الرسالة الحادية والثلاثون
قد اطلعت على بعض مسائل متضمنة حكمًا من كلام بعض فلاسفة الإسلام وعلماء الكلام، مثل أبي سليمان محمد بن طاهر، وأبي بكر القوسي، ويحيى بن عدي، وأبي زكريا الصيمري، وعيسى بن علي، وأبي محمد الأندلسي، وأبي حيان التوحيدي، وغيرهم من علماء المنطق الذين قالوا الكلام المحكم. وبما أن مثل كلام هؤلاء العلماء الذين تقدموا بالعلم والفضيلة، ونشروا العلوم الفلسفية، وتقدم منهم الشرح لمثل هذه المسائل العلمية، وحيث إن فيها تقدُّم الجنس البشري، وتهذيب النوع الإنساني رأيت أن أجمع ما أستطيع جمعه من كلام الفلاسفة وأنشره على التوالي، ضاربةً الصفح عما شرحه به العلماء السابقون من الشروحات المختلفة، وراجيةً من علماء زماننا أن يمدونا بما عندهم من الشروحات المفيدة المقنعة على هذه المسائل الجليلة العظيمة الفوائد، والكشف عن مُحَيَّا تلك الكلمات الجوهرية؛ لأن الضن بها يعد جريمة عظمى من حيث العقل والنقل، وقد جعلتها متسلسلة إلى النهاية، والله الموفق إلى الصواب.
السؤال الأول
لِمَ خلا علم النجوم من الفائدة والثمرة، وليس علم من العلوم بهذه الصفة؟ فإن الطب على غير ذلك؛ لأن الناظر فيه والباحث عنه والكامل من أهله لم يقصد به سوى استدامة الصحة ما دامت الصحة موجودة، وصرف العلة إن كانت العلة عارضة، وكذلك النحو قد قصد به الماهر فتق المعاني، وصحة النطق بالألفاظ، وتوخِّي الإعراب، واعتبار الصواب، ومُجانبة اللحن على حدود ما في غرائز العرب وطبائعها، وكذلك الفقه الذي قصد به صاحبه إصابة الحُكم، واقتضاب الفُتيا، وإيجاب الحق، ودفع الخلاف وإقماع الخصم، وحسم مواد التنازع، ورد أهله إلى الرِّضَى والتسليم.
وكذلك الشعر الذي هو قائم في النفس ثابت في قريحة صاحبه يجيش به صدره، ويجود به طبعه، ويصح عليه ذوقه من مدح مأمول، وترقيق غزل، وهجو لئيم، واستدرار كريم، وتوشية لفظ، وتحلية وزن، وتقريب مراد، وإحضار خدعة، واستمالة عزيز، وضرب مثل، واختراع معنًى، وانتزاع تشبيه مع تصرف في الأعاريض بيِّن، وقيام بالقوافي ظاهر.
وكذلك الحساب الذي نفعه ظاهر، ومحصوله حاضر، وفائدته عامة، ونتيجته منجذبة، وثمرته دانية، وغنيه محمود، وجدواه موجودة، به صحت المعاملة، وقامت الدولة، وحُرس الملك، وجُبي المال، وقَوِي السلطان، وقرت الرعية هذا مع أسرار فيه عجيبة، وغوامض ترجع إليه شريفة، وخواص لا توجد في غيره غريبة.
وكذلك البلاغة التي قد علم صاحبها وطالبها ما ينتهي إليه، ويقف عليه تنميق لفظ، وتزويق غرض، وتغطية مكشوف، وتعمية معروف، وإحضار نية، وإظهار بصيرة، واختصارات وتقليلات، وتألُّف شارد، وتسكين مارد، وهداية متحير، وإرشاد مستطلع، وإقامة حجة، وإدارة برهان، واستفادة مريد، وتلطيف قول في عتب، وتسهيل طريق، وتهنئة مسرور، وتسلية محزون، وتلهية عاشق، وتزهيد راغب، ونصح عن غرض، وحسم مادة من طمع، وقلب حال عن حال، حتى تُضم بها أمور منتشرة، وتندمل بها صدور منفطرة، وتتسق بها أحوال متعاندة، وتُستدرك بها حسرات فائتة، وتُخمد بها نيران ملتهبة، وكالصنائع كلها كالهندسة في شرفها، والهيئة في علو رتبتها. وصدور هذه العلوم بعيدة وفوائدها جمة، وليس هذا القدر آتيًا على حقائقها، ولكنها مشيرٌ إلى موضوع المسألة والبحث عنها؛ فقد وضح لكل ذي حس مفيد، وعقل متَّئِد، ورأي صحيح، وذكاء صريح أن هذه العلوم كثيرة المنافع عامة المصالح حاضرة المرافق، وأن الناس لو خلوا منها وعروا عنها لتبدد نظامهم، وانقطع قوامهم، وكانوا تهيبًا لكل يد، وحيارى طول الأبد.
وليس علم النجوم كذلك؛ فإن صاحبه وإن استقصى وبلغ الحد الأقصى في معرفة الكواكب، وتحصيل سيرها واقترانها ورجوعها ومقابلتها وتربيعها وتثليثها وتسديسها، وضروب مزاجها في مواضعها من بروجها وأشكالها، ومقاطعها ومطالعها ومشارقها ومغاربها ومذاهبها، حتى إذا أحكم أصاب، وإذا أصاب حقق، وإذا حقق جزم، وإذا جزم حتم؛ فإنه لا يستطيع البتة قلب شيء عن شيء، ولا صرف أمر إلى أمر، ولا تقييد حال قد دنت، ولا نفي ملمة قد كُتبت، ولا رفع سعادة قد حمت وأظلت؛ أعني أنه لا يقدر أن يجعل الإقامة سفرًا، ولا الهزيمة ظفرًا، ولا العقد حلًّا، ولا الإبرام نقضًا، ولا اليأس رجاءً، ولا الإخفاق دركًا، ولا العدو صديقًا، ولا الولي عدوًّا، ولا البعيد قريبًا، ولا القريب بعيدًا.
وهذا باب طويل، والحديث فيه ذو شجون، وكان العالِم به الحاذق فيه المتناهي في حقائقه بعد هذا التعب والنصب، وبعد هذا الكد، وبعد هذه الكلفة الشديدة، والمؤنة الغليظة؛ مستسلمًا للأقدار ومستجديًا بما يأتي به الليل والنهار، وعادت حالته — مع علمه الكبير وبصيرته النقادة — إلى حال الجاهل بهذا العالم الذي انقياده كانقياده، واعتباره كاعتباره، ولعل توكُّل الجاهل به أحسن من توكُّل العالِم، ورجاء في الخير المتمتع، والشر المتوقَّى أقوى وأرسخ من رجاء هذا المدل بزيجه وحسابه وتقويمه.
حالة كون صوابه شبيهًا بالحدْس، وخطئه شديدًا على النفس، ومتى قضى هذا الفاضل النحرير والحاذق البصير إلى هذا الحد والغاية، كان علمه عاريًا من الثمرة خاليًا من الفائدة حائلًا عن النتيجة لا عائدة ولا مرجوع، وإن أمرًا على ما قررنا، وآخره على ما ذكرنا لحري بأن لا يُشغَل الزمان به، ولا يوهَب العمر له، ولا يُعار الهم والكدر، ولا يعاد عليه بوجه ولا سبب؛ هذا إذا كانت الأحكام صحيحة، ومدركة محققة، ومصونة ملحقة، ومعروفة محضة، ولم يكن المذهب على ما زعم أرباب الكلام، والذين يأبَوْن تأثير هذه الأجرام العالية في هذه الأجسام السافلة، وينفُون الوسائط والوسائل ويدفعون الفواعل والقوابل.