الرسالة الخامسة والعشرون
قد ذهب بعضهم أن الحرية موجودة في العالم الحيوي، وأنها بمجرد الاقتدار على التصرف بالأعمال، وعدم تسلط البعض على البعض. وقال آخرون: إنها بمطلق الإرادة حيث إن الإنسان يكون حرًّا في كل ما أراد أن يفعله لا مرد لأمره ولا ممانع لحكمه؛ فبذلك يستحوذ على الحرية. وقال البعض الآخر: إن الحرية لا وجود لها البتة، بل هي اسم بدون مُسَمًّى. وقد يُرى أن هذا المذهب الأخير قد وافقته المسائل الطبيعية كل الموافقة؛ لأننا نرى الإنسان في ربقة الأَسْر أكثر مما يظنه البعض أنه حر، ودليلنا على ذلك هو ما نشاهده أساسًا من أن الإنسان لا يمكنه التخلص من الأَسْر من حين نشأته إلى حين وفاته؛ إذ نرى من وقت خروجه إلى عالم الحياة إلى حين بلوغه الرشد يكون أسير أمه أو مربيته، ثم من بعد ذلك تستلم أفكاره عوارض الحياة وتهديدات الطبيعة، مثل الأمراض والأكدار والأوهام وغير ذلك من هذا القبيل.
وهذه القوانين التي عليها نظام العالم الإنساني تفيدنا أن لا حرية في هذا الوجود؛ حيث لا يتم انتظام الممالك إلا إذا كانت أفرادها طبقة فوق طبقة، كالجهادية — مثلًا — تراها طبقات بعضها فوق بعض، من النفر إلى القائد الأكبر، ولا لزوم للتفضل إذ الأمر واضح.
وكذلك القوانين الإدارية؛ حيث إن الرعية لولا بث الشرائع والأحكام الصارمة لسطت على بعضها البعض، ولكانت الأمم تفنى من جراء ذلك، فأين تكون حينئذٍ الحرية؟! وكيف بالإنسان لو أطلقت له الحرية لافترس القوي الضعيف!
وأما احتياج الإنسان إلى الاجتماع لأجل تحصيل المعاش والانتفاع بما هو ضروري ولا بد منه، مثل الفلاحة في الأرض من غرس وزرع، والبناء والتجارة والصناعة، وغير ذلك من الأشياء التي يحتاجها الإنسان في هذه الحياة.
فانظر يا أيها البعض القائل بوجود الحرية، ترى كيف أن الزارع منقاد إلى من هو فوقه، أو كيف احتياجه إلى الحيوان الذي هو أدنى منه، والصانع مذعن لأمر معلمه أو صاحب معمله، والتاجر لا تدور تجارته إلا بعملة وكتبة وجمعيات مؤلفة من أفراد ورءوس كلمتهم فوق كلمة البعض الآخر، وهَلُمَّ جَرًّا. أما ترى أيضًا أن الإنسان مفتقر لذاته مسترق لذاته بذاته، فإن كل عضو من أعضائه يحتاج للآخر، فترى أن بنيته لا تدافع غلبة المؤثرات والهوام الدقيقة التي ليس لها قوت إلا من جسمه الرهيف، كالبعوض والبرغوث وغير ذلك من مثل هذه الحيوانات الصغيرة الجسم إلا إذا كان سليم الحواس متناسب الأعضاء، وله مَلَكة ترشده إلى استعمال الموجودات في صالح ذاته حتى تدوم بنيته سليمة من العوارض، التي تذهب برونقها إلى زمن يسير.
وكذلك لا يقوم العمران إلا بتعاضد وتعاون النوع الإنساني الذي هو متغلب على باقي الموجودات في هذا الكون، والبعض منه متغلب على البعض الآخر لتمام الانتظام؛ وهكذا تجد جميع المخلوقات يحكم بعضها بعضًا، فانظر إلى الحيوانات كيف تسترق لخدمتها جميع جماهير الوجود النباتي، وكيف أن القوي منها يستعبد الضعيف.
أما ترى كيف تجمع القوات الجاذبة ما بين المتفرقات العنصرية، وتُخضعها لسلطان الاجتماع والتراكم تحت عبودية الفواعل الكيماوية، وأسر قوات التماسك بحيث لو أمكن للعناصر الهيولية أن تأخذ حرية الانفراد لما أمكن قيام النظام الطبيعي أصلًا.
وانظر كيف تدخل السيارة تحت سلطة الثوابت فتجذبها بقوة قهارة فتنقاد خاضعة، وقم بنا لنطير بأجنحة التصورات ونرتفع ببخار الأفكار إلى سماء الحقيقة، وهنالك أريك كيف أن هذه الكرة الأرضية تظهر لنا عن بعد سابحة في أعماق الفضاء، وهي تدور منحنية على نفسها كشيخ أحنت ظهره أثقال السنين! وكيف أن هذا الجرم العظيم منقاد بسلاسل سرية إلى الخضوع لنظام الفلك الشمسي، لا يمكن له الخروج عن حدود دائرته المضبوطة بأقطار من تشعشع جاذبية ذلك المركز الثابت!
وكيف أن جميع الأجسام المنتشرة على سطحه خاضعة لحكم تقلب الفصول والأوقات حسبما يقتضي حلوله في إحدى جهات تلك الدائرة! فإذا كانت جميع الموجودات قد خلقها الله تعالى تحت ربقة الأسر خاضعة لأحكام الطبيعة، فكيف بالإنسان ومن أين له التمتع بالحرية! وأين الفرار من العبودية! ولو لم يكن أمامه سوى تحكم النفس عن أمياله مثل الجوع والحب لكفاه ذلك استرقاقًا، «ولولا خوف الإطالة لشرحت ما لهذين الأمرَين من قوة التغلب على جسم الإنسان».
ومع ذلك فقد يمكن للإنسان أن يحصل على شبه الحرية ويتمتع بلذة الحياة على نوع «ما»، نعم، إذا طرح ثقل العالم عن عاتقه وارتضى بما قُسم له من الله تعالى لقيام وجوده، خالعًا كل أمارة تزيد في عبوديته وأَسْره لمن يتعالى عليه، وذلك كالحسد والطمع والكبرياء والحقد، وهَلُمَّ جَرًّا، فإذا أدرك أن سِنِي حياته مهما كانت عديدة ليست إلا كبرق طفيف لمع في ليل دامس، وأن جميع مصائب الدنيا وأكدارها تحيط بهذه الفترة الحقيرة والحياة التي يجب أن تحذف منها أوقات نومه وطفوليته وشيخوخته، وهي الأوقات التي تُحسب عدمًا، وأن جميع المحيطات به تجتهد في هدم بنيته لتسترد منه ما سرق من فؤادها بالاغتصاب، ولا تُغتفر السرقة إلا بالرد الذي هو حكم المغتصب.
فإذا عرف هذا جميعه يعود شبيه حر معتوقًا من عبودية الزمان؛ فلا يلبث معرَّضًا للأكدار والأحزان لعدم مبالاته بها؛ حيث إنه يرى كل ذلك بخارًا يصعد قليلًا ثم يضمحل، ومن لا يبالِ بالألم لا يشعر بمضضه، ومن لا يعبأ باللذة لا يدرك بهجتها، ولقد أجاد من قال:
نعم، إذا نشر شراع التعقل لسفينة أفكاره، وأطلقها في بحار هذه الموجودات لدى مهب أرياح الحوادث، فهنالك يظهر له نور الحقيقة، ويعلم أنه لا حرية في هذا العالم إلا بتركه.