الرسالة التاسعة والستون
لقد اطلعت على رسالة منشورة في العدد السابع من جريدتكم الغراء لإحدى السيدات الدمشقيات، فألفيتها جديرة بأن تُذكر فتُشكر لما اشتملت عليه من الألفاظ الدرية، وما تفضلت به صاحبتها الأديبة من النصائح العالية لبنات جنسها، وما اقترحته على الأدباء من لزوم تسليم بناتها وتثقيفهن وتعريفهن ما يجب عليهن.
وسرَّني ما رأيت من الغَيرة والنشاط بإحدى بنات جنسي الدمشقيات، وستهدى هذه المزية إلى غيرها إن شاء الله؛ بحيث يكون للمعارف والآداب في دمشق بضاعة رائجة بين نسائها، وهي أمنية يتمناها كل من له قلب؛ لأن النساء أساس العمران والمدرسة الأولى لكل من دبَّ على الأرض من جنس الرجال، فيهن يتقدم وبهن يتأخر، ودليل ذلك أن ما يكتسبه الولد من أمه حال طفوليته من خير وشر ينفطر عليه، ويصبح غريزيًّا، فإذا كانت الأم منطبعة على الكمال متَّشحة برداء العفاف متَّسمة بمكارم الأخلاق متحلية بحلي الآداب كان لولدها نصيب من هذه الأخلاق يشربها مع اللبن ويشبُّ عليها، وإذا كانت من الأمهات اللواتي رُبِّينَ في حضرة البساطة ورضعن لبن الجهل لا تفرق بين الفضيلة والرذيلة، يتخلق ولدها بأخلاقها، ويدرج على تلك الأخلاق، ومتى أُريدَ تهذيبه بواسطة المدارس تعب فيه المعلم، وإذا أصاب حظًّا من العلوم والآداب يكون كلابس ثوب البهج من تحته ثوب خَلِقٌ كلما هزه النسيم ظهرت رثاثته وبانت رداءته.
وفضلًا عن هذا فإن الولد الناشئ على الجهل والرذيلة أقل شيء يُظهر أخلاقه الأصلية التي رُبِّيَ عليها.
وما ينطبق على الذكور في هذا البحث ينطبق على الإناث، فإن المرأة المهذبة هي التي تُعاون زوجها في كل أمر من الأمور الدنيوية، فتخدم أفكاره وتراقب أحواله من جهة معاشه وتربية أولاده، وتكون سميرته في أفراحه وقسيمته في أتراحه، حافظة أسراره حاملة ثقاله، حارسة أمواله شريكته في ما يضره ويسره.
ولما كانت الهيئة الاجتماعية مؤلَّفة من الجنسين الذكر والأنثى، وكان كلٌّ منهما مرتبطًا مع الآخر في كافة إحساساته الحيوية وأعماله العائلية، كان من المتحتم علينا من أن نجتهد في تحصيل العلوم والمعارف بالواجب علينا من خدمة ذلك الجنس، ونحن — أعني بنا معاشر النساء المسلمات — وإن كنا محتجبات عن الأنظار مترفعات عن الاختلاط، فالحجاب لا يَحُول بيننا وبين تلقِّي العلوم والمعارف؛ إذ إن مدارسنا مفتوحة الأبواب ونوالها متيسر لنا ونحن تحت حكم الحجاب.
ومتى تمت لنا هذه الأمنية وسلكنا الطريق التي نتوصل بها إلى مدارج الكمال، ضاهينا الرجال في سمو مداركهم، وحاكيناهم في كل ما نستطيع، ونحن نصف هذا العالم الإنساني؛ فلا يفوتنا العلم بكل ما يُجريه النصف الآخر من الكمالات الإنسانية، بل نلم بكل شيء من أعماله بما تنشره علينا صحف الأخبار التي عمَّت البلاد والأمصار وصارت:
فعلينا الآن أن نُقدِم على تعلُّم العلم بكل جد وجهد، وننبذ الكسل ظِهريًّا ونقتديَ بمن سلف من فاضلات الشرقيات اللواتي خلَّد التاريخ لهن ذكرًا تهتز له عصورهن تيهًا وفخرًا، وتماثل النساء الغربيات في الهمة والإقدام؛ فقد برعن بأعمالهن وفُقن باختراعاتهن ونلن بما اكتسبن من العلوم والمعارف منزلة أجَلَّها الكبير والصغير، ومدحها الأمير والحقير.
ورجاؤنا منه تعالى أن تكون جريدتكم الغراء واسطة عظمى في تحريك الهمم الباردة والأفكار الجامدة؛ فنرى لنسائنا الدمشقيات نهضة أدبية تُرفع لها الرؤوس وتنبسط منها النفوس، ومسئولنا منكم أن تُخصصوا محلًّا في جريدتكم للكاتبات منهن ليزاولن فنَّ الكتابة، ويُعرِّفن من لا يعرف منهن واجبات النساء البيتية؛ فتنتفع بذلك مَن ذهبت أيامها سُدًى، وتنشط للعلم مَن لها بالعلم رِضًى، ومَن علمت أن: