الرسالة الثالثة
قالت الجريدة المذكورة: وردتنا هذه الرسالة الغراء من قلم الفاضلة الأديبة السيدة زينب فوَّاز، وهي الرسالة التي أشرنا إليها في أحد أعدادنا، وردتنا على قصد نشرها فلبَّيْنا الطلب فرحين قيامًا بواجبات الخدمة العمومية. قالت حفظها الله:
العزوبية والزواج
قد اطلعت في جريدة الأحوال الغراء على سؤال تحت عنوان «أي الأمرين أفضل للمرأة: أن تعيش عزباء في البيت كل عمرها، أم تقترن برجل سيئ الأخلاق؟» وقد نقلته الجريدة المذكورة عن إحدى المجلات الفرنساوية، طرحه أحد الكتاب الفرنسيين، وذكر أنه أجيب عليه بما يزيد على ثلاثة آلاف وتسعمائة رسالة وكلها من أقلام النساء، وإن قسمًا منهن فضَّل الأمر الأول وقسمًا فضَّل الثانيَ وهذا الأكثر. وقد طلب الكل من صاحب السؤال الحكم في المسألة، فأجاب بأنه لا يستطيع الوقوف على شعور قلب المرأة بالتمام، وأنه يجب على كلٍّ من الفريقين أن يدرس أخلاق الآخر، فعنى بقوله أنه ترك الحكم لهن يحكمن بما يرينه، ويعلمنه من بعضهن ممن علمن كلتا الحالتين.
وبما أني قد درست كلًّا من العلمين، ومارست كلتا الحالتين، فأقول: إنه من المعلوم لكل فرد من الجنسين أن الأشياء متى كانت محجوبة عن الإنسان، توهَّم أن كل خطوة يخطو نحوها هي التي تقربه إلى أوج السعادة وترفعه إلى ذروة المجد، فيبلغ ما في النفس من أمنية، وبقدر ما يعترض المرء من المصاعب والمشاق يكون له رغبة وتشوق لنوال المرغوب؛ وذلك بمقتضى المنعة والحجاب، وقد قيل: كل محجوب محبوب.
والمرأة أيضًا إذا كانت غير متزوجة لا تدري ما تتكبده المتزوجات من المصاعب، وحتى إنها إذا نُقل لها خبر من أخبارهن هزأت به، وظنت أنه من سوء تصرف المرأة المتزوجة وعدم سياستها مع زوجها بما يجلب حساسياته نحوها «ولم تعلم أن المعدن الخبيث لا يؤثر فيه الصقل، ولو صُقل فلا يلبث أن يرجع لأصله»، وتود لو أنها تزوجت بأي رجل كان خيرًا لها من أن تعيش عزباء، أو تخيل لها أمانيها أنه إذا كان شريرًا تهذبه بآدابها، وتغنيه عن الغير بجمالها، ولكن ماذا تؤثر الآداب في نفس الرجل السيئ الأخلاق؟! وما يفعل الجمال بمن لا هم له غير الاستحصال على ما عند المرأة من الثروة لينفقه في طريق غروره؟!
والمرأة إذا اقترنت بالرجل السيئ، ووافقت قلبها عليه وسلَّمت أمرها إليه، واجتهدت في مرضاته وعملت على تهذيب أخلاقه، ولم ترَ منه إلا النفور والتماديَ في طريق اللهو والغرور واتباع خطة الشهوات والشرور، فتصير كمن كتب على صفحات الماء أو تعلق بالهواء؛ فتندم من حيث لا ينفع الندم، ويصعب الخلاص إذا زلَّت بها القدم، وتلازم الحزن الدائم الذي لا ينقطع إلا بانقطاع حبل التواصل بينهما، ولو أني أذكر تفصيل ذلك لمُلِئت الصحف ولكني أكتفي بهذا، وأكل الباقي لفهم القراء الكرام.
وإذا كان الحال كما وصفت بأن كانت المرأة تتجرع مرارة المعاشرة مع الزوج السيئ، وتتذكر ما كانت فيه من النعيم في زمن العزوبية، فَلِمَ لا تفضِّل حالتها الأولى على قرين السوء، وتعيش في رغد متمتعة بلذيذ الراحة، بعيدة عن تلك الأفكار التي كانت مستحوذة على عقلها طامسة على بصيرتها، مالكة قيادها داعية إياها للافتكار بسوء ما يَئُول إليه مستقبلها، متبعة خطة الآداب، متمتعة بثمرة العفاف في دوحة الشباب إلى أن يقضيَ الله بأمره، وتود لو انطلقت من تلك القيود أن لا تعود إلى مثلها أبدًا.
ولا يسهل لها أن تميز الحالة الأولى ويظهر لها الفرق إلا بعد أن تغادر الحالة الثانية، كمن لا يعرف حلاوة العافية إلا بعد الوقوع في المرض، كما وأني لأرجو من فضل العقائل والأوانس اللواتي يرين غير ما أرى أن يتكلمن بما يستصوبنه في هذا الشأن.