الرسالة السادسة والأربعون
المصريون والمدارس
قد كثرت — والحمد لله — المدارس، وكثر راغبوها، وصرنا نرى اجتهاد الآباء في تعليم يجل عن الوصف، حتى لو كان الأب معسرًا اجتهد في استرحام أولي الأمر للإعانة على تعليم أولاده رغبةً في تحصيل العلوم والاستحصال على المنفعة العامة التي يتثنى له بها، وخدمة الوطن ونفع ذويه؛ فهم يصرفون الزمن المديد في درس العلوم حتى إذا ترشحوا صاروا أهلًا لأن يتقدموا لخدمة وطنهم وتأمين معاشهم، وجد أكثرهم أو سيئ الحظ منهم أن الأجانب تقدَّموا إلى ما هم أحق به من الخدمات الأميرية، وتركوهم يتلظَّوْن على بساطَي الفاقة والندامة.
ومن الغريب أن الأهالي مع ما يرون من هذه الأحوال، وأمثالها جوع الكثير من شبانهم الذين رضعوا ثدي العلوم عن التشرف بخدمة أوطانهم، حتى إن الواحد منهم قد لا يجد المحل الذي هو أقل مما يستحق، ترى كل ذلك لا يثني عزمهم عن دروس العلوم، ومن المقرر في دوائر الحكومة أنه إذا لزم لأية مصلحة كاتب أو غيره جمعوا الجم الغفير من المتخرجين، وقدموهم للامتحان، فيمتحن الكل لأجل واحد، والوظيفة لا تستحق، وقد لا تزيد على ثلاثة أو أربعة جنيهات في الشهر.
وسمعت غير مرة أن مصلحة البوسطة طلبت مستخدمَين اثنين أو أكثر، وأُعلن ذلك في الوقائع، فتهافت الشبان من الوجه البحري والقبلي وإسكندرية طمعًا في نوال تلك النعمة، فرجعوا لبلادهم بخُفَّيْ حنين فضلًا عما تكبَّدوه من مصاريف الذهاب والإياب، والحاصل بهذه الطريقة يكون قد ضاع زمن الأولاد في المدارس على غير جدوى في الغالب، فضلًا عما يتكبده الآباء من المصاريف المدرسية.
وبعد ذلك يأتون من المدارس إلى البيوت فرحين بالشهادة التي أمضَوْا عليها أعز أوقاتهم، وقد قلَّ في الأيام الأخيرة من يتحصل على الشهادة أيضًا، وما أدري إن كان ذلك من انكسار قلوب الشبان لعلمهم بما يئول إليه أمر أغلبهم والاتعاظ بمن قبلهم، أو هو لتأخير حاصل من المعلمين.
فمن الموافق للأمة المصرية ليس إلا تشييد المدارس للصناعة؛ فهي التي تليق وتساعد على تمدُّن البلاد واتساع نطاق الثروة، فنأمل من رجال حكومتنا السنية أن يوجهوا أنظارهم العلية إلى هذا الأمر؛ إذ عليه مدار عظيم من الأهمية.
ولقد اطلعت في إحدى الجرائد المحلية أن صاحب الدولة ناظر المعارف العمومية، وصاحب المآثر الوطنية قد أمر بإنشاء خمسين مدرسة زيادة على ما في القطر المصري من المدارس، وزيادة مائة تلميذ في كل من مدرسة طنطا والإسكندرية لتعليم الصنائع، حتى إذا درس التلامذة العلوم الابتدائية يدخلون في المدارس الصناعية، فيُتقنون ما فيها من الصنائع؛ وبذلك تعم الفائدةُ القطرَ كلَّه الحكومةَ والأهاليَ معًا.
وقد بلغني أن في الأستانة العلية مدرسة صناعية يخرج منها كل ما يلزم للجنس البشري من ملبوس ومفروش، وجميع الأدوات المنزلية وغير ذلك، والتلميذ فيها متى صار يَقدِر على إتقان ما في يده من المصنوعات قدَّرت المصلحة له قيمة أتعابه، وتضعه في صندوق الاقتصاد، حتى إذا أتم أيام التحصيل سلمت له تلك النقود المتوفرة مع الشهادة، وقدر ذلك خمسون جنيهًا، وإذا لم تتم أتمَّتها المصلحة من خزينتها، وبعد ذلك يُطلَق سراحه، فيشتغل ويجعل النقود رأس ماله.
وهذه لَعمر الحقيقة من المنافع العمومية التي تشبه الشفقة الأبوية من أوجه؛ أولًا: أنها تؤدي إلى تنشيطهم وترغيبهم في أخذ الصناعة باهتمام كلي، وثانيًا: ينتفعون بما توفر من النقود، وثالثًا: تنتفع الحكومة بما يخرج من تلك المدرسة من الإيراد الذي يُجمع من ثمن المصنوعات فتضيفه إلى مصاريف المدرسة، ورابعًا: يعم التمدن ويرتفع شأن الأمة.
فالآن نحن في احتياج كلي إلى مثل هذه المدرسة لتستغنيَ بها الأهالي عن غيرها؛ فنأمن من غوائل الفاقة في ظل سمو خديونا المعظم؛ إذ ليس عندنا من الصنائع سوى الزراعة والخدمة الأميرية فقط والأولى فهي غير كافية لأبناء الوطن فضلًا عن مزاحمة الأجانب فيها.