادية والعشرون
وكتبت حضرتها سؤالًا وجَّهت به إلى حضرة العالم العلَّامة عزتلو حسن حسني بك، صاحب جريدة النيل، مذيلًا باسم «درة المشرق»، أُدرج في العدد ٢٧٧ من الجريدة بتاريخ ١٨ جمادى الأولى سنة ١٣١٠، وها هو: قد علمتم أن للطبيعة طوارق تسطو على جسم الإنسان فتفترسه وتسحقه؛ فيتضرر منها أي ضرر، ويتألم منها كل الألم، وهي تتألف من ثلاثة أنواع، وهي: «المرض» و«الجوع» و«الحب».
ولكلٍّ من هذه الأنواع وطأة قوية على جسم الإنسان تذهب بحياته؛ فالأمراض على اختلاف أنواعها تتولَّد عن أسباب لا يسع المقام شرحها، والجوع وهو عظيم الفعل في جسم الإنسان أيضًا، والحب وهو مختلِف الأنواع أيضًا يتولد منه جملة أشياء قاتلة، كالغَيرة والحسد والشوق، وغير ذلك مما لا يساعدنا المقام على شرحه أيضًا.
«إذ المقصود غير هذه الشروحات»، والحاصل أن كلًّا من هذه الأنواع له تسلُّط على الوجود الإنساني، وصولة عظيمة في ميدان الحياة النفسانية، وقد ترى أن العالم الإنساني قد تسهل لخدمة النوع البشري في دفع الداءين الأولين، وهما المرض والجوع، فأما المرض فقد جعلوا له أعظم مدافعة من أعظم الرجال، ومهَّدوا لمدافعته المدارس لتلقِّي العلوم الطبية والاكتشافات الكيماوية وغير ذلك؛ وأما الجوع فقد استنبطوا له كل ما يلزم لدفع غائلته من زراعة وغيرها من التحفظات اللازمة لذلك، وقد تجد لكل مبتَلًى بأيِّهما من مساعدين ومعضدين مباح له بث شكواه وتألمه، فيجد من الشفقة والحنان ما لا مزيد عليه؛ وأما الداء الثالث — وهو داء الحب — فإننا نجد المصاب به بعكس ذلك وإن كان منزهًا عن كل دنس خاليًا عن البهيمية مقدسًا لا يشوبه أدنى شيء يشينه، فإننا نجد الناس عوض المساعدة والانتشال من وطأة الداء يوجِّهون إليه سهام اللوم ويرشقونه بنبال التعنيف، حتى إنه لا يجد مساعدًا ولا معينًا ولو من أقرب الناس إليه كالأب والأم وغيرهم من الأقارب، حتى إنهم يستعملون له عوض الشفقة والحنان كل فظاظة وقساوة، فيلتزم فوق تكبده العظيم بالكتمان وعدم بث شكواه إلى أحد؛ فيكون ذلك عليه سمًّا ناقعًا.
وبما أني أعلم ما لسيادتكم من غزير العلم في كل فن من الفنون وقد عمَّ فضل عرفانكم، كتبت إليكم هذا السؤال أستفيد من بحر علمكم الطامى راجية أن تمُنُّوا عليَّ بالجواب عن السبب الذي جعل المصاب بالداءين الأوَّلين يُعذر، والثالث يلام مع أنه هو الرابطة العظمى لكل أمر، وهو السبب في عمار الكون؛ إذ لولا العلائق بين الأفراد ما تألفت الممالك، ولا كثر الاتفاق بين الأمم وبعضها إلا بروابط الحب، ولولا ذلك ما عُمِّر الكون البتة؛ فأكرر رجائي لديكم آملة من فضلكم أن تُبدوا في هذا الأمر فكركم الخصوصي.