الرسالة الحادية والخمسون
كثيرًا ما خاض العلماء في عباب البحث عن شأن المرأة والرجل والمساواة بينهما، وكثرت في ذلك الأقوال العقلية والنقلية، واستُعملت الاكتشافات الطبية؛ فمنهم من ذهب إلى أن المرأة لا تساوي الرجل بالعقل ولا بالقوة البدنية، بدليل أنها تخالفه في الأوضاع البدنية. ومن ذهب هذا المذهب الدكتور بسكوف في رسالته التي برهن فيها على أن المرأة لا تستطيع التفرغ لدراسة العلوم العالية؛ وذلك لأن مخها لا يساوي مخ الرجل في درجة النمو، وقد استند في حكمه على وزن مخ المرأة الذي يبلغ ١٢٥٠ جرامًا، وأن مخ الرجل يبلغ ١٣٥٠ جرامًا، فيكون الزيادة مائة جرام، وهذا فرق عظيم في نمو العقل.
فبهذا السبب أثبت أن المرأة أقل من الرجل عقلًا وإدراكًا، ولكنه — لخيبة الأمل — أوصى لأجل إثبات حجته وتأييد البرهان أن يوزن مخه بعد وفاته، ولما مات وُزن مخه تنفيذًا للوصية، فوُجد أنه ينقص عن مخ المرأة خمسة جرامات.
ثم وجدت في العدد الثاني عشر من الجريدة مقالة لحضرة الأديب الفاضل الدكتور أمين أفندي الخوري ردًّا على المقالة الأولى، وقد تحامل فيها كل التحامل على جنسنا النسائي، وأظهر ما في قلبه من الحقد، وذلك بدليل قوله: «أوقفت نبذة الفاضل الأديب زكي من فكري، وأهاجت ما كمن في صدري.» فقد أثبت من هذه الجملة أن في صدره حزازات كامنة، وضغائن دفينة أظهرتها تلك النفخة التي نفخها ذلك الفاضل في بوق الحقيقة.
وإذا كان الأمر كذلك، فلا يجوز له أن يكون حَكمًا بين الجنسين؛ لأنه صار خصمًا للفريق الآخر، والخصم لا يُقبل حُكمه، وإني على يقين أن جمهور الفضلاء يقرون على ذلك هذا إذا كانت براهين حضرة الدكتور ثابتة فضلًا عن كونها أوهى من بيت العنكبوت، ولولا أن يقال إننا عجزنا عن الرد لما تكلمت لعلمي أنها حجج غير متينة، ولكنني سأرد مع الرفق به.
ولست أزيده لئلا يظهر أني استعملت الحدة، ويحتج على جنسنا بذلك، عفا الله عن حضرة الآنسة استير أزهري ما كان أغناها عن الاعتذار، وليعلم حضرة الدكتور أني سأجيبه بالبراهين العقلية بقطع النظر عن المباحث الطبية التي هي من خصائص الأطباء.
قال حضرة الدكتور معترضًا على ذلك الزكي: وقد خرج من الاستفهام مثبتًا لهن الحق بعد أن بنى إثباته على براهين لو صحت لكانت فصل الخطاب، وأيدها بحجج لو ثبتت لما كان لها جواب، وأتى بأدلة لو صحت لبلغتهن الآمال وفضلت النساء على الرجال. هذه الفقرة قيلت في زمن كان أهله على مذهب حضرة الدكتور في دفن حقوق النساء، أما قوله خرج من الاستفهام، فقد ظن حضرة الدكتور أن السؤال من حضرة الزكي والرد منه، مع أنه رد على سؤال، كان من السنة الأولى، وقد وضح عن حضرة المناظر الأولى. وأما قوله: لو ثبت فإني أرى أن إثبات هذه البراهين أوضح من شمس النهار. وأظن أنه لا ينكرها أحد من الذين يعرفون الحق، وأي برهان له غير ثابت، أليس استشهاده بنساء البدو حقيقًا، وهو أوضح من نار على علم، وقد أقر به حضرة الدكتور، وهو مع التعجب القطعي بقوله: «نعم، إن من يرى ظواهر أعمال نساء البدو يتعجب لها، والفلَّاحة المصرية قد تعمل ما لا تعمله نساء البدو.» وأنا أقول: وتعمل ما لا تعمله الرجال أيضًا؛ حيث إنه منوط بها الأعمال المنزلية، واشتراكها معه بالأشغال أيضًا، فيتضاعف لها العمل فضلًا عن عملها الطبيعي الذي هو الحمل والوضع والتربية؛ إذ إنها تضع الجنين وهي في الغيط أو على شاطئ النيل، فتضع البلاصي في الأرض، وتستكن للمخاض حتى تضع حملها، ثم تقطع الخلاص بحجر، وتلف الولد بقطعة من ثوبها أو ما أمكنها وتحمله على ذراعها، والبلاصي على رأسها، وتذهب إلى محلها بدون أدنى شيء يضرها بخلاف نساء الحضر؛ فإنهم لا يقوين على الخروج من أماكنهن، ولو تعدَّين شروط النفاس لأضر بصحتهن، وربما أضر بالولد أيضًا لتغير اللبن، فما ظن حضرة الدكتور، هل هذا الاختلاف من فلتات الطبيعة أم من العادة التي نوَّه عنها حضرة الزكي؟ وإني لأعجب كل الإعجاب من قول حضرة الدكتور: فإن «الفلاحة» في أكثر الأحيان تتبع زوجها الراكب على حمارة مسافات بعيدة، وهي حاملة حملًا تكاد تعجز عنه الحمارة.
وأسند ذلك الفضل والمقدرة لزوجها الجالس على ظهر الحمارة بجلال قدره بمجرد كونه صاغيًا لحديثها، وأنه إن لم يصغ لها كلَّت وطلبت الراحة، وظن أنه ألقى عليها شيئًا من قواه العقلية والبدنية بسب ذلك الإصغاء، يا للتحامل والظلم المستبد! لا غرو إذا قامت المرأة تناضل عن حقوقها المندثرة.
نعم، قد أقرَّ حضرة الدكتور بأن العوائد لها تأثير على الإنسان، ولكنه أتى بحجة واهية «ولقد تفضل حضرته بنسبته إلى العادة والتربية في الجنسين، وهذا حقيقي. غير أن عادة الرجال لا يلزمها طويل زمن، وأما لتعود المرأة يلزمها أن تكون ولدت فيها وشبت عليها»، ولم يأتِ حضرة الدكتور بدليل يؤيد صدق حجته، ويثبت برهانه، ولم يعلم حضرته أن كل دور من أدوار الحياة لا يأتي على البنت إلا وتتغير أحوالها فيه، وتُقبل على النمو في أحوالها العقلية والنقلية، حتى إننا نرى البنت تدخل في دور التعليم فتدرس العلوم الابتدائية، ثم تنتقل إلى العلوم العالية ثم الأشغال اليدوية على اختلاف أنواعها وفنونها، ثم تنتقل إلى استلام الإدارة المنزلية، وهناك تقبض على زمام العالم الداخلي، وذلك في أقل من وقت الولد لأنه بخلاف ذلك؛ حيث إنه لا يتعلم مهنتين في آنٍ واحد، ولو تعلم ذلك لكان بعيدًا عن الإتقان كما هو معلوم؛ لأن الطبيب لا يتعلم الهندسة، ولا الحداد يشتغل بالنجارة، ولا الخياط يصير صائغًا، وهلم جرًّا، فكلٌّ مكتفٍ بمهنته، ومع ذلك تجدهم يمضون الزمن المديد في تلقِّي العلوم وإتقان الصنعة، وأظن حضرة الدكتور لا ينكر ذلك.
وقد نبأتنا التواريخ أن بعض الأمم السابقة كانوا لا يأذنون للأطباء إلا بدرس عضو واحد من الإنسان؛ فالذي يشتغل بأمراض الرأس لا يتعرض لأمراض المعدة، والذي يشتغل بالأمراض الجلدية لا يشتغل بالأمراض الباطنة، وكذلك اليد والرجل والعين أو الأذن، وهلم جرًّا، كما أن قدماء المصريين كانوا يحجرون على الصانع أن يتعلم إلا مهنة واحدة؛ ولذلك نرى أن المصريين تقدموا في الصنائع أكثر من غيرهم كما لا يخفى، فما قول حضرة الدكتور في هؤلاء الناس؟ هل كانوا نساءً أم رجالًا ذوي عقول كاملة، أم هم من فلتات الطبيعة؟
وأما قول حضرة الدكتور: «إن ما عدده حضرته — أي الزكي — من تلك الأعمال لا دليل على القوة البدنية، إنما هو شاهد على جلدهن ظاهريًّا، وبالحقيقة هو دليل على قوة الاستمرار.» يالله! العجب من هذا القول السديد؛ لأني ما كنت أعلم أن الطبيعة تغلب باستمرار الجلد إلا من كلام حضرة الدكتور، ولم أعلم كيف يكون لهن جلد بدون قوة بدنية تساعدهن على ذلك الجلد، مع أني أرى الرجل المترهف الذي رُبي في دائرة الرفاهية لا يقوى على قطع المسافة اليسيرة في شوارع القاهرة بدون مظلة «شمسية» بخلاف الرجل الذي يشتغل بقطع الأحجار ونقلها من الجبال، والفلاح الذي يقضي يومه أمام المحراث يفلح الأرض، ويمضي غابر أيامه في حر الشمس وبرد الشتاء اللذين لا يقدر على مقاومتهما المترفهون، فما بال حضرة الدكتور غفل عنهم، ولم يقل إنهم من فلتات الطبيعة؟ وكيف لا يشبه الرجل المستمر على عمله مثل البنَّاء والنجَّار والخبَّاز وما أشبه ذلك بالنملة التي يحملها الاحتياج على العمل كما قال: «فهي أشبه شيء بالنملة التي تحملها سليقتها على جر الحبوب، وخرق الأرض لمبيتها.» لله در هذا الدكتور ما أقوى حجته حيث قال: «فالاحتياج يولد فيها قوة وجلدًا غير منتظرين»! قال ذلك وهو يعلم أنها غير مكلفة بأمر المعاش؛ حيث إنه مطلوب من الرجال في كل ملة ومذهب، فمن أين وجد هذه الحجة المتينة — سامحه الله — وما الذي اضطرها للعمل فوق طاقتها وهي غير مكلفة به؟! وأنا أبرهن أنه لولا احتياج العالم للسكن والمأكل والملبس لما كان يتعاطى الأشغال والفنون، ولولا احتياج الإنسان لما شاد القصور العالية لتقيَه من عوارض الطبيعة، ولا اتخذ من الجبال بيوتًا كاتخاذ النملة مسكنًا في الأرض. أما قول حضرة الدكتور: «فلو كُلفت تلك البدوية بعمل غير مضطرة إليه لوهن عزمها عن مجرد مباشرته.» فهذه مسألة عمومية من الجنسين، وهو كما أن البدوية والحضرية لو كُلفت بشيء غير مضطرة إليه وهن جلدها، يُوهَى جلد الرجل إذ لم يكن مضطرًّا إلى العمل، وكلٌّ من الجنسين له اضطرار أو رغبة أو نهضة. أما قول حضرة الدكتور: «والجَلد البدني سليقة بالأنثى ناشئة عن بلادة أعصابها المحركة، فالناقة والفرس أبطأ سيرًا وأضعف قوة من الجمل والحصان، غير أنهما أصبر وأجلد على طوله من هذين، فحمل الجمل لا تقوى عليه الناقة، وسرعة جرى الحصان تقصر عنه الفرس.» وأما قول لو كُلف الجمل بحمل الجنين في بطنه سنة كاملة — كما كُلفت الناقة — ثم وضعه وأرضعه مع الدوام على استخراج اللبن من جسمه والمزيد لكان أبلد أعصابًا، وأقل حملًا وأبطأ سيرًا من الناقة.
وأما الصبر المختص بالأنثى، فهو دليل على فوزها في كل الأمور؛ لأن الفوز والظفر موكل بالصبر والجلد، ولو كان الرجل الشجاع بدون صبر لذهبت شجاعته أدراج الرياح.
وكذلك في الصنائع والاختراعات، لولا الصبر والجلد لما فاز المخترعون والصانعون. أما قوله: «والإنسان ما خرج عن كونه حيوانًا؛ فالحكم واحد في القوة البدنية في الإنسان والحيوان، وبالتشريح يعلمون أن عَظم الذكر أثخن وأكثر اندماجًا، وألياف عضله أمتن وقوة لحمه أغزر وهيكله أكبر.» أما كبر الهيكل وغلظ العظم، فليس بدليل كافٍ لزيادة القوة؛ لأننا نرى الشخصين أحدهما طويل القامة كبير الرأس والجسم ضخم الأعضاء، والآخر نحيف الجسم صغير الأعضاء، وإذا تقدما للصراع والمغالبة غلب أصغرهما الأكبر، وهذا أمر معلوم وكثيرًا ما نشاهده، ولا يخفى على العموم، وأما كون الإنسان حيوانًا، نعم كل حي حيوان، ولكن فضل الإنسان على كل حيوان بحاسات العقل والإدراك وقوة التبصر؛ فلذلك نراه غلب كل حيوان، وعلت همته إلى ما فوق خوارق العادات.
وأما كون الذكر أقوى من الأنثى، وقد بنى حكمه حضرة الدكتور على علم التشريح، ونحن نبني هذا على التجارب، وهو أن البنت قوتها تعادل قوة الغلام إلى بعد دخلوها في مصاف النساء، ثم إذا بدأت بالحمل والوضع تتناقص قوتها شيئًا فشيئًا إلى أن تبلغ النهاية، وأما إذا لم تنشغل به دامت قواتها على ما هي عليه إلى ما شاء الله، والتمرين بالعمل يعيض لها ما نقص من قوتها، ويقوم مقام الرياضات، وأما النقص فلا يكون إلا بالتقاعد عن الأشغال كما هو معلوم؛ لأننا نرى السيدة الغنية المخدومة التي حر لها الخدم والحشم لا تقوى على المشي من غرفتها إلى غرفة الطعام إلا وهي لا تكاد أن تلتقط أنفاسها لعدم قواها مع أنها في سن الثلاثين أو الأربعين من سِنيها، ونجد الدلالة والبلانة التي مرنت جسمها العمل تفوق السبعين من سنيها، وهي لا تكاد تُلقي جسمها إلى الأرض، ولا تشكو من تعب، ولا تمل ولا تكل من المشي ولا من العمل، وليس عندها زوج ولا حمارة.
وأيضًا ليس للمرأة مانع من صغر جسمها ورفاهية قواها يمنعها من التداخل بأشغال الرجال، وإنما جعل الله هذا لرقة في جسمها زيادة في جمالها، لا لأجل أن يمنعها بها عن الاشتراك في أعمال الرجال. وأما قول حضرته بعد أن عدد الديك والفرخة والفرس والجمل وما أشبه: «هذا بشأن القوة البدنية فقد ثبت أنه لا نسبة بينهما.» مع أنه كان يلزمه أن لا يؤكد الإثبات إلا بعد أن يرى حجته وبراهينه إن كان الأقل من الماء يطهرها أم لا، وإلا ضاعت هذه البراهين تحت صواعق الحقيقة. وقال حضرة الدكتور: «وأما القوة — أعزك الله — أشد فرقًا؛ فإن عقل المرأة محدود لا يتخطى ما تربت عليه وتلقته في السنين الطوال، فالخيَّاطة لا مكنها إدارة المطبخ، والداية لا تفهم التفصيل، وهلم جرًّا.» فهذه الجملة قد سبق القول عنها، وقد بيَّنت له عند ذكر الصنائع أنه مخطئ في ظنه؛ أنا أظن — أيها الدكتور — أنك تتهكم على نفسك، وتتجاهل في الأمر مع أنك تعلم — أو يعلمه كل جاهل — أن الإدارة المنزلية ليست قاصرة على نوع واحد من الأعمال، وتعلم أيضًا أنه ليس موجودًا في كل منزل سوى سيدة واحدة إلا ما ندر، فإذا كانت تقوم بكل ما يلزم لبيتها وزوجها وأولادها، فمن تُراه — أعزك الله — يقوم بأود هذا الكون الصغير؟ وأما قول حضرة الدكتور: «فهي ذات عقل محدود، وبالأكثر أن فيها خاصية التقليد التميزي، فيكون ذلك تميزًا لا عقلًا.» بعد أن شبهه التشبيه المحكوم بكلاب الصيد والبلبل والحسود والببغاء والقرد والفرس وجدت له عذرًا عظيمًا؛ لأني علمت دائرة فكره، وبُعدها عن محل الإنصاف.
ولا أدري ما قصدت بقولك: «ولكن أعطها المقص.» إلى آخره، هل تعني بذلك عجزهن عن إدراك ما يصنعن بأيديهن، أم من الغي عن الكلام وعدم إمكانهن من شرح ما يعلمنه من الأعمال، ولعلك نسبت لنا العمل بغير علم مثل قولك: «بخلاف الرجل فهو العالم والعامل.» فإذا المرأة عاملة بدون علم، أليس كذلك أيها الفاضل؟ نِعم الحكم العادل حكمك هذا! وإني أقول: «الماء يكذب الغطاس.» على رأي المثل السائر؛ فهذه الأعمال أعمال النساء تشهد لهن بدون شك، فانظر كيف يخترعن الأنواع العديدة من الملابس وغيرها، ومما يلزم للمنزل وتربية النوع؛ فكل هذه الأعمال هل يصح أن تكون تُعمَل بغير عقل، وإذا كان كذلك فالعقل لا لزوم له في شيء ما دمنا في غنًى عنه ونحن في هذا الفوز العظيم من أعمالنا يا حضرة النظامي، ولو كان كما قلت لاندثرت صنائع النساء كافة؛ لأننا لا نقدر أن نعبر عما في أيدينا من الصنائع، فإذا ماتت المرأة ماتت صنعتها معها، فترانا كل يوم في خلق جديد — أعزك الله — ما أوسع هذا الفكر وأغرر هذا العالم، وبالأخص في أعمال النساء! وأما قولك: «هذا إذا كانت المرأة بصحة عقلها وسمو إدراكها، وكم تكون في صحة عقلها.» وحسابك المتكرر الذي استشهدت فيه بمن توهمت أو تأخر حيضها، هذا ولم تأتِ بشيء إلا — يا أخا الأطباء — لأنك «حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء.» وهذا المثل الذي استشهدت به من كلام بقراط غير ذلك من الشواهد العديدة، مع أني لا أنكر ما على المرأة من الأتعاب في الحمل والوضع، أما الحيض فإنه ليس كما فهمت أو عبره لك بقراط أو غيره؛ لأننا نحن أعلم بحقيقة حالنا أكثر من كل عالم «وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.» لأن المرأة لا تشعر بألم الحيض إلا قبل الوضع، وأما إذا حملت ووضعت ولو مرة واحدة فلا تجد للحيض ألمًا بعدها أبدًا على ما اتفق عليه جمهور النساء؛ فحينئذٍ يكون حسابك غير صحيح. نعم، إذا كانت في وقت الوضع أو وقت ألم الطمث منشغلة بنفسها، فلا عجب أن الرجل أيضًا إذا كان مريضًا أو فيه أدنى ألم لا يمكنه معاطاة الأشغال، وأن صحة عقله تبعًا لصحة جسمه، فإذا خصصت المرأة، وأضعفت عقلها، وضربت صفحًا عن ذلك، ولعلك لم تدرس الطب إلا في هيكل جسم المرأة، وإذا كان كذلك يكون حكمك غير ثابت؛ لأنك لم تعلم القياس بين الطرفين.
وأما بحثك في كم يكون هذا العضو سليمًا، وقد نسبت له الأعمال المختص بها أنها مرض، وهو غير ما تزعم يا أخي لأن هذه الأشياء التي ذكرتها من جميع أيام الحيض وغير ذلك لا يعدُّ مرضًا؛ لأن المرض طارق على صحة الإنسان، وأما الشيء الطبيعي فإنه لا يحسب كما تظن، وأنه لا يكون ذلك العضو مريضًا إلا أن يتعطل فيه شيء يمنعه عن وظائفه، وأما ما دام على حالته الطبيعية فلا يعد مريضًا، ولا يغير في عقل المرأة سوى أنها في الوضع تجد ألمًا مؤقتًا، وبعده لا يكون شيئًا مما ذكرت؛ لأنها بغاية كل دراية تربي ولدها، وتصنع كل ما يلزم للوقاية وحفظ صحته وغير ذلك مما تعلمه؛ فتراها طبيبة علم وعمل خياطة غسالة طباخة وغير ذلك من الأعمال، بخلاف الببغاء والقرد وغيرهما من الحيوانات، لا ليس عندك ذلك العمل الذي شبهته بعمل المرأة، وبخلاف الرجل أيضًا لأنه ملتزم بمهنة واحدة، وهي المختصة بأمر المعاش فقط.
وأما تكلُّمك عن العمر الذي لها فيه المطالبة بحقوق الرجال وهو سن العشرين، وجعلت يأسها بعد الخامسة والأربعين، وأثبت لها بحكمك العادل خمسًا وعشرين سنة، وأسقطت منها خمس سنوات أيام الحيض.
ومن رأفتك على هذا الجنس اللطيف أوصيت المتزوجين بالرأفة بنا، وأنهم يراعوا هذا الأسبوع، جزاك الله عنا كل خير لأنك رأفت بنا كثيرًا، وجعلتنا كالطفل الذي يلهى بلعبة.
ولكن يا عادل «ليس بعد حرق الزرع جيرة.» عودًا فأقول إنك فهمت خطأً، وأخطأت المرمى لأنك زعمت أن الأسبوع من الشهور ينقص من قوانا العقلية والجسمية معًا، وهذا بخلاف الحقيقة لأنها حالة طبيعية، وليس على الطبيعة حساب، وليس ينقص من عزم المرأة وقواها سوى الحمل والوضع، وليس للعقل فيه دخْل لأنها كلما تقدمت في السن تقدمت في العقل إلى أن تبلغ السن الذي يتناقص فيه العقل، وذلك في الجنسين معًا؛ لأن الرجل أيضًا يخرق إذا بلغ السن المذكور إذا كنا ننسب ذلك للحيض وغيره، وإذا نسبنا لها ضعف القوى بسبب الحمى التي تأتي من الحيض، فإن الأسد تطرق عليه الحمى يومين ولا تنقص من قواه شيئًا؛ حيث إنها صارت فيه طبيعية، وأيضًا ليس يمنعهن هذا الأسبوع عن العمل، وليس يطرق الألم فيه إلا على غير الوالدات، ولماذا تيأس المرأة إذا بلغت سن الخامسة والأربعين، وهي حينئذٍ بلغت سن العقل الذي يتيسر لها أن تجنيَ به ثمرات أتعابها وما درسته من مدرسة الحياة الهيولية؛ فهذه أمهاتنا يبدين من الآراء ما نعجز عنه نحن، وهن فوق الخمسين والستين، وهن بمعزل عن العلوم التي درسناها نحن، غير أنهن على حكم التجارب ومرور الأيام قد حفظن العلم بالعمل، لا بالدرس والأوهام الخيالية واستشهادهن بقول فلان قال، وفلان عمل، بل بعملهن الناشئ عن حكم الطبيعة وسذاجتهن، وليس يأسها في سن الخامسة والأربعين، بل تلد إلى الخمسين وما بعد، وأيضًا هذا ليس له دخل في أشغال الرجال الذي نحن بصدده لأنه لا يمنع، وأما سن العشرين الذي خولت لها الحق فيه أن تشارك الرجل في أعماله فهو خطأ محض؛ لأن هذه السن سن الزهو والطيش حتى من الرجال والنساء معًا، وأي رجل في سن العشرين يتقن عمله ولا يحتاج إلى تهذيب ما تعلمنا في العشر سنوات الأوائل بعد الطفولية، حتى إن المرأة يتيح لها أن تتقن العمل، وتشارك به الرجل، نعم، إذا قلت بعد هذا السن يجوز أن تتقدم للعمل وتستمر إلى ما شاء الله، جائز لأنها كلما تقدمت زادت في إتقان الصنعة وتهذيبها، كما تزيد في الكمال وتهذيب النفس لو أرادت أن تتعلم شيئًا وهي في سن السبعين تقدر على حفظه ما لم تكن ذات مصائب وهموم، فيكون حساب حضرة الدكتور في غير محل، وهي مدة العشر سنوات التي منحتها للنساء في العمل، ويا ليتها كانت متجمعة إلا فرَّقتها أيدي سبأ، وما أدري لماذا قصرت أعمارهن ونزعت منهن بركة الحياة أيها العالم لتكوين العالم الإنساني. وأما قولك في أمر العقيم إنها دائمة في حالة التلهف على الأولاد، فنَعم، وكذلك تجدها مشتركة مع الرجل في هذه الخطة الطبيعية؛ لأن الرجل إن لم يُرزق بالبنين تكدَّر عيشه، وسعى في إيجاد من تلد إذا أمكنه الأمر، ومن تجد من زوجها ذلك يتكدَّر صفو حياتها؛ لأنها شريكة في الحياة كعضوين في جسم العالم الإنساني، وإذا رأت منه أنه غير مكترث بهذا الأمر اطمأنت، وتركت الهموم، وأما البنت البكر التي فات زواجها فإن حكمها كحكم الرجل الذي فات زواجه، بل هي أبصر في الأمور وأبعد عن التهتك؛ وذلك لأجل عمار الكون وضع الله فيها هذه الرغبة لا لشيء تعلمه أنت ولا أنا. وأما قوله: «إن اللاتي اشتُهرن بالفضل فيه لمركزهن وحاشيتهن ومستشاريهن.» فهذا كلام معتوب عليه، ويحق لك أن تفتخر به لأنك أثبته بحجة متينة.
اسمع يا أيها الدكتور، إننا لا ننكر هذا الفضل لأننا لم نجد معلمين ومستشارين ولم نجد علومًا، ولا أتين إلى سواء السبيل فأضرب لك مثلًا بنفسك، وافتكر أنك لو لم تجد من يعلمك فن الطب ويعتني بأمرك، لم تكن العالم الماهر بهذا الفن، وكأن حكمك كرجل جاهل مثل الذين نجدهم في غيابة الجهل.
أما قولك: «إنهن من فلتات الطبيعة.» نعم، كانت هذه الفلتات في الوقت الذي كان الناس على مذهب حضرة الدكتور من الاستبداد والتسلط على حقوق المرأة، التي حُبست في قفص الجهل وراء حجاب الفظاظة مسبول عليها ستار التوحش إلى أن قيض الله تعالى ذلك الفريق المتمدن العالم، الذي أزال تلك الصعوبات وفتح ذلك القفص انسيابًا لا فلتات، يا أخا الأطباء فلا غرو إذ كان في ذاك الحين نُقلت من القفص المذكور إلى ميدان الحرية بعد هذا الاستبداد، الذي سميته طبيعة، فيكون إذنْ الفضل لهن إذا قوين على الخروج من ذلك المركز العصب. أما قولك: «كجسم حيوان برأس إنسان، أو كرَجل برأسين.» عجبت لحسن تشبيهك للأمور، ووضعك الأشياء في مواضعها، لو أنك خصصتنا بالتمييز وجاء قولك في محله، إلا أنك في هذه المرة أخطأت ولم تُصب الغرض، هلا كنت قبل أن تقول هذا اللفظ قلبت العناصر، أو زدت فيها لتساعدك على تغير الطبيعة إلى هذا الحد ليثبت قولك، وأما الآن فلم تأتِ بشيء مفيد، بل أضعت بحثك أدراج الرياح وأوجبتك المسألة للإقرار، ولو مع الأسف وتحديد الذكاء بقولك: «هذا وإنني لا أنكر على بعضهن الذكاء المحدود.» كيف أنك بعد أن جعلته مستحيلًا وشبهته الشيء الذي لا يمكن حدوثه، ثم بعد هذا النفي الكلي تشهد بأن عند بعضهن الذكاء؟ يا سبحان الله! يا أمين أفندي، ما أكثر غلطك! ومن عظم تحاملك لم تبصر في دقيق معاني ألفاظك، وكيف أن الكلام مناقض بعضه في مواضع كثيرة، ولكني مضطرة أن أرد على حضرتك من جنس كلامك.
وأما قولك: «ولكني آسف جدًّا على استعماله بغير ما فيه فائدة لهن ولا للهيئة الاجتماعية، فبدل التطبيب والمحاماة وعلم الفلك والعروض … إلخ.» أمرتنا بالاقتصاد، ولندبر ثمن الورق والحبر، وأن نكسيَ به أولادنا، وأن الخدامين تنهب البيت والست غائبة، أثابك الله أيها النصوح؛ فقد جدت بما عندك بالنصائح المفيدة، ولكني أقدم لك العذر بلساني ولسان بنات جنسي بعد قبول نصائحك لأنها غير مقبولة؛ وذلك لأسباب أوضحها لك، وهي أن ما ذكرته من عدم الفائدة لهن ولا للهيئة، فهذا غلط فاحش أو حسد مفرط، أرجوك المعذرة في قولي لأن الحالة توجب ذلك؛ فأنا أريك كيف أنك غلطان لو أغضبك ذلك، ولا يجب أن تعلم أننا نصف العالم الإنساني أو نزيد، فإن كنا كذلك فقد أتعبنا المتكلين بأرزاقنا من جهة، وبتحمُّلنا أثقال الفاقة من جهة أخرى، فإذا وجدت الطبيبة مثلًا تتعاطى صنعتها، فانظر إلى منفعتها للهيئة أولًا، وكم تنفع نفسها وزوجها وأولادها ثانيًا.
أما منفعتها للهيئة فكما تعلم أنها في الولادة لو تعثر الأمر على الداية استعانت بالطبيبة، فيكون بحسن صناعتها وتوفيق الله نجاة الوالدة والجنين معًا، ولها مسائل خصوصية في مداواة النساء وفي أشغال الأقسام، مثل كشفها على المتوفَّيات وغير ذلك، ولولا منفعتها لما اختصتها الحكومة في خدمتها، ولقد تكلمت الجرائد منذ زمن قريب أن مولانا الخليفة الأعظم انتخب امرأتين من نساء الأستانة العلية، وأرسلهما إلى أوروبا لدرس الطب، فلماذا لا يكون كما زعمت أنهن لا منفعة فيهن للهيئة ولم تتكبد هذه المصاريف فضلًا عن الحبر والورق، وإلا ليس فيهم رجل يفهم ما فهمه حضرة الطبيب. وأما المنفعة الخصوصية فهي لا تخفى على أحد؛ لأن مرتبها الذي تأخذه مجبورة أن تصرفه على بيتها وأولادها، وتصرف رواتب الخدم وما اختلسته أيدي الخدامين من فضلة ذلك الراتب، فلا تأثير له إذ ذاك يا أيها الأديب.
وأما المؤلفة ففضلها عظيم ونفعها عميم، وليس يختل بنظام منزلها شيء في أثناء عملها، كما أن الرجل صاحب الوظيفة إذا شرع في تأليف كتاب جعل له أوقاتًا مخصصة توافق وقت الفراغ من عمله، وليس ذلك علينا بعسير، فكذلك المؤلفة تقدر على التأليف، ولا ينقص من أحوالها المنزلية شيئًا، ولا يتمكن الخدم من اختلاس شيء من منزلها ما دام المصروف تحت يدها فضلًا عما تكسبه من أثمان التأليف وما تجمعه من ثمرات ما تتمقه يدها، وأظن أنه يجمع ثمن الحبر والورق أيها الفاضل، ويكسي الولد والابنة، ويقيم براتب الخدامين، وعلى ما أظن أنك لا تنكر ذلك، فهذه فائدة من جهتها الشخصية، وأما الفائدة التي من جهة الهيئة، فإنها غير منكورة، وما من امرأة أخرجت كتابًا أو رسالة إلا وجدتها حكمًا، ولو كان يساعدنا الموضوع لسردت لك شيئًا من تأليفهن ودرر ألفاظهن المفيدة، وما من كتاب يظهر إلى عالم الوجود إلا وتجد له فائدة، حتى كتاب ترويح النفوس لحسن الآلاتي، وإن كان معدوم الفائدة من حيث الوضع، إلا أنه جليل الفائدة بالحالة المعنوية، وهو مفيد للصحة جدًّا؛ إذ إنه ينفي الأكدار ويفعل بالنفوس أعظم مما تفعله بنت الحان، وهكذا كلٌّ لا يخلو من فائدة أدبية أو غيرها، والأفكار تتفاوت، وكل فكر له مزية، وأما تدبير المنزل الذي تأمرنا به، فإنه عامر منذ وجود العالم بهمم النساء فلا تحتاج إلى توصية، ولك الفضل وعلم المرأة نفعه عائد على النوع أجمع، وأما علم الرجل فمقتصر على نفسه فقط كما لا يخفى.