الرسالة الثلاثون
لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
من المعلوم لكل فرد من أفراد هذا العالم الإنساني، بل وإن عوالم المخلوقات بأجمعها لا كون لها ولا وجود إلا بتألفها في الهيئة والتركيب والتعاضد، فيُعِين بعضها البعض الآخر على مصاعب هذه الحياة، وقد شرَّف الله الإنسان وميَّزه عن جميع المخلوقات بما خصه به من المزايا التي لم يخص بها غيره؛ وهي: العقل والنطق والإحساس والإدراك والرأفة والحنو، وغير ذلك من الصفات التي تربط أنواع البشر بروابط الجنسية، ثم كانت قوانين المذاهب والديانات، فتوثقت عُرى تلك الروابط، وبهذا العقد الوثيق صارت الأمم يقصد بعضها بعضًا، وصار القوي يُعِين الضعيف، والقادر يساعد العاجز، وها نحن — ولله الحمد — قد جمعتْنا الروابط الإسلامية الوثيقة، وضمَّتْنا الجامعة المحمدية في عقد نظام لا ينفرط أبدًا بعونه تعالى؛ فنحن بهذا أحق وأولى أن نكون عضدًا مساعدًا للمضطرين منا، وقد علمت الأمة المصرية — ولا شك — صعوبة المجاعة الحادثة في عمالة الجزائر في بلاد الغرب التابعة لحكومة فرنسا؛ بسبب القحط الذي حل بتلك البلاد، فألمَّ بإخواننا في الإنسانية والدين خطب فادح عظيم، وبلاء كادح جسيم.
وما تناقلت السنة الجرائد هذا البلاء الفاجع حتى عم تأثيره على الكثير، وكنت أنا ممن استحوذتْ عليه الغَيرة الإسلامية والنخوة العربية؛ فقمت لأحث إخواني وأخواتي أرباب المروءة والشهامة، وأنبههم لاغتنام هذا الأجر العظيم، وإعانة إخواننا المسلمين، وإن تكن سبقتْني إلى ورود حياض هذا الشرف السامي صاحبة العواطف الشريفة حضرة عقيلة المسيو كامبون الحاكم العام في بلاد الجزائر، فوقفت نفسها لإغاثة الملهوفين، وألقت خطبة صادعة تحث فيها العالم الإسلامي طيَّرتها الصحف في الآفاق، وقد نشرتها لنا جريدة المؤيد الغراء في عددها الصادر يوم السبت ١٨ رمضان الماضي.
فإليكم أوجه خطابي يا رجال الشرق جميعًا، وعلى الخصوص رجالنا المصريون أولو الحزم والإقدام والمروءة والإنسانية على إعانة إخوانكم المسلمين، وانتشالهم من مخالب الجوع حتى لا يفترسهم وأنتم تنظرون، وإنكمإِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ، وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا، فكيف يهنأ لنا العيش ونتمتع بالنعم التي أنعم الله بها علينا وإخواننا في الإنسانية والدين يموتون جوعًا؟!
كيف تكون حالة الرجل والمرأة منهم إذا نظرا إلى أولادهما تنتهشهم أنياب الجوع فيتساقطون الواحد منهم بعد الآخر كالأثمار من الأشجار، ووالداهم ينظران إليهم وقد خانتهما الوسائل فلم يقدرا على دفع هذا البلاء المبين عن فلذة كبدَيهما!
أم كيف بنا — والعياذ بالله — لو أصابنا مثل ما أصابهم من الفاقة وجائحة القحط! فهل كنا نستغيث فيغيثنا حنو الأخوة من الجزائر بين الذين أصبحوا يستغيثون بنا؟ تالله إنه لم يكن يخطر ببالنا إلا استنجاد مروءتهم، ولا سبيل إلا إلى إنجادنا منهم.
فهُبُّوا يا إخواني، ولَبُّوا استغاثة إخوانكم، واعقدوا الجمعيات كعوائدكم بعمل الخير، واجمعوا الدرهم النفيس، واشتروا نفسًا نفيسة يكاد الجوع يوردها حياض المنايا، واقتدوا بإخوانكم أعضاء الجمعيات الماسونية؛ فإنهم قد شمروا عن ساعد الجد وأداروا العمل بغاية السرعة، وكان في مقدمتهم محفل الثبات الذي جمع كمية وافرة من النقود بقصد إغاثة أولئك الملهوفين، فجزاهم الله عن الإنسانية خيرًا، ونرجو أن يكونوا قدوة لباقي الأمة.
وكذلك يليق بكن يا بنات الشرق ومخدرات الإسلام أن تقتدين بما فعلته عقيلات فرنسا من الأفعال الخيرية، التي تخلد لهن الذكر الجميل والفضل العميم، ويفتخر بهن العالم النسائي أجمع، وقد كنتن قدوة العالم في الزمان السالف، وأَمَلي فيكن وطيد بأن تعود لكُنَّ تلك النخوة وتلك النشأة بإذن الله تعالى.
كيف لا وعهدي بالكثير منكن مضارعة الرجال شهامة ومروءة! وقد برهنت لنا عن ذلك شهامة وكرم صاحبة العصمة البرنسيسة زبيدة هانم أفندي، حين أرسلت إلى مدرسة النيل ٣٠ جنيهًا تبرعًا من مالها الخاص إعانة لتلك المدرسة، ولا بدع فهي ربيبة المجد والكرم الجديرة بأن تعطر الأندية بذكرها وشكرها.
وهذه فرصة قد وجدتُنَّها لترتقين بها درجات المجد، وتدركن بها أوج الشرف، فهيَّا شمِّرْنَ عن ساعد الجد، واجمعن أنفسكن برئاسة من ترينها أهلًا لذلك، حتى إذا جمعتن شيئًا من المال لإعانة أخواتكن المصابات بالفاقة كان جزاؤكن الشكر إلى آخر الأبد، وليس يلازم أن تتكلفن ما لا طاقة لكن به، بل التي تقدر على الدرهم تجود به والتي تقدر على الدينار تجود به عن طيب خاطر، وما على المحسنين من سبيل، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.