معجزة مون كريسينت
كان الغرض من مون كريسينت أنْ تعكس الطابع الخيالي بشكلٍ ما كما يُوحي اسمُها، وكانت الأحداث التي وقعت بها خيالية بطريقتها الخاصة. كانت البناية على الأقل يبدو فيها عنصر الإحساس الصادق — التاريخي الذي يكاد يكون بطوليًّا — الذي استطاع أن يظل مُرافقًا للعنصر التجاري في المدن الأقدم على الساحل الشرقي لأمريكا. وكانت البناية في الأصل على شكل هلال من العمارة الكلاسيكية التي تُعيد إلى الأذهان حقًّا أجواء القرن الثامن عشر الذي كان فيه رجالٌ مثل واشنطن وجيفرسون يتبنَّون التوجُّه الجمهوري أكثر لأنهم ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية. كان مفهومًا أن المسافرين الذين كثيرًا ما يُسألون عن رأيهم في مدينتنا إنما عليهم التعبير عن رأيهم في بناية مون كريسينت على وجه الخصوص. إنَّ أوجه التناقض التي تُشوِّش على أوجه التناغم المُبتكَر في البناية كانت من السمات المميِّزة لبقائها؛ فعند أحد طرفَي الهلال كانت النوافذ الأخيرة تُطلُّ على حيز مُسيَّج يبدو كقطاع من حديقة لأحد النبلاء، بها أشجار وأسيجة مماثلة في درجة الرسمية لحديقة الملكة آن، ولكن عند منحنى الهلال مباشرةً كانت النوافذ الأخرى حتى للغُرف — أو بالأحرى «الشُّقق» — نفسها تُطلُّ على الجدار الخالي القبيح المظهر لمستودع ضخم ملحق بمصنع قبيح. كانت شُقق مون كريسينت السكنية نفسها في هذا الجانب قد أُعيد تشكيلها على غِرار النمط الرتيب للفنادق الأمريكية، وبلغت ارتفاعًا يمكن أن يُقال عنها به إنها قد أصبحت ناطحة سحاب في لندن، رغم أنها كانت لا تزال أقل ارتفاعًا من المستودع الضخم، لكن صف الأعمدة الذي كان يطوِّق واجهة البناية كلها على الشارع كان رماديًّا ويتمتع بشيءٍ من الفخامة التي لوَّثتها العوامل الجوية، مما يوحي أن أشباح الآباء المؤسِّسين للجمهورية ربما كانوا لا يزالون يتجوَّلون خلاله. أما الغُرف من الداخل فكانت أنيقة وجديدة على أحدث طراز في نيويورك، خاصةً عند الجانب الشمالي من البناية بين الحديقة الأنيقة والجدار الخالي للمستودع. كانت البناية عبارة عن مجموعة من الشقق السكنية الصغيرة جدًّا، التي تتكوَّن كلُّ شقة منها من غرفة جلوس، وغرفة نوم وحمام، والتي تتطابق جميعها كما لو كانت عيون خليةِ نحلٍ. وفي شقة من تلك الشقق، كان وارين ويند الشهير يجلس إلى مكتبه يفرز الخطابات وينطق بالأوامر بسرعة ودقة مُذهلتَين، فكان أشبه بعاصفة تتَّبع نهجًا منظمًا.
كان وارين ويند رجلًا ضئيل الحجم جدًّا، له شعرٌ رمادي مسترسل، وذقنٌ مُستدقٌّ، وكان يبدو ضعيفًا، ولكنه كان يتمتع بدرجة كبيرة من النشاط. كانت عيناه في غاية الروعة، وكانتا تلمعان أكثر من النجوم وتتمتعان بقوة جذبٍ أكبر من المغناطيس؛ بحيث لا يستطيع المرء نسيانهما بسهولة عند رؤيتهما. وفي الواقع، فإنَّه في عمله كمُصلحٍ ومُنظِّم للكثير من الأعمال الجيدة، قد أثبتَ أنه يمتلك عينين أخريين في رأسه؛ فقد قيل عنه الكثير من القصص وحتى الأساطير التي تحكي عن سرعته المذهلة في إصدار أحكام سليمة، خاصةً على شخصيات البشر. ويُقال إنه اختار زوجته — التي عملت معه لمدة طويلة أظهرت خلالها قدرًا كبيرًا من التسامُح وحُبِّ الخير — عن طريق انتقائها من بين مجموعة من النساء كُن يرتدين زيًّا مُوحَّدًا ويَسرن في احتفالٍ رسمي؛ قال البعضُ إنهن كُنَّ يتبعْنَ فتيات الكشَّافة، وقال البعض الآخر إنهن كنَّ من عناصر الشرطة النسائية. وذاعت قصةٌ أخرى عن ثلاثة من المتشردين المتسولين، الذين لا يمكن التمييز بينهم؛ وذلك لتماثلهم فيما يرتدون من خِرق بالية وما يبدون عليه من قذارة، والذين قدَّموا أنفسهم له طالبين منه إحسانًا. ومن دون لحظة تردُّد منه، أرسل أحدهم لمستشفى مخصَّص لعلاج أحد الاضطرابات العصبية، وأوصى بالآخر دارًا لعلاج مدمني الخمور، وجعل الثالث خادمه الخاص وخصَّص له راتبًا سخيًّا، وظلَّ الخادم في خدمته لسنواتٍ طويلة بعدها. وكانت هناك بالطبع حكاياتٌ عن نوادره المتعلِّقة بانتقاده الحاد وسرعة بديهته الفظَّة حين كان يتواصل مع شخصياتٍ مثل الرئيس روزفلت وهنري فورد والسيدة أسكويث وغيرها من الشخصيات التي كان ينبغي على رجل أمريكي ذي شعبية أن يجري معهم لقاءات تاريخية في تلك الآونة، حتى ولو كانت على صفحات الجرائد فقط. لم يكن بالتأكيد ليشعر بالرهبة من لقاء مثل تلك الشخصيات، وفي اللحظة التي نتناولها الآن، استمر وارين ويند بهدوء تام فيما كان يقوم به، وسط عاصفة من الأوراق، على الرغم من أن الرجل الذي كان يمثُل أمامه لا يقل أهمية عن تلك الشخصيات التي ذكرناها.
كان سايلاس تي فاندام — المليونير وقُطب صناعة البترول — رجلًا نحيلًا ذا وجه طويل أصفر اللون وشعر أسود ضارب إلى الزُّرقة، وكانت تلك الألوان غير ظاهرة بوضوح، لكنها كانت تنذر بالسوء بعض الشيء لأن وجهه وجسده بدَوَا قاتمَين في مقابل النافذة ومن خلفها جدار المستودع الأبيض؛ كان يرتدي معطفًا طويلًا أنيقًا مزرَّرًا حتى آخره به شرائط من الفرو. أما وجه ويند الذي تبدو عليه الحماسة وعيناه اللامعتان، على الجانب الآخر، فكانا في مواجهة الضوء الساطع القادم من النافذة الأخرى التي تُطل على الحديقة الصغيرة، حيث كان مكتبه وكرسيه يواجهان تلك النافذة، وعلى الرغم من أنه كان يبدو مشغولًا، فإنه كان غير مهتم بالمليونير الماثل أمامه على نحوٍ غير مراعٍ للرسميات. وكان وصيف ويند أو خادمه الخاص — وهو رجل ضخم الجثة قوي البنية له شعر أشقر مسترسل — يقف خلف مكتبه ويُمسك بحزمة من الخطابات، وكان سكرتير ويند الخاص — وهو شابٌّ أنيق ذو شعر أحمر وملامح حادة — يقف عند الباب ويمسك بمقبضه، كما لو كان يُخمِّن غايةً ما لرب عمله أو يطيع إيماءةً له. لم تكن الغرفة مرتَّبةً فقط، وإنما كانت أيضًا خالية من أيِّ زينة لدرجة أنها تبدو خالية؛ لأن ويند، بما يتَّسم به من دقةٍ بالغة، استأجر الطابق الأعلى بأكمله وحوَّله إلى مخزن أو مستودع؛ حيث خزَّن فيه كل أوراقه وممتلكاته الأخرى في صناديق ورُزم ضخمة مربوطة بحبال.
قال ويند لخادمه الذي يُمسك بالخطابات: «أعطِ هذه إلى موظف الطابق يا ويلسون، ثم اجلب لي نشرة النوادي الليلية لمنيابوليس، ستجدها في الرزمة التي تحمل الحرف «و». سأحتاجها في غضون نصف ساعة، ولكن لا تُزعجني بشيءٍ قبل ذلك. حسنًا سيد فاندام، أعتقد أن اقتراحك يبدو واعدًا للغاية، ولكن لا يمكنني أن أُجيبك إجابةً وافيةً حتى أرى التقرير. ومن المقرَّر أن يصلني غدًا عصرًا، وسأُهاتفك على الفور حالما أطَّلع عليه. آسف، لا يمكنني أن أقول شيئًا أكثر تحديدًا الآن.»
شعر السيد فاندام بأنَّ ما قاله ويند يبدو وكأنه دعوة مهذبة لأن يغادر؛ وأوحت ملامح وجهه الشاحبة والساخرة بأنه استشعر بعض السخرية فيما قيل.
قال السيد فاندام: «حسنًا، أعتقد أنه ينبغي عليَّ أن أغادر.»
قال ويند بطريقةٍ مُهذَّبة: «أشكرك على الحضور يا سيد فاندام، واعذرني على عدم مرافقتي لك في خروجك، فبيدي هنا شيءٌ ينبغي أن أعيره كامل تركيزي في الحال.» ثم أكمل موجِّهًا حديثه إلى السكرتير قائلًا: «يا فينير، رافق السيد فاندام إلى سيارته، ولا تعد قبل مرور نصف ساعة. فبيدي شيء ينبغي أن أنجزه بنفسي، وبعدها سأحتاجك.»
خرج الرجال الثلاثة إلى الممر الخارجي معًا، وأغلقوا الباب خلفهم. كان ويلسون الخادم الضخم الجثة يسير في اتجاه الموظف الذي طلب منه الذهاب إليه، بينما كان الرجلان الآخران يسلكان الاتجاه المعاكس نحو المصعد لأن شقة ويند كانت في الطابق الرابع عشر. ولم يكد الرجلان يكونان على مسافة ياردة من الباب المغلق حتى أدركا وجود شخص ضخم يمشي نحوهما ويكاد يسد عليهما الممر. كان الرجل فارع الطول وعريض المنكبين، وكانت كتلة جسده واضحةً للغاية لأنه كان يرتدي ملابس بيضاء اللون، أو ربما كان لونها رماديًّا فاتحًا يبدو وكأنه أبيض، وكان يرتدي قبعةً بيضاء وعريضة للغاية من طراز بنما، وكان له هالة أو حواف من شعرٍ أبيض اللون بنفس لون القبعة. كان وجه الرجل في هذه الهالة يبدو عليه ملامح القوة والوسامة، كما لو كان أحد الأباطرة الرومان، باستثناء أن بريق عينيه والغِبطة التي تبدو في ابتسامته كانا يوحيان بشيء صبياني أو بشيءٍ يميل أكثر إلى الطفولية. سأل الرجل بنبرة ودية: «هل السيد وارين ويند بالداخل؟»
قال فينير: «السيد وارين ويند مشغول الآن، ولا يريد أن يُزعجه أحد مطلقًا. أنا السكرتير الخاص به ويمكنك أن تبلِّغني بأي رسالة له.»
قال فاندام، قُطب صناعة البترول، في سخرية مريرة: «السيد وارين ويند ليس لديه متسعٌ من الوقت لاستقبال زوَّار له، حتى ولو كان البابا نفسه أو أحد الملوك. السيد وارين ويند شخصية استثنائية صارمة. لقد دخلتُ عليه لأُسلِّمه مبلغًا ضئيلًا من المال يبلغ عشرين ألف دولار وفق شروط معينة، وطلب مني أن أعاود الاتصال به وكأنني صبي المراسلة في أحد الفنادق.»
قال الرجل الغريب: «من الجيد أن تكون صبيًّا، ومن الأفضل أن تكون لديك مهمة؛ وأنا لديَّ مهمة له ينبغي أن ينظر فيها. إنها مهمة متعلقة بذلك البلد الرائع العظيم الذي في الغرب، ذلك البلد الذي يُصنَع فيه الأمريكي الحقيقي بينما تغطُّون جميعًا في نومكم هنا. فقط أخبره أنني آرت ألبوين من مدينة أوكلاهوما سيتي وقد أتيت إليه لأدخله في الدِّين الجديد.»
قال السكرتير ذو الشعر الأحمر بنبرةٍ حادة: «لقد قلت لك إنه لا يستطيع أن يقابل أحدًا. لقد أعطى أوامر بألَّا يزعجه أحد لمدة نصف ساعة.»
قال السيد ألبوين المرِح: «أنتم جميعًا هنا في الشرق لا تحبون أن يُزعجكم أحد، ولكني أظن أن هناك شيئًا كبيرًا يتنامى في الغرب سيُسبب لكم الإزعاج. إنه يقرر مقدار المال الذي ينبغي أن يُخصَّص لهذا الغرض ولتلك العقيدة الدينية البائدة المضجرة؛ ولكني أخبركما أن أي برنامج يستبعد حركة الروح العظيمة الجديدة في تكساس وأوكلاهوما فإنه بذلك يستبعد العقيدة الدينية المستقبلية.»
قال المليونير بازدراء: «أوه، لقد أخضعت تلك العقائد الدينية الجديدة للتقييم وتفحَّصتها بدقة بالغة، ووجدت أنها جرباء كالكلاب الصفراء. كانت هناك تلك المرأة التي تقول بأن اسمها صوفيا، وأعتقد أنها كان حريًّا بها أن تُطلقَ على نفسها لقب سفيرة. إنها محتالة ومخادعة وتلعب على كل الحبال. ثم هناك مجموعة الحياة الخفية؛ لقد قالوا إن باستطاعتهم أن يختفوا متى رغبوا في ذلك، وقد اختفوا بالفعل ولكن اختفى معهم مائة ألف دولار من أموالي. وتعرفت إلى جوبيرتر جيسوس في دينفر، وظللت أقابله لأسابيع متواصلة، واكتشفت أنه محتال معروف. وكذلك كان العرَّاف الباتاجوني، وأراهن بأنه هرب إلى منطقة باتاجونيا التي ينتمي إليها. لا، لقد اكتفيت من كل ذلك؛ ومن الآن فصاعدًا لن أومن إلا بما أراه بعينيَّ. أعتقد أن هذا هو ما يُطلقون عليه الإلحاد.»
قال الرجل القادم من أوكلاهوما بحماسةٍ وشغف: «أعتقد أنك فهمت كلامي خطأً. إنني ملحد بقدر ما أنت ملحد أيضًا. ليس هناك أي شيء خارق للطبيعة أو خرافي في حركتنا؛ وإنما العلم فقط. والعلم الحقيقي الصحيح الوحيد هو الصحة، والصحة الحقيقية الوحيدة والصحيحة هي التنفس. املأْ رئتيك بهواء البراري الطلق ويمكنك أن تنفخ في كل مُدنك الشرقية القديمة فتبعثرها في البحر. ويمكنك أن تنفخ في أكبر الرجال بها فيتطايرون كزغب الشوك. هذا هو ما نفعله في الحركة الجديدة في موطننا، إننا نتنفس. إننا لا نُصلي، وإنما نتنفس فقط.»
قال السكرتير في ضجر: «حسنًا، أظن أنكم تفعلون ذلك.» كان وجهه متوقدًا متألقًا فكان من الصعب أن يُخفي شعوره بالضجر، ولكنه استمع إلى حديث الرجلين في صبر وأدب مدهشَين (وهذا يتعارض كثيرًا مع روايات نفاد الصبر والوقاحة المزعومة) وهما صفتان تُميِّزان عملية الاستماع لمثل هذه الأحاديث في أمريكا.
استطرد ألبوين: «ليس هناك شيء خارق للطبيعة، إنما فقط الحقيقة الطبيعية العظيمة والتي تقف وراء كل الأوهام الخارقة للطبيعة. ماذا أراد اليهود من إلههم سوى أن ينفث في الإنسان روح الحياة؟ إننا في أوكلاهوما نقوم بهذه العملية بأنفسنا. ما معنى كلمة الروح؟ إنها الكلمة اليونانية التي تعني ممارسة التنفس. إن الحياة، والتقدم، والتنبؤ؛ كلها أمور مرتبطة بالتنفس.»
قال فاندام: «قد يقول البعض بأن كل هذا هراء، ولكني سعيد بأنكم تخلَّصتم من مسألة الألوهية، على كل حال.»
كان وجه السكرتير المتوقِّد، الشاحب بعض الشيء مقارنةً بشَعْره الأحمر، قد ظهرت عليه لمحة من شعور غريب يوحي بإحساسٍ خفي بالمرارة.
وقال: «أنا لست سعيدًا بذلك، وأنا متأكد تمامًا من ذلك. يبدو أنكما تُفضِّلان أن تكونا ملحدَين حتى تستطيعا الإيمان بما ترغبان في الإيمان به، ولكني أتمنَّى من الرب أن يكون هناك إله؛ ولكن ليس هناك إله. إنه حظي.»
دون صوت أو حركة، وفي شيء من خوف، أدركوا جميعًا في تلك اللحظة أن الجَمْع الواقف خارج باب شقة السيد ويند قد زاد عدده في صمتٍ من ثلاثة إلى أربعة. لم يكن أحد هؤلاء المتجادلين الجديين يستطيع أن يُحدِّد مدة وقوف الشخص الرابع بجوارهم، ولكنه بدا عليه وكأنه ينتظر في احترام بل في حياء أيضًا حتى تَحِينَ له فرصة أن يقول شيئًا عاجلًا، ولكن بسبب عصبيتهم، بدا هذا الشخص وكأنه انبثق في مكانه فجأةً وفي سكون مثل فُطر عيش الغراب. وبكل تأكيد، كان الرجل في مظهره يبدو وكأنه فطر عيش غراب أسود كبير؛ لأنه كان قصيرًا نوعًا ما، وكانت قبعته السوداء الكبيرة الخاصة بالقساوسة تبرز جسده المكتنز. وكان التشابه بينه وبين فطر عيش الغراب سيكتمل لو كان الفطر لديه عادة الإمساك بمظلة، حتى ولو كانت رديئة النوع وقبيحة الشكل.
كان فينير السكرتير قد انتبه لمفاجأة إضافية غريبة حين أدركَ أن الرجل الواقف كان قَسًّا، ولكن عندما رفع القس وجهه المستدير الذي كان تحت قبعته المستديرة وسأله في براءة عن السيد وارين ويند، أجابه الإجابة المعتادة ولكن باقتضاب أكبر من ذي قبل، ولكن القس كان مصرًّا.
قال القس: «إنني أريد أن أُقابل السيد ويند. قد يبدو الأمر غريبًا ولكن هذا هو ما أريده بالتحديد. إني أرغب في التحدث إليه. أريد أن أقابله فقط. أريد أن أرى إن كان موجودًا وأستطيع مقابلته.»
قال فينير وقد بدأ شعوره بالانزعاج يزداد: «حسنًا، أنا أخبرك بأنه موجود ولكنك لا تستطيع مقابلته. ماذا تقصد بقولك إنك تريد أن ترى ما إن كان موجودًا وتستطيع مقابلته؟ بالطبع هو موجود. لقد تركناه جميعًا قبل خمس دقائق، ونحن نقف أمام هذا الباب منذ ذاك الحين.»
قال القس: «حسنًا، أريد أن أرى ما إن كان على ما يُرام.»
سأله السكرتير بحدة وغضب: «لماذا؟» أجابه القس بجِديَّة: «لأن لديَّ سببًا جادًّا، وربما يمكنني القول بأنه مقدس، يدفعني للشك في أنه على ما يرام.»
صاح فاندام في شيءٍ من الغضب: «أوه، يا إلهي! لا لمزيد من الخرافات.»
قال القس القصير القامة في قلقٍ: «أرى أنه ينبغي عليَّ أن أخبركم بأسبابي، فأنا أفترض أنكم لن تدعوني حتى أنظر من ثقب الباب حتى أخبركم بالقصة كلها.» صمتَ للحظة وكأنه كان يفكر، ثم أكمل حديثه من دون أن يلتفت إلى الأوجه التي تلتف حوله والتي ملأتها الحيرة. وقال: «كنت أسير في الخارج بطول صف الأعمدة التي في واجهة البناية حين رأيت رجلًا رثَّ الثياب وهو يركض بسرعة عند الزاوية في نهاية الهلال. كان يجري بقوة بطول الرصيف وهو يتوجَّه نحوي، فرأيت أن جسده نحيل طويل وكان وجهه مألوفًا لي. كان الرجل رفيقًا أيرلنديًّا جامحًا قدمت له مساعدةً بسيطة ذات مرة، لن أخبركم باسمه. حين رآني الرجل أصابتْه الدهشة وناداني باسمي وقال: «يا إلهي، إنه الأب براون؛ أنت الرجل الوحيد الذي يمكن لوجهه أن يبثَّ فيَّ الرعب اليوم.»
كنت أعرف أنه كان يقوم بشيءٍ ما جامحٍ، ولا أعتقد بأن وجهي بثَّ فيه الرعب على هذا النحو، لأنه سرعان ما أخبرني بما كان يقوم به. ويا له من شيءٍ غريب. سألني ما إن كنت أعرف وارين ويند، وقلت له لا، رغم أني كنت أعرف أنه يقطن هنا في إحدى هذه الشقق العلوية. قال الرجل: «هذا الرجل يعتقد أنه قديس، ولكن إن عرف ما أقوله عنه، فسيكون على استعداد لشنق نفسه.» وظل يكرِّر عبارة «أجل، على استعداد لشنق نفسه.» بطريقةٍ هيستيرية أكثر من مرة. فسألته إن كان قد تسبَّب بأي أذًى لويند، وكانت إجابته غريبة. فقد قال: «لقد أخذت مسدسًا، ولكني لم ألقمه برصاصاتٍ أو أعيرةٍ نارية، وإنما لقمته بلعنة.» وبقدر ما استطعت أن أدرك من الأمر، فإنَّ كل ما فعله كان أنه قد سار في ذلك الزقاق الصغير بين هذه البناية وذلك المستودع، وهو يحمل مسدسًا قديمًا ملقمًا برصاصة فارغة، ثم أطلق النار على الجدار، وكأن هذه الرصاصة ستُسقِط البناية كلَّها. وقال الرجل: «ولكن بينما كنت أُطلق النار، ألقيتُ عليه لعنةً كبيرة، وهي أن تمسكَ عدالةُ الربِّ به من شعر رأسه، وانتقامُ الجحيم من كعبي قدمَيه، ثم يُمزَّق كما تمزَّق يهوذا ثم ينقطع ذكرُه عن هذا العالم.»
لا يهم الآن ما قلته لذلك الرفيق المجنون المسكين؛ فقد ذهب عني وقد هدأ قليلًا، ثم ذهبتُ أنا تجاه الجزء الخلفي من البناية لكي أتحرَّى الأمر. وفي ذلك الزقاق الصغير عند أسفل الجدار كان هناك مسدسٌ صدئٌ عتيق؛ ومعرفتي بالمسدسات كافية لتخبرني بأنه كان ملقمًا بالقليل من البارود، وقد كانت هناك علاماتٌ سوداء للبارود والدخان على الجدار، بل كان هناك علامة حتى لفوهة المسدس، ولكن لم يكن هناك أي ثقبٍ يدل على وجود رصاصة أُطلقت. لم يكن هناك أيُّ أثر للدمار الذي تخلفه الرصاصة على الجدار؛ لم يترك الرجلُ أيَّ أثر لأي شيء، سوى تلك العلامات السوداء وتلك اللعنة السوداء التي ألقى بها؛ ولذا فقد عدت إلى هنا لأسأل عن وارين ويند هذا وأرى إن كان على ما يرام.»
ضحك السكرتير فينير وقال: «يمكنني تسوية هذا الأمر بسرعة. أؤكد لك أنه بخير حال؛ لقد تركناه وكان يكتب شيئًا على مكتبه قبل دقائق قليلة فحسب. كان بمفرده في شقته؛ وهي تقع على ارتفاع مائة قدم من الشارع، وبهذا فلا يمكن أن تصله أيُّ رصاصة، حتى ولو لم تكن رصاصة صديقك فارغة. وليس هناك أي مدخل لهذا المكان سوى هذا الباب، ونحن واقفون أمامه منذ أن تركناه.»
قال الأب براون في جدية: «اعذرني، ولكني أرغب في أن أنظر بالداخل وأطمئن.»
ردَّ الآخر: «حسنًا، لا يمكنك ذلك. يا إلهي، لا تخبرني بأنك قلقٌ من أمر تلك اللعنة.»
قال المليونير في سخرية طفيفة: «هل نسيت أنَّ عمل القس المحترم يتمحور كليةً حول اللعنات والبركات. اهدأ يا سيدي، إذا كان الرجل قد أُصيب بلعنة أرسلته إلى الجحيم، فلمَ لا تعيده مرةً أخرى بأن تباركه؟ ما نفعُ بركتك إذا لم تتمكن من كسر لعنة ذلك الرجل الأيرلندي الشرير؟»
احتجَّ الرجل الغربي قائلًا: «هل هناك من يُصدِّق في هذه الأشياء الآن؟»
قال فاندام، الذي كان في غاية الانفعال بسبب الازدراء الذي تعرَّض له في السابق والتشاحن الذي يحدث حاليًّا: «أعتقد أن الأب براون يؤمن بالكثير من هذه الأشياء. إنه يعتقد أن ناسِكًا عبرَ نهرًا على ظهر تمساح استحضره من العَدم، ثم طلب من ذلك التمساح أن يموت، وبالفعل مات التمساح؛ ويعتقد الأب براون أن أحد القديسين المباركين قد مات، وتحوَّلت جثته إلى ثلاث جثث بحيث تُرسَل كلُّ واحدة إلى أبرشية من أصل ثلاث أبرشياتٍ كانت تُعتقد أنها مسقط رأسه؛ ويعتقد الأب براون أن قديسًا علَّق عباءته على شعاع ضوء الشمس، بينما استخدم قديسٌ آخر عباءته كقاربٍ ليعبر بها المحيط الأطلنطي؛ ويعتقد الأب براون أنَّ الحمار المقدس له ستُّ أرجل، وأنَّ منزل لوريتو طار في الهواء حقًّا؛ ويعتقد أنَّ مئات التماثيل الحجرية للسيدة العذراء تبكي وتنوح طوال اليوم؛ فليس كثيرًا عليه أن يعتقد بأنَّ رجلًا يستطيع أن يهرب من ثقب مفتاحٍ في الباب، أو أنه يستطيع أن يختفي من غرفةٍ مغلقة بإحكام. أظن أنه لا يُلقي بالًا لقوانين الطبيعة.»
قال السكرتير في ضجر: «على أي حال، ينبغي أن أُلقي أنا بالًا لقوانين السيد وارين ويند، وأوامره لنا أن يُترك وحده حين يطلب ذلك. وسيخبرك ويلسون بنفس الشيء أيضًا.» ذلك أن الخادم الضخم الذي أُرسل ليحضر النشرة قد مرَّ أيضًا في هدوءٍ في الممر وهو يتحدث، حاملًا النشرة، ومرَّ من أمام الباب. وأضاف السكرتير: «إنه سيذهب ويجلس على المقعد بجوار الموظف، ويعبث بأصابعه ليضيِّع الوقت منتظرًا أن يُستدعى؛ ولكنه لن يدخل عليه قبل ذلك؛ ولن أفعل ذلك أنا أيضًا. وأظن أننا ندرك تمامًا أين تكمن مصلحتنا، وسيتطلَّب الأمر الكثير من قدِّيسي الأب براون وملائكته لكي ننسى هذا.»
ردَّ القس: «بالنسبة إلى القديسين والملائكة …»
كرَّر فينير كلامه: «كلُّ هذا هراء. أنا لا أريد أن أقول شيئًا مُسيئًا، ولكن هذه الأشياء قد تكون مناسبة لسراديب الكنائس والأديرة وكل تلك الأماكن الغريبة، لكن الأشباح لا تستطيع أن تعبر بابًا مُوصَدًا هنا في فندقٍ أمريكي.»
ردَّ الأب براون بهدوءٍ وصبر: «ولكن يمكن للبشر أن يفتحوا بابًا مُوصَدًا، حتى في فندقٍ أمريكي. ويبدو لي أنَّ أبسط شيءٍ يمكن أن نقوم به هو أن نفتحه.»
ردَّ السكرتير: «سيكون بسيطًا بما يكفي لكي يجعلني أخسر وظيفتي، ولا يحب وارين ويند أن تكون سكرتاريته سذجًا على هذا النحو. إنه لا يحبنا أن نكون سذجًا بحيث نصدق القصص الخيالية التي يبدو أنك تؤمن بها.»
قال الأب براون بجدية: «حسنًا، صحيحٌ أنني أومن بالكثير من الأشياء التي ربما لا تؤمنون بها، ولكن سيتطلب الأمرُ الكثير من الوقت لكي أشرح لكم كل الأشياء التي أومن بها، وكل الأسباب التي تدفعني لأعتقد بأنني مُحق، ولكن سيتطلب الأمر ثانيتين فقط لكي تفتحوا الباب وتُثبتوا خطئي.»
بدا أنه كان هناك شيءٌ في كلماته قد أسعد روح الرجل الغربي الجامحة التي لا تهدأ.
قال ألبوين وقد تخطاهم فجأة: «أعتقد بأني أودُّ كثيرًا أن أُثبت خطأك، وسأفعل.»
فتح باب الشقة ونظر بداخلها، وبدا من النظرة الأولى أنَّ كرسي وارين ويند كان خاليًا. وبدت الغرفة خالية تمامًا مع النظرة الثانية.
هُرِع فينير بفعل طاقة خفية إلى داخل الحجرة متخطِّيًا الرجل الأول.
قال باقتضاب: «إنه في غرفة نومه. لا بدَّ وأنه هناك.»
وفيما اختفى في الغرفة الداخلية، وقف الرجال الآخرون في الغرفة الخارجية الفارغة وهم يُحدِّقون في بعضهم. كانت بساطة الغرفة وفراغها، وهو ما كان ملاحظًا، تُمثل تحديًا أمام الرجال؛ فلا يمكن لأحد أن يُخبِّئ فأرًا في هذه الغرفة، فما بالك برجل. لم يكن هناك ستائر، ولا خزائن، وهذا شيء نادر فيما يتعلق بالتجهيزات المنزلية على الطراز الأمريكي. حتى المكتب كان على شكل طاولة مسطحة ذات درج غير عميق وغطاء مائل. وكانت الكراسي صلبة وذات ظهر مرتفع. وبعد لحظة عاد السكرتير وظهر عند الباب الداخلي بعد أن فتَّش الحجرتين الداخليتين. كانت هناك نظرة حادة تعتلي ملامحه، وبدا أن فمه يتحرك بحركة أوتوماتيكية وكأنه ليس جزءًا من جسده فقال: «ألم يمر أمامكم من هنا؟»
لم يفكر الآخرون على أي نحو في أن يُجيبوا عن ذلك السؤال بالنفي؛ فقد تحوَّلت عقولهم إلى جدار المستودع الخالي الذي يقف في مواجهة النافذة المقابلة، والذي بدأ لونه يتحول تدريجيًّا من الأبيض إلى الرمادي بفعل الظهور البطيء للظلام أثناء فترة ما بعد الظهيرة. سار فاندام نحو عتبة النافذة التي كان قد اتكأ عليها قبل نصف ساعة ونظر خارج النافذة المفتوحة. لم يكن هناك أي مواسير أو مخرج حريق، وكذلك لم يكن هناك بروز حجري أو موطئ قدمٍ من أي نوع في الاتجاه نحو الشارع الصغير الذي يقع تحت النافذة، ولم يكن هناك شيءٌ مشابه لذلك على الحائط المماثل والذي يرتفع لعدة طوابق أعلى. ولم يختلف الحال كثيرًا عند الجهة المقابلة من الشارع؛ فلم يكن هناك شيءٌ على الإطلاق عدا ذلك الجدار الأبيض المضجر. نظر فاندام إلى الأسفل نحو الشارع، كما لو كان يتوقع أن يرى ذلك الشخص المحب للخير المختفي وهو طريح أرضية الزقاق بعد أن انتحر، ولكنه لم يتمكن من رؤية شيء سوى جسم داكن صغير، وهو الذي رغم تلاشي ملامحه بفعل بُعد المسافة، قد يبدو أنه المسدس الذي وجده القس في ذلك المكان. في تلك الأثناء، كان فينير قد سار نحو النافذة الأخرى، والتي كانت تُطل على جدار خالٍ أيضًا ولا يمكن الوصول إليه، ولكنها كانت تطل على حديقة صغيرة بدلًا من أن تطل على شارع جانبي. كانت هناك مجموعة من الأشجار تُغطي على المنظر الحقيقي للأرض؛ ولكن تلك الأشجار لم تكن ذات ارتفاع كبير. استدار كلاهما إلى داخل الغرفة ونظر كلٌّ منهما إلى الآخر في ضوء الغسق المتزايد حيث كانت تتحول بسرعة آخر الأشعة الفضية لضوء النهار الساقطة على أسطح الطاولات والمكاتب اللامعة إلى اللون الرمادي. وكما لو كان ضوء الغسق قد أزعجه، لمس فينير مفتاح الإضاءة فغرقت الغرفة في أضواءٍ كهربائية مذهلة.
قال فاندام متجهمًا: «كما قلتَ للتو، لا يمكن لرصاصة أُطلقت من الأسفل أن تصيبه على هذا الارتفاع، حتى ولو كان المسدس ملقمًا برصاصة فعلًا. ولكن حتى ولو كان أصيب برصاصة، فإنه لن يختفي هكذا وكأنه فقاعة قد تلاشت.»
نظر السكرتير الذي ازداد شحوبُ لونه عن ذي قبل إلى المليونير المنزعج بانفعال كبير وقال: «ما الذي جعلك تنطق بهذه الأفكار المَرضية؟ مَن الذي يتحدث عن الرصاصات والفقاعات؟ لماذا لا يكون على قيد الحياة؟»
ردَّ فاندام في سلاسة: «لماذا لا يكون على قيد الحياة بالفعل؟ إذا ما أخبرتني أين مكانه، فسأخبرك كيف وصل إلى ذلك المكان.»
وبعد سكون، غمغم السكرتير في عبوس قائلًا: «أعتقد أنك على صواب. إننا نقف في مواجهة الشيء الذي كنا نتحدث عنه. سيكون من الغريب إن فكرتَ أنت أو فكرتُ أنا في أي شيء له علاقة بإلقاء اللعنات، ولكن من الذي بمقدوره أن يؤذي ويند في هذا المكان الحصين؟»
كان السيد ألبوين القادم من أوكلاهوما يقف في منتصف الغرفة منفرج الساقين بعض الشيء، فكانت هالة الشعر البيضاء وكذلك عيناه المستديرتان يبدو أنهما تشعان ذهولًا ودهشة. وفي هذه اللحظة، قال، على نحوٍ شارد، وفي وقاحة غير ملائمة تليق بصبيٍّ مثير للمشاكل: «أنتما لم تكونا على وفاقٍ كبير، أليس كذلك يا سيد فاندام؟»
بدا وجه السيد فاندام الأصفر الطويل وكأنه يزداد طولًا بينما كان يزداد شعوره بالغضب، لكنه ابتسم وأجابَ في هدوء: «إذا كنا نتحدث عن مثل هذه المصادفات، فأعتقد أنك أنت من قلت إن ريحًا من الغرب ستذرُ الرجال العظام هنا كما لو كانوا زغب الشوك.»
قال الرجل الغربي في صدق: «أعرف أني قلت ذلك، ولكن رغم هذا، كيف يمكن أن يحدث ذلك حرفيًّا؟»
كسر فينير حاجز الصمت الذي خيَّم بأن قال بحِدَّة ترتقي إلى العنف: «هناك شيءٌ واحد يمكن أن يُقال بشأن هذا الأمر، وهو أنه لم يحدث ببساطة. لا يمكن أن يكون قد حدث.»
قال الأب براون من الزاوية التي كان يقف فيها: «أوه، لا، لقد حدث دون شك.»
تفاجأ الجميع، حيث كانوا قد نسوا تمامًا أمر الرجل الضئيل الحجم غير ذي الشأن الذي استحثَّهم في الأساس على فتح الباب. وتذكُّرهم لهذا صَاحَبه تغيُّرٌ حادٌّ في حالتهم المزاجية؛ لقد تذكَّروا على نحو مفاجئ أنهم قد نبذوه جميعًا معتبرين إياه حالمًا خَرِفًا لأنه أشار إلى الشيء الذي حدث أمام أعينهم.
صاح الرجل الغربي في اندفاع كما لو كان شخصًا لا يتحكَّم في كلامه: «خونة! هذا بافتراض أن ثمة خطبًا في الأمر، في النهاية!»
قال فينير مقطبًا جبينه بينما كان ينظر إلى الطاولة: «لا بدَّ أن أعترف أن ما توقَّعه القس المبجَّل كان يستند إلى أساس قوي. لا أعلم إن كان هناك شيء آخر يريد أن يقوله لنا.»
قال فاندام في سخرية: «ربما يقول لنا بحق الجحيم ما ينبغي أن نفعله الآن.»
بدا على القس الضئيل الحجم أنه يتقبَّل الموقف الذي وُضع فيه بطريقة متواضعة ولكن واثقة. وقال: «الشيء الوحيد الذي يمكنني التفكير فيه هو أولًا أن نبلغ السلطات المسئولة في هذا المكان، ثم نرى إن كان هناك أي دلائل أخرى تركها الرجل الذي تحدثت عنه الذي استخدم المسدس. لقد اختفى الرجل عند زاوية البناية الأخرى حيث الحديقة الصغيرة. توجد مقاعد هناك وهي بمنزلة مكان مُفضَّل للمتشردين.»
أدَّت المشاورات المباشرة مع إدارة الفندق إلى مشاوراتٍ غير مباشرة مع الشرطة، وهذا جعلهم مشغولين لفترة طويلة من الوقت، وكان الليل قد حلَّ بالفعل حين خرجوا تحت منحنى الأعمدة الكلاسيكي الطويل. بدت البناية باردة وجوفاء كالقمر الذي سُمِّيت باسْمِه، وكان القمر نفسه نيِّرًا عجيب المنظر خلف قمم الأشجار السوداء حين انعطف الرجال عند الزاوية المؤدية إلى الحديقة العامة الصغيرة. حجبَ الليل كثيرًا من مظاهر المَدنيَّة المصطنعة في المكان، وفيما غاصوا في ظلال الأشجار راودهم شعورٌ غريب بأنهم فجأةً قد ابتعدوا مئات الأميال عن منازلهم. وبعد أن ساروا في صمتٍ لفترة قصيرة من الوقت، صاح ألبوين الذي يتصف في أسلوبه ببعض البدائية، فجأة:
«إني أستسلم، ولا أستطيع أن أُكمل. لم يخطر ببالي قطُّ أن أمرَّ بما أنا فيه الآن؛ ولكن ماذا يحدث حين تعترض هذه الأحداث طريقك؟ أستميحك عُذرًا أيُّها الأب براون؛ أظن أنني التقيتُ بهذا كلِّه مصادفةً، سواءٌ فيما يتعلق بك أو بقصصك الخرافية؛ لأجِدَ نفسي بعدها وجهًا لوجه مع تلك القصص الخيالية. عَجَبًا، لقد قلت بنفسك يا سيد فاندام إنَّك مُلحدٌ ولا تُصدِّق إلا ما تراه بعينيك. حسنًا، ما الذي رأيته؟ أو بالأحرى، ما الذي لم ترَه؟»
أومأ فاندام وهو مُكْفهرُّ الوجه وقال: «أعرف.»
قال فينير في عنادٍ: «أوه، إنَّ هذا القمر وهذه الأشجار هما ما ينالان من أعصابِ المرء؛ فالأشجار تبدو ذات مظهر غريب تحت ضوء القمر، وأغصانها تبدو وكأنها تزحف في الأرجاء. انظر إلى ذلك …»
قال الأبُ براون، وهو يقف ثابتًا وينظر إلى القمر من خلال مجموعةٍ من الأشجار المتشابكة: «أجل. ذلك الغصن الذي يقبع هناك شكله غريبٌ للغاية.»
وحين تحدَّث مرةً ثانية، قال فقط: «كنت أعتقد أنه غصنٌ مكسور.»
لكن هذه المرة كان هناك نبرة انزعاج في صوته أصابت من حوله بالقُشَعْريرة بصورة لا يمكن تبريرها؛ فقد كان هناك شيءٌ يبدو كغصنٍ ميتٍ متدلٍّ من شجرة كانت تبدو سوداء في مواجهة ضوء القمر؛ ولكن هذا لم يكن غصنًا ميتًا. وعندما اقتربوا ليتحقَّقوا منه، توجَّس فينير خِيفةً وفَزِع من مكانه وقد تردَّد صوت لعناته في الأجواء. ثم هُرع مرةً أخرى باتجاه الشجرة وحرَّر حبلًا من حول رقبة الجثة القصيرة العابسة المتدلية ذات الشعر الرمادي. لقد عرف بطريقة ما أن الجثة كانت قد فارقت الحياة بالفعل قبل أن يتمكن من أن ينزلها عن الشجرة. كان هناك لفة طويلة جدًّا من الحبل ملفوفة حول الأغصان، وكان هناك جزءٌ قصير نسبيًّا منها موصولًا بين الغصن والجثة. وكان هناك حوض طويل من أحواض الحدائق ملقًى بعيدًا عن قدم الجثة بياردة أو اثنتين، فكان مثل الكرسي الذي يُركَل بعيدًا من تحت قدم المنتحِر.
بنبرةٍ توحي وكأنه يصلي للقتيل أكثر مما تبدو كأنه يتعجب لما يراه، قال ألبوين: «أوه، يا إلهي! ما الذي قاله المتشرد بشأن هذا الرجل؟ ألم يقل: «إن عرف، فسيكون على استعداد لشنق نفسه؟» ألم يكن هذا هو ما قاله أيُّها الأب براون؟»
قال الأب براون: «بلى.»
قال فاندام بنبرةٍ جوفاء: «حسنًا، لم أعتقد قطُّ بأني قد أرى ما أراه أو أقول ما سأقول، ولكن لا يسع المرء سوى أن يقول إن اللعنة قد وقعت.»
كان فينير يقف ويداه تُغطيان وجهه، فوضع القس يده على ذراع فينير وقال في لطف ورقَّةٍ: «هل كنت تحبه كثيرًا؟»
أزاحَ السكرتير يديه عن وجهه وكان وجهه الشاحب يبدو مُروِّعًا تحت ضوء القمر.
وقال: «لقد كرهته أكثر مما يكره المرءُ العَمى، ولكن إذا مات جرَّاء لعنة أصابته فربما أكون أنا السبب.»
زادَ ضغط يد القس على ذراع السكرتير، وقال بنبرة جديَّة لم يكن قد أظهرها قبل هذه اللحظة: «لم تكن هذه اللعنة بسببك؛ ادعُ الرب أن يُريح قلبك.»
كانت شرطة المنطقة تواجه صعوبة كبيرة في التعامل مع الشهود الأربعة المعنيِّين بالقضية. كانوا جميعًا يتمتعون بسُمعة طيبة، بل كانوا موثوقًا فيهم بالمعنى العام؛ وكان أحدهم يتمتع بسلطة وأهمية كبيرتين، كان هذا الرجل هو سايلاس فاندام صاحب شركة أويل تراست للبترول. وكان الشرطي الأول الذي حاول أن يُبدي شكوكًا له حول قصته قد أثار غضب قُطب صناعة البترول بسرعة كبيرة حقًّا.
قال المليونير في غلظة: «لا تُحدثني عن الالتزام بالحقائق. لقد التزمت بالعديد منها قبل أن تُولد أنت وقد لازمني القليل منها. سأخبرك بالحقائق دون شك إذا كنت مستعدًّا لأن تعيها على النحو الصحيح.»
كان الشرطي ما يزال يافعًا وحديث العهد بالعمل، وكان يظن أن الرجل المليونير هو أحد البارزين السياسيين والذي ينبغي عدم معاملته كمواطن عادي؛ ولذا فقد ترك شأنه هو ورفاقه إلى أحد الزملاء القدامى الأشدَّاء وكان هو المفتش كولينز، وهو رجلٌ أشيب ذو طريقة مريحة في الكلام يشوبها بعض التجهُّم؛ إنه شخصٌ لطيف ولكنه لا يتحمل أي ترهات.
قال المفتش وهو ينظر بعينين متلألئتين إلى الرجال الثلاثة الذين يقفون خلفه: «حسنًا، حسنًا، تبدو هذه قصة طريفة نوعًا ما.»
كان الأب براون قد ذهب لأداء ما عليه من أعمال في ذلك اليوم، لكن سايلاس فاندام كان قد أوقف حركة الأسواق لساعة أو أكثر من أجل أن يُدلي بشاهدته في تلك الحادثة الاستثنائية. أما عمل فينير سكرتيرًا فقد توقَّف بشكلٍ ما مع وفاة رب عمله؛ أما آرت ألبوين الضخم فلم يكن هناك ما يشغله في تلك اللحظة عن علاقته المباشرة بتلك القضية؛ سوى نشر فكرة عقيدة «نَفَس الحياة» أو حركة الروح العظيمة؛ ولذا فقد وقفوا جميعًا في صف واحد في مكتب المفتش على استعداد لدعم بعضهم البعض.
قال المفتش مبتهجًا: «من الأفضل أن نبدأ الحديث بأن أقول لكم إنه لا ينبغي لأي أحد منكم أن يأتيني ويُحدثني عن أي أمور إعجازية. أنا رجلٌ عمليٌّ وأعمل شرطيًّا، والأمور الإعجازية هذه لن يقتنع بها سوى القساوسة والكهنة. إنَّ هذا القس الذي كان معكم يبدو كأنه أقنعكم بقصةٍ ما حِيال تلك الميتة المريعة والرأي بشأنها؛ ولكني سأخرجه هو وعقيدته الدينية من هذا الأمر تمامًا. إذا كان ويند قد خرج من تلك الحجرة، فهناك شخصٌ ما هو من سمح له بالخروج. وإذا وُجد ويند مشنوقًا يتدلى من تلك الشجرة، فهناك شخصٌ فعلها.»
قال فينير: «أوافقك الرأي تمامًا، ولكن بما أن أدلتنا تقول بأن أحدًا لم يُخرجه من الغرفة، فالسؤال هو: كيف يمكن لأي شخص أن يشنقه في ذلك المكان؟»
قال المفتش: «كيف يمكن لأي إنسان أن يكون له أنفٌ في وجهه؟ هذا الرجل كان له أنفٌ في وجهه، وكان هناك حبلٌ معقود حول رقبته. هاتان حقيقتان لا تحتملان الشكَّ، وكما قلتُ فإنني رجلٌ عمليٌّ ولا أعترفُ إلا بالحقائق. لا يمكن أن يكون هذا الأمر قد حدث بفعل معجزة؛ ولذا فلا بدَّ أن هذا من صنيع شخصٍ ما.»
كان ألبوين يقف متواريًا بعض الشيء؛ وكانت ضخامة جسمه في واقع الأمر تجعله يبدو كخلفية طبيعية للرجال الأنحف والأكثر حيوية منه والذين كانوا يقفون أمامه. كان رأسه الأبيض منحنيًا بصورة معينة، ولكن حين نطق المفتش جملته الأخيرة، رفع ألبوين رأسه وهزَّ كومة شعره الأشيب وكأنه أسد، وبدا مذهولًا لكنه كان منتبهًا. تقدَّم للأمام حتى توسَّط المجموعة الواقفة أمامه، فانتابهم إحساسٌ غامض بأن حجمه صار أضخم من ذي قبل. كانوا ميَّالين بشدة لأن يظنوا أنه أحمق أو دجَّال، ولكنه لم يكن مخطئًا على الإطلاق حين قال إنه يتمتع برئتين كبيرتين وحيوية كبيرة، يُشبهان ريحًا غربيَّةً عاتية، ستُذري يومًا من شدَّتها كلَّ الأشياء الخفيفة الوزن بعيدًا.
قال ألبوين في صوتٍ رقيق وعميق: «أعتقد أنك رجلٌ عملي يا سيد كولينز. ربما تكون هذه هي المرة الثانية أو الثالثة التي تذكر فيها هذا في هذه المحادثة القصيرة؛ ولذا لا يمكن أن أكون مُخطئًا في ذلك. وهي بالتأكيد حقيقة مثيرة للاهتمام لأي أحد يهتم بالكتابة عن حياتك وخطاباتك وما تقوله أثناء المآدب، مع وجود صورة لك في سن الخامسة، وصورة قديمة للغاية لجدتك وآراء عن المدينة القديمة التي هي مسقط رأسك؛ وأنا على ثقة أنَّ كاتب سيرتك الذاتية لن ينسى أن يذكرها مع حقيقة أن أنفك أفطس وبه بَثرة، وأنك بدين للغاية حتى إنك لم تكن تستطيع التحرك كثيرًا. وبما أنك رجل عملي، فربما يمكنك أن تستمر في الاتصاف بهذا حتى تعيد وارين ويند إلى الحياة مرة أخرى، وتعرف بالضبط كيف يمكن لرجل عملي أن يعبر بابًا فولاذيًّا، ولكني أظنُّ أنك لا تفهم الأمور على نحوٍ صحيح. أنت لست برجل عملي. أنت أضحوكة عملية؛ هذا هو ما أنت عليه. كان الرب يهزأ بنا حين ألقى بك في طريقنا.»
ثم سار بطريقة درامية نحو الباب قبل أن يتمكَّن المفتش المذهول من الرد؛ ولم يكن هناك رد مناسب يمكن أن يسلب منه مظاهر النصر التي بدت عليه.
قال فينير: «أعتقد أنك كنت محقًّا تمامًا. إذا كان هؤلاء الرجال يتصفون بالعملية، فإليَّ بقَس.»
كانت هناك محاولة أخرى للخروج بصيغة رسمية لما حدث حين أدركت السلطات تمامًا أهمية من يقصُّون الوقائع وما لذلك من تداعيات. كان الأمر قد تسرَّب إلى الصحافة بالفعل بأكثر الأشكال النفسية إثارة وصراحة. وسرعان ما أدت المقابلات مع فاندام عن مغامرته المذهلة والمقالات عن الأب براون وحدسه الروحي الغامض إلى أن يأمل مَنْ يشعرون بمسئولية إرشاد الرأي العام إلى إرشاده نحو مسار أكثر حكمة. وفي المرة التالية، جرى التواصل مع الشهود بطريقة غير مباشرة وأكثر لباقة؛ فقد قيل لهم بطريقة لطيفة تمامًا إن البروفيسور فير يُكنُّ اهتمامًا كبيرًا لمثل هذه الأحداث الغريبة غير الطبيعية؛ وإنه كان مهتمًّا بصورة خاصة بقضيتهم المُحيِّرة. كان البروفيسور فير عالِم نفسٍ يتمتع بقدر كبير من التميُّز؛ وقد عُرف عنه أنه يهتم بصورة غير متحيِّزة بعلم الجريمة؛ ولم يكتشف الشهود إلا بعد فترة قصيرة من الوقت أن البروفيسور كان له علاقة بالشرطة.
كان البروفيسور فير رجلًا مهذبًا كيِّسًا ويرتدي ملابس ذات لون رمادي باهت، وربطة عنق زاهية وكان له ذقن مستدق أشقر؛ كان يبدو لأي شخصٍ لم يكن على دراية بذلك النوع من الأساتذة الجامعيين كأحد رسامي المناظر الطبيعية. كان مظهر البروفيسور يوحي بأنه شخص لا يتَّسم باللطف فقط وإنما بالصراحة أيضًا.
قال وهو يبتسم: «أجل، أجل، أُدرك هذا. يُمكنني أن أخمِّن ما مررتم به. إن الشرطة غير بارعة في الاستجوابات ذات الطابع النفسي، أليس كذلك؟ بالطبع قال العجوز العزيز كولينز إنه لا يرغب بشيء سوى الحقائق. يا له من أحمق سخيف! إننا في قضية من هذا النوع لا نحتاج قطعًا إلى الحقائق فقط، وإنما ما هو أكثر أهمية أن نعرف بأمر ما توهَّمتم به أيضًا.»
سأل فاندام في جِديَّة: «أتقصد أنَّ ما نعتقد جميعًا بأنه واقعٌ ما هو إلا محض أوهام؟»
قال البروفيسور: «على الإطلاق، إنَّما أقصد أن رجال الشرطة حمقى لاعتقادهم أن في مقدورهم إغفال العامل النفسي في هذه الأمور. في الواقع، العامل النفسي هو الأهم على الإطلاق، رغم أن إدراك ذلك لم يبدأ إلا مؤخَّرًا. بادئ ذي بدء، انظروا إلى العنصر الذي يُشار إليه بالشخصية. لقد سمعتُ بأمر ذلك القس، الأب براون، من قبل؛ وهو أحد أكثر الرجال البارزين في وقتنا الحالي. هذا النوع من الرجال يتمتع بوقعٍ وتأثير على من حوله؛ ولا أحد يعرف كم تأثرت أعصابه بل وحتى حواسه بمثل هذا الأمر في الوقت الراهن. إن الناس يُنوَّمون مغناطيسيًّا — أجل، يُنوَّمون مغناطيسيًّا — فالتنويم المغناطيسي له درجات مثله مثل أي شيء آخر؛ فهو يتسلل ببطء إلى كل المحادثات اليومية، وهو ما لا يشترط بالضرورة أن يحدث على يد رجل يرتدي ملابس سهرة ويعتلي منصةً في قاعة عامة. إنَّ عقيدة الأب براون الدينية تدرك جيدًا سيكولوجية التأثير هذه، وهي تعرف كيف تؤثر في كل شيء في آنٍ واحد، حتى في حاسة الشم على سبيل المثال. وهي تفهم الآثار الغريبة الناتجة عن الموسيقى على الحيوانات والبشر؛ ويمكنها …»
صاحَ فينير مُحتجًّا: «تبًّا، أنت لا تعتقد أنه كان يسير في ذلك الممر وهو يحمل آلة الأرغن الكَنَسية، أليس كذلك؟»
قال البروفيسور فير وهو يضحك: «إنِّه أكثر حِنكة من أن يفعل ذلك. إنَّه يعرف كيف يركِّز جوهر كل تلك الأصوات والأشكال وحتى الروائح الروحية، بعدة إيماءاتٍ قليلة بسيطة؛ بطريقة معينة. إن بإمكانه فعل ذلك ليجعل عقولكم تركِّز على الجانب الخارق للعادة بحضوره فقط، مع انسلاخ الأشياء الطبيعية من عقولكم وتسللها هنا وهناك من دون أن تلاحظوها.» واستطرد في كلامه وقد عاد إلى أسلوبه المنطقي البهيج: «أنتم تعلمون أننا كلما درسنا الأمر، زادت غرابة مسألة الدليل البشري. ليس هناك رجل واحد من بين عشرين رجلًا يلاحظ الأشياء على الإطلاق. وليس هناك رجل واحد من بين مائة رجل يلاحظها بدقة حقيقية؛ وبالتأكيد ليس هناك رجل من بين مائة رجل يمكن أن يلاحظ أولًا ثم يتذكر، ثم يصف الأمر في النهاية. لقد أُجريت التجارب العلمية مرارًا وتكرارًا حول هذه المسألة وهي توضح أن المرء يعتقد بأن الباب يكون مغلقًا في حين أنه مفتوح، أو أن الباب مفتوح في حين أنه مغلق، حين يكون تحت وطأة الشعور بالضغط والتوتر. وإن الناس اختلفوا حول عدد الأبواب أو الشبابيك الموجودة في جدار ما كانوا يقفون أمامه تمامًا. لقد عانوا من أوهام بصرية في وضَح النهار. وقد فعلوا هذا من دون تأثير الشخصية التنويمي؛ ولكننا هنا لدينا شخصية قوية ومقنِعة للغاية وهي عازمة فقط على تثبيت صورة واحدة في أذهانكم، وهي صورة الرجل الأيرلندي المتمرد الجامح وهو يلوِّح بمسدسه في الهواء ويُطلق تلك الرصاصة الفارغة، والتي كانت أصداؤها تشبه صوت الرعد في السماء.»
صاحَ فينير: «أيُّها البروفيسور، أقسم لك بأغلظ الأيمان أن ذلك الباب لم يُفتح قطُّ.»
استطرد البروفيسور في هدوء قائلًا: «اقترحت بعض التجارب الحديثة أن وعينا ليس في حالة مستمرة من التدفق، إنما هو سلسلة من الانطباعات السريعة للغاية كالسينما؛ فمن المحتمل أن يقوم شخصٌ أو شيءٌ ما — إن جاز التعبير — بالتسلل دخولًا أو خروجًا بين المشاهد. وهذا يحدث فقط في تلك اللحظة التي تكون الستارة فيها مُسدَلة. ربما يعتمد حديث المشعوذين وكل أشكال خفة اليد على ما يمكن أن نطلق نحن عليه ومضات العمى السوداء التي توجد بين ومضات الرؤية. والآن ذلك القس والمُبشِّر بالمفاهيم الماورائية قد ملأ عقولكم بصورة ماورائية؛ صورة ذلك الرجل السلتي الذي يشبه العمالقة وهو يهزُّ البرج بلعنته. ربما جاءت تلك الفكرة مصاحبة لبادرةٍ أو إيماءةٍ بسيطة لكنها آسِرة، مما أدى لتوجيه عيونكم وأذهانكم باتجاه ذلك المدمِّر غير المعروف بالأسفل. أو ربما أن هناك شيئًا آخر هو ما حدث، أو شخصًا آخر قد مرَّ بكم.»
قال ألبوين ناخرًا: «ويلسون الخادم مرَّ بنا في الممر لينتظر على المقعد، ولكني أعتقد أنه لم يصرف انتباهنا كثيرًا.»
أجاب فير: «لن تعلم أبدًا كم يمكن أن يكون قد ألهاكم، ربما يكون الأمر هكذا، أو ربما أن أعينكم على الأرجح تتبَّعت بعض إيماءات القس بينما كان يقصُّ عليكم حكايته السحرية. لقد كانت إحدى تلك الومضات السوداء هي التي تمكَّن السيد وارين ويند فيها أن يتسلل من الباب ويخرج ليلقى حتفه. هذا هو أكثر التفسيرات أرجحية. إنه مثالٌ على الاكتشاف الجديد. الوعي ليس بخط متصل؛ إنما هو خط متقطِّع.»
قال فينير في وهن: «بل متقطِّع جدًّا، بل يمكن أيضًا القول إنه عبارة عن نقاط منفصلة.»
سأل فير: «أنت لا تعتقد حقًّا أن ربَّ عملك كان محبوسًا في غرفة تبدو كصندوق، أليس كذلك؟»
أجابه فينير: «إنَّ هذا أفضل من الاعتقاد بأني ينبغي أن أكون محتجزًا في غرفة تبدو مثل زنزانة مبطنة للمجانين. هذا هو ما أحتجُّ عليه في اقتراحاتك، أيُّها البروفيسور. إنني مستعدٌّ لأن أُصدِّق كلام قس يؤمن بالمعجزات بنفس القدْر الذي أنكر به كلام أي رجل يؤمن بالحقائق. يخبرني القس أن المرء بإمكانه الاستغاثة بإله لا أعلم عنه شيئًا لينتقم له بقوة قوانين عدالةٍ أسمى لا أعلم عنها شيئًا. وليس هناك ما يمكنني قوله سوى أنني لا أعلم شيئًا عن ذلك. ولكن، على الأقل، إن كانت دعوات الرجل الأيرلندي البائس وكذلك مسدسه يمكن أن تكون قد سُمِعَت في عالَم أسمى من عالَمنا، فقد يتصرَّف ذلك العالَم السامي بطرقٍ قد تبدو غريبة بالنسبة إلينا، ولكنك تطلب مني أن أُنكر حقائق هذا العالَم الذي نعيش فيه ووقائعه في حين أنها بارزة أمام حواسي الخمس. وطبقًا لما تقوله، فإنَّ مجموعة من الرجال الأيرلنديين من الممكن أن يكونوا قد تسلَّلوا حاملين أسلحتهم إلى داخل تلك الغرفة بينما كنا نتحدث في الخارج، ما دام أنهم استطاعوا استغلال الومضات العمياء في أذهاننا. إن المعجزات ذات الطابع الديني، كاستحضار تمساح من العَدم أو تعليق عباءة على شعاع شمس، تبدو مقبولة أكثر مقارنةً بما تقول.»
قال البروفيسور فير باقتضاب: «أوه، حسنًا، إذا كنتم قد عزمتم على تصديق القس وذلك الرجل الأيرلندي الذي أتى بمعجزة، فليس هناك ما يمكنني قوله. أخشى أنكم لم تسنح لكم فرصة لدراسة علم النفس.»
قال فينير بنبرةٍ جافة: «لا، لكني سنحت لي فرصة لدراسة علماء النفس.»
ثم قاد فينير رفاقه إلى خارج الغرفة بعد أن انحنى أمام البروفيسور بشكل مهذب ولم يتحدث حتى وصلوا إلى الشارع؛ ثم خاطبهم بنبرةٍ غاضبة.
صاح فينير وهو يستشيط غضبًا: «مختلون خَرِفون! ماذا يعتقدون بحق الجحيم أنه سيحدث في العالم إذا لم يكن هناك أحد متأكد تمامًا ممَّا إذا كان قد رأى شيئًا أم لا؟ أتمنى لو كنت قد أطلقت على رأسه الأحمق طلقة فارغة ثم شرحت له أنني فعلت ذلك في ومضة عمياء له. قد تكون معجزة الأب براون معجزة حقيقية وقد لا تكون كذلك، ولكنه قال بأن الأمر سيحدث وقد حدث بالفعل. وكلُّ ما يستطيع أولئك المهووسون البغيضون فعله هو أن يقولوا بأن شيئًا لم يحدث رغم أنه قد حدث. أنصتوا لي جيدًا، أعتقد أننا ندين لذلك القس بأن نشهد بما قال. إننا جميعًا رجالٌ نتسم بالرشد والرصانة ولم نؤمن بأي شيء قبل ذلك قطُّ. ونحن لم نكن سُكارى، ولم نكن وَرعين، لكن الأمر حدث كما قال بأنه سيحدث.»
قال المليونير: «أتفقُ معك تمامًا. قد يكون هذا بداية حدوث أشياء عظيمة فيما يتعلق بالجانب الروحي، ولكن على أي حال، فإن الرجل الذي يتبع المسار الروحي وهو الأب براون قد حصل بكل تأكيد على ما يريد من هذا الأمر.»
بعد ذلك بعدة أيام تلقَّى الأب براون رسالة غاية في التهذيب موقَّعة باسم سايلاس تي فاندام، يطلب منه فيها أن يحضر في ساعة معينة إلى الشقة التي وقعت فيها حادثة الاختفاء؛ وذلك من أجل اتخاذ خطواتٍ بشأن توثيق تلك الحادثة العجيبة. كانت تلك الحادثة قد بدأت تنتشر في الجرائد بالفعل، وقد تناقلها المتحمسون لمسألة الإيمان بالقوى الخفية في كل مكان. ورأى الأب براون تلك الملصقات المتزايدة المكتوب عليها «انتحار الرجل المختفي» و«لعنة رجل تتسبَّب في مقتل رجل خَيِّر شنقًا» بينما كان يقطع طريقه نحو بناية مون كريسينت ويصعد السلالم في طريقه إلى المصعد. وقد وجد المجموعة الصغيرة، فاندام وألبوين والسكرتير، كما تركهم إلى حدٍّ بعيد؛ لكن كان هناك الآن نبرةٌ جديدة تنمُّ عن الاحترام، بل والتبجيل أيضًا، في حديثهم له. كانوا يقفون بجانب مكتب ويند، وكان عليه ورقة كبيرة وأدوات كتابة؛ والتفتوا لتحيته.
قال المتحدث عنهم وهو الرجل الغربي ذو الشعر الأبيض وفي نبرته إدراك بطريقة ما لمسئوليته: «أيُّها الأب براون، لقد طلبنا حضورك هنا أولًا لكي نُقدِّم لك اعتذارنا ونعبِّر لك عن شكرنا. نحن مدركون لحقيقة أنك أنت من انتبهت للتأويل الروحي لما حدث منذ البداية. لقد كنا جميعنا متشككين عنيدين، ولكننا ندرك الآن أن المرء ينبغي أن يتخلَّى عن عناده هذا ليصل إلى الأشياء العظيمة التي توجد فيما وراء هذا العالَم. أنت تمثل تلك الأشياء؛ أنت تمثل التفسير الخارق للطبيعة للأمور، وينبغي أن نعترف لك بذلك. وثانيًا، إننا نعرف أن هذه الوثيقة لن تكون مكتملة من دون توقيعك. إننا نُخطر جمعية البحوث الروحية بالحقائق الدقيقة لما حدث؛ لأننا لا يمكن أن نصف ما يُذكر في الجرائد بأنه دقيق. لقد بينَّا كيف أن اللعنة قد أُطلقت في الشارع؛ وكيف أن الرجل كان يوجد في غرفة علوية محكمة الإغلاق كأنها صندوق؛ وكيف تسبَّبت اللعنة في اختفائه، وكيف أدت به بطريقة غير متصوَّرة إلى انتحاره متأرجحًا على مشنقة. هذا هو كل ما يمكننا أن نقوله عن الأمر، ولكن هذا هو كل ما نعرفه وما رأيناه بأعيننا. وبما أنك أنت أول من آمن بتلك المعجزة، فإننا نرى جميعًا أنك ينبغي أن تكون أنت أول من يوقِّع على الوثيقة.»
قال الأب براون في إحراج: «لا، وفي الواقع، أنا لا أعتقد أنني ينبغي أن أفعل ذلك.»
«أتقصد أنك لا ينبغي أن تكون أول من يوقِّع؟»
قال الأب براون في تواضع: «أقصد أنني أفضِّل ألا أوقِّع تمامًا. أنتم تعرفون أن رجلًا في وضعي ومكانتي ينبغي ألا يمزح بشأن المعجزات.»
قال ألبوين وهو يُحدِّق في الأب براون: «ولكنك أنت من قلت إنَّ ما حدث كان معجزة.»
قال الأب براون: «أنا آسف. أخشى أن هناك خطأً ما. لا أعتقد أبدًا أنني قلت إن ما حدث كان معجزة. كلُّ ما قلته إنَّ ما حدث كان من الممكن أن يحدث. وما قلتم أنتم هو أن ما حدث ما كان من الممكن أن يحدث؛ لأنه إنْ حدث فتلك معجزة. ثم حدث ما حدث؛ ولذا قلتم إن ذلك كان معجزة، ولكني لم أذكر قط منذ بداية الأمر وحتى النهاية كلمة معجزة أو سحر، أو أي شيء من ذلك القبيل.»
اندفع السكرتير قائلًا: «ولكني أعتقد أنك تؤمن بالمعجزات.»
أجابه الأب براون قائلًا: «أجل، أنا أومن بالمعجزات. أنا أومن بوجود نمور تأكل الرجال، ولكني لا أراهم يتجولون في الأرجاء. وإذا كنت أريد معجزات، فإنني أعرف أين أجدها.»
قال فاندام بنبرة تملؤها الجدية: «لا أستطيع فهم أسباب اتخاذك هذا الموقف. تبدو بكلامك هذا ضيِّق الأفق، وأنت لا تبدو في نظري شخصًا ضيق الأفق، على الرغم من أنك قَس. ألا ترى أنَّ معجزة كهذه يمكن أن تدمر الفلسفة المادية تمامًا؟ إن هذه المعجزة تخبر العالم أجمع وبما لا يدع مجالًا للشك أن القوى الروحية يمكن أن تكون ذات تأثير وهي بالفعل لها تأثيرها. إنك بذلك ستخدم الدين كما لم يفعل أحدٌ من القساوسة من قبل.»
بدا القس متصلبًا قليلًا ويعلوه على نحو غريب وقارٌ غير مقصود وله طابعٌ رسمي، رغم جسمه القصير البدين، وقال: «حسنًا، أنت لا تقترح أن أخدم الدين بما أعلم أنه كذب، أليس كذلك؟ أنا لا أعلم على وجه الدقة ماذا تقصد بتلك العبارة، ولكي أكون صريحًا تمامًا، فأنا متأكد أنك أنت أيضًا لا تعلم. ربما يؤدي الكذب إلى خدمة العقيدة الدينية، ولكني متأكد أنه لا يخدم الرب. وبما أنك تهاجم باستمرار ما أومن به، أفلا يكون من الأفضل أيضًا أن تكون لديك فكرة عن ماهيته؟»
قال المليونير في نبرة تنمُّ عن الفضول: «لا أعتقد أني أفهم ذلك تمامًا.»
قال الأب براون ببساطة: «لا أعتقد أنك تفهم. أنت تقول إنَّ ما حدث قد وقع بفِعل قوى روحية. ما هي تلك القوى الروحية؟ أنت لا تعتقد أن الملائكة أخذته وشنقته على إحدى الأشجار في الحديقة، أليس كذلك؟ وبالنسبة إلى الشياطين، فلا يمكن أن يكونوا هم مَن فعلَ هذا. إن الرجال الذين فعلوا ذلك قد أتوا على فعل خبيث، لكن خبثهم لم يتجاوز ما فعلوه؛ فهم لم يكونوا خبثاء بما يكفي ليتعاملوا مع القوى الروحية. إنني أعرف شيئًا عن اتِّباع الشيطان، وذلك بفعل آثامي؛ لقد كنت مجبرًا على معرفة هذه الأشياء. أعرف ماذا يعني اتِّباع الشيطان، أعرف دائمًا ما يعنيه هذا عمليًّا. إنه يعني أن تتمتع بالغطرسة والخبث، وأن تشتهي أن تكون في مرتبة أعلى من الآخرين، وأن تحب أن تُرهِب الأبرياء بأشياء لا يمكن فهمها فهمًا كليًّا، وأن تشتهي أن تبعث الرعب في نفوس الأطفال؛ لهذا فإن هذا مليءٌ بالغموض والطقوس والجماعات السرية، وما إلى ذلك. إنَّ عيون هؤلاء الأتباع دومًا ما تنظر إلى الداخل، ومهما بدت مهيبة وجليلة، فإنها تُخفي دائمًا بسمة صغيرة ومجنونة.» وارتجف الأبُ براون فجأةً كما لو أن تيارًا باردًا من الهواء قد مرَّ به واستطرد قائلًا: «لا تلقِ لهم بالًا أبدًا؛ إنهم ليس لهم أي علاقة بهذا الأمر، صدِّقني. أتظنون أن ذلك الرجل الأيرلندي البائس الجامح، الذي كان يجري في الشارع وهو يهذي، والذي بادر بأن أخبرني بنصف ما حدث في وجهي حين رآني، وهرع مبتعدًا خشية أن يخبرني بالمزيد، أتظنون أن الشيطان يأتمنه على أي سر؟ إنني موقنٌ بأنه مشترك في مكيدة، ربما مع اثنين آخرين أسوأ منه، ولكن على أي حال، فإنه كان يشعر بغضب جمٍّ حين هرع إلى الزقاق وأطلق رصاصته الفارغة ولعنته.»
صاح فاندام: «ولكن ماذا يعني كلُّ هذا بحق السماء؟ إنَّ إطلاق رصاصة فارغة ولعنة رخيصة لم يكونا ليتسبَّبا في وقوع ما حدث، إلا بمعجزة. إنَّ ذلك لم يكن ليجعل ويند يختفي كما لو كان جِنيًّا. ولم يجعله يعاود الظهور مرةً أخرى على بُعد ربع ميل وقد التفَّ حبلٌ حول رقبته.»
قال الأب براون في حِدَّة: «لا، ولكن فيمَ كان يمكن أن يتسبَّب ذلك؟»
قال المليونير بجِديَّة: «وأنا لا زلت لا أفهمك.»
كرَّر القس كلامه، وقد بدت عليه للمرة الأولى أمارات الانزعاج: «أقول، فيمَ كان يمكن أن يتسبَّب ذلك؟ أنت لا تلبث أن تكرِّر أن رصاصةً فارغة لم تكن لتتسبَّب في هذا أو ذاك؛ ولكن إذا كان الأمر يتوقَّف على ذلك، فإنه لم يكن ليتسبَّب في جريمة القتل ولا في حدوث المعجزة. ولا يبدو أنك تسأل نفسك فيمَ كان يمكن أن يتسبَّب. ماذا كان سيحدث لك لو أن مجنونًا أطلق رصاصة من مسدسٍ تحت نافذتك من دون وجود سببٍ أو داعٍ؟ ما هو أول شيءٍ يمكن أن يحدث؟»
فكر فاندام قليلًا ثم قال: «أعتقدُ أني سأنظر من النافذة.»
قال الأب براون: «أجل، ستنظر من النافذة. هذه هي القصة كلُّها. إنَّها قصةٌ حزينة، ولكنها انتهت الآن؛ وكانت هناك ظروف مُخفِّفة.»
سأل ألبوين: «ولكن لماذا سيتسبَّب نظره من النافذة في إلحاق الأذى به؟ إنه لم يسقط، وإلا كنا سنجده في الزقاق.»
قال الأب براون في صوتٍ خفيض: «لا. إنه لم يسقط، بل صعد.»
كان في صوته نبرةٌ تنمُّ عن أنين أو حسرة، ولكنه استطرد بنبرةٍ ثابتة: «لقد صعد، لكن ليس على أجنحة، ليس على أجنحة ملائكة أو شياطين، لقد ارتفع بحبل على الوضع الذي رأيتموه عليه تمامًا في الحديقة؛ لقد سقط حول رقبته حبل معقود في نفس الوقت الذي أطلَّ فيه برأسه من النافذة. ألا تتذكرون ويلسون، خادمه الضخم، إنه رجلٌ يمتلك قوةً جسدية كبيرة، بينما كان ويند في خفة القريدس الصغير؟ ألم يذهب ويلسون إلى الطابق العلوي لكي يحضر النشرة، إلى غرفة مليئة بالأمتعة الملفوفة بحبال كثيرة؟ هل رأى أحدٌ ويلسون منذ ذلك اليوم؟ أتصوَّر أن هذا لم يحدث.»
سأل السكرتير قائلًا: «أتقصد أنَّ ويلسون اصطاده من نافذته وكأنه سمكة سلمون مرقطة؟»
قال الآخر: «أجل، وأسقطه من النافذة الأخرى في الحديقة، حيث علَّقه المتواطئ الثالث على شجرة. تذكَّروا أنَّ الزقاق كان فارغًا دومًا؛ وتذكَّروا أيضًا أنَّ الجدار المواجه للبناية كان فارغًا؛ وتذكَّروا كذلك أن الأمر برمته انتهى في غضون خمس دقائق بعد أن أعطى الرجل الأيرلندي إشارته بإطلاقه الرصاص من مسدسه. بالطبع هناك ثلاثة من الرجال المتواطئين في هذا الأمر؛ وأتساءل إن كان بإمكانكم أن تخمِّنوا شخصية هؤلاء.»
كان الرجال الثلاثة يُحدِّقون في النافذة المتواضعة المربعة الشكل وفي الجدار الأبيض الخالي فيما وراءها، ولم يجبه أحد.
أكمل الأب براون حديثه: «بالمناسبة، لا تعتقدوا أني ألومكم على القفز لاستنتاجاتٍ تستند إلى أشياء خارقة للطبيعة. إنَّ السبب بسيطٌ جدًّا، حقًّا. لقد أقسمتم جميعًا أنكم تتَّبعون الفلسفة المادية بتزمت؛ وقد كنتم جميعًا في واقع الأمر تقفون على نحوٍ متوازن على حافة الإيمان؛ الإيمان بأي شيءٍ تقريبًا. وهناك الآلاف ممن يقفون نفس موقفكم اليوم، لكنها حافةٌ خطيرةٌ وحرجة. إنكم لن تشعروا بالراحة إلا حين تؤمنون بشيءٍ ما؛ هذا هو السبب الذي جعل السيد فاندام يتفحص العقائد الدينية الجديدة بكل حذر، وجعل السيد ألبوين يقتبس من الكتاب المقدس كلمات عن تمارين التنفُّس الخاصة بعقيدته الدينية، وجعل السيد فينير يتذمر بشأن الإله الذي يُنكر وجوده. هنا تصبحون جميعًا عُرضةً للتأثير عليكم؛ إنه لمن الطبيعي أن تؤمنوا بالأمور الخارقة للطبيعة. إنَّ تقبُّل الأشياء التي لها تفسيرٌ ماديٌّ فقط لا يُشعِركم بأنكم طبيعيون، ولكن على الرغم من أنَّ الأمر لم يتطلب سوى لمسة بسيطة لكي تسقطوا جميعًا في هوة الإيمان بما هو خارقٌ للطبيعة فيما يتعلق بهذه الأشياء، فإن هذه الأشياء لم تكن سوى أشياء طبيعية للغاية في واقع الأمر. ولم تكن طبيعية وحسب، وإنَّما كانت أيضًا بسيطة بصورة غير طبيعية. أعتقد أنه لم تكن هناك قط قصةٌ أبسط من هذه.»
ضحك فينير ثم بدت الحيرة عليه وقال: «إنني لا أفهم شيئًا واحدًا. إذا كان ويلسون هو مَنْ فعل ذلك، فكيف اختار ويند رجلًا مثله ليشغل هذه الوظيفة القريبة للغاية منه؟ كيف قُتِلَ على يد رجلٍ كان يراه يوميًّا لسنوات؟ لقد اشتهر بأنه يُتقن الحُكم على البشر.»
دقَّ الأب براون بمِظلَّته على الأرض وامتلأ صوته بنبرة تأكيدٍ لم يكن يُظهرها إلا نادرًا.
وقال بنبرة تكاد توحي بالشراسة: «أجل، هكذا قُتِل. لقد كان هذا هو السبب الذي تسبَّب في مقتله. لقد قُتِل لأنه كان بارعًا في الحُكم على البشر.»
حدَّقوا جميعًا إليه ولكنه أكملَ كلامَه وكأنهم لم يكونوا موجودين.
سألهم قائلًا: «ما الذي يُخوِّل لأي إنسانٍ أن يُصدِر أحكامًا على غيره من البشر؟ لقد كان الثلاثة الذين قتلوه هم الثلاثة الصعاليك الذين وقفوا أمامه يومًا وصَرَفَهم عنه بسرعةٍ هنا وهناك في أماكن متفرقة؛ وكأنه لا يَحقُّ لأمثالهم أن يُعامَلوا بأي شكلٍ من أشكال اللطف أو المودة، أو كأنهم ليست لهم إرادة حُرَّة بحُكم الأخوة الإنسانية التي تربط بينهم وبينه. ولم تكن فترة العشرين عامًا كافية لتخبو فيهم نارُ الغضب التي استعرت بفِعل تلك الإهانة التي تعرَّضوا لها والتي لم يتمكَّنوا من فهمها في تلك اللحظة حين خَوَّل لنفسه الحُكم عليهم من النظرة الأولى وتقرير مصائرهم.»
قال السكرتير: «أجل، أفهم … وأفهم كيف أنك تفهم كلَّ تلك الأشياء.»
صاح الرجلُ الغربي المُهذَّب المَرِح بحماسةٍ كبيرة: «في الواقع، أنا الملوم إذا كنت قد فهمت. يبدو أن ويلسون والرجل الأيرلندي الذي تعرفه مجرد قاتلَين تآمرا لقتل رجلٍ أحسن إليهما. وأنا لا حاجة لي بقاتل أسود لعين من ذلك النوع، انطلاقًا ممَّا تُمليه عليَّ أخلاقي، سواءٌ كانت تتعلق بعقيدة دينية أم لا.»
قال فينير في هدوءٍ: «لقد كان قاتلًا أسودَ لعينًا، لا شك في ذلك. وأنا لا أدافع عنه، ولكن أعتقد أنَّ مهمة الأب براون هي أن يصلي ويدعو للبشر كافة، حتى لرجلٍ مثل …»
صدَّق الأب براون على كلامه قائلًا: «أجل، مهمتي هي الصلاة والدعاء للبشر كافة، حتى لرجل مثل وارين ويند.»