الرسالة الحادية والستون
المدارس والدين أو الدين والمدارس
قالت حضرتها: أُسست المدارس في مصر على أمل أن يخدم أبناؤها الوطن، وقد رفعت منها الدروس الدينية، والبنود الشرعية، واعتاضته بالعوائد الأوروبية، وناهيك عن عوض فرَّق الشعوب، وضاعفَ الكروب، وشتَّت القلوب. أرادت مصر أن تدخل في دائرة التقدُّم فتأخرت، وشدت العزم لترتقيَ أوج المدنية فهبطت، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان في بادئ الأمر إذا تخرَّج أحدهم من المدرسة يتسنَّى له أن يخدم وطنه وينفع بلاده بقدر الإمكان، وكانت الأهالي بهذا الأمل يُدخلون أولادهم المدارس ليخدموا وطنهم، وينالوا الرتب، وقد اجتهد العالم في ترقية أبنائهم، وتسابقت الأمة حتى ظن الشعب أن لا عيش له إلا في الخدمة الأميرية، وصار الخبَّاز والطبَّاخ والسقَّاء والبنَّاء يقدِّمون أولادهم إلى المدارس أملًا بأن يصير لهم نصيب مما اكتسب غيرهم من الرُّتب، وأهملوا دراسة العلوم الشرعية والصنائع، مما حتى صار إذا ذُكر الأزهر الشريف في مجالسهم أو مجالسهن اشمأزوا من هذه الذكرى؛ لأنها صارت «أنتيكة» بلبس العمة والجبة، وكثرة الصلاة والصوم، وغير ذلك.
ولما تمت هذه الشروط الموضة كثر الحسد، وتنافرت القلوب، وتهافت الشبان والشابات على التقليد الأوروبي، وأُبيح شرب الخمر والمقامرة والرباء والتزين بأزياء القوم، وللنساء التفاخر بجر الذيول و… «ولم نأخذ عن الإفرنج خصلة حميدة تُشم منها رائحة المدنية الحقيقية.» وبينما نحن في هذا اللهو المفرط احتل الإنكليز بلادنا وأقفلوا دون الشبان أبواب الخدمات، فصار الناس حيارى سكارى لا يَعُونَ ماذا يفعلون، ولا إلى عوائدهم الأصلية يرجعون، فقلَّت المكاسب، وكثرت المصاريف، واختل النظام العائلي حتى صار الرجل همه الوحيد أن يبحث له عن امرأة غنية ذات ثروة ليقترن بها — ولو كانت عديمة الشرف — حتى يتستر تحت جلباب مالها بين إخوانه المتمدنين؛ لئلا يفوته من شروط المدنية شيء؛ فهذه هي نتيجة التمدُّن.
فهُبُّوا يا رجال العصر، وتلافُوا هذا الأمر، وتعاونوا على إزالة هذا الداء العياء من أفكار البنين والبنات، واعلموا أن الشفاء من داء التفرُّق والحسد لا يزول إلا أن تدفنوه بين دفتَي المصحف، وتغسلوه بصابون الأحاديث النبوية، وتتحصَّنوا من هول هذه الحيرة بالقواعد الشرعية.
واعلموا أن التمدن كله في شريعتنا الغراء، وهي التي لا تبطل، ولا يُستغنى عنها إلى يوم القيامة، وما وصل إلى أوروبا التمدن إلا من طريق الشرق، وما كان في الشرق يومئذٍ سوى الملة الإسلامية يوم كانت أوروبا تواصل الغارات الصليبية، وهي إذ ذاك ترفل في جلابيب الهمجية، وبالاجتهاد وجمع الكلمة واتحاد القلوب نالوا ما قصدوه، وارتقَوْا إلى هذا المقام الأسمى من الحضارة، لا بما بُلينا به نحن من مصيبة التفرُّق والحسد، حتى إن الرجل من أبناء جلدتنا إذا رأى أخاه ترقَّى في أمر من الأمور أخذته الغَيرة، وظن أنه مزاحم له في معيشته أو في وظيفته حتى يُخيَّل له أنه يقدر أن يدير الكون بمفرده، كما أن تعليم البنات يراه بعضهم من هذا القبيل ظنًّا منه أنهن مزاحمات لهم (لا أدري أفي الوظائف أم ماذا)، ولم يعلموا أن كل ما يتعلمن من علم نفعُه لا يعود إلا عليهم كما تعود ثروتهن التي يبحثون عنها اليوم. أما الفائدة المطلوبة، والغاية المرغوبة التي هي من لزم ما تحتاجه الأمة، فليست إلا أن تهتم علماؤنا الشرعيون بإلقاء كتب المبادئ الدينية بين أيدي تلامذة المدارس الأهلية، فأرجو من صميم فؤادي إغاثة الأمة بإخراج هذا القول إلى حيز العمل؛ لأنه ليس مرادي أن يقال كتبت فلانة على صفحات الجرائد، بل المراد أن يقال أثَّر كلامها في رءوس ممتلئة بالنخوة العربية، وقلوب تهزها الحمية الإسلامية و«رأس الحكمة مخافة الله.»