الرسالة السابعة والخمسون
رد لأحد الأفاضل على سؤالها الذي عنوانه «الوطنية»: وقفنا في جريدة الأهالي على سؤال عن حد الوطنية وتعريفه ليتبين به كلٌّ من معنى الوطنية والوطن والمستوطن؛ فلا يختلط على عقول العامة شيء من تلك المعاني ويزول عنها الالتباس، وتبني ما عساه يترتب عليها من الأحكام على أمتن أساس، وقد كنت أحببت أن أرجئ ذلك إلى حيث يتيسر لي الاطِّلاع على كتب الأصوليين من السياسيين ساسة القوانين وواضعيها؛ إذ كلامهم في هذا الباب هو أَوْلى ما يُعتمد عليه؛ فإنهم فيه أهل النقد، بل أرباب الحل والعقد، ولكن سنح بخاطري سانح نظري في ذلك الغرض، ووددت أن أعجل به حفاوةً بهذا السؤال واهتمامًا بشأنه، كما يتعجل بقارئ ضيف طارئ بحسب حاضر الوقت وميسوره، وإن لم يوفِّ القارئ حقه إذ لا جود فوق الموجود، وكيف لا أبادر بجواب هذا السؤال تلبيةً له، وأنه بنت فكرة تلك الكاتبة الأديبة النبيلة حضرة السيدة زينب أفندي فواز؟! وقبل أن أقدم لحضرتها ذلك الجواب أسألها أن تسدل على الهفوات من فضل سترها المصون، حتى لا أقدم على هذا الدستور إلا بعد أن أكون في حِل من كل هفوة وذلل.
عنَّ لي أيتها الفاضلة أن أُعرِّف الوطن بجملة قصيرة المبنى، ولكنها على ظني كثيرة المعنى، على أنها جامعة مانعة كما يُشترط في مثلها من الحدود، فإن سألَنا سائل وقال: ما هو الوطن الحقيقي للإنسان؟ فنقول له في الجواب: «هو ما تثنيه عاطفة النسب إليه للقيام بواجبه عليه.» فهذا الحد للوطن بذلك المعنى هو ما سنح بخاطري عند أدنى نظر، وقبل أن أشرح معانيَه شرحًا يشير إلى مخدرات معانيه، وإن كانت لا تخفى على ذوات القناع، أستطرد إلى تمهيد عام تمس حاجة هذا التعريف إليه فأقول: إن الإنسان إذا أتم خلقه بإدراكه الحسي والعقلي — أو إن شئت قلت بمداركه الظاهرة والباطنة — كان أول معلوم له ذاته التي هي أقرب الأشياء إليه، فيعرفها حينئذٍ معرفة حب وعشق مفرطين فطريين، ثم يتدرج من معرفة ذاته بذاته إلى معرفة أقرب شيء لذاته، وألصقها انتفاعًا به كوالديه وأفراد عشيرته فأبناء بلده، ثم من يجمعه وإياهم قطر ينتسبون إليه على وجهٍ مخصوص، ثم الأقرب فالأقرب ممن جور هؤلاء إلى نهاية سكان البسيطة، فتفاوت ائتلافه بالأشياء، ونسبه بها بنسبة تفاوت حال معرفته لها من الشدة واللذة؛ بسبب درجات القُرب والبُعد، ولا سبب لذلك الأنس والائتلاف بهذه الأشياء سوى كونها مصدر منافعه، ومحل ارتفاقاته المتوقف عليها حفظ ذاته، ولما أن كان ائتلافه بوالديه وأقاربه أشدَّ بكثير من ائتلافه بغيرهم لهاتيك الأسباب صار يفرط في شيء من واجب نسبه إليهم بحسب درجته في التمييز وكمال الإدراك، كما أنهم لا يفرطون من شيء من واجبه.
كذلك فالاهتمام المتبادل بين ذوي القربى كلٌّ منهم يضحي في سبيله مصلحة الغير، ولا يفضل عليه شيئًا سوى ما يختص بذاته، فتولد من هذا أن صار الأقرباء كلٌّ منهم أمينًا على مصلحة الآخر حفيظًا على نفسه وماله وعِرضه لذلك الارتباط القوي، الذي لا يُتوهَّم معه سوى مظنة بينهم، بخلاف الغير؛ فإنه لما لم يكن حاصلًا على ذلك الارتباط كان بعيدًا عن ذوي القربي؛ لأنه مظنة الإهمال والخيانة فلا يولونه شيئًا من مهماتهم، وقِسْ على ذلك سكان البلدة الصغيرة، فالمصر الكبيرة، فأهالي كل قطر جمعتهم فيه وحدة المكان والجنسية واللغات؛ فإن أولئك قد اشتدت فيهم روابط ذوي القربي بأسباب تلك الجامعات، وطول أمد التعارف، وتكرار عوائد التعامل والتعاون حتى صاروا في ذلك القطر جميعًا كما صار ذوو القربى في منزلهم من جميع الامتيازات والوجوه؛ وهم لذلك كله أمناء بعضهم على بعض لهذه اللحمة التي لا توجد إلا فيهم، وهي طبيعية النشأة وطنية النزعة عريقة في قومها، لا يمكن أن تكون داعية عن آخرين ممن لم ينصبغوا بصبغتها الطبيعية، وينبتوا فيها نباتها الأصلي حتى لا يُشم فيهم شيء من رائحة غيرها، فإن ادَّعاها نزيل فهي منه في حرز وحصن حصين، وإن بلغ من أمره في سبيل ادِّعائها ما بلغ، فإن الطباع تأبى على الناقل حتى إذا قال هذا المدعي طالما خدمت أولئك القوم خدمة وطنية حقة يعجزون عنها لو كانوا بأنفسهم، ومع ذلك فقد أبى بخلهم أو تعصبهم أو لؤمهم — أو كما يقول — أن ينسجوني في سلك لحمتهم، ويجعلوا لي نصيبًا من وطنيتهم، فذلك منه أن كان لا يجدي إلا الإيذان بالعجز، وتسلية النفس، وإظهار العذر عن أمرٍ كان يرغبه لو كان مما يستطلع، فاللائم هنا مُليم والملوم لا ذنب له.
فإن أمثال هذه الصبغة الوطنية من نواميس الطبيعة التي لا تدخل تحت مقدور البشر واصطناع الصناع؛ فهي كسواد الزنجي وبياض الشركسي، لا توهب ولا تباع، وهم إن تورطوا لهذا الذي يحاول الانصباغ بها فوهبوه حق الوطنية واعتبروه بحالتها الطبيعية، فإن تلك مجاملة على حِدَتِها، وفي وادٍ غير ما نحن فيه. نعم، قد تصير هذه وطنية بالمعنى الحقيقي إذا أنضجها صروف الأزمان، فتمحضت لصرف الحقيقة المعلومة، وهيهات هيهات.
بقي أن نحلل أجزاء التعريف إلى مفهوماتها لنتصل بذلك إلى الحكم عليه بأتمة جامعة لأفراده مانعة من دخول شيء مما سواها، فقولنا: «هو ما يثنيه عاطفة النسب إليه.» المعنى أن الوطن الحقيقي هو البلد والقطر الذي يجد الإنسان من نفسه نزعًا إلى القيام بواجباته بمجرد ما تتأثر نفسه بسبب الانتساب إليه فقط تأثيرًا يحملها على الدفاع عن حوزته والقيام بخدمته.
فمدار هذا التعريف على إضافة «عاطفة» إلى النسب؛ إذنْ فخرج عن ذلك ما يكون ميل الإنسان إليه وإن تفانى في حبه بسبب مالي أو سياسي مثلًا، فإن السبب المالي ينعدم أو يتغير، وكذلك السياسي، وعلى أثره تنعدم هذه العاطفة المالية أو السياسية أو تتغير. أما عاطفة النسبة فإنها لا تنعدم بحال من الأحوال؛ فالمصري لا ينسلخ عن نسبته، وإن انسلخ عن إهابته (جلده). نعم، لكلٍّ أن يتجنَّس بجنسية أجنبية، ولكن هذا شيء من غير هذا الموضوع؛ لأنه لا يغير من النسبة الحقيقة شيئًا، ولا يبدل فيما يلوح على الوجوه من سيما الوطنية وشعارها، بل تبقى سلطتها في القلوب كما يدل على ذلك حنين الغريب إلى مسقط رأسه، ولا نجد فردًا من أفراد الإنسان إلا وهو كافٍ بحب أوطانه، سيما إذا طوحت به طوائح البَيْن والفِراق إلى الأقطار النائية والبلاد القاصية، وربما فارق الابنْ أباه أو العكس إبقاءً على ملازمة الوطن العزيز، إلا من كان فاسد المزاج بعلة طارئة على فطرته، ومثل هذا لا يكون قياسًا، والسلام.