تكوين الدولة عند الألمان
وبعد الاستقرار في ألمانيا لا بد أن التعدد قد ازداد بسرعة متزايدة، ويُعتبر التقدم الصناعي السابق ذكره دليلًا كافيًا على ذلك. وترجع الأشياء التي وُجدت في مستنقعات متشلويج إلى القرن الثالث الميلادي؛ لأن العملة الرومانية التي وُجدت معها تعود إلى ذلك الوقت. وعلى ذلك ففي ذلك الوقت كانت صناعة المعادن والنسيج متطورة عند بحر البلطيق، وكانت هناك تجارة نشطة مع الإمبراطورية الرومانية، وكانت الطبقة الغنية تنعم بالرفاهية، وكل ذلك يدل على كثافة السكان. وفي هذا الوقت بدأ الألمان هجومهم على طول خط نهر الرين والحدود الرومانية ونهر الدانوب، وهو خط يمتد من بحر الشمال إلى البحر الأسود، ويُعتبر دليلًا مباشرًا على الزيادة المستمرة في عدد السكان. وفي خلال القرون الثلاثة للصراع كانت كل شعوب الغال الرئيسية (مع استثناء الغال الإسكندنافيين والبورجونديين) تتحرك تجاه الجنوب الشرقي مكونة الجناح الشمالي لخط الهجوم الطويل، واندفع سكان ألمانيا العليا (الهرمينونيانز) إلى منتصف هذا الخط في منطقة الدانوب الأعلى، واندفع الإستايفونيون — الذين أصبحوا يُسمَّوْن الفرانك — إلى الجناح الأيمن على طول نهر الرين، وفتح الإنجايفونيون بريطانيا. وفي نهاية القرن الخامس رقدت الإمبراطورية الرومانية مرهقة عاجزة مفتوحة الأبواب أمام الألمان.
وقد وقفنا في الفصول السابقة عند مهد المدنية الإغريقية والرومانية القديمة، ونقف الآن عند قبرها؛ فإن السطح المستوي لسلطة العالم الروماني امتد لمدة قرون على كل بلاد البحر الأبيض المتوسط. ولم تُبْدِ اللغة الإغريقية أي مقاومة، وحلَّت اللغة اللاتينية العامة محل كل اللغات القومية. ولم يعُد هناك أي تمييز بين القوميات، فلم يعُد هناك غال وأيبيريين وليجوريين ونوريكان؛ فقد أصبح الكل رومانيين. وقد حلَّت القوانين الرومانية والحكم الروماني في مكان تنظيمات روابط الدم القديمة؛ فسحقت بذلك آخر آثار القومية الإقليمية.
ولم يستطع هؤلاء المندمجون الجدد في روما تعويض هذه الخسارة لأنها لم تعبِّر عن أي قومية بل عن نقص القومية. وكانت عناصر تكوين أمم جديدة موجودة في كل مكان. وازداد الاختلاف بين اللهجات اللاتينية في الأقاليم المختلفة. وكانت الحدود الطبيعية التي جعلت من إيطاليا والغال وإسبانيا وإفريقيا بلادًا مستقلة فيما مضى لا تزال موجودة ومحسوسة. ومع ذلك فلم تكن هناك قوة قادرة على جمع هذه العناصر في أمم جديدة، ولم يكن هناك كذلك أي أثر لأي مقدرة للنمو أو أي قوة للمقاومة، وأقل من ذلك بالنسبة للقوة الخالقة. وكانت الكتلة البشرية الضخمة في هذه الأقاليم الفسيحة مرتبطة مع بعضها برِباط واحد هو الدولة الرومانية التي أصبحت بمرور الوقت أسوأ أعدائها المستبدين. وقد حطمت هذه الأقاليم روما، وأصبحت روما نفسها مدينة إقليمية مثل غيرها من المدن الممتازة، ولكن لم تعُد حاكمة، ولم تعُد قلب إمبراطورية العالم، ولم تعُد حتى مقر الأباطرة ونوابهم الذين عاشوا في القسطنطينية وتورنتو وميلانو. لقد أصبحت الدولة الرومانية آلة ضخمة معقدة قائمة لاستغلال أعضائها فقط، وزادت الضرائب والخدمات المقدمة للدولة والمصادرات في إثقال كاهل الجماهير، وكان الاستبداد الصارخ من جامعي الضرائب والجنود وممثلي الدولة سببًا في أن الضغط لم يعُد محتملًا.
هذه هي النهاية التي وصلت إليها الدولة الرومانية وسيطرتها العالمية؛ فقد أقامت حقها في البقاء على المحافظة على النظام في الداخل وحماية الإمبراطورية ضد المتبربرين في الخارج. ولكن نظامها كان أسوأ من أسوأ فوضى، وأسوأ من البرابرة الذين تعمدت الدولة حماية مواطنيها منهم، ونظر المواطنون إلى البرابرة على أنهم منقذوهم من روما.
ولم تكن الظروف الاجتماعية أقل سوءًا من الظروف السياسية؛ ففي أواخر سنوات الجمهورية قام الحكم الروماني على الاستغلال القاسي للولايات الخاضعة، ولم يلغِ الأباطرة هذا الاستغلال بل جعلوه شيئًا عاديًّا. وكلما كانت الإمبراطورية تزداد اقترابًا من الفناء كانت الضرائب والخدمات الإجبارية تزداد، وكان الرسميون يسرقون الشعب في غير حياء. ولم يشتغل الرومان أبدًا بالتجارة والصناعة بل كانتا عمل الشعوب التابعة، ولكن الرومان فاقوا في الربا كل من سبقهم ومن جاء بعدهم.
وقضى إرهاق الحكومة على التجارة التي وُجدت وعملت للمحافظة على نفسها لفترة من الوقت، وما بقي منها كان في الشرق في القسم الإغريقي من الإمبراطورية. وساد الفقر كل أرجاء الإمبراطورية وانحطت الزراعة؛ وكان كل ذلك هو نتيجة السيادة الرومانية للعالم.
ولم تعُد تجارة الرقيق مربحة ولذلك ماتت. ولكن الرق الذي انتهى ترك خلف لذعاته السامة عمل الأحرار الإنتاجي. وكان هذا هو الطريق الأعمى الذي اندفع فيه العالم الروماني؛ فقد أصبح مستحيلًا من الناحية الاقتصادية، بينما كان عمل الأحرار عارًا من الناحية الأدبية. أي لم يستطع عمل العبيد أن يستمر، ولم يستطع عمل الأحرار أن يصبح بعد الشكل الأساسي للإنتاج في المجتمع، ولم تكن تنفع في هذا المجال سوى ثورة كاملة.
كان صاحب السلطان يضع للفلاحين شروط نقل ملكية أرضهم إليه، وفي مقابل ذلك يمنحهم حق استغلال هذه الأرض مدى حياتهم، وهي حيلة تذكرتها الكنيسة المقدسة وطبَّقتها في القرنين التاسع والعاشر في سبيل عظمة الإله وتوسيع رقعة ملكيتها. وفي ذلك الوقت حوالي سنة ٤٧٥ استنكر الأسقف سلفيانوس أسقف مرسيليا بشدة هذه السرقة، وأعلن أن استبداد الرسميين الرومان وكبار ملاك الأرض أصبح غير محتمل؛ لدرجة أن كثيرًا من الرومان هربوا إلى المناطق التي يقطنها المتبربرون، وأن المواطنين الرومان لم يكونوا يخالفون شيئًا أكثر من وقوعهم ثانيةً في قبضة الحكم الروماني. وكان كثير من الآباء المساكين يبيعون أطفالهم كرقيق في ذلك الوقت، ويؤيد ذلك صدور قانون يمنع هذا البيع.
ولكي يمكن تحرير الرومان من دولتهم نفسها استولى المتبربرون الألمان على ثلثي الأرض كلها وقسموها فيما بينهم. وقد تم التقسيم طبقًا للنظام القبلي القديم. ولما كان عدد الألمان المنتصرين صغيرًا نسبيًّا فقد بقيت أراضي واسعة دون تقسيم، ودخل جزء منها في ملكية الشعب كله، وجزء آخر في ملكية القبائل والفروع.
وفي كل سلالة قُسمت الأراضي والمراعي بين العائلات إلى أقسام متساوية المساحة، ولا نعلم إذا كانت إعادة التقسيم دوريًّا كانت تُجرى في ذلك الوقت أم لا. وعلى أي حال فقد أُوقف هذا التقسيم على وجه السرعة في الأقاليم الرومانية، وأصبحت هذه الأقسام ملكية خاصة مطلقة. وظلت الغابات والمراعي دون تقسيم لاستعمال الكافة، ونظمت هذا الاستعمال مع طريقة زراعة الأرض عادات قديمة مع رغبة المجتمع كله. وبقدر ما ظلت السلالات موجودة في القرى، وبقدر ما هاجر الألمان والرومان بمرور الوقت، بقدر ما تراجعت روابط الدم أمام الروابط الإقليمية.
واختفت السلالة في مجتمعات المارك التي كانت فيها آثار واضحة للقرابة الأصلية بين الأعضاء. وعلى ذلك فقد تحوَّل النظام القبلي إلى نظام إقليمي (على الأقل في بلاد اتحادات المارك وفي شمال فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإسكندناوة) وأصبح لذلك صالحًا للبقاء في الدولة. ومع ذلك فقد تحطم الطابع الديموقراطي الطبيعي الذي يميز النظام القبلي كله، واحتفظت الدولة بجزء من النظام القبلي في انحطاطه، وقام النظام الإقليمي على أنقاضه فيما بعد تاركًا سلاحًا في أيدي الخاضعين، سلاحًا معدًّا للاستعمال في العصر الحديث.
وكان الاختفاء السريع لروابط الدم في السلالة راجعًا إلى أن تنظيماتها في القبيلة وفي الشعب كله قد انحطت بدورها نتيجة الغزو. ونحن نعلم أن حكم الشعوب الخاضعة لا يتفق مع النظام القبلي، ونرى هنا هذه الحقيقة على نطاق واسع، وقد كان على الشعوب الألمانية التي أصبحت سيدة الأقاليم الرومانية أن تُنظم غزواتها. ولما لم يكن ممكنًا إدماج الكتل الرومانية في التنظيمات القبلية أو حكمها بمساعدة هذه التنظيمات، كان من الضروري إحلال سلطة أخرى محل السلطة الحكومية الرومانية التي استمرت موجودة أول الأمر، ولم يكن ممكنًا أن تكون هذه السلطة الأخرى سوى دولة أخرى. وعلى ذلك فقد كان من الضروري تحويل أجهزة التنظيم القبلي إلى أجهزة للدولة؛ ونظرًا لضغط الظروف كان من الضروري أن يتم ذلك سريعًا.
وكان أول ممثل للشعب المنتصر هو القائد العسكري. وكانت السلامة الداخلية والخارجية للأراضي المفتوحة تتطلب أن تزداد سلطة القائد العسكري. ووصلت اللحظة التي تحوَّل فيها القائد العسكري إلى ملِك، وقد تم ذلك فعلًا.
ولم يكن هذا هو كل شيء؛ فإن الإمبراطورية النامية لم يكن ممكنًا حكمها بوسائل الدستور القبلي القديم. فمجلس الرؤساء لم يكن ممكنًا جمعه ولو لم يُلغَ منذ وقت طويل؛ فاستُبدل على الفور بحاشية الملك الدائمة. أما الجمعية الشعبية القديمة فكانت موجودة اسميًّا ولكنها تحولت شيئًا فشيئًا إلى جمعية لقادة الجيش والنبلاء الجدد. أما مُلاك الأراضي من الفلاحين الأحرار وكتلة شعب الفرانك فقد أُرهقت وافتقرت؛ نتيجة الحروب الأهلية المستمرة والغزوات، خصوصًا تحت حكم شرلمان، كما حدث للفلاحين الرومان خلال الفترة الأخيرة من الجمهورية. وهؤلاء الفلاحون الذين كانوا يكوِّنون في الأصل الجيش كله وأصبحوا شعب فرنسا بعد فتح أراضيها، كانوا في أشد الفقر في بداية القرن التاسع؛ لدرجة أن واحدًا من كل خمسين كان يستطيع بالكاد أن يقوم بتجهيزات الحرب.
- أولًا: أن توزيع الملكية في الإمبراطورية الرومانية المنتهية كان متعلقًا بالمرحلة الإنتاجية التي كانت سائدة حينئذٍ في الزراعة والصناعة وأن هذا التوزيع كان لا يمكن تجنبه.
- ثانيًا: أن هذه المرحلة الإنتاجية لم تنحَطَّ أو ترتفع إلى مرحلة أعلى في مدى الأربعمِائة عام التالية لبدئها؛ ولذلك سببت بالضرورة نفس التوزيع للملكية ونفس التقسيم الطبقي للشعب. وفي خلال القرون الأخيرة للإمبراطورية الرومانية فقدت المدن تفوُّقها على الريف، ولم تَستعِدْ مكانتها خلال القرون الأولى للحكم الألماني.
وهذا الوضع يفترض وجود مرحلة منحطة من الزراعة والصناعة، ومثل هذه الظروف العامة لا بد أن تؤديَ إلى وجود ملاك كبار حاكمين وفلاحين صغار خاضعين. وقد أثبتت تجارِب شارلمان في إقطاعاته الملكية الشاسعة التي انقرضت دون أن تترك أثرًا يُذكر، أثبتت هذه التجارِب أنه من المستحيل أن يقوم أحد هذين النظامين في مثل المجتمع الذي كان موجودًا حينئذٍ. فتجارِب شارلمان لم يكملها إلا الرهبان ولم تكن مثمرة إلا لهم، ولكن نظام الرهبان كان نظامًا اجتماعيًّا غير عادي مبني على العزوبة وعدم الزواج، وكان في استطاعة الرهبان أن يفعلوا الاستثناءات والشواذ؛ ولذلك ظل نظامهم استثنائيًّا شاذًّا.
والواقع أن الألمان أقاموا حياة جديدة في أوربا؛ وهذا هو السبب في أن تحلل الدول في العهد الألماني انتهى، لا بإخضاع النرويجيين والمسلمين، ولكن بالتطور من الملكية اللاهوتية إلى النظام الإقطاعي مع زيادة هائلة في السكان؛ لدرجة أن الفيضان الدموي الذي سبَّبه الصليبيون لمدة قرنين من الزمان استطاعت أوربا احتماله دون صعوبة.
فماذا كانت القوة الغامضة التي نفث الألمان بها حيوية جديدة في أوربا الميتة؟ هل كانت القوة السحرية الطبيعية للجنس الألماني كما يزعم مؤرخونا الوطنيون؟! لم يكن ذلك قطعًا هو السبب. صحيح أن الألمان كانوا قبيلة آرية راقية في كامل نموها وخاصةً في ذلك الوقت، ولكن لم تكن مقدرتهم الوطنية الخاصة هي التي دفعت القوة في أوربا، وإنما كان الدافع ببساطة هو مرحلة البربرية التي كانوا فيها ونظامهم القبلي.
فمقدرتهم الشخصية وشجاعتهم وحبهم للحرية وغريزتهم الديمقراطية التي كانت تعتبر كل الشئون العامة شئونها الخاصة، وباختصار كل هذه المؤهلات التي فقدها الرومان، والتي كانت وحدَها قادرة على تكوين «دولة جديدة ورفع قوميات جديدة من حضيض العالم الروماني»، كل هذه المؤهلات كانت الصفات المميزة للبربرية في مرحلتها العليا، وكانت ثمرة النظام القبلي.
وقد مكَّنتهم هذه البربرية من تحويل الشكل القديم للزواج، والتخفيف من حدَّة حكم الرجل في العائلة، ورفع شأن المرأة لدرجة لم يعرفها العالم القديم. كما مكَّنتهم من ذلك عاداتهم القبلية والميراث المتبقي منذ أيام الانتساب للأم.
وإذا كانوا قادرين على الأقل في ثلاثة من أكثر الأقطار أهمية، وهي ألمانيا وشمال فرنسا وإنجلترا، إذا كانوا قادرين في هذه البلاد أن يحملوا إلى الدولة الإقطاعية قطعة من الدستور الحقيقي في شكل مجتمعات المارك؛ فقد أعطَوْا بذلك للطبقة الخاضعة من الفلاحين الاتحاد الإقليمي (حتى تحت أسوأ ظروف نظام رقيق الأرض الإقطاعي) ووسائل المقاومة التي لم تتوفر لعبيد النظم القديمة أو عمال العصر الحديث. وتعود قدرة الألمان هذه إلى مرحلة البربرية التي كانوا فيها وطريقتهم البربرية في الاستقرار في فروع.
وأخيرًا فقد استطاع الألمان تنمية وتعميم الشكل المخفف لنظام رقيق الأرض الذي كانوا يمارسونه في بلادهم، والذي عمل تدريجيًّا على إلغاء الرق في الإمبراطورية الرومانية. وكان هذا الشكل — كما يقول فوريير — يعطي للمستعبَدين وسائل التحرر التدريجي كهبة؛ وهو لذلك نظام أرقى بكثير من الرق، كما يسمح بتحرير الأفراد دون أي مرحلة انتقالية (لم يعرف التاريخ القديم أي إلغاء للرق نتيجة ثورة ناجحة)، وقد حصل رقيق الأرض في العصور الوسطى على تحريرهم كطبة لدى الألمان، ويرجع الفضل في ذلك — كما سبق — إلى بربريتهم التي يرجع الفضل إليها في أنهم لم يصلوا إلى الاسترقاق الكامل، سواء في شكل العمل العبيدي القديم أو عبيد المنازل في الشرق.
وعلى ذلك فكل الحيوية التي جلبها الألمان للعالم الروماني تعود للبربرية؛ فالبربريون هم وحدهم القادرون على بعث الحياة في حضارة ميتة، وقد كانت المرحلة العليا للبربرية التي شق الألمان طريقهم إليها وخلالها قبل هجرة الشعوب أحسن مَثل ذلك. ولعل في ذلك تفسيرًا لكل شيء.