الرسالة الرابعة
وكتبت في عدد ١٣ من جريدة النيل الصادرة في ١١ من ذي الحجة سنة ١٣٠٩، وقد اطلعت في جريدة المؤيد الغراء على تقرير لسعادة يعقوب أرتين باشا — وكيل المعارف العمومية — يتضمن ذكر زيارة سعادته لمدرسة البنات الأهلية، وأنه قد استحق شكر العموم على هذا الاهتمام الشريف الذي يغرس النشاط في قلوب التلامذة، ويحضهم على اكتساب الآداب وبث روح المعارف.
وقد عبر سعادته عن نظام تلك المدرسة وحسن اهتمام ناظرتها بما يشرح الصدور ويقوي الهمم.
وأثنى على الناظرة بما هي أهله بالنسبة للهمة التي بذلتها في تذليل الصعاب التي تقف عقبة في سبيل مثل هذا المشروع، على أنه قال في أثناء الكلام على الناظرة: «إنها لم تتربَّ لأن تكون معلمة فضلًا عن كونها لم تدرس من الآداب ما يلزمها بتضحية نفسها لصالح الغير»، فعنى بقوله هذا أنها لم تكتسب من العلوم درجة تجعلها أهلًا لفتح مدرسة، بل هذا العمل ناشئ عن الفطرة الغريزية، نعم وإن كان هذا القول غاية في الاستحسان إلا أنه لا يخلو من الانتقاد، خصوصًا وأنه صادر عن أفكار رجل المعارف والآداب، على أني أرى أن فتح مُدرسة مثل هذه المدرسة في القاهرة بين أهاليها الراغبين في تهذيب بناتهم الساهرين على تثقيف عقولهن بكل اجتهاد لا يستصعب، بل أراه في غاية السهولة، بالمدارس التي تُفتح في ضواحي أفريقيا أو غيرها من البلاد المتوحشة، والتي يصعب قلع جراثيم العادات من صدور أهلها.
فمصر الآن أخذت بسرعة عظيمة في طريق التقدم والصعود إلى أعلى درجات المجد، والأمل وطيد أن سيرجع لها تقدمها بعد تلك الفترة، وتحصل على تمدنها الغابر — بإذن الله تعالى — وعناية حضرات أولي الأمر العظام.
وأما كون الناظرة لم تتربَّ لأن تكون معلمة، فإني أقول: إن النوع الإنساني لم يُخلق لأن يستبد كل فرد من أفراده بما يعلمه أو يكتفي بما اكتسبه من العلوم، ولا يُعلمه لأحد، ولا يُضحي نفسه في صالح غيره، وإلا فكيف تزداد العلوم ويعم التمدن في أقطار الأرض؟! ومن أين للشرق بتلقي علوم الغرب إذا كان كل إنسان يبخل بما عنده من المعارف؛ فهؤلاء الأمراء والعلماء ومشاهير رجال العلم وأكابر الفضلاء لم يُخلق الواحد منهم ليكون أميرًا أو رئيس مصلحة أو مدير إدارة وما أشبه ذلك، وإذا كان لم يتلقَّ العلوم لأجل أن ينفقها في صالح الغير، فلماذا يخدم الإنسانية بنصح، ويعزز النزعات العلمية باجتهاد وهِمَّة إلى هذا المقدار؟!
ولم أدرِ إذا كان سعادة الباشا أراد بقوله هذا احتقارًا لنسائنا الشرقيات، ولم يرَ عندنا لياقة لأن نأتي بعمل مثل هذا أم لا … لا وأبيك فإن فينا كفاءة لأن نأتيَ بأعظم من ذلك، وإننا إذا تتبعنا أي فن من الفنون نتقنه كما تتقنه الرجال إن لم أقل أحسن.
- الوجه الأول: أن التعليم الواجب لبنات المسلمين لم يخرج عن دائرة تدبير المنزل، وعن كون البنت مربية لأولادها مهذِّبة لأخلاقهم مدبِّرة لمنزلها، لا لأن تكون مشاركة للرجال في أعمالهم السياسية والتجارية والصناعية، وغير ذلك مما يلزم له كثير من الزمن للمكث في المدرسة، وهذه الغاية من التعليم يكفي فيها أن تمكث البنت إلى أن تبلغ السن الخامس عشر، وهي مدة كافية لأن تدرس من العلوم ما يلزمها، وبعد ذلك تجنح إلى المطالعة.
- والثاني: أنها متى بلغت الخامسة عشرة يتسنى لها أن تصير ربة بيت وأمًّا أيضًا.
- والثالث: أن العوائد المصرية لا تسمح للبنات أن تبقى خارج الحجاب إلى هذا السن، ولو لم تكن هذه العوائد من مقتضى القواعد الدينية لكان يمكن نزعها من النفوس، وقالت أيضًا: إن أربعة أخماس الأهالي لا يدفعون القسوط المدرسية بانتظام، بل في العشرة أيام الأُوَل من كل شهر، وهذا القول أيضًا لا أهمية له؛ إذ إن الأمر ليس من الصعوبة في شيء إذا دُفع القسط في أول شهر أو في نصفه، وهذا التأخير ليس بضار، ولا يخل بنظامها بوجه ما.
وأما قولها: إنها إذا رفتت بعض التلميذات بسبب عدم دفع المصروفات، فإنها تخسر شهرًا أو شهرين، فهذا لا بد منه في مدرسة جامعة مثل هذه، وهو ليس شيئًا أيضًا بالنسبة لنجاحها الذي صرحت به لسعادة وكيل المعارف، وإذا كان مدخول المدرسة السنوي البالغ نحوًا من ألف جنيه متحصلًا من ٥٨ تلميذة فقط ألم يكن كافيًا لأن يمنع حضرة الناظرة عن بث شكواها من عدم دفع الأجور.
وأما قولها: «إن معظم البنات في غاية الذكاء، لكن حينما يدخلن المدرسة تراهن متوحشات عاريات من مبادئ الآداب، وأنهن يدخلن المدرسة بحالة رثة.» فهو قول في غاية الغرابة لصدوره من سيدة مثل حضرة الناظرة؛ لأنه لا يليق بها أن تنطق بمثل هذه الصفات على البنات المصريات؛ لأنهن أرق طبعًا، وألطف صفة، وأزكى ذوقًا من غيرهن من بنات الأقاليم الأخرى، ومتى كن كذلك فكيف لا يلتقطن التمدن من شوارع القاهرة قبل أن يدرجن في سلك المدرسة، ويخرجن من درجة التوحش الذي وصفتهن به حضرة الناظرة!
وأما الرثاثة التي عبرت عنها، فإنها ليست بمكانة من التصديق؛ إذ من المعلوم أنه لا يهتم بتربية أولاده إلا كل ذي ثروة مقتدر على دفع المصاريف المدرسية؛ فهو لا يتكلف لهذه المصاريف إلا بعد سد الاحتياجات المنزلية، فالذي يقدر على دفع مصاريف المدرسة لأجل تعليم بنته وتهذيبها، كيف يرضى لها الرثاثة التي وصفتها بها حضرة الناظرة مع أن أمهاتهن يبذلن الجهد لهذه الغاية. «انتهى».
الحق يقال أن تقدم حضرة ذات العفاف الفاضلة إلى ميدان مسابقة اليراع ومجاراة الأدباء يأتي بدور جديد بين يدي النشأة الأدبية لحضرات المخدرات المصريات، وهي من المساعدات العزيزة المثال على إدراك نصف الحقائق الأخلاقية، التي هي عنا بمعزل مصونة الجوهر المكنون تحت نقاب الاحتجاب؛ فظهور مخدرات الأفكار المترجمة عن أفكار المخدرات محوطة بلهجة البلاغة مصونة بحارسَي العصمة والوقار أمر لا نجد بدًّا من استقباله بكل تجلة وترحاب، والذي يهمنا جدًّا أن نستبشر به هو احتمال أن تكون حضرة السيدة الفاضلة قدوة سواها في الاهتمام نجدة الفضائل الأخلاقية والآداب والمعارف، ونعم نعمة النشأة العلمية بين نصف المجتمع المحتجب.
وقد كنا اطلعنا لحضرة الست الفاضلة على رسالة العزوبية والزواج، والمحاكمة بين الحالتين في العدد اﻟ ٧٢٦ من جريدة المؤيد ببعض تلخيص، ثم اطلعنا عليها بالنص التفصيلي في العدد ١١٥ من جريدة الاتحاد المصري الصادر بتاريخ ٢٦ يوليو سنة ١٨٩٢، جاءت فيها بما رق لفظًا وراق معنًى، ومن أراد الوقوف فعليه أن يراجع العددين من الجريدتين، فإنه يُسَرُّ بما يطالع من طلائع النشأة العصرية في المخدرات المصرية.
ومما علمنا من أعمال حضرة الست الفاضلة أنها اهتمت بتأليف كتاب سمته «الدر المنثور في تراجم ربات الخدور»، ضمنته عدة عظيمة من تراجم خدمت به بنات جنسها، وقامت فيه بواجبات المجتمع الخدري، فنسأل الله تعالى لها العناية والنجاح.
أما ما ورد في هذه الرسالة من الاستشكالات التي أوردتها على حضرة الست الناظرة، فلا نرى فيه إلا إحساسًا وداديًّا يشعر بتبدل الأفكار على اتحاد النتيجة، وهي سلامة القصد في تربية البنات، ولنا من ذلك نصيب الاهتمام لما نعلم أنهن أمهات العالم الاستقبالي؛ فلذلك سنغتنم فرصة قريبة لبيان أفكارنا في هذا الخصوص.
وكتبت في العدد ١٥١ من جريدة النيل بتاريخ ١٨ ذي الحجة سنة ١٣٠٩ مقالة تحت عنوان «الإنصاف» ردًّا على حضرة السيدة هنا كوراني، قالت الجريدة المذكورة: «وردت لنا هذه المقالة الشائقة ذات المعاني الرائقة من حضرة الأديبة السيدة زينب فواز فادر جناحها بحروفها.»