الرسالة الثانية والستون
الإسلام والمسيو هانوتو
قد ظن الكثير من الناس أن ما قاله وزير خارجية فرنسا مضرٌّ بالإسلام والمسلمين، ولو أنه شفى الغليل بما أظهره كلام المسيو كيمون ضد الديانة الإسلامية الغراء. لا وحرمة الحق هو بخلاف ذلك؛ إذ إنه نفخ في الصدور، فأيقظ من في القبور، وقد نبَّه الأمة الإسلامية لما أضمرته الأمم الأوروبية نحوها. نعم، كنا في غفلة من دهاء أوروبا ووضعها لنا السم في الدسم حيث كنا نظن أن الغرب، وعلى الأخص فرنسا هي معدن التمدُّن والحرية والمساواة، وكنا نتمنى التشبه والسير على منوالها؛ وذلك لحسن ثقتنا بها وبأعمالها، ولكن الآن قد ظهر لنا من خلل الرماد وميض جمر كان كامنًا لولا ما هبَّ من تلك النفثات التي خرجت من فم هانوتو، فأظهرت ما خفي من ذلك السعير. عملت أوروبا ولم تزل تعمل على تفريق الكلمة الإسلامية.
ظهر المؤيد في ذلك اليوم، وكنا في جمعية نسائية فتناولته إحدى السيدات، وأخذت في تلاوته، ونحن صاغون إلى أن انتهى الأمر إلى كلام المسيو كيمون، وما تعرض به إلى قبر النبي ﷺ، وما رمى به الدين الشريف من الحطة والخمول، وأكثر من مثل هذا الهذيان الذي يدل على جهل كيمون بالديانة الإسلامية إن لم أقل بالتاريخ.
ولما تمت هذه الجملة المثيرة للأحقاد المشوشة للخواطر ثارت النخوة في رءوس السيدات، حتى إنهن تمنين لو أنها تقوم حرب ويحاربن فيها كنساء البوير ويعضِّدن رجالهن، ويغرسن بذور النخوة والحمية في قلوب أبنائهن، حتى يَنشَئُوا على حب الشهامة وكرم النفس والمدافعة عن الدين القويم، وقد عزم النساء أن يربين أبناءهن على المبادئ الدينية، والصناعة الوطنية، وترْك ما أهدته لنا أوروبا من زخارف التمدُّن، والمودة التي أحرمتنا لذة العيش وطيب الحياة، وقد تهافتنا على العلوم الغربية، وتقلدنا بالعوائد الأوروبية، وتركنا العلوم الشرعية التي هي المدنية الكبرى.
نعم، ننتبه من غفلة طويلة طالما لعبت بنا أيدي الأجانب في خلالها، واستحلَّت لنا المُحرَّم، وبثت في أنحائنا شرب الخمر والميسر اللذين حرَّمهما الله في كتابه العزيز، فتهافت عليه شباننا الذين نَشَئُوا في حِجر مدنية أوروبا، وذاقوا لذة زخارفها السمية، وربما سأل سائل: وماذا يخرج من أيدي النساء في مثل هذا الأمر العسير الذي حارت فيه الرجال، وهن داخل الحجاب لا يقدرن على حَلٍّ ولا ربْط؟
أقول: نعم، نحن داخل الحجاب، ونحن قليلات الآن، ولكن أول الغيث قطرة، فاعلم أيها السائل أن مَثَلَنَا كَمَثَلِ الأرض الصالحة للنبات، فإذا أحسن إنباتها، وجاءت بالصحيح الطيب في أيدي أصحابها أنتجت ما يقوم بأودهم، وإن سلمتها للغير عاث في الزرع على حسب فائدته، وما تخول له المطامع.
وهكذا نحن انتخبنا الذرية، وسلمناها صالحة إلى المدارس الأوروبية، فنَشَئُوا على حب التمدُّن، ولما سلمت إليهم الأحكام لعبت بها وبهم أيدي الأجانب المزخرفة لعب الرياح بالهشيم، واتَّخذوا رجالنا آلة صماء حتى تفرقت الممالك الإسلامية، ونحن ننظر من خلال ذلك الحجاب، ونعض نواجز الندم تأسفًا وحسرة على ما كان منا.
نعم، لعبوا في نهب الممالك ما سمح لهم مكرهم، ورجالنا غافلون سكارى بلذة المدنية، ولما تمَّ لهم ما قصدوا من ذلك الدور ونالوا ما يتمنونه، صمموا أن يلعبوا في دور الدين، فبثوا رسلهم في أنحاء الممالك الإسلامية الأفريقية، ورجال حكومتنا غافلون، وهم مع «الرائجة وستين سنة» هذه نتيجة التمدن الأوروبي وثمرات الزخرف الغربي، فليعلم الجاهل والعاقل معًا أن الدين الإسلامي مُقام على أساس متين أسَّسته يد القدرة الإلهية، وثبَّتته بالدعائم المحمدية، وقد غرست جذوره في تخوم الكرة الأرضية، وتفرعت غصونه ما بين مشارق الأرض ومغاربها حتى لا تقدر على اقتلاعه يد المخلوق، ولو تعاون على هدمه شياطين الإنس والجن، فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين.
لقد صممت جمعية السيدات على أن يمتنعن عن التقليد الأوروبي ما أمكن، وأن لا يعاملن أحدًا من تجار أوروبا، بل يعاملن المسلمين، ويغرس هذه الفضيلة في قلوب بناتهن، فلا يتم ربع القرن والتجارة الأوروبية أثر في الشرق.