الرسالة الرابعة والستون
النهضة الإسلامية
قد كنت فيما مرَّ من الأيام لا أحب الكلام في شيء يختص بالأديان، ولا بالمسائل السياسية حتى ظهرت المسألة الهانوتية، أو الحملة الكيمونية، فأيقظت الأفكار، وأثارت الهمم الساكنة.
ولقد صار الإنسان لا يمر على نادٍ من الأندية ولا حفلة من الحفلات النسائية إلا ويسمع فيها ما يشوش الأفكار ويكدر الخواطر، بعد أن كنت لا تسمع في تلك الحفلات سوى الكلام عن تمدُّن أوروبا واختراعاتها الصناعية مما تنقله ألسنة الجرائد من مثل تلك الأخبار السارة التي اكتسبها الإنسان بذكائه، واستخرجها من وهدة العدم بفطنته، وكنا نريد التقرب بكليتنا من المسيحيين، والاختلاط بينهم، وبالأخص الفرنساويين منهم الذين كنا نأمنهم على تعليم أبنائنا بكل طمأنينة؛ وذلك لما كنا نعلمه من رجال فرنسا، وما يشهدونه من الشهادات الحقة في الديانة الإسلامية، وأنهم لا يبخسون الإسلام حقه مثل القس لوزان وغيره، وما أظهره حضرة القس في خطبته التي ألقاها في الأوبرة الخديوية سنة ١٨٩٦، فكان لها رنة فرح في قلوب المسلمين أثارت عبارتها الأفئدة حتى سهلت لنا سلوك طريق السلام الفرنساوي. ولقد ثبت لنا بما قاله نابليون الأول تلك الأماني التي صرنا نحسبها أضغاث أحلام، وهاك قوله: «الفرنساويون هم المسلمون الحقيقيون.» ولقد جعلها حضرة القس لوزان بطهارة قلبه نبوءة تنبَّأ بها نابليون، وأن المستقبل سوف يُظهر معناها الخفي، وها هي الحوادث والأحوال قد برهنت على ما للمسيحيين عمومًا — ورجال فرنسا خصوصًا — من الحب الخالص للأمة الإسلامية، فلم نلبث — ويا للأسف — إلا قليلًا حتى دهمتنا المسألة الهانوتية، وانبث المرسلون في أنحاء الإسلام فأظهروا للناس من خلال ذلك التمدن الزاهر الزاهي ظلمة من التوحش المدلهم الداهي.
ولقد عجبت كيف ذهب عن الأفكار الجامعة الأوروبية أن تغيير الأديان من أشد الأمور حتى لو كانت الأمم على الوثنية، ولقد علم كل عالم ما كانت تعانيه الرسل الإلهية من الصعوبات في تقويم الأفكار المعوجة عن الحق، وفي أيديهم الكتب الإلهية، فضلًا عن إظهار المعجزات الحقة، فذهلوا عن كل ذلك، وعمدوا إلى تغيير الدين الإسلامي القويم الثابت الذي هو كشجرة فرعها في السماء، وأصلها في تخوم الأرض لا تزعزعها رياح المفسدين، ولم يرسَل لذلك رسول يأتي بمعجزة كما أوتي الأنبياء من قبل، ألم يعلموا بأن الدين الإسلامي لم يفتح بوريقات طبع من أيدي المبعوثين، ولا بمذمة القرآن الشريف ومدح الإنجيل، فإن للعالم عقول يميزون بها، ويفرقون الحق من الباطل، وكلنا نعلم أن المسيح ومحمدًا — عليهما السلام — نبيان من أُولِي العزم، وكلاهما مرسَل ولَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ.
وإن ظن القوم أن انحطاط الأمة الإسلامية، وعدم تقدمها في الحضارة هو من سبَّب كون أهلها مسلمين ليس إلا، لا فقد ساء ظنهم، فليعلم العالم الغربي أنهم ما نالوا المدنية والتقدم إلا بتقليده يوم كان الإسلام يرفل في حلل الحضارة والرفاهية، وكانت أوروبا تتخبط في غياهب الهمجية، وترفل في ثوب التوحش القشيف، وقد كان يومئذٍ الإسلام هو الإسلام، والنصرانية هي النصرانية، وهي أقدم من الديانة الإسلامية، فلماذا لم تسبقنا بالتمدن إن كان الأمر كذلك؟! ظهر الإسلام في جزيرة العرب كعمود نور يُستضاء به بين قوم جهلاء لا يعلمون من الحضارة شيئًا، تائهين في غيابة التوحش يدفنون بناتهم أحياءً، ويشنون الغارات على بعضهم بعضًا، والفضل في ذلك من غلب.
كانت العرب في غاية الوحشية، وهم على الوثنية، وبينهم اليهودي والمسيحي، فلماذا لم يدعوهم إلى دينهم؟ ولِمَ لَمْ يأتِهم التمدُّن من جهة دينهم، ولا رَفعَتْهم أديانهم من دركات الجهل والخمول إلى درجات التمدن والحضارة إلى أن ظهر الإسلام وحيدًا فريدًا غريبًا؟ وقد أراد الله أن يفرد أطنابه على البسيطة، ويُحكِّم أهله على كافة الأمم، وقد انحصرت أوروبا في بقعة من الأرض تحت نير الجهل والخمول. ألم يكن يومئذٍ وجود الدين المسيحي الذي يدعوننا إليه تحت اسم المدنية المحضة؟! ولينتبه المسلمون! ولينتبه حماة الدين!