الرسالة المتممة للستين
رجال المستقبل وتعليم البنات
قد اعترض حضرة الفاضل صاحب رسالة التربية والتعليم المندرجة في عدد ١٦ من اللواء الأغر على معلمي المدارس بقوله: «سلَّمتكم مصر بنيها لتعلموهم فجهلوا، وترجلوهم فمرءوا، وتصلحوهم ففسدوا … إلخ.» وله الحق، ولكن لم يذكر حضرته من أين ينشأ ذلك الفساد الذي أعيا المعلمين إصلاحه، وتحيرت الأفكار في وجود الطريقة التي تصلح بها الأخلاق الفاسدة، ولو تأمل العاقل بعينٍ بصيرةٍ لظهر له الحق كظهور الفجر، ولكن نبذوا هذا الفكر ظِهريًّا فصعب التخلُّص، وسرى الداء.
الأمر الذي هو الأساس الأكبر إنما هو تربية البنات اللواتي هن قاعدة كل تربية، ولطالما تكلَّمتُ في هذا الموضوع، فلم أجد من يسمع ولا من يلبي، ولكني أعيد الكَرَّة مرة أخرى، وأذكر لعل أن تنفع الذكرى فأقول: كيف يصلح شبابنا، وقد تغذَّوْا بلبان الجهل ونشَئوا في مهد الهمجية، حتى إذا شب الطفل في حِجر امرأة جاهلة أخذ عنها ما درسته عن أمها من الحسد والشحناء والبغضاء والغواية والتعصب العائلي، وهلمَّ جرًّا، سلموه إلى المدارس لتصلح من شأنه ما فسد، وتغير من أخلاقه ما صار فيه طبعًا غريزيًّا، وهذا لا يتيسر أبدًا؛ لأن مَثَلَ الطفل الذي أحسنتْ أمه القيام عليه كَمَثَلِ البناء الذي رُفع على أساسٍ متين، ثم سلَّمه مهندسه إلى نقاش ماهر فحلَّاه بالنقش البديع والزخرف حتى أتقنه على أحسن شكل؛ فصار كأنه أثر لا يفنى متحليًا بتلك الفضائل مُتَّشحًا بهاتيك الزخارف الأدبية التي طُبع عليها وهو في سن الطفولية. أما البناء المختل الأساس الذي رفعته أيدي مهندس عديم الدراية بمنافع التأسيس لو سلَّمتَه لأعظم نقاش لحار في إصلاحه، وصار إذا أصلح جانبًا انهال الجانب الآخر، ثم لا يمضي عليه زمن حتى يُمحى ذلك الأثر، أو كلابس ثوب بهج فوقه أطمار بالية رثة، كلما هزه النسيم ظهرت رثاثته، وانبعث منه ما لا يُحمد ذكراه.
وهكذا مَثَلُ شبابنا وأولاد مصرنا، فإذا كانت الأم على شيء من العلم أثَّر ما عندها في ذلك الولد، وإذا كانت جاهلة لا تعلم سوى ما تقدَّم ذكره فسدت أخلاق الولد، وتمكَّن منه سوء الخلق، وصار عنده كعادة مقدسة لا يمكنه التحوُّل عنها، ولا يفيد تعب الوالد، ولا علاج المعلم داءً عياءً شيئًا، ويصح فيه قول الشاعر:
فليهتم فضلاؤنا في تعليم الفتيات ثم ينتظرون نتاج المستقبل، فيرون منه رجالًا وأي رجال! كنضال ابن الحلاج بل أشد ارتباطًا وأقوى عزيمة، لا تغرهم زخارف العصر الأوروبي، ولا يهمهم سوى السعي في منافع بلادهم، والذب عن أوطانهم، والاجتماع تحت لواء مليكهم، وجمع ما تشتت من نفوذهم المفقود، وسيطرتهم الضالة.
واعلموا أن بث روح المعارف في النساء نفعُه لا يعود إلا على الرجال، وخصوصًا في تربية الأولاد وتدبير المنزل ومعاشرة الزوج وغير ذلك، ولا تظنوا أنهن مزاحمات لكم كما يقول البعض، لا بل إنما نحن جنسان مشتركان في هذه الحياة لا ثالث بينهما، ولا يمكن لأحدنا الاستقلال دون الآخر، ولكلٍّ منا ملهًى في مرسح الحياة ما يلهيه عن مزاحمة الآخر، وهكذا نحن شركاء في السراء والضراء.