الرسالة الثامنة والعشرون
- (١)
استفهمت حضرة الفاضلة عن إمكان منع خطر وقوع الرؤية … إلخ بين الجنسين مهما أغلظ الحجاب حتى يمتنع الحب الذي هو مدار البحث.
ونقول: إن امتناع الشرور بالكلية غير مستودع في طبيعة هذا العالم؛ فجميع أحكامه مبني على التغلب، ولو امتنع الشر لامتنع الخير، والعكس بالعكس، فإن أهم الخيرات في الدنيا متوقف على وجود أهم الشرور؛ فالعدل خير ولكن لا تَحقُّق له إلا بوجود المظالم، وحسن الشمائل خير ولا حقيقة لها إلا بعد تبيُّن نقائضها، وكافة أنواع الفضيلة خير ولا معنى لها إلا بوجود نقائضها.
وإنما توضع نواميس التعامل على قاعدة التغلب، فكذلك أمر الحب وأحكام الهوى في هذه القضية، فإننا متى علمنا أن المسبَّب لا يقع إلا بحدوث السبب نعلم أنه متى امتنع السبب امتنع المسبَّب قطعًا؛ فبقي النظر في إمكان منع ذلك أو استحالته أو وجوبه؛ لأن الأمر لا يخرج عن هذه الثلاث، والأول هو المتعين لعدم إمكان قبول الآخرين، فهو ممكن ولكنه يختلف صعوبةً وسهولةً بمقتضى الوضعيات الاجتماعية والاستثناءات؛ فهو ممكن التخفيف أو التقليل إذا لم يمكن منعه بالكلية، وعليه فتشديد المنع معين على تقليل الخطر، وكلما ترقى ذلك تلاشى ما يترتب عليه.
- (٢)
استفهمت البارعة الكاتبة عن إمكان تغلُّب الإنسان على حواسه إذا أحب من أول نظرة فجائية كما يحصل من الانفعالات النفسية … إلخ. أقول: الإنسانُ أقدر على إرجاع النفس في الوهلة الأولى منه بعد التكرار؛ لأن الوهلة المذكورة لا تورث إلا خطرة وحالات نفسية، فلا تتملك النفس إلا بعد ترقِّي أحوال المحبة، وصيرورتها مَلَكة راسخة كما قدَّمنا في المقالة الأولى؛ ولهذا لا يُعذر الإنسان عما يأتيه انقيادًا لوهلات النفوس، فإن النفس قد تشتهي شهوات كثيرة سواء كانت مشروعة أو غير مشروعة، فلو تُركت وما اشتهت فسد العالم أجمع؛ ولهذا لم تُجعل شهوات النفوس حجة للتشريع ولا دليلًا على الصواب، ولو جوَّزوا ذلك ما أمكن للبشر أن يحفظ حقًّا أو يقوم بواجب أو يقف عند حد، وهو عين دمار العالم! نعم، يمكن أن يحصل من الوهلة الأولى أثر على طريق الاستثناء، ولكن قاعدة رعاية الأغلب التي هي أس التعامل العلمي لا تسمح أن تقضيَ بذلك الاستثناء إلا بعد تبيُّن وتعميق بحث قد لا يتم إلا بعد طول تروٍّ وتدبُّر.
- (٣)
ثم استفهمت — حفظها الله — بصفة احتجاجية عن تكرار النظر الذي يقتضي تكرار الألفة، واحتجت بأن ذلك حس سري عجز عن مقاومته كلٌّ من الجنسين … إلخ.
ونقول: إذنْ قد اعترفت حضرة الفاضلة بأن الأمر يبلغ حدًّا لم يكن في الأول، وإن احتجت بأن داعيَ التكرار حس سري، فدلها على أن المعذرة أبعد قبولًا في الوهلة، وهي أقرب إليه بعد التمكين، فهلا ترى وجوب العناية بقطع سبيل التكرار قبل التمكن رعاية للأحوط في الأمر، وتوصلًا لمنع ما يُحدثه التكرار؛ وهو الأمر الذي بنى عليه البشر منع الامتزاج بين الجنسين إذ لم يجدوا وسيلة سواه، ولا سبيل لترك الأنفس وكل ما أرادت.
- (٤)
ثم قالت: وقد علمتم أن مقاومة النفس قوية جدًّا، وهي المتقلبة على العالم الإنساني، وأنه قد يمكن للإنسان أن يعلم أن ما يقصد عمله وتشتهيه نفسه مضر بجسمه وماله وشرفه، بل ودنياه وآخرته، ومع ذلك كله لا يقدر على مقاومة نفسه ومنعها … إلخ. ونقول: إن كل الأعمال التي تقتضي الحكم وتستلزم الجزاء ليست إلا صادرة عن عمد ولزم نفساني، فلو كان ذلك عذرًا مشروطًا لتعطلت مصالح العالم، ولصحت شرعة البغي، وهو ضد نظام الحياة العمومية، ولم توضع القوانين، ولم تشرع الشرائع إلا لمقاومة عمديات الأنفس، حتى إن الشرع يمنع العاجز عن حسن التصرف من استعمال ماله، ويقيم عليه القيِّم مع أنه لا يبذر إلا ماله، ولا يتلف إلا حقه، وكذلك شارب الخمر، فقد يجازى على مجرد الشرب ولو لم يسكر أو يضر غيره بسكره، أو لعب القمار المتفق عليه بين الطرفين على مالهما، والمتوافقون على الأعمال التي تُنافي المشروعية كالزنا وسائر الفاحشة، ولو لم يكن للفريقين علائق خاصة يحتج بالتعرض لحقوقها، وكذلك مُمْرض نفسه ومتلفها، فإنه لا يُترك لغرضه بل تكون الهيئة الاجتماعية هي الحائل بينه وبين ذاته؛ فليس هنالك من صحة إلا إذا أنكرنا مضار الحب، وحضرتها أقرت بها؛ فلم يكن للاحتجاج من سبيل على ما يظهر.
- (٥)
ثم قالت ما مفاده أن الولد قد يقتل أباه والأخ يقتل أخاه … إلخ، فكيف أن كل هذه الأعمال ناشئة عن تقلبات النفس، وقد يجوز احتمالها، ويغتفر لمرتكبيها أمام الهيئة الاجتماعية، ولا يغتفر ذنب العاشق … إلخ.
نقول: هذا الحجاب العاصم — أيَّد الله الفاضلة — وأن العاشق لم يقرر له جزاء خاص على العشق غير اللوم والنصح فقط، ولكن هاتيك الأعمال التي ذكرتها يُلام الجاني فيها، ويُحبس ويُقتل شرعًا وقانونًا، ولكل عمل من الأعمال اللاحقة بالحقوق لم يغفل جزاؤها، ولو أردنا توازن الحقيقة لوجدنا العشاق أقل الجانين جزاءً، وإنما ينالهم الضرر على أعمال وأقوال وأحوال مخصوصة لا على ذات العشق.
- (٦)
ثم وافقتنا حضرتها — أدامها الله — على كون النظر أغلب أسباب الهوى، وتنزلت لطلب الحكم عن حال المحب للتكلم من وراء حجاب، أو حب الكفيف. ونقول: ذلك دليل على الألفة وعدم حكم الوهلة الأولى؛ لأن الوهلة لا تُخوِّل حق الكلام الذي يرتسم في المخيلة فلا يوجد منه مفر، وهو عين ما عرضناه في المقالة الأولى.
- (٧)
ثم قالت: ومنهم من يعشق بنظرة واحدة … إلخ. ونقول: ذلك وارد على ألسنة الشعراء وتغالي الأدباء فقط، ولا يخفى على حضرة الكاتبة البارعة أنهم يبالغون في تخيلاتهم؛ فالاحتجاج بهم أدبي مجرد عن الأحكام الحقيقية؛ لأن العشق له مراتب طبيعية لا يمكن أن يخترق القلب طبقاتها بوهلة النظر، وقد أضل الشعراءُ بمقالاتهم كثيرًا من العقول؛ فالأَولى عدم الاقتداء بهم.
- (٨)
ثم بعد البحث عن اختلاف الأذواق في الجمال قالت إنها ترى أن الحب اضطراري لا اختياري. كما قلنا ونقول: إن الاضطرار إن كان المقصود به الهوى المجرد؛ أي: ميل النفس وإرادتها، فهي قضية تنطبق على كل المرادات من الخير والشر، ولكنها ليست بحجة مشروعة، وإلا يتم انفساخ عموم الأحكام التعاملية كما تقدم؛ وإن كان المراد به الاضطرار المشروع؛ أي: الذي لم يكن في الإمكان العدول عنه إلا بضرر عظيم، فوهلة النظر لا توصل إليه، ولا يصير اضطراريًّا إلا بعد الوصول على أن يُهلك الحبُّ القلبَ، ولكنه مسبوق الإرادة والميل، فالأصل فيه الاختيار.
- (٩)
ثم اعترضت حضرتها بأن فحص الأطباء لم يفد لأنهم لم يسنوا له قوانين طبية أو سياسية، ولا قواعد يلجأ إليها المصابون … إلخ. ونقول: إن الأحكام السياسية قد تناولت الأمور التي يمكن ثبوتها؛ إذ لا إمكان لتحديد المعاني الجائلة في الأذهان، فقررت ما يلزم لما يتعلق بالتعامل، ومع ذلك فإنها تركت حرية لأهل القضاء تشتغل عند قناعة الضمير بها، وهي محكمة في المعنويات التي من جملتها البغض والحب والصحبة وغيرها، وقد تعلقت بهذه الأحوال أحكام كثيرة لا محل لتفصيلها هنا، وإني لأختم الكلام أولًا بالْتِماس السماح من حضرة البارعة مع جزيل شكري وجميل ثنائي على هذه الاستشكالات المهمة، التي يجب أن نقدرها قدرها من الفضيلة، ونطلب العفو عما قدَّمنا من الأجوبة؛ فإنها لم تصدر إلا بقهر قانون المناظرة، ونرجو من حضرتها أن تقل منا مراسم الاحترام، وأن لا تؤاخذنا على ما أطلنا الكلام فيه من المباحث بحسب ما اقتضاه المقام.