السلالة الإغريقية
كان الإغريق مثلهم في ذلك مثل البلاسجيانز والشعوب الأخرى ذات الأصل القبلي، كانوا منتظمين منذ ما قبل التاريخ في نفس المجموعات القبلية التي لدى الهنود الأمريكيين؛ أي في سلالات وأخوَّات وقبائل واتحادات قبائل. وأحيانًا لم تظهر الأخوَّات عندَهم كما كان الحال عند الدوريانيين، كما لم تظهر أحيانًا اتحادات القبائل، ولكن السلالة كانت في كل مكان هي الوحدة الاجتماعية.
- (١)
احتفالات دينية عامة وامتياز خاص للكهنة؛ تمجيدًا لإله يعتقدون أنه أصل السلالة ويطلقون عليه لقبًا معينًا.
- (٢)
مقبرة عامة مشتركة.
- (٣)
حقوق ميراث متبادلة.
- (٤)
التزام متبادل بتقديم كلٍّ منهم المساعدة للآخر وحمايته ضد أي أجنبي.
- (٥)
التزام بالزواج من داخل السلالة في حالات معينة مثل حالة الفتيات اليتامى أو الوارثات.
- (٦) ملكية مشتركة في بعض الحالات مع وجود رئيس مشترك وخازن مشترك من السلالة. أما الأخوة التي تربط بين عدة فروع فكانت أقل تماسكًا مع وجود نفس الروابط المتبادلة مثل الاشتراك في الطقوس الدينية والانتقام للدم. وكان أعضاء الأخوة في كل قبيلة يقيمون دوريًّا حفلات دينية مشتركة تحت رئاسة الحاكم المسمى Phylobscileus، أي الحاكم القبلي، وكان يُنتخب من بين النبلاء المسمَّيْن eupatridcs.
ومما تقدَّم يتضح إمكان التمييز بين السلالة الإغريقية والسلالة الإيروكيوسية.
- (٧)
الانتساب للأب.
- (٨) منع الزواج في داخل السلالة ما عدا حالات الفتيات الوارثات كما سبق. وقد كانت القاعدة أن المرأة عندما تتزوج تهجر الطقوس الدينية الخاصة بسلالتها وتمارس معتقدات سلالة زوجها وتندمج في أخوَّته. ويقول بيكار في كتابه Charicles إنه ما من شخص كان مسموحًا له بالزواج داخل السلالة.
- (٩)
كان التبني في السلالة يتم عن طريق التبني في إحدى عائلاتها بإجراءات شكلية وفي حالات استثنائية فقط.
- (١٠)
حق انتخاب وعزل الرئيس. وقد سبق القول أن كل سلالة كان لها حاكمها؛ ولكن هذا المنصب كان وراثيًّا في عائلات معينة. ويُرجح أنه إلى نهاية عصر البربرية لم تكن الوراثة في المناصب مطلقة؛ لأنها تتنافى مع الظروف التي كان للغني والفقير في ظلها حقوق متساوية في السلالة.
وقد فشل جروت ونيبور ومومسن وكل مؤرخي الآثار الكلاسيكية السابقين في حل مسألة السلالة. ومع أنهم قد ذكروا بدقة كل صفاتها المميزة فقد كانوا دائمًا يعتبرونها مجموعة من العائلات فكان مستحيلًا عليهم بذلك أن يفهموا طبيعتها.
وفي ظل هذا التنظيم لم تكن العائلة أبدًا هي وحدة التنظيم، ولم يكن ممكنًا أن تكون؛ لأن الرجل وزوجته كانا ينتميان لفرعين مختلفين، وكانت السلالة ككل تنتمي للأخوة، والأخوة تنتمي للقبيلة؛ وبذلك كانت العائلة تنتمي نصفيًّا إلى سلالة الزوج ونصفيًّا إلى سلالة الزوجة. ومع ذلك فكل التاريخ المكتوب يعتبر نقطة البدء هي العائلة الزوجية وأنها كانت النواة التي تبلور حولها المجتمع والدولة، مع أن هذه العائلة لم تظهر إلا قبل المدنية بقليل جدًّا. والغريب أن هذا الخطأ كان هو الرأي السائد في القرن الثامن عشر.
ويضيف ماركس أن «جروت كان يجب أن يلاحظ أنه رغم أن الإغريق كانوا يعتبرون سلالاتهم أثرًا من علم الخرافات (بدليل نسبتها إلى أحد الآلهة الذي يعتبرونه أصلًا لها)، فإن السلالات كانت أقدم من علم الخرافات بآلهته وأنصاف آلهته التي خلقوها هم بأنفسهم.»
ويُعتبر مورجان أفضل من جروت في تفسيره للسلالة؛ فقد قال إن كل سلالة أثينية كان لها اسم مشتق من سلفها، وإن القاعدة قبل أيام سولون وبعده كانت أن الرجل إذا مات بدون وصية كان أعضاء فرعه يرثون ثروته، وإذا قُتل رجل كان لأقاربه أولًا ثم لأعضاء فرعه وأخيرًا لأعضاء أخوته، الحق في مقاضاة القاتل في المحاكم، وكل ما نسمعه اليوم عن أقدم قوانين أثينا مبني على التقسيمات إلى فروع وأخوات.
ويقول ماركس: «إن المنحدرين من أصول مشتركة للفروع يسببون حَيْرة تعذِّب الذهن «لخريجي المدارس الجهلة»، وحيث إن هؤلاء يدَّعون أن تلك الأصول خرافية (لنسبتها لأحد الآلهة) فلا يستطيعون أن يشرحوا كيف تطورت الفروع من عائلات ليس بينها في الأصل أي صلة. ولكن لا بد من معالجة ذلك بوسيلةٍ ما لشرح وجود فروع على الأقل؛ ولذلك نجدهم يدورون في حلقة مفرغة ولا يتعدَّوْن الجملة القائلة «إن علم الفروع خرافي ولكن السلالة حقيقة».»
وأخيرًا يقول جروت: «نحن نسمع عن علم الفروع هذا نادرًا لأنه لا يُوضع أمام الجمهور إلا في حالات معينة محترمة، ولكن الفروع الأحقر شأنًا كانت لها طقوسها المشتركة (عجيب حقًّا يا سيد جروت – ماركس)، وأصل مشترك أعلى من الإنسان وعلم فروع ورئيس معظَّم (ما أشد غرابة ذلك يا سيد جروت في الفروع الأحط شأنًا – ماركس)، كما كانت لها أُسسها المثالية (بل المادية يا سيد جروت – ماركس)، وكان كل ذلك متماثلًا فيها جميعًا.»
ويستخلص ماركس من إجابة مورجان على ذلك ما يأتي: إن نظام قرابة الدم الخاص بالسلالة في شكله الأصلي (وقد عرفه الإغريق يومًا كغيرهم من البشر) حفظ العلاقات المتبادلة لكل أعضاء السلالة وجعلهم على علم بها، وقد تعلَّموا هذه الحقيقة بالتمرين منذ الطفولة، ومع ظهور العائلة الزوجية سقط ذلك في طي النسيان، وقد خُلِق اسم الفرع علَمًا للفروع، ويؤكد هذا الاسم لحامليه حقيقة أصلهم المشترك، وبتقادم العهد لم يعُد في استطاعة أعضاء السلالة إثبات أصلهم المشترك ما عدا في حالات قليلة، وكان الاسم نفسه هو الدليل على وجود أصل مشترك عدا في حالات التبني. وإن الإنكار الحالي لأي قرابة بين أعضاء الفروع على طريقة جروت وينبور خليق بأي عالم «مثالي» وبديدان الكُتب المدرسية؛ فلأن الرابطة بين الأجيال وخاصةً منذ بدء الزواج قد أُهملت، ولأن حقيقة الماضي تبدو منعكسة في أوهام علم الخرافات، يبدو للجهلة الطيبين من العلماء المثاليين أن علم الفروع الوهمي هو الذي خلق فروعًا حقيقةً.
وكما هو الحال عند الهنود الأمريكيين كانت الأخوَّة بمثابة السلالة الأم، وتنقسم إلى عدة فروع بمثابة بنات لها، وتوحدهم في نفس الوقت نتيجة الأصل المشترك. ويقول جروت إن أعضاء كل إخوَّة كان لهم إله مشترك باعتباره أصلًا لهم من الدرجة السادسة عشر (أي تُعتبر الأخوَّة هي الجيل السادس عشر من سلالته). وكان كل فروع الأخوة يُعتبرون لذلك إخوة فيما بينهم.
وقد ذكر هوميروس الأخوة باعتبارها وحدة عسكرية في ذلك الجزء الشهير من قصيدته حيث ينصح نستور أجاممنون بقوله: «جهز القوات عن طريق القبائل والأخوَّات بحيث تساعد كل أخوَّة الأخرى وكل قبيلة الأخرى»، وحيث إنه كان من حق الأخوَّة مقاضاة قاتل أحد أفرادها فقد كان لها فيما مضى واجب الانتقام للدم ولا شك. كما كان للأخوة مقدساتها وأعيادها المشتركة لأن تطور علم الخرافات الإغريقي من النظام الديني الآري القديم، هذا التطور أخذ مكانه أساسًا في داخل الفروع والأخوَّات. وكان لكل أخوَّة رئيس، ويرى ديكولانجس أنه كان لها جمعيات لإصدار القرارات ومحكمة وسلطة إدارية، وقد اعترف جهاز الدولة التي ظهرت فيما بعد بالأخوَّة وترك لها بعض الاختصاصات رغم أنه تجاهل تمامًا أمر السلالة كما سيأتي.
وكان عدد من الأخوات المرتبطة برابطة القرابة يكوِّن القبيلة. وكانت في أتيكا أربع قبائل تتكون كلٌّ منها من ثلاث أخوَّات، وتتكون كل أخوَّة من ثلاث فروع، ويدل هذا التقسيم الدقيق على تدخُّل مرسوم في التنظيم، أما كيف ومتى ولماذا حدث ذلك فهو ما لا يبينه التاريخ الإغريقي؛ لأن الإغريق أنفسهم كانوا يحفظون ذكريات لا تتعدى العصر البطولي.
وقد كان اختلاف اللهجات لدى الإغريق أقل من اختلافها في أمريكا لأن الإغريق كانوا متجمعين في إقليم صغير المساحة نسبيًّا، ورغم ذلك كان اتحاد القبائل يضم القبائل التي تتكلم نفس اللهجة الواحدة. وكانت لأتيكا لهجتها الخاصة التي أصبحت فيما بعد اللغة السائدة في النثر الإغريقي. وفي ملاحم هوميروس نجد القبائل الإغريقية عمومًا قد توحدت على هيئة شعوب صغيرة تحتفظ فيها الفروع والأخوَّات والقبائل باستقلالها. وكانت هذه الشعوب تعيش في مدن محاطة بأسوار، وقد ازداد تعداد السكان مع ازدياد عدد القطعان الحيوانية وزراعة الحقول وبدء الحرف اليدوية. ومع وجود هذه الظروف بدأ الاختلاف المتزايد في الثروات مما سبَّب ظهور اتجاه أرستقراطي في الديموقراطية القديمة التي نمت نموًّا طبيعيًّا. وقد اشتبكت هذه الشعوب المتعددة الصغيرة في حروب مستمرة في سبيل امتلاك الأراضي والسلب والغنائم، وكان استعباد أسرى الحرب قد أصبح نظامًا معترفًا به.
- (١) كانت السلطة الدائمة هي المجلس boulé، وكان يتكون في الأصل حسب المرجح من زعماء الفروع، ولما زاد عددهم فيما بعد كان يتكون من أشخاص مختارين؛ مما خلق الفرصة لنمو وتقوية الاتجاه الأرستقراطي. ويقول ديونيسيوس إن المجلس في العصر البطولي كان يتكون من الأشخاص الممتازين cratistoi. وكانت للمجلس الكلمة النهائية في الأمور الهامة، وقد انعكس ذلك في آداب تلك الفترة؛ إذ نقرأ في إحدى روايات seschyus٢ أن مجلس طيبة٣ اتخذ قرارًا بدفن جسد إيتوكلس وسط مظاهر التكريم وإلقاء جسد بوفيينيسس للكلاب. وبعد ظهور جهاز الدولة لدى الإغريق تحوَّل هذا المجلس إلى مجلس الشيوخ.
- (٢) الجمعية الشعبية agora، وقد رأينا عند الإيروكيوس أن الشعب رجالًا ونساءً كانوا يلتفون حول اجتماع المجلس ويشتركون في المناقشات. وعند إغريق عصر هوميروس كان هؤلاء «الملتفون حول المجلس» قد تطوروا حتى أصبحوا جمعية شعبية كاملة كما كان الحال عند الألمان القدماء.
وكان المجلس يعقد الجمعية لتقرر الأمور الهامة، وكان لكل رجل حق الكلام، وكان التصويت على القرار يَجْرِي برفع الأيدي أو الْهُتاف. وكان نفوذ هذه الجمعية نهائيًّا. ويقول شومان في كتاب آثار اليونان إنه لم تكن هناك طريقة لإرغام الشعب على شيء ضد إرادته ولذلك كانت الجمعية هي السلطة العليا. ففي ذلك الوقت كان كل رجل بالغ في القبيلة محاربًا، ولم تكن قد ظهرت بعد أي سلطة عامة منفصلة عن الشعب يمكن استخدامها ضده؛ فقد كانت الديموقراطية البدائية لا تزال في أوجها.
- (٣) القائد العسكري bacileus. لم يكن هذا القائد ملكًا أو أميرًا كما يزعم البعض. ويقول ماركس تعليقًا على هذا الزعم: «إن العلماء الأوربيين الذين يُولد معظمهم خدَمًا للأمراء يمثِّلون القائد العسكري كملك بالمعنى الحديث. ويعترض مورجان على ذلك بحق ويقول عن جلادستون وكتابه٤ إن جلادستون يمثِّل لقرائه زعماء الإغريق في العصر البطولي كملوك وأمراء مع تحلِيهم بأخلاق السادة المهذبين فنُضْطَر للاعتراف بأننا توصلنا إلى معرفة قانون الأجداد الأُول بطريقة كافية ولكن ليس مقطوعًا بها.» ولكن ما دامت المعلومات ليست مقطوعًا بها فإنها تكون في حكم العدم.
وقد انعكست هذه الصورة في آداب تلك الفترة؛ فنجد في الإلياذة أن حاكم الرجال أجاممنون يظهر ليس بصفته ملكًا للإغريق ولكن قائدًا أعلى لجيش اتحادي أمام مدينة محاصرة، وعندما دب الخلاف بين الإغريق أشار أوديسيوس إلى هذه الصفة في القائد بالعبارة الشهيرة: «إن عددًا كبيرًا من القواد ليس أمرًا سليمًا فليكن لنا قائدًا واحد … إلخ.» وجاء في جزء آخر من الإلياذة في نفس الموقف: «إن أوديسيوس لا يحاضر هنا عن شكل الحكومة ولكنه يطلب الطاعة للقائد الأعلى للجيش في ساحة القتال، ويكفي الإغريق الذين يقفون الآن أمام طروادة كجيش موحد، يكفيهم المرافعة في المجلس كعمل ديموقراطي ولا داعي لها في ساحة القتال.»
وعلى ذلك فما زلنا نجد النظام القديم للفروع والأخوَّات والقبائل في عُنفوانه لدى إغريق العصر البطولي، ولكنه كان في بداية زواله؛ فإن الانتساب للأب وجمع الثروات الطائلة بقصد توريثها للأبناء، والاختلاف في الثروة الذي خلق الخطوط الأولى للأرستقراطية الوراثية والملكية، والرِّق الذي كان أول أمره محددًا بأسرى الحرب ثم مهَّد الطريق لاستعباد الزملاء في القبيلة وفي السلالة نفسها، وتحوُّل الحروب القديمة بين القبائل إلى غارات منتظمة في البر والبحر، من أجل الاستيلاء على الحيوانات والعبيد والنفائس كوسيلة عادية لكسب العيش، كل ذلك كان سببًا في تمجيد الثروة وتمرد الناس على التنظيمات القبلية القديمة لكي يحللوا لأنفسهم سرقة الثروات بالإكراه. وأصبح المجتمع في حاجة قُصْوَى إلى نظام يحمي الملكية الجديدة للأفراد ضد التقاليد الجماعية القبلية، ويجعل هذه الملكية مقدسة باعتبارها الهدف الأعلى للمجتمع الإنساني، ويديم التقسيم الطبقي للمجتمع، ويحمي حق الطبقة المالكة في استغلال الطبقة التي لا تملك. ومعنى ذلك أن المجتمع الجديد كان في حاجة إلى ظهور سلطة الدولة. وهكذا اختُرعت الدولة.