الرسالة الثالثة والثلاثون
قد اطلعت على الجملة التي كتبها أبو المحاسن في العدد الخامس من جريدتكم الزاهرة، وقد ذكر فيها بأنه سيحفظ آداب المناظرة، ولكنه قد جعل «يا أيتها الحاملة» مِجَنًّا يتقي به ضربات قلم تلك الحاملة، وغاب عنه أنه لولا ذلك لم يكن هو في هذه الحياة.
ومن أعجب العجاب أن الرجال أفهمونا أن ذلك الحمل هو العار الأكبر؛ حيث أنكروا فضله، وقلبوا موضوعه، ولم يعلموا أننا به نفتخر، وبه أخصنا الله، وأكرمنا بالفضيلة، وقد أثبتوا ذلك في أذهاننا حتى صرنا نفهم أنه حقيقة أمر وضيع خالٍ من الفضيلة لتراكم الجهل على عقولنا؛ بسبب حرماننا من بث روح المعارف بين أفرادنا من الأصل … إلى أن يسر الله لنا فرقة من الرجال الذين شربوا رحيق التمدن، وتوشَّحوا بوشاح الفضيلة، واستناروا بنور الحقيقة، حتى ظهر لهم ما لنا من الحقوق المندثرة هم باحتياج لها، فوطد العزم على رد هاتيك الحقوق إلينا بعد أن كانت أرباب الغايات من الرجال الذين سولت لهم أنفسهم باستعباد المرأة، وقد صنفوا الكتب ووضعوا الأحاديث في خفض شأن المرأة، حتى جعلونا نرى في أنفسنا ذلك النقص المنتمي إلينا كما سمعناه عن الرجال، وقد أثبتوا بأننا ناقصات عقل ودين، وأن النبي ﷺ نعتنا بذلك، فأقول: حاشا أن يكون قصد بهذا الحديث — إن لم يكن موضوعًا — أن للنساء نقصًا في عقولهن أو دينهن، وهو أعدل وأكرم من ذلك، وقد كنا مضطهدي الجانب في الجاهلية، فعُزِّزنا بعد ظهوره، وأيضًا قال: «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء.» يعني عائشة، فكيف يأمر أن تأخذوا نصف دينكم عن شيء ناقص، وأيضًا لو قال ذلك ﷺ لكان خالف حديثُه القرآنَ الشريف؛ إذ إن الله تعالى فرض على النساء ما فرض على الرجال من صلاة وصيام وحج وزكاة، وكافة المفروضات، لم ينقص منها شيء ليقال إننا ناقصات، هذا من جهة الدين، وأما العقل فأي نقص في عقولنا ونحن علينا مدار الكون مع ما نحن فيه من الجهل بالأشياء وعدم التعليم، فما بالك لو تعلمنا كالرجال! وكفاك شاهدًا ما عليه نساء الغرب، وكيف أنهن فُقْنَ أفعال الرجال، وقد تنبئك الصحف والجرائد بما فعلته النساء في أمريكا، وما أظهرن من عجائب الفنون والاختراعات في فرنسا وبريطانيا وغيرها من الأقاليم الغربية، فليت شعري أكان الحديث على عامة النساء أم على المسلمات فقط؟! وكأني بك تقول: إنه لم يبعث منكن أنبياء ولا رسل. فأقول: نعم، ولكنه كلفنا بأشياء خصنا بها دونكم، وهي — إن نظرتمونا بعين الحقيقة — توازي فضل الأنبياء أو تكاد؛ إذ إن الأنبياء — عليهم السلام — فضَّلهم الله على باقي المخلوقات لأنه اصطفاهم وخصَّهم بالرسالة لأجل أن يهديَ بهم عباده، وقد صبروا على البلاء من الجهلاء، واحتملوا العذاب في إهداء العالم إلى سواء السبيل، وبث الشرائع بين الناس والقسط، حيث إنهم مسخرون لذلك من قِبل الله تعالى، وكلَّف النساء ليَكُنَّ السبب في وجود العالم وتأسيس دعائمه، وهن الأصل في إيجاده، وما من نبي إلا وهو ابن امرأة، وقد خلق الله عيسى — عليه السلام — بدون أب، ولم يخلق الله أحدًا بدون أم، وخلق الله آدم — عليه السلام — بغير أم ولا أب أيضًا حتى تقول ساوى بين الجنسين بأفضلية الإيجاد.
وقد صبرت المرأة على البلاء المستمر كصبر الأنبياء — عليهم السلام — لابتلائهم بالجهاد لتدويخ الضلال، وإشهار الحق، وقد ابتُلِيَت المرأة بالجهاد الأبدي، وهو الحمل والوضع، وتربية النوع البشري، وقد صبرت على ذلك كله مع الشكر الأبدي؛ فالعاقل يرى أن الأول قد جعله الله لإصلاح ما فسد من الكون، والثانيَ لتأسيسه وعماره، والله أكرمُ من أن يجمع على المرأة أثقال النبوة مع أثقال تأسيس هذا العالم الحيوي.
ومع ذلك فالمِجَنُّ الذي اتخذتَه لك أيها الأديب، وأردتَ به إيقافي عن المناظرة قد أظهر لي ما في نفسك، ولكنه به أحمل لواء الشرف ولا تثريب عليك، ولك الأمان ما دمت متبعَ خطةِ العدد الخامس من فرصة الأوقات؛ فأنت إذنْ آمن من الطامة والبلاء يا سيدي أبا المحاسن.