الرسالة الرابعة والعشرون
لقد أبدعت مقالة درة المشرق الأولى، وبرأت إجابتها الثانية حتى تركتنا في تمام حيرة وانبهار لا ندري أنفتخر برقة هذه الأفكار، أم نقاوم بخشونة ألفاظنا وشماسة حكمتنا لطافة هذه الآثار، أم نحن نتلقَّى راح مقالات ذي علم وفضيلة في كئوس عنوان درة المشرق ولا نعلم من الغالب، وعلى أي حال فنشكر هذه الأفكار التي تنزلت أَهِلَّتها إلى نيلنا في مطلع العفاف والحجاب، وأقدر الآثار التي زينت حدائق مباحثنا بزهرات هذه الآداب.
وكنا نود أن نسلك بكل ما أوردته من الاعتراضات بلا اعتراض، ولكن حكم قانون المناظرة، وحرص ذات المعترضة البارعة على بيان الحقيقة يجبرنا إلى الكلام فنقول:
قالت الفاضلة: «قد تفضلتم بالجواب، ولكنه على غير قصدي؛ إذ إن سؤالي كان عن الحب الذي يأتي بالمرض لا غيره، وذلك هو الحب الطاهر الشريف، وأما الذي يستوجب الاتهام فإنه لا يُعبأ به ولا يُسمَّى حبًّا، وليس له تأثير على الجسم، ولا له سلطة على حياة الإنسان.» ونقول:
فكان الجواب عليه من حيث آثاره وما يتعلق به، ولعل الفاضلة ظنت أن الحب لا يؤثر على الأجسام إلا إذا كان طاهرًا بدليل ما قالته، فنبت عنه أساس القضية وهو فكرٌ اعتاد علو العفاف فلم يعرف ما يجني غيره على الحياة؛ فهو مشكور من جهة هذه الدلالة، ولكنه منقوض من حيث الحقيقة.
لأن المحب إما هو من أهل النزاهة أو غيرهم، وكلا الفريقين معتاد على اعتيادات مخصوصة لا يتأثر إلا بمقتضاها؛ ففريق يرى أن الحب مُنَزَّه عن الفجور، وبُعد التصدي لما يشين كمال المحبوب من أكبر أنواع العداوة والجناية، ويرتاح للعفاف فلا يتألم منه، لأرباب هذا الرأي أحوال لا يُصدِّق بها غيرهم لغرابتها عنهم وبُعدها، فقد قيل لهم لا خير في لذة من بعدها سقر، وقيل:
وهي أقوال لا تحصى، ومن ذلك ما قلت:
وأما الفريق الآخر فلا يألم من شيء هو أشد عليه من فضيلة العفاف، ولكلٍّ من أيامه وأفكاره ما تعوَّد، ولكن التأثر بالآم الهوى ودرجاته وشدة فعله في الحياة لا يتوقف على العفة والفجور، بل على درجة تمكُّن المحبة، وقد تبيَّن لأرباب البحث والتحرِّي أن قتلى الهوى وصرعى الغرام ألوف مؤلَّفة في كل عصر، ما بين منتحر بالسم والسلاح الأبيض والناري والغرق والشنق، وبين من يُبتَلَى بالأمراض والأسقام إلى الجنون، ولكن أهل العفاف من هذه الجماهير أقل من القليل.
فيُعلم من هذا أن الغرام الفاسد أشد تأثيرًا من الحب الطاهر النزيه؛ لأن للمحب العفيف تسلية وتعزية إما من الشرف وإما من الدين، فالآثار التي تتسلط عليه آثار شريفة مقدسة الأرواح.
فهذا هو السبب الوحيد في تعميم التهمة على المحبة لكثرة وجودها وقلة أهل العفة في المصابين بها.
ولو تأملتْ حضرة الفاضلة إلى هذه الحقيقة ما برأت أهل الجرائم من الأسقام، ولا حمت ملائكة فراديس العفاف من مهاجمات جيوش الاتهام، ولولا أن حجم الجريدة لا يساعد لبيان الفروق العظيمة بين سكان جحيم الفجور ومنعَّمي جنات العفاف، ولكنْ في هذا القدر كفاية وإنصاف، وأما ما أُورِدَ من الاستشكالات فيما يتعلق بعدم اهتمام النوع البشري بعلاج الحب والهوى، فالكلام على ما يأتي.
وبعد أن اعترفت الفاضلة بأن العالم منذ نشأته لم يفرِّق بين الحب الحقيقي والاحتيالي قالت: «وأما قولكم: إن المرض والجوع يخالفان الحب لأنهما لا يحدثان إلا عن اضطرار، وأن الحب غير اضطراري لأنه لا ينشأ إلا بعد رؤية أو سماع … إلخ. فأقول إن هذا لا يستوجب القسوة لهذه الدرجة؛ لأننا نجد الجائع يتعرض للسطو والسرقة، فلماذا لم تشمل القسوة كل جائع بسبب أفعال الفرقة الفاسدة منهم كما شملت نوع المحبين بسبب أفعال المحتالين؟! وأما الاضطرار الذي أشرتم إليه فإنه شامل لكلٍّ من الثلاثة أنواع على ما أرى، وكلٌّ منهم لا يأتي إلا بسبب … إلخ. وأما قولكم: إن أفعال الحب في الجسد لا تظهر إلا بمظهر الأمراض الجسمية، فلم يعتد البشر على تقدير الضرر الحاصل، فإني أرى أن هذا العذر غير كافٍ؛ لأن البشر قدر على تقدير الدقائق من الأمراض، وأما إذا كان يلزم الارتكان على العالِم به أو المُبتَلَى، فلماذا لم نرتكن في المرض إلا على المُبتَلَى أو المجرِّب بالداء عينه، ولماذا لم نسمع قول الأطباء … إلخ، بدون تجربة؟»
ونقول هذه خلاصة اعتراضات حضرة الفاضلة، وعليه نجيب فنقول: إن الاضطرار الواقع في المرض والجوع يغاير الاضطرار الذي يحصل في الحب؛ لأن العادة حظرت الرؤية والتقرب بين فريقَي الإناث والذكور في الأغلب، والتصدِّي لذلك تَعَدٍّ على الحدود، بخلاف المعارضين الأولين؛ لأن الأصل في الجوع العجز عن القوت، والأصل في المرض العجز عن حفظ الصحة أو العجز عن مقاومة المرض، وأما الأصل في الحب فليس إلا لرؤية، وهي ممنوعة؛ فاختيارها ممنوع، وقد يكون الأصل السماع، ولكن ذلك نادر، والنادر لا حكم له، وليست الرؤية الفجائية كاملة حتى تحمل على الصدفة التي تأتي بلا تعمُّد، بل لا بد بعد وهلة النظر من أُلفة أو تكرار حتى يتحكم الهوى.
فإن المؤثرات الروحية أولها الحال النفسية ثم إرادة، ومتى اعتيد، فعادة ثم ميل فمودة فحب فهوى فعلاقة فكلف فملكة فعشق وهَلُمَّ، إلى أن يصير شغفًا فشغفًا فغرامًا إلى أن ينتهيَ بالدله، والدله وهيام النفس، ومراتب بين ذلك كثيرة، من ثَمَّةَ يُعلَم أن الحب لا يبلغ ما تذكره الفاضلة من الدرجة إلا بعد مراتب قلَّت أو كثرت، وتركها والتخلي عنها مقدور عليه بنسبة جدة الأثر، ثم يتعاظم بتعاظم نسبة التحكم والثبات.
وبهذا يُفهَم أن الحب لا يصير اضطراريًّا إلا بعد تجاوز درجاتٍ تَرْكُه فيها داخلٌ تحت حكم الإرادة والاختيار.
وأما ترك البشر تحرِّي معضلات الهوى، فهو مقبول من جهة، ولكنْ فيه نظر من جهات؛ لأن الأطباء الجديدين، وبالأخص أهل الطب القديم، فإنهم فحصوه فحصًا دقيقًا، وتكلموا عنه بتفصيلات وإن لم تبلغ الحد النهائي، ولكن الذي منع الرأفة والرحمة ليس جهل آثاره وضرره، بل الباعث الوحيد إليه إنما هو اعتياد البشر الغيرة والأنفة مما يُتعلق به، لا صدًّا للمحب عما أحب، ولكن دفعًا لما يشوب نوع المحبة من المفاسد؛ فليس هنالك من اعتراض إلا على العادة والنظامات الاجتماعية؛ إذ هما الحَكَمان في إيجاب هذه القسوة، وفيهما نظر عميق؛ فالظاهر أنهما لم يهملا حق الشفقة إلا رعاية للحكمة، وهي ترتيب الأحكام على ما يناسب أغلب الواقع وطرح حكم النادر حتى يتبين، ولما كان أغلب الواقع في نوع الحب غير منزه من مفاسد التعرُّض للأعراض وجب أن تُستعمل فيه القسوة ردعًا لغير المنزهين، وتحقيقًا لأسباب كثرة الوقوع، ولا يتعرض على العادات والمشروعات لما يلحق المنزهين والمنزهات من الضرر والتلف لندرة وجوده، وصعوبة التفريق فيما بينهم وبين غيرهم لدلالة أن العفة والنزاهة لا تتحقق إلا في الضمائر، ولا حجة بها، ولا في خلوات المحبين، ولا شاهد على البراءة إلا ذممهم، وهي متهمة في نظر غيرهم؛ وذلك لعدم أرجحية شهادة المرء لنفسه أو لشريك عمله، وهي قاعدة الدنيا في أغلب الأحوال، ولولا ضيق المقام لأوسعنا المقال، ولكن نكتفي بهذا القدر الآن.