الرسالة الثالثة والستون
يا لله للمرأة من الرجال!
حضرة مدير جريدة المؤيد الغراء
قرأت أنا وكثير من السيدات من بنات جنسي تلك القصة الغريبة التي نشرها مكاتبكم في الأستانة العلية تفكهة لقرائكم، ألا وهي قصة الفتاة الصينية التي كانت تهز بمروحتها على قبر زوجها حتى يجف ترابه فتتزوج، وغرض الكاتب من ذلك أن يبيِّن قلة وفاء المرأة للرجل بأسلوب غريب يتفكَّه به القراء، ولكن لا يتفكه به إلا الرجال الذين يظلمون دائمًا النساء بكل أفانين الظلم.
ترك مكاتبكم في الأستانة كل ما يأتيه الرجال مع النساء، وجنح لهفوة صغيرة استشهد بها عليهن جميعًا، وضمَّ الكل في رداء واحد.
ولو أحببت أن أسرد لك أيها الكاتب اللبيب بعض ما يأتيه الرجال مع النساء من الخيانة وعدم الوفاء، لملأت الصحف وأفرغت المحابر من مدادها، ولكني أقتصر على القليل، واللبيب تكفيه الإشارة فأقول: أي صبر للرجل على الوفاء مهما كان بينه وبين الزوجة من الحب، ويا ليت الرجال يصبرون على الزوجة حتى تموت، ولكنهم — ويا للأسف — يبدلونها بأخرى قبل أن تخطوَ إلى تلك الدار فضلًا عن أن ينتظر جفاف الجسم في التراب؛ حيث يتركونها تتلظى بنار الغَيرة وتحمل مضض الهجر.
وكم امرأة فقدت الحياة وهجرت لذة العيش بسبب زواج زوجها عليها بعد أن يظهر لها من الحب ونهاية الإخلاص ما يرغمها به أن تسلم له كل نفيس، وتفضله على كل عزيز من الأهل والأقارب حتى تؤسس له في فؤادها مسكنًا، ولِمَا ترى منه ما يسرها يصعب عليها إذ ذاك اقتلاع تلك الجرثومة من ذلك الفؤاد النقي الطاهري؛ فيؤدي بها ذلك إلى الهلاك أو المرض.
والمرأة قلما تتزوج عقب وفاة زوجها إلا من كانت غير قادرة على أمر معاشها، وها نساء الذوات والأكابر عندنا لا تُرى في المائة عشر يتزوجن بعد وفاة أزواجهن حتى ولو كانت الواحدة في نضرة الشباب وزهرة الحياة الغضة، والتي تتزوج على غير حاجة للزواج تعرِّض نفسها للملام بين كافة أترابها.
وكثير من النساء يتجسر عن مرارة الفاقة، ويربين ما ترك لهن أزواجهن من الأولاد، وليس لهن ما يسد الرمق، فيصبرن على أحر من الجمر من الفقر.
وأي رجل تُوفِّيت زوجته ولم يتزوج ولو كان في سن الشيخوخة، وكم رجل ترك زوجته وهي على قيد الحياة وأولاده معها واعتنق زواج غيرها، وربما تركهم عالة عليها حيث لا يبكته ضميره، فيسأل بشيء ما «وقد قيل في المثل العامي: الأب يطفش والأم تعشش.»
ولا يعزب عن الأفكار السامية أن بالنساء تأسس بناء العائلات، وعليهن مدار الكائنات، وبهن تلتئم القلوب، وتعمر الدور بل الممالك، ومن بين أيديهن يخرج الرجال، وأن التي تهز المهد بيمينها تدير الكون بشمالها.
إن للرجال عقولًا وفي النساء من هي أعقل وأقوى عزيمة من الرجل، لا يغرها شيء، ولا تزحزحها عن جادة الشرف زخارف الدنيا ولا زينتها، ولا تتبع خطوات الشيطان مهما أدَّت بها الحالة.
ومقابلة للمثل بالمثل أقصى على قراء المؤيد حكاية ربما كانت أغرب في وقعها من حكاية الفتاة الصينية.
وذلك أن رجلًا بئيس الحال قد مرَّ في الأيام الأخيرة بشارع محمد علي بالقاهرة، وكان يُرى من هيئته أنه فقير حائر، واتفق أن رآه أحد المبعوثين المسيحيين فسأله عن قصده وحاجته، فقال: إني أبحث عن عمل أو ملاذ عيش ألوذ به. واسترزق وأكثر له من الشكوى، وبيان مُرِّ البلوى، فأجابه: إني أكفيك شر شكواك وبلواك إذا دخلت معي إلى المحل الذي أقيم به، وقد حصل، ولما صار معه وحده في محله عرض عليه الدخول في الدين المسيحي على أن يدفع له مبلغ ستين جنيهًا مقدمًا، ثم يعيِّن له مرتبًا بعد ذلك كل شهر، أما الرجل فقد أخذ يفكر في المسألة ثم قال في نفسه إن الدين في القلب، وما يضرني لو أخذت هذه النقود أطرد بها فاقتي، وأتظاهر له باعتناق الدين الذي يدعوني إليه، وبعد حديث النفس الطويل قال له: إني أيها القس المحترم قابل ما تقول، فمُرْني بما تشاء، وهات الجنيهات.
ثم قبض المال كما أراد حضرة القس، وتوجه إلى زوجته مسرعًا طلق الوجه مسرورًا، وأراها النقود ذهبًا وضاحًا فقابلته مغضبة، ولكنه رأى أن يشرح لها القصة، وما أتمها حتى ثارت في رأسها نخوة الشرف، وقالت له: يا رجل كنت أظنك بادئ بدء أنك اختلست هذا المال من أحد فغضبت لذلك، ولكني الآن علمت أنك بعت دينك بثمن بخس فاغرب عني، ولا تُرني وجهك أبدًا، ثم رجمته بالنقود، وصاحت عليه: اخرج أيها الشقي من عندي فإني خرجت من عصمتك ما دمت أنت خرجت من دينك، إني أحب أن أعيش بالفقر وأموت بالفقر ولا أغير ديني. فخرج وهو يتعثر في أذيال الخجل آسفًا على ما فرط منه؛ لأنه كان يحب أن يفرحها بهذه الثروة الطائلة العاجلة بعد هذا الفقر المؤلم، فخاب ظنه وساء فأْله.
فبالله كم يُقدَّر وفاء المرأة هذا مع زوجها الذي لم يَفِ عهده معه، ولا مع نفسه، ولا مع الله؟!