الرسالة الخامسة
قالت لبنان الغراء تحت عنوان «المرأة والسياسة» لحضرة الأديبة الفاضلة هنا كوراني: فهي وذمة الحق غاية في المبنى، وأعجوبة في رقة المعنى، إلا أنها جارت في حكمها، وشددت النكير على بنات جنسها، وضربت عليهن الحجر المنزلي، وعملت على منعهن من التدخل في كل الأمور الخارجية المختصة بأعمال الرجال من مثل قول حضرتها: «إن المرأة لجهلها شرفَ مقامها تظن أن مساواتها بالرجل لا تتم إلا بعملها لما يعمله، وإن المرأة لا تقدر على عمل خارجي مع أداء واجبات ما يلزم لخدمة الزوج والأولاد.» وقول حضرتها في هذه الخطة — أي الخطة المنزلية: «طبيعية للنساء، ولا يجوز لهن أن يتخطينها لأن هذه سُنة قد سنَّها الله لهن، ولو تجاوزنها لَتغيَّر نظام الكون، وتبدلت نواميس الطبيعة، ولو حاول الإنسان إبدالها لخاب أملًا، وفشل عملًا، ولا يمكن إبدالها وتغيُّر القصد فيها إلا بالهلاك العاجل أو الآجل.» وقول حضرتها: «لم يفقهوا بعد كالواجب ما هي المرأة وما هو الرجل، بل تراهم يحاولون أن يساووا بينهما بمجرد الأعمال، وهذا بهتان ووبال على الجنس عميم، لا بد أن ينتج منه ويل شديد وبلاء جسيم؛ لأن الطبيعة تجازي من يتعدى نظامها بالحزن والألم.» إلى غير ذلك من مثل هذه الأقوال.
ووجَّهت سهام اللوم على نساء إنكلترا كيف أنهن طلبن التداخل في الأمور السياسية، وهو الطلب الذي لا يخفى على القُرَّاء الكرام المتضمن ما كان من أمر لائحة الانتخاب المختصة بطلب النساء، وكيف أبطلها المستر غلادستون في مجلس نواب إنكلترا، فخطَّأتهن حضرة الفاضلة ووافقها على ذلك حضرة الأديب الفاضل صاحب جريدة لسان الحال؛ وإني لأبدي ما جال بفكري من هذا القبيل فأقول:
تأمل أيها العاقل كيف أن الإنسان صغير بالجرم كبير في العالم، ضعيف في نفس الأمر، قوي بالفعل يُقدِم على الصعاب يذللها بقوة ذكائه، ويهجم على الأمور بِهِمَّة فتنقاد له طوع بنانه جميع الموجودات بحسن تدبيره وقوة حزمه، لا يثني عزمه شيء متى ثبَّت قدمه في طلب ما يرغب الاستحصال عليه والوصول إليه، ولولا الحزم لما ازدهى العمران كما هو الآن، ولا سطعت أنوار العلم والعرفان، ولا خفقت أعلام التقدم في هذا العصر، ولا استحصلت أوروبا على قصورها الشاهقة وأبنيتها الفاخرة وسككها الحديدية وأسلاكها البرقية، ولا خرجت من وراء ضباب توحُّشها الأصلي إلا بالحزم والإقدام، ولا كثرت الاختراعات والاكتشافات إلا بعد الخوض في عباب الأقدار وتجشم الأخطار، ولولا ثبات عزم الإنسان لأرجعته عن مقصوده أقلُّ عثرة، وأوقفته في طريق بلوغه إلى الغاية أدنى صدمة، ولا كان يتسنى له أن يخرج من ربقة التوحُّش إلى ميدان التمدن، ولو كانت كل عثرة في طريقه يحسبها خيبة، وانهزم منها متقهقرًا يجر ذيول الخجل وبعض أنامل الخيبة والفشل، لما عمَّر الكون، ولا ظهر شيء مما تراه اليوم من هذه الموجودات التي تدهش العقول وتحير الأفكار، وببركة الإقدام فُتحت الفتوحات وعُمرت البلدان.
وما من أمة فشا فيها داء الكسل وسرت إليها علة الخمول إلا دمرتها وهدمت أركان عزها ودكَّت حصون تمدنها، ومما يؤيد لنا ذلك هو ما ظهر لنا من تقدم الغرب على الشرق في هذا العصر حينما عولج أهله، وشُفي جسمهم من داء الكسل والخمول؛ فازدهى عصرهم على جميع العصور وفاق كافة الدهور، إلى حد أنه صار النساء فيه يبارين الرجال ويشاركنهم في الأعمال، وحيث قد أجمع السواد الأعظم منهم على أن الرجل والمرأة متساويان بالمنزلة العقلية، وعضوان في جسم الهيئة الاجتماعية لا غنية لأحدهما عن الآخر، فما المانع إذنْ من اشتراك المرأة في أعمال الرجال، وتعاطيها الأشغال في الدوائر السياسية وغيرها متى كانت جديرة لأنْ تؤديَ ما نُدبت إليه، وإلا فما فائدة تعلُّم المرأة الغربية جميع العلوم التي يتعلمها الرجال من فلسفة وحكمة ورياضة وهندسة، وتدرس القوانين السياسية إذا كانت لم تعمل بمقتضاها وتخدم النوع البشري، وتعد من أعضاء الهيئة الرئيسية؛ لأنها ما خلقت لكيلا تخرج عن دائرتها المنزلية، وأن لا تتدخل فيما يختص بالأعمال الخارجية سوى ما يلزم من تدبير المنزل وتربية الأولاد والطبخ والعجن وما أشبه ذلك فقط — كما تعتقد حضرة الفاضلة. لا لعمري، بل عوائدهن تسمح لهن بأن يكتسبن كل فن من الفنون ويعملن به، وأما تدبير المنزل وتربية الأولاد فإنها مَلَكة في النساء طبيعية غريزية، لا يلزم لها درس ولا تعليم ولا سَن قوانين ولا قواعد، بل من أراد أن يعرف قوانينها يأخذها عنهن بدون أن يرى كبير عناء، سواء كن في حالة التوحُّش أم لا، حتى إن المتوحشات من النساء يدبِّرن منزلهن، ويربِّين أولادهن بقدر الإمكان.
وأما قول حضرتها: «إن تجاوزنها لَتغيَّر نظام الكون وتبدلت نواميس الطبيعة.» نعم، إن للوجود طبيعة لا يمكن إبدالها، ولله في خلقه نواميس لا يتسنى تغييرها، وهذا التغيير ليس باستخدام المرأة بأشغال الرجال أو باستخدام الرجال بأشغال النساء كما تتوهم حضرتها؛ لأن ذلك ليس من المستحيل الذي لا يتأتَّى للإنسان أن يجريَه، ولا من الأمور التي يحصل منها ما يكدر راحة النوع الإنساني كما توهمت من استحالة ذلك بقولها: «كما لا يتأتَّى للإنسان أن يُحوِّل من البخار ذهبًا أو حديدًا، كذلك لا يتسنى للمرأة أن تخرج من خطتها المنزلية.» والحال أننا لم نرَ شريعة من الشرائع الإلهية أو قانونًا من القوانين الدينية قضى بمنع المرأة أن تتداخل في أشغال الرجال، وليس للطبيعة دخل في ذلك، وما أظن بأن الشمس تحوَّلت غربًا، ولا ماء البحار صار عذبًا، ولكن المرأة إنسان كالرجل ذات عقل كامل وفكر ثاقب وأعضاء متساوية، تُقدِّر الأمور حق قدرها، وتفصل بين الزمان والمكان، وكم من امرأة حكمت على الرجال وساست الأمور، ورتبت الأحكام وجندت الجنود، وخاضت المعامع ومارست الحروب، كالملكات اللواتي سُسْنَ ممالكهن أحسن سياسة! كما أنبأنا التاريخ عمن تقدمنا من قبلُ منهن، مثل كليوباترا والملكة زنوبيا ملكة تدمر، واليصابات وغيرهن ممن سلف، وما رأينا من تداخلهن في شئون الرجال ما أخلَّ في نظام الطبيعة، أو نقص تدبير منازلهن، بل إن النظام العائلي ما زال باقيًا على ما كان عليه هو، وكأني بها تعترض عليَّ بقولها إن هؤلاء ملكات وقادرات على تأدية وظائفهن المنزلية والإدارية، فأقول: نعم، ولقد أنبأنا التاريخ أيضًا عن نساء العرب كيف شاركن الرجال بالأعمال والحروب، وتكبدن الأخطار ومعاناة الشدائد والأهوال مع أنهن كن زوجات وأمهات، وكم درج من عشهن رجال وأي رجال؛ رجال ملكوا الدنيا بأجمعها، ولم تُخِلَّ بنظامها زوجاتهم وأمهاتهم، بل كن يساعدنهم على إعمارها وحسن نظامها.
ومن الشواهد أيضًا في عصرنا هذا أن الرجل لو مرَّ في شوارع أي مدينة كانت من المدن الشهيرة، وجد مخازنها غاصة بالنساء الأوروبيات يتعاطين الأعمال التجارية وحسابها والأشغال اليدوية وإتقانها على ما ينبغي، وكلهن زوجات وأمهات تدبرن أمورهن المنزلية، وأشغالهن الخارجية على أحسن نظام، ثم إذا نظرنا إلى النساء الفقيرات عندنا في مصر وإسكندرية وجميع الأنحاء، نجد أغلبهن يتعاطين الأشغال كالرجال، فمنهن تاجرات وصانعات، ومنهم من يشتغلن مع الفعلة في البناء، وغير ذلك مما يختص بأمر المعاش المطلوب من الرجال؛ فنجد العائلة من رجل وامرأة وأولاد، فالرجل يتوجه إلى مهنته، والمرأة تتوجه إلى حرفتها، وإن كانت تاجرة إلى حانوتها بعد أن تنظر في صالح منزلها، وما يلزم أولادها من طبخ وعجن وغسيل وما أشبه ذلك؛ فنجد الأسواق غاصة بالنساء يبارين الرجال بالمعاملات والأخذ والعطاء وغيره من هذا القبيل، ثم إننا إذا حولنا النظر إلى جهة الأرياف نجد الغيطان والحقول عامرة بالنساء بعدد الرجال وأكثر، وكلهن يساعدن أزواجهن وأبناءهن، وجرين الأعمال كالرجال من زرع وقلع وحصد، وغير ذلك مما يختص بأشغال الزراعة التي هي حياة العالم، وهؤلاء أيضًا لهن أزواج وأولاد، فالعاقل ينظر في أمور هذه الدنيا يجد الجنسين متساويين، وإنما الإهمال أوجب تأخير المرأة ليس إلا.
وإني لا أُخطِّئ نساء إنكلترا بتداخلهن في أمور السياسة وطلبهن حق الانتخاب، بل أقول: نعم، لهن حق أن يطلبن هذه الخطة ما دُمن قادرات على أداء واجبها كما يؤديه الرجال.
ومن المعلوم أن تعاطيَ أمور السياسة لا يكون إلا بعد درس القوانين السياسية، والاجتهاد في أخذ العلوم الإدارية وغيرها مما يلزم لهذا المركز الخطير. والمرأة في الغرب لا فرق بينها وبين الرجل في درس العلوم وتعليم كل ما يلزم للرجل من العلوم السياسية والتجارية، وغير ذلك مما يدور عليه محور العالم الإنساني، فَلِمَ لا تطلب الاشتغال بالسياسة كاشتغالها بالتجارة والصناعة وغيرها مما يلزم الإنسان في هذه الحياة الدنيا؟!
وليس إبطال اللائحة التي قدمتها متضمنة ذلك الطلب أمرًا يوجب عليهن اللوم والتعنيف، لا لعمري؛ لأن الإنسان لا بد وأن يصادف في سبيل إدراك المقصود موانعَ تصده عن الغرض، ولا لوم عليه فيها ولا تثريب، وعليَّ أن أسعى وليس عليَّ إدراك النجاح، ولولا معارضة الذين بيدهم مقاليد الأمور كالمستر غلادستون وغيره، لما كانت صادفت لائحة النساء ما صادفته من المنع، ولم يكن إبطالها عن سبب يشير إلى نسبة العجز إليهن أو للتحذر من العقبى، لا لعمري، بل نظروا لها بعين الحقد، وظنوا أنها من باب المنازعة في الحقوق؛ فكثر اللغط وزاد القيل والقال، واستفحل الأمر واشتدت الأزمة وكان ما كان.
وهذا ليس بأول أمر صادف معارضة، بل هي عادة الله في خلقه وسُنة الزمان في كل أمر بُدئ به، كما لا يخفى على كل من اطلع على تواريخ الأمم، وحيث إن تداخل النساء في السياسة هو أول أحدوثة، فلا بد أن يستعظمه كل من لا يعرف كنه المسألة لا سيما إذا كان من الحاسدين، وأما النساء اللواتي استحسنَّ رفض هذه اللائحة، فهن — ولا مؤاخذة — أحق باللوم من غيرهن؛ لأنهن اخترن العزلة والكسل، وفضَّلن البطالة على العمل، ورضين بالفخفخة وجر الذيول على بساط الخمول، ولو اجتهدن كأخواتهن لَكُنَّ فعلن ما تقتضيه واجباتهن، وَكُنَّ أبدين ما عندهن من الحزم والرغبة في خدمة النوع والوطن، وهو الأليق بهن وإن لم يصادف نجاحًا، وعلى كل حال فإن مثابرة المرأة على طلب التقدم حتى تنال حقوقها لا يعد ذنبًا عليها، بل يُفتخر بها مدى الدهر، وتكون مذكورة بلسان الشكر على فتحها باب النجاح لأخواتها.
وكتبت حضرتها في العدد ١٦٤ من جريدة النيل بتاريخ ٣ محرم سنة ١٣٠٩ اقتراحًا على علماء الشريعة الغراء تحت عنوان «ملخص التفسير»، قالت الجريدة المذكورة: «وردت إلينا هذه الرسالة بقلم حضرة الأديبة الفاضلة الست زينب فواز، فأدرجناها بنصها الفائق، إنما نتشكر لهذه السيدة الكاتبة على ما أبدته فيها من المقاصد الدينية الشريفة، ونستلفت لذلك نظر رجال نظارة المعارف العمومية.» قالت …