الرسالة السادسة والعشرون
قد صيَّرتموني ممنونة فوق العادة مما أظهرتموه من الحقائق الغامضة، ولكن قد ذكرتم أن الاضطرار الواقع في الجوع والمرض يغاير الاضطرار الذي يحصل في الحب، لأن العادة حظرت الرؤية والتقرب بين فريقَي الإناث والذكور، وإن قلتم: لأن الأصل في الجوع العجز عن القوت، والأصل في المرض العجز عن حفظ الصحة أو مقاومة المرض، وأما الأصل في الحب فليس إلا الرؤية، وهي ممنوعة، إلى أن قلتم: وليست الرؤية الفجائية كافية حتى يحمل على الصدفة التي تأتي بلا تعمد، بل لا بد بعد وهلة النظر من أُلفة أو تكرار حتى يتحكم الهوى، إلى آخر ما عددتم من درجات الحب، وحينئذٍ فكل ذلك مبني على التأثرات النفسية؛ فأقول: نعم، قد نطقتم بالحقيقة، ولكن هل ممكنٌ منع الجنسين الذكور والإناث عن بعضهما مهما أغلظ البشر من الحجاب بين الفرقتين حتى يمتنع ذلك الأصل المسبب لإيجاد الحب بهذه الصفة التي ذكرتموها.
وهل ممكنٌ للإنسان إذا حصل من نظرة فجائية أن يتغلب على حاسيات النفس وإرجاعها عما تحبه وتنجذب إليه بعوامل الطبيعية، أم يعجز عن إرجاعها كما عجز عن إرجاع ما تأباه نفسه من انفعالات الجوع والمرض، أوَليس الموجب لتكرار النظر وتمكُّن الألفة التي توصل الحب إلى درجة الشغف هو انجذاب القلوب بسلاسل سرية عجز عن مقاومتها كلٌّ من الجنسين، وقد علمتم أن مقاومة النفس قوية جدًّا، وهي المتغلبة على العالم الإنساني، وأنه قد يمكن للإنسان أن يعلم أن ما يقصده عمله وتشتهيه نفسه مضر بجسمه وماله وشرفه بل ودنياه وآخرته، ومع ذلك كله لا يقدر على مقاومة نفسه ومنعها عن إجراء ما تطالبه به؛ فنرى أن الولد يقتل أباه طمعًا بما يمتلكه، والأخ يقتل أخاه خوفًا من مزاحمته على الشيء الذي تطالبه النفس بامتلاكه، فكيف أن كل هذه الأعمال ناشئة عن تغلبات النفس وحكمها على حاسيات الإنسان، وقد يجوز احتمالها ويُغفر لمرتكبيها أمام الهيئة الاجتماعية، ولا يُغتفَر ذنب العاشق الذي امتلكت حواسه العوامل الطبيعية التي بدونها قد يعجز عن مقاومات هجمات جيوش العالم الحيوي! وكيف يُلام بعد ذلك ويُنسب له الاختيار بما حصل له، ويكون غير اضطراري.
وقد ذكرتم أن أغلب الإصابة بهذا الداء مبني على الرؤية إلا ما ندر، فأرجوكم السماح لأني أحب أن أبديَ فكري من هذا القبيل، وعلى هذا فأقول: نعم، إن للنظر القسم الأكبر من هذا الأمر، ولكن قد يمكن للإنسان أن يعشق بدون أن يرى أيضًا كالمتكلم من وراء الحجاب مثلًا؛ فإنه يعشق بغير أن يرى من محاسن المحبوب شيئًا سوى ما سمع من ألفاظه، فانجذب لها وطار قلبه شَعاعًا إلى ذلك المحبوب، وعجز عن إرجاع أفكاره، وارتسمت في مخيلته تلك الكلمات التي سمعها، ولم يجد منها مفرًّا ولا مهربًا، والأعمى كذلك، فما حكمه إذنْ؟!
ومنهم من يعشق بمقتضى نظرة واحدة؛ بحيث إنه يرى شيئًا يستحسنه من المحبوب، ومع ذلك فلو رآه أحد غيره لا يجد فيه ذلك الاستحسان الذي رآه هو، وإنما حسَّنه له الانعطاف والجاذب السري الطبيعي الذي يتحوَّل إليه بسبب نظرة واحدة، وهذا الجاذب هو الذي أوجبه بأن يعيد النظر إليه حتى تتعالى درجته إلى تبلغ الشغف وغيره من الدرجات الحبية؛ لأن أول الغيث قطرة، وهل ممكنٌ إرجاع تلك القطرة حتى لا تتكون منها كل هذه المياه؟!
ولذلك إنك لا تجد للجمال من مشبه، ولا أحد يقدر أن يُحصيَه بوصف؛ لأن النظر فيه مختلف على قدر انعطافات القلوب؛ لأنها هي المسخرة لنعت الجمال ودقيق أوصافه، وهي تحكم بقدر ميلها وعلى مقتضى شهواتها؛ حيث إن الذي يراه المحب لا يراه غيره من الناس؛ فعلى ذلك نرى أن النظر يتبع القلب وهو من جملة عُمَّاله، لا القلب يتبع النظر كما هو مشهور، وعلى هذا فإني أرى أن الحب اضطراري لا اختياري كما أشرتم سعادتكم في ذلك، وأرى أن المُبتَلَى به أعجز من العاجز، وكيف يقوى على ترك مقتضيات هذه الجواذب السرية التي تقوده بسلاسل مغناطيسية، وتُهوِّن له الصعاب في سلوك هذا الطريق المحبوب منه المرغوب لديه؟! وأما قول سيادتكم إن الأطباء قد فحصوه فحصًا دقيقًا، وتكلموا عليه إلى آخره، فأقول: إن ذلك الفحص لا يجدي نفعًا في شيءٍ ما؛ لأنهم لم يسنوا له قوانين طبية، ولا أحكامًا سياسية، ولا قواعد يلجأ إليه المصابون به «وقد ينفع المرء عدوه إذا اقتضت الحاجة»، مع أن العالم الإنساني أجمع يلذه ويطربه سماع حوادث المحبين وشكواهم، حتى إن التأليف والكتب التاريخية لا تحلو لديهم إلا إذا كانت غرامية فتلذ سامعيها، ويتهافت عليها كبار القوم وصغارهم، وأما ما ذكرتم من عدم إثباته فهو عين الحقيقة، فأشكر فضلكم على إظهار هذه النفائس من ذخائر أفكاركم السامية.