الرسالة الثالثة والعشرون
وكتبت حضرتها معترضة على جواب صاحب السعادة حسن بك حسني باسم «درة المشرق»، وقد أدرجت في النيل في العدد ٢٨٣ بتاريخ ٢٥ جمادى الأولى سنة ١٣١٠، وها هي: قد تفضلتم بالجواب ولكنه على غير قصدي؛ إذ إن سؤالي كان عن الحب الطاهر الشريف، وأما الذي يستوجب الاتهام فإنه لا يُعبأ به ولا يُسمَّى حبًّا، وليس له تأثير على الجسم ولا له سلطة على حياة الإنسان.
ومن العجب أنه منذ نشأة العالم إلى هذا العصر لم نجد من يميِّز بين الحب الحقيقي والحب الاحتيالي، ولم نجد من يشخصه كما يشخصون الدقائق من الأمراض، ويكتشفون حقيقة حاله ونتيجة أمره؛ ولذلك تجدنا نعتقد بقول أبي العتاهية في هذه الخطة، فكيف يكون وقد كانت العرب إذا عشق أحدهم يُعزُّون أهله فيه لعلمهم أنه ميت لا محالة، ومع ذلك كانوا يمنعون عنه المحبوبة كل المنع مع علمهم بخطر ما هو فيه وبما هو عليه من العفاف والطهارة، وقد نجد في عصرنا هذا مَن هو قريب من هذه القسوة؛ إذ نجد من هو ذا ثروة مثلًا وأَحبَّ ولده إحدى الفقيرات، ولو كانت أجمل الناس وكابد فيها الأهوال، فإنه لا يُسلِّم له فيها ولا تأخذه عليه شفقة ولا رحمة، ويجتهد أن يزوجه بغيرها، ولا يبالي إذا ضعف ولده أو مات، بخلاف ما إذا كان مريضًا أو فقيرًا؛ فإنه يُشفق عليه ويساعده كل المساعدة، ويتعب لأجل أن يجمع له المال ويدخره له ميراثًا من بعده، مع المحافظة على صحته من الأمراض، حتى إنه يقيه بنفسه إلا من ذلك الداء المهول الذي هو أمام المجتمع الإنساني من أفظع الأمور وأشدها شناعة.
وأما قول سيادتكم: «إن المرض والجوع يخالفان الحب؛ لأنهما لا يَحدثان إلا عن اضطرار، وأن الحب غير اضطراري لأنه لا ينشأ إلا بعد رؤية أو سماع، وكلاهما تعرُّض لحقوق الغير.» فأقول إن هذا لا يستوجب القسوة لهذه الدرجة.
لأننا نجد الجائع يتعرض للسطو — مثلًا — والسرقة من مال الغير، فلماذا لم تشمل القسوة على كل جائع بسبب أفعال الفِرقة الفاسدة منهم كما شملت نوع المُحبِّين بسبب أفعال المحتالين منهم، وأما الاضطرار الذي أشرتم إليه فإنه شامل لكلٍّ من الثلاثة أنواع على ما أرى، وكلٌّ منها لا يأتي إلا بسبب؛ فإننا نرى أن الجوع لا يأتي إلا بسبب منع الغذاء، كما أن الحب لا يأتي إلا بسبب النظر أو السماع، والمرض أيضًا أسبابه كثيرة لا وقت لشرحها هنا.
وأما قول سيادتكم: «إن أفعال الحب في الجسم لا تظهر إلا بمظهر الأمراض الجسمية، فلم يعتد البشر على تقدير الضرر الحاصل.» فإني أرى أن هذا العذر غير كافٍ؛ لأن البشر قدروا على تقدير الدقائق الرفيعة من الأمراض، فكيف يعجزهم هذا المرض الظاهر لكل إنسان؟!
وأما إذا كان يلزم الارتكان على العالِم به أو المُبتَلى، فلماذا لم نرتكن في المرض إلا على المُبتَلى أو المُجرِّب الداءَ عينه؟! لماذا نسمع قول الأطباء، ونقبل تشخيصهم في الأمراض بدون تجربة، واستخراجهم الأدوية إن كان كذلك؟!
وإلى هنا نقف، وقد كاد القلم يسرح في هذا الموضوع لولا أن المقام لا يساعدنا على ذلك، وبهذا القدر كفاية، مع تقديم رجائي لسيادتكم أن تعفوا عن جراءتي على مناظرتكم في ذلك، وقد جرَّأني ما علمته عنكم من غزير العلم وحبكم لإظهار الحقائق، ما زلنا ننتفع بعلومكم ما طلع النيران.