الرسالة التاسعة والعشرون
يجب علينا أن نقوم بواجب الشكر أولًا لله — سبحانه وتعالى — وثانيًا لرجال عصرنا الذين منحونا حقوقنا، وأمروا بتشييد المدارس لتعليم البنات، وأفرجوا عنا ما كنا فيه من الضيق الذي نرى غمامه متلبدًا فوق البعض منا يحجب عنه نور الحقيقة، ولم تزل تلك السراديب المعتمة تتخلل ديارنا الشرقية، حتى يتخيل للمار فيها أنه في ليل داج من الجهل، وقد يعسر على أعظم الفلاسفة أن يكشف حجاب الغفلة عن عقول ذلك البعض ويجرهم إلى ميدان الحقيقة، وقد رأيت ما أذهلني وسمعت مجادلة لم أسمع بمثلها؛ فأحببت أن أشرحها للقراء إقرارًا بالنعمة التي أنعمها الله علينا من إظهار نور المعارف أمامنا، وإلا لكُنَّا مثل هؤلاء الجاهلات اللواتي لا يعرفن إلا ما علَّمتْهن الطبيعة؛ وذلك أنني سمعت بأن إحدى السيدات من معارفي قد وضعتْ فتوجهتُ لزيارتها والتبريك لها على حسب العادة، فلما دخلت إلى منزلها وجدت هناك جمًّا غفيرًا من السيدات، وقد أتت والدة النفسة إلى المجلس الذي نحن فيه بوجه بشوش ورحَّبت بنا، وجلسنا نتذاكر عن المولود، وحينئذٍ سألتها: هل هو أنثى أم ذكر؟ فمالت نحوي وقالت بصوت منخفض: هو ولد ولكن اسكتي، فأنتِ عزيزة عندي؛ ولأجل ذلك أخبرتكِ، وأما نحن فلا نُظهر أنه ولد إلا بعد أسبوع. فقلت لها: لماذا تخفون الولد إلى هذا الوقت؟ قالت: لأن الولد مفضَّل على البنت. فقلت: بماذا يفضل عنها؟ قالت: لأن الولد حينما يولد تهتز له السبع سماوات وتفرح له الملائكة، وأما البنت فتبكي الملائكة حين خروجها إلى الدنيا. فقلت: ولماذا إذنْ لا تريدون أن تُظهروا خبرًا تفرح من سماعه الملائكة وتهتز منه السماوات؟! والبنت ماذا يضر الملائكة منها، وما الذي فعلته لهم حتى يتكدروا من مجيئها إلى الدنيا؟! قالت: إن البنت إذا قعدت في البيت تقل بركته، حتى إن الفيران يدخلون في الشقوق يوم ولادتها.
قلت: وما السبب في ذلك؟ قالت: لأن النبي كان يكره البنت لأنها ناقصة عقل ودين، حتى إن ربنا جعلها في الرزق على قدر نصف الولد، ولا يخرج من يدها أن تعمل شيئًا غير أنها تأكل وتشرب وتقعد فقط، وأما الولد فهو الذي يشتغل ويصرف على البيت. قلت: نعم، وهو ذلك ولكن لو تعلَّمت البنت لصارت مثله تعمل كل ما يعمل وتكسب كما يكسب هو. فقالت بعد أن رمقتني بعين الاستغراب: لا لا يا بنتي، أنتِ عندي عزيزة، أستغفر الله! هو نحن نصارى حتى نُعلِّم بناتِنا مثل الرجال؟ معاذ الله! فقلت: كيف أن النصارى يجوز لهم أن يُعلِّموا بناتهم، ونحن ما الذي يمنعنا من تلك الإجازة؟ قالت: لأنهم يُخرجون نساءهم بدون تستُّر. قلت: وما دخل الستر في التعليم؟ أهي العلوم لا تدخل من وراء الحجاب! كيف؟ أفيديني أفادك الله يا سيدتي! قالت: نعم يا بنتي سألتني ربنا يهديك أنا أخبرك بالحقيقة، هو أن تعليم البنت القراءة والكتابة مكروه عندنا، وهذا لا يصح إلا عند النصارى فقط، وأما عند المسلمين لا يجوز أبدًا. فقلت: ولماذا فُتحت المدارس لتعليم النبات إذا كان كذلك؟ قالت: لأن الناس صارت تقلد النصارى في كل شيء حتى صاروا يغيرون لسانهم، ومن غيَّر لغته غيَّر دينه، وعندنا لا يمكن ذلك؛ لأن سيدنا محمد كان يكره المرأة التي تفك الخط وتعرف القراءة. قلت: ومن أخبركِ يا سيدتي بذلك ونساؤه ﷺ كن عارفات راويات الحديث، وكانت أحبهن إليه أكثرهن رواية؛ وهي السيدة عائشة؟! قالت: نعم، ولأجل ذلك كان يحب زوجته آمنة أكثر من عائشة. فأجابتها إحدى النساء الحاضرات أن آمنة أمه لا زوجته، فقالت: لا لا، الأم اسمها خديجة، أخبرني بذلك الأفندي — تعني زوجها — فقد قرأ في الكتاب أن أم النبي اسمها خديجة. فقالت لها أخرى: تعلمي أننا لما نقوم من النفاس تعلمنا الداية بقولها نويت طهر ستنا عيشة، وستنا خديجة، وستنا آمنة أم الرسول، فكيف تقولي إن أمه اسمها خديجة؟! وإن كنت لا تصدقيني فاسألي الداية فإنها موجودة. وكثرت بينهن المجادلة وارتفعت الأصوات وكثر اللغط، ونحن في مثل هذه الحالة وإذ بالأفندي المذكور قد شرف إلى غرفة ثانية، ووصل إلينا الخبر بقدومه، فحمدت المولى الذي أتى به ليكون السبب في حل هذه المباحث العلمية والمجادلة الفلسفية، فهرعت زوجته إليه لتسأله وتستفتيه أيتهما أم النبي ﷺ، أهي خديجة أم آمنة، فقال لها: إنني لا أعلم، وسأكشف على الكتاب، ولكني أظن أنها خديجة. فجرعت إلينا تلك السيدة فرحة بما قاله زوجها، وقالت: ألم أقل لكم إنها خديجة؛ لأن الأفندي عارف، وهو الذي أخبرني بأن القراءة مكروهة للنساء، حتى إنه لما ذهبنا إلى زيارة تربة المرحومة بنتي، وقعد ابني محمد يقرأ سورة مريم أمام النساء فمنعه والده؛ لأنه لا يجوز أن يسمعوها. فقلت لها: وما الذي في سورة مريم من المكروه للنساء؟ قالت: لأنها كانت أصلها نبية، وكانت لنا ثم أخذتها النصارى وعملوها نبيتهم؛ فلأجل ذلك لا يجوز لنا أن نسمع سورتها. فلما سمعتُ هذا النبأ العظيم نهضتُ وخرجتُ وأنا أحمد الله الذي عافانا وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلًا.
وتركت هذه المجادلة والمناظرة التي لا ينفع فيها أسانيد، ولا أدلة حتى، ولا شهادة الداية التي استشهدن بها في مناظرتهن، فتأملوا يا رجال الشرق كيف أن الإهمال يوقع بالخسران، وكيف تأملون النجاح والراحة لأرواحكم وأنتم تتقلبون على فُرُش الهمجية والجهل، وكيف يجد المرء منكم لذة الحياة وقعيدة بيته، لا بل شريكة حياته ومنبت جرثومة بنيه بهذه الصفة؟!
مع أني أعلم أن لثلاثة من هؤلاء النساء اثنتي عشرة بنتًا؛ فلصاحبة المنزل — وهي المتكلمة — أربع بنات، ولسلفتها التي استشهدت بالداية ثلاث بنات، ولابنتها خمس، فإذا كان يخرج من بيتٍ واحد اثنتا عشرة بنتًا، وعمَّرن اثني عشر بيتًا على أساس من الجهل، فلينظر ذوو الألباب!