أفروديت
«أمَا تزال أفروديته حية؟» … بهذا التساؤل وهذا الأمل توجَّه نزار فومين الآن لا إلى البشر والمؤسسات — فقد ردوا عليه بأنه لا أثر لأفروديته في أي مكان — بل إلى الطبيعة، إلى السماء، إلى النجوم، إلى الأفق وإلى الجماد. كان يؤمن بوجود علامة ما في العالم غير ظاهرة أو إشارة غامضة تستطيع أن تدله هل ما زالت أفروديته تتنفس أم لفَّت البرودةُ صدرها. كان يخرج من الملجأ إلى الحقل ويقف أمام زهرة زرقاء بسيطة، فيحدِّق فيها طويلًا، ثم يسألها أخيرًا: حسنًا؟ أنت أدرى؛ فأنت متصلة بالأرض كلها وأنا وحدي أسير. هل أفروديت حية أم لا؟» لكن الزهرة لا تتأثر بلوعته وسؤاله، وتلزم الصمت وتواصل حياتها الخاصة، والريح تمر بلا مبالاة فوق العشب، كما مرت من قبل ربما فوق قبر أفروديت أو فوق وجهها الحي الضاحك. ويحدِّق فومين إلى الافق البعيد، إلى السحب المارة هناك والمشعة بالنور الصافي، ويفكِّر بأنه ربما كان من الممكن من هناك، من ذلك الارتفاع، أن يرى أين توجد أفروديت الآن. كان يؤمن بأن للطبيعة أملاكًا عامة لو نظرت إليها لعرفت حزن الطبيعة على ضياع خيراتها أو فرحتها لبقاء هذا الخير، فأراد أن يستشف من خلال العلاقة المشتركة بين جميع الأحياء والأموات في هذا العالم تلك الإشارة الواهية الخفية التي قد تنبئه بمصير زوجته أفروديت … حية هي أم ميتة.
واستسلم فومين للذكريات مكرِّرًا في نفسه ما عاناه مرةً من سعادة توقفت وجمدت إلى الأبد.
رأى بذاكرته مدينةً صغيرة تُضيئها الشمس، وأسقف بيوتها القرميدية وجدرانها الجيرية الباهرة، وبساتينها المثمرة النامية في نعيم الدفء تحت السماء الزرقاء. في ساعة الظهر كان فومين يمضي عادةً للإفطار في مقهًى يقع غير بعيد عن مكتب الإنشاءات للمواد المقاومة للحرارة، والذي كان يعمل فيه مشرفًا على التنفيذ. وفي المقهى يعزف الحاكي، ويمضي فومين إلى البوفيه ليطلب لنفسه سجقًّا بالكرنب وما يسمى ﺑ «الطيارة»؛ أي البازلاء المملحة التي يُلقونها في الفم ويقتنصونها وهي طائرة، ويطلب فوق ذلك كوز بيرة.
لقد مرَّت سنوات السِّلم السعيدة تلك منذ زمن بعيد، ولم يكن بوسعها أن تستمر إلى الأبد؛ لأن كل شيء ينبغي أن يتغيَّر لكي يبقى، حتى السعادة. وفي الحرب وجد إيفانوفيتش فومين سعادةً أخرى، مختلفة عن الكد السِّلمي السابق، ولكنها ذات قرابة به. أمَّا بعد الحرب فقد أمَّل أن يَخبُر حياةً أكثر سُموًّا من تلك التي عاشها وهو كادح ومقاتل.
•••
حرَّرت وحداتنا الطليعية تلك المدينة الجنوبية التي كان فومين يعيش ويعمل فيها قبل الحرب. وكان فوج فومين في الاحتياط فلم يزجُّوا به في المعركة لعدم الحاجة إلى ذلك.
وعسكر فوج فومين في النسق الثاني في نطاق المدينة، لكي يتحرَّك فيما بعدُ نحو الغرب في مسيرة طويلة. وفي أول يوم للتوقف كتب نزار إيفانوفيتش رسالةً إلى أفروديت، ومضى ليزور أعز مدينة عليه في أرض روسيا كلها. كانت المدينة محطمةً بنيران المدفعية ومحروقةً بلهب الحرائق، بينما نسف العدو مبانيها المتينة وحوَّلها إلى تراب. وقد أَلِف فومين رؤية حقول القمح التي دعكتها العجلات، والأرض التي امتلأت بجراح الخنادق، ومنازل البشر التي أطارت بها القذائف … ذاك كان حقل الحرب المحروث، الذي زُرع فيه ما لا ينبغي أن ينمو مرةً ثانية؛ جثث الأشرار … وما وُلد للحياة الطيبة الخلَّاقة، فاذا نصيبه مجرد الذكرى الخالدة؛ أجساد جنودنا التي تحرس في الأرض بعد موتها، عدونا المجندل.
مضى فومين عبر بستان الفواكه إلى ذلك المكان الذي كان مقهى أفروديت يقع فيه في وقت ما. كان ذلك في شهر ديسمبر. وبردت الأشجار المثمرة العارية من صقيع الشتاء وشملها خدر سبات حزين، وأغصانها الممدودة التي كانت تحمل في الخريف الثمار، مزَّقتها الآن دفعات الرصاص فتدلَّت عاجزةً نحو الأرض، مُعلَّقةً بخيوط شظايا الخشب، ولم تسلم سوى أغصان نادرة. واجتثَّ الألمان أشجارًا كثيرة من جذورها لاستخدامها في بناء الاستحكامات.
كان المنزلُ الذي ضمَّ المقهى منذ نيف وعشرين عامًا ثم أصبح بعد ذلك مسكنًا، متناثرًا الآن شظايا ومخلفات، مقتولًا، ميتًا، تُصفِّر فيه الريح. كان فومين لا يزال يذكر ملامح ذلك المنزل، بيد أنها هي الأخرى ستتلاشى قريبًا مع مرور الوقت في ذاكرته، وسوف ينساها. أفلا يرقد الآن هكذا في مكان ما، في حقل مُقفر بعيد، جسد أفروديت البارد الكبير الحبيب، تنهشه آكلات الجيف، ويتحلَّل في الماء والهواء، وتُجفِّفه الريح وتحمله لكى تتبدَّد كل مادة حياة أفروديت في العالم بالتساوي وبلا أثر، حتى يصبح الإنسان نسيًا منسيًّا؟
واصل طريقه نحو طرف المدينة، حيث عاش صبيًّا. وبعث الخواء البرودة في قلبه، وهبَّت نسائم متأخرة جاءت بعد الموت على أطلال المساكن الصامتة. ورأى المكان الذي عاش فيه ولعب في صباه. لقد احترق المنزل الخشبي القديم حتى الأساس، وتبعثر القرميد الذي فتَّته الحريق الشديد على الأرض المحروقة فوق مهد طفولته. وشجرة الحور في الفناء، التي كان نزار الصغير ينام في ظلها صيفًا قد اجتثَّت وتمدَّدت الآن بجوار جذلها، ميتةً متحلِّلة اللحاء.
وقف فومين طويلًا أمام شجرة طفولته هذه، وكأنما فجأةً فقد قلبه المخدَّرُ قدرةَ الإحساس؛ لكي لا يستوعب المزيد من الألم، ثم جمع فومين بضع قرميدات سليمة ورصَّها رصةً صغيرة منسقة، وكأنه يُجهِّز المواد للبناء القادم، أو أنه يجمع البذور ليزرع روسيا من جديد. هذه القرميدات وكل ما عداها من قرميد في المنطقة كلها قد صُنعت في الورش التي أسَّسها فومين هنا في سنوات السِّلم الغابرة وأشرف عليها أعوامًا طويلة.
مضى فومين إلى السهب … ففي وقت ما شيَّد هناك على بعد حوالي كيلومترين من المدينة أول سد صغير لتجميع المياه. كان آنذاك بناءً سعيدًا، أمَّا الآن فكان حقل شبابه حزينًا خاويًا، عقيمًا حرثته الحرب. وتفرَّقت أعواد حشائش مجهولة في الثلج الذائب القليل، وراحت تهتز مع الريح في إذعان، غير مبالية بالإنسان … كان السد الترابي قد نُسف في وسط جسده، وجفَّت مياه البركة وماتت فيها الأسماك.
عاد فومين إلى المدينة وعثر على شارع شيفتشينكو وعلى المنزل الذي عاش فيه بعد عودته من روستوف حيث تخرَّج هناك من المعهد البوليتيكنيكي المتوسط. لم يكن للبيت وجود، ولكن الدكة بقيت. كانت هذه الدكة تقوم تحت نوافذ شقته، وكان يجلس عليها في أوقات المساء، وحده في البداية، ثم مع أفروديت فيما بعد، وكانا يعيشان آنذاك في إحدى غرف المنزل المدمَّر الآن، بنوافذ تُطل على الشارع. كان أبوه، الأسطى بمصنع صهر الحديد، قد مات بصورة مفاجئة عندما كان فومين ما يزال يدرس في روستوف، وتزوَّجت أمه للمرة الثانية وسافرت لتقيم في كازان. وبقي نزار فومين الفتى وحيدًا آنذاك، لكن العالم كله، المغمور بنور الشمس، والمليء بالأشخاص الجذابين، عالم الشباب المغري والأسرار الخالدة المُلَفعة بالغموض، العالم الشحيح وغير المرتب بعدُ ولكنه مشحوذ بأمل وإرادة العمال البلاشفة … هذا العالم كان في انتظار الشاب، وأمامه ارتمت الأرض الحبيبة المعروفة، وقد جوَّعتها وعرَّتها ويلات الحرب العالمية الأولى.
جلس فومين على الدكة التي أمضى عليها مع أفروديت الكثير الأماسي الصيفية الهادئة في الحديث والحب. أمَّا الآن فكان أمامه عالم خاوٍ مدمَّر، وربما لم يعد على قيد الحياة أقرب إنسان إليه. كان لا بد أن يبدأ كل شيء من جديد؛ ليُكمل ما شرع فيه منذ ربع قرن مضى.
•••
كان من الممكن أن تتجه حياة نزار فومين اتجاهًا آخر تمامًا لو لم يُلهمه الإيمان بمعنى حياة الطبقة العاملة على الأرجح، حياة أكثر هدوءًا، ولكنها حياة كئيبة عقيمة، ولكان له قدره المنفرد، ولكنه ما كان ليعرف ذلك المصير الذي عرفه عندما أعطى للشعب قلبه، فأحسَّ وأدرك أكثر ممَّا يستطيع فرد واحد أن يُحسه ويدركه، وأصبح يتنفَّس ما تتنفَّسه البشرية؛ فالإنسان الفرد لا يمكنه أن يدرك معنى وغاية وجوده. أمَّا حينما ينتمي إلى الشعب الذي أنجبه، ومن خلاله إلى الطبيعة والعالم، إلى ماضي الزمن وحلم المستقبل … حينها يتكشَّف لروحه ذلك النبع الدفين الذي ينبغي أن يشرب منه الإنسان، لكي يستمدَّ قوةً لا تنضب لإنجاز عمله، وإيمانًا راسخًا بضرورة حياته.
كانت روسيا السوفييتية آنذاك قد شرعت لتوها في تحديد مصيرها، وسار الشعب في درب عظيم بلا عودة … إلى ذلك المستقبل التاريخي الذي لم يخطُ إليه أحد قبله … فقد أراد أن يجد تجسيدًا لكل أحلامه … وأن يحصل بالكد والمآثر على القيم الخالدة وكرامة الحياة الإنسانية ليتقاسمها مع غيره من الشعوب … كان فومين قد رأى في صباه مشهدًا بسيطًا في بحر آزوف. كان واقفًا على الشاطئ، وقارب صيد شراعي وحيد يُبحر بعيدًا في البحر الأزرق تحت سماء مشرقة ذهبية. وراحت السفينة تبتعد أكثر فأكثر، وعَكَس شراعها الأبيض بلونه الهادئ ضوء الشمس، ولكن السفينة ظلَّت مرئيةً طويلًا للواقفين على الشاطئ، ثم اختفت تمامًا خلف الأفق السحري. أحسَّ نزار آنذاك بفرحة منقبضة، كأنما دعاه شخص يُحبه ليتبعه نحو فضاء السماء والأرض الساطع، بينما لم يكن قادرًا بعدُ على المضي خلفه. وكتلك السفينة المختفية في الأفق المضيء، تخيَّل في تلك اللحظة روسيا السوفييتية المبحرة في آفاق الدنيا والزمن.
وتذكَّر أيضًا ساعةً من ساعات القيلولة في أحد الأيام المنسية. كان نزار يسير في الحقل هابطًا إلى وادٍ غطَّته أعشاب برية رائعة. والشمس في الأعالي تدعو الجميع الأرض إليها، فنهضت النباتات والمخلوقات من ظلام الأرض نحوها لتزورها … وكانت متعدِّدة الألوان، كلٌّ منها مختلف عن الآخر ولا يُشبهه … كل منها نشأ وعاش في داخل الأرض كيفما استطاع، المهم أن يخرج إلى النور ويتنفَّس ويتهلَّل ويقضي الأجل المقدَّر له في اللقيا المشتركة لكل الكائنات، من أجل أن يتمكَّن من حب الأحياء لكي يفترق عنها بعد ذلك إلى الأبد. أحسَّ نزار فومين الشاب آنذاك بأسى الكون الصامت العظيم الذي لا يمكن أن يفهمه ويُفصح عنه ويتغلَّب عليه سوى الإنسان وحده، وفي ذلك يتجلَّى واجبه. وفرح نزار آنذاك بواجبه كإنسان. وأيقن مقدَّمًا من سيؤديه؛ لأن الطبقة العاملة والبلاشفة أخذوا على عاتقهم كل واجبات البشرية وأعباءها … وبالعمل البطولي وقوة الإدراك السليم لمعنى وجوده على الأرض سيؤدي الشعب العامل رسالته وسيبدِّد نورُ الحقيقة ظلام مستقبل البشرية. هكذا كان نزار فومين يفكِّر في شبابه. كان آنذاك يُحس أكثر ممَّا يعرف، ولم يكن بعدُ قادرًا على شرح فكرة المصير المشترك لكل البشر بكلمات واضحة، ولكنه كان قانعًا بالثقة السعيدة بأن الظلام الذي يلف العالم ويُلقي بظلاله على قلب الإنسان، ليس ظلامًا أبديًّا بل مجرد ضباب ما قبل الفجر.
وكان أتراب نزار فومين من الكمسموليين والبلاشفة مفعمين بنفس فكرة خلق العالم الجديد، وكانوا، مثل نزار، واثقين بأنهم مدعوون من لينين للمشاركة في المأثرة العالمية للبشرية … من أجل أن يحل أخيرًا على الأرض عصر الحياة الحقة، وتتحقَّق جميع أحلام البشر التي استحقوها بكد القرون والتضحيات الجسام، والتي صانوها بالتجربة الطويلة والتفكير الصبور.
بعد أن أنهى نزار فومين المعهد المتوسط المتخصِّص في مدينة روستوف على الدون عاد إلى مسقط رأسه، إلى هذه المدينة ذاتها، التي يجلس فيها الآن وحيدًا. آنذاك أصبح نزار فني بناء وبدأت مأثرة حياته. كان ينظر إلى كل ما هو مادي وباهت وعادي بانفعال وتأثر، حتى لقد أصبح بالنسبة له روحيًّا، وغذَّى شغفه بالعمل. والآن لم يعد يذكر هل كان يعي آنذاك أن كل ما هو سامٍ حقًّا لا يولد إلا من الحاجة المعيشية، بيد أنه كان يصنع بيديه حينذاك ذلك التحوُّل من المادي إلى الروحي، وكان يؤمن بحقيقة الثورة لأنه قام بها بنفسه ورأى أثرها على مصير الشعب.
في البداية عمل نزار فومين مشرفًا على إنتاج مواد البناء المقاوِمة للحرارة في الإقليم … وكان ذلك المنصب يُعد منصبًا صغيرًا، ولكنه كان متحمِّسًا لهذا العمل فلم يتقبَّله بقلبه كوظيفة، بل كمغزى حياته، وكان ينظر نظرات مشبوبةً بالعاطفة إلى بواكير القرميد الذي أنتجوه في الورشة اليدوية. مسَّد آنذاك برفق أول بلاطة قرميد، وتشمَّمها، وحملها إلى غرفته حيث كان يعيش لكي ينظر مرةً أخرى في المساء، وفي الصباح أيضًا، وليتأكَّد: أهي فعلًا جيدة ومتينة بحيث تستقر لأعوام طويلة على أسطح بيوت الفلاحين بدلًا من القش، وتحمي بذلك المنازل الريفية من الحرائق. كان قد درس آنذاك إحصائيات الحرائق في إقليمه حسب بيانات مجالس «الزيمستفو» القديمة، فقدَّر أنه إذا حل القرميد محل القش في تغطية الأسطح، فإن الفلاحين يستطيعون من الأموال المتوفرة نتيجة تلافي خسائر الحرائق، أن يبنوا مثلًا خلال ثلاث سنوات بئرًا أرتوازية في كل قرية، تُدر ماءً وفيرًا صحيًّا، أو شيئًا آخر، أما في السنوات الثلاث أو الأربع التالية فيمكنهم بنفس الموارد التي يُنقذها القرميد من الحريق، بناء محطة كهربائية محلية بطاحونة ومقشرة غلال. كانت مثل هذه الأفكار تجعل باستطاعة نزار فومين أن يحدِّق طويلًا في القرميد دون ضجر ويفكِّر في كيفية جعله أكثر متانةً ورخصًا … كان القرميد آنذاك عواطفه ومعاناته، وعوضه عن الكتاب والصديق، عن الإنسان … وفيما بعدُ أدرك أنه لا يمكن لأي مادة أن تعوِّضه عن الإنسان، أمَّا في أيام الشباب فكان يكفيه مجرد تصور الإنسان.
هناك أزمان يعيش الناس فيها فقط على الآمال وتوقعات التغيير في أقدارهم، وهناك زمن تحمل فيه ذكرى الماضي وحدها السلوى للجيل الحاضر، وهناك زمن سعيد يتوافق فيه تطوُّر العالم التاريخي مع حركة قلوب البشر. وكان نزار فومين رجلًا من الزمن السعيد لشعبه، وفي البداية كان مثل الكثيرين من أترابه وشركائه في الرأي، يعتقد بأن عصر البهجة الوادعة قد حل، عصر السلام والأخوة والنعيم، الذي سينتشر تدريجيًّا ليشمل العالم. ولكي يُصبح ذلك واقعًا ملموسًا يكفي فقط أن يبنى ويكدح. هكذا كان يعتقد فومين الشاب آنذاك.
وهيَّأ نزار فومين لنفسه راحة النفس بحبه لزوجته وإخلاصه لها. وبذا روَّض في نفسه كل الشهوات الغامضة التي كانت تشده إلى زوايا عالم الحس المظلمة، حيث لا يمكن إلا أن يبدِّد حياته عبثًا، وإن يكن بلذة ربما، فكرَّس كل قواه للعمل ولخدمة الفكرة التي أصبحت تشغف قلبه … أي لِمَا لا يبدِّد حياة الإنسان بل يبعثها دومًا وبلا توقف … لِمَا أصبح مصدر متعته … ليس تلك المتعة الضارية المنهكة، بل المتعة الوديعة كالخير الهادئ.
كان نزار فومين كغيره من أبناء جيله مشغولًا آنذاك ببث الإلهام في العالم، الذي كان قائمًا قبل ذلك في صورة كئيبة، مبعثرًا وبلا هدف عام جلي.
وفي بداية عمله كان فومين يصنع القرميد للتكسيات المقاومة للحرارة، ثم اتسعت واجباته فيما بعد، وسرعان ما انتُخب نائبًا لرئيس مجلس البلدة. وحسب الأهمية الفعلية لنشاطه أصبح كبير مهندسي جميع الأعمال في البلدة وفي الإقليم المحيط بها. آنذاك كانت هذه المدينة تعتبر بلدة، بمثابة عاصمة الإقليم أو الناحية.
كان فومين يشيد السدود في السهوب الجافة لسقي المواشي، ويحفر في القرى الآبار المدعَّمة بالحلقات الأسمنتية، ويعبِّد الطرق في الناحية كلها بنوع من الأحجار المحلية؛ لكي يتغلب بكل الوسائل على فقر الحياة ويربط روح الفلاح الوحيدة بالشعب كله.
ولكنه فكَّر آنذاك أيضًا في شيء أهم، وحتى في الأحلام كانت تراوده نفس الفكرة وتعيش فيه، معشمةً إياه بالسعادة. ظل فومين يُعد لعمله عامين، حتى سمح له مجلس الإقليم بالبدء فيه. كان هذا العمل عبارةً عن بناء محطة كهربائية في البلدة، مع التوسع التدريجي في شبكة الكهرباء ومدها منها إلى كل الإقليم، إلى كل الناحية؛ لكي يحصل الشعب على النور لقراءة الكتب وعلى قوة الآلة لتخفِّف عنه عناء العمل، وعلى الحرارة في الشتاء لتدفئة المنازل وحظائر الماشية. وبتنفيذ هذا الحلم البسيط ينبغي أن يتغيَّر كل نمط حياة السكان، وسيشعر الإنسان آنذاك بالتحرر من الفقر والأحزان ومن وطأة الكد الذي يُنهكه حتى النخاع ولا يضمن له مع ذلك الرخاء في الحياة.
كانت ظلال الذكريات تمر الآن على وجه العقيد فومين، الجالس بين أطلال المدينة الصريعة التي شيَّدها هو ورفاقه في وقت ما. وكانت الذكريات تطبع على وجهه تارةً ابتسامة، وتارةً حزنًا، وتارةً صورةً هادئة للماضي البعيد. وقد شيَّد آنذاك محطةً كهربائية، وأُقيم حفل راقص في نادي التثقيف السياسي بالناحية تكريمًا لبدء تشغيل المحطة الكهربائية القوية في ذلك الوقت، ورقصت أفروديت أيضًا في هذا الحفل الذي أضاءه إشعاع الكهرباء على ألحان أوركسترا من ثلاثة أكورديونات، وكانت أسعد من نزار نفسه؛ لأن عمل زوجها تكلَّل بالنجاح.
ولكن تنفيذ المشروع كان صعبًا على فومين آنذاك؛ فقد كانت اعتمادات ميزانية الناحية قليلة، ولذلك تطلب الأمر شرح فائدة الكهرباء لكل سكان الناحية؛ لكي يساهم الناس في بناء المحطة وشبكة الكهرباء بجهودهم وبمُدَّخراتهم. ومن ذلك نظَّم فومين آنذاك أربعًا وثلاثين جمعيةً فلاحية للكهربة وجمعها في اتحاد على مستوى الناحية. وقد كلَّفه ذلك كثيرًا من عناء القلب والقلق والجهد المتوتر. وتذكَّر الفتاة الفلاحة اليتيمة يفدوكيا ريميكو. كان والداها قد تركا لها بائنةً صغيرة لزواجها، فأودعتها عن آخرها كحصة، ثم عملت بعد ذلك بدأب وإقبال كبيرَين كمعاونة نجار في تشييد مبنى المحطة. يفدوكيا ريميكو الآن امرأة كبيرة السن، لو أنها على قيد الحياة، ولو كانت شابةً لكانت تخدم في الجيش على الأرجح أو تقاتل ضمن فصيلة فدائيين. وتذكَّر فومين أيضًا كثيرًا من الذين عملوا معه آنذاك … من الفلاحين والفلاحات، وأهالي البلدة، والشيوخ والشبان. كانوا يُشيِّدون بكل الصدق والإخلاص، وبكل ما يملكون من قدرة، عالمًا جديدًا على وجه الأرض. لقد تفجَّرت قدراتهم الدفينة المكبوتة آنذاك وظهرت، وراحت تنمو في العمل الواعي المعطاء. وأشرقت نفوسهم وإدراكهم للحياة آنذاك، ونمت كما ينمو الزرع في أرض أُزيلت عنها ألواح الأحجار. لم تكن المحطة قد اكتمل بناؤها وتجهيزها بعد، ولكن فومين أصبح يرى بسرور أن أبناءها، هؤلاء الفلاحين الذين يعملون تطوعًا بالإضافة إلى كدهم في الحقول من أجل لقمة العيش، قد انهمكوا في العمل، وأحس كل منهم من خلاله بالاهتمام بالآخر وبصِلتهم بالطبقة العاملة التي صنعت الآلات لتوليد الكهرباء، إلى درجة أن وحدة قلوبهم الكئيبة زايلتهم، واللامبالاة الفردية للمالك الصغير بالعالم الغريب عنه كله والخوف منه بدأت هي الأخرى تزايلهم. صحيح أن لدى كل شخص، في أفكاره الدفينة، رغبة في الخروج من داره، من وحدته؛ لكي يرى ويعايش الكون كله، بيد أنه كان يتعيَّن إيجاد طرق ميسرة وفي متناول الجميع لتحقيق ذلك. وقد عبَّر الفلاح العجوز يريمييف لفومين آنذاك عن فكرته الغامضة حول نفس الموضوع فقال: «ألَا نشعر يا نزار إيفانوفيتش بأن السلطة السوفييتية تعطينا فرصة الاختيار في الحياة … كأنها تقول: هيا، اعمل، واسعد، ولتكن مسئولًا عن الخير وعن الشر؛ فأنت الآن على الأرض لست بعابر سبيل غريب. فانظر كيف كانت الحياة من قبل … ترقد في رحم الأم فلا تشعر بنفسك، فاذا خرجت إلى الدنيا تقهرك البلايا والمصائب، وتعيش في الدار وكأنك في زنزانة ولا ترى الدنيا، فاذا مت فلترقد ساكنًا في القبر ولتنسَ أنك كنت. كنا دائمًا محشورين يا نزار إيفانوفيتش … في الرحم، وفي الزنزانة، وفي القبر ولا شيء غير الغيبوبة. ومع ذلك كان كل واحد يعطِّل الجميع! أما الآن فكل واحد يساعد الجميع … ها هنا السلطة السوفييتية والتعاونيات!»
ترى أين ذلك العجوز يريمييف الآن؟ ربما لا يزال حيًّا بعد … كلا، هيهات؛ فقد مرَّ زمن طويل.
لم تعمل المحطة الكهربائية سوى فترة قصيرة؛ فبعد سبعة أيام من بدء تشغيلها احترقت. وكان نزار فومين ساعتها على بعد أربعين كيلومترًا من البلدة؛ فقد ذهب ليتفقَّد سدًّا بالقرب من عزبة دوبروفكا هدمه فيضان أمطار الخريف، وليحدِّد حجم الأعمال المطلوبة لإصلاحه، وأبلغوه هناك بنبأ الحريق عن طريق رسول راكب، فعاد فومين على الفور.
في طرف البلدة، حيث كان يقوم بالأمس فقط مبنى المحطة الجديد المبني بالطوب اللبن، أصبح المكان خاويًا الآن. احترق كل شيء وصار رمادًا، ولم يتبقَّ سوى أجساد الآلات المعدنية الميتة؛ المحرك العمودي والمولِّد. وبفعل الحرارة ذابت في جسم المحرِّك كل الأجزاء النحاسية وسالت منه. وانفصلت كراسي التحميل وأسلاك التوصيل الذائبة وتجمَّدت فوق الأساس كسيول دموع. وفي المولد انصهرت وتشوَّهت شنابر الملامسات، واحترق الملف وتبدَّد دخانًا، وتبخَّر النحاس كله وأصبح عدمًا.
وقف نزار فومين آنذاك بجوار آلاته الميتة التي كانت تحدِّق فيه بفتحات أجزائها الرقيقة المحترقة العمياء، وراح يبكي. وحرَّكت ريع عاصفة ألواح الحديد المنكمشة على الأرض إثر ما عانته من الحريق، فقرقعت بكآبة. ونظر فومين في هذه اللحظة الحزينة من لحظات حياته إلى السماء … كانت تسبح فيها سُحب خريفية داكنة تسوقها رياح مكفهرة. هناك كان الملل واللامبالاة بالإنسان؛ لأن الطبيعة كلها، رغم ضخامتها، وحيدة تمامًا، لا تعرف شيئًا سوى نفسها. أمَّا ما احترق في النار هنا فكان مختلفًا … كان هنا عالم شيَّده البشر في تعاطف. هنا تحقَّق بصورة مصغرة الحلم بحياة سامية، وفي المستقبل بتغيير وإحياء الطبيعة المُضنية، الرازحة تحت قهرها لذاتها … الحلم الذي ربما لا يوجد في الكون كله سوى في قلب الإنسان ووعيه، وليس كل إنسان، بل فقط ذلك الإنسان، الذي كان أول من توصَّل عبر الفداء والكد والثورة، إلى مثل هذا الإدراك لمصيره. وإذن فما أصغر هذه القوة الخيِّرة في آماد العالم الضخم، وما أشد الحاجة إلى صونها!
وحلَّ بالنسبة لنزار فومين زمن حزين. أنبأته سلطات التحقيق أن المحطة لم تحترق صدفةً أو بسبب إهمال، بل أحرقتها يد شريرة. وهذا ما لم يستطع فومين أن يفهمه للوهلة الأولى … إذ كيف يمكن لِمَا يُعتبر خيرًا للجميع أن يثير الحقد ويصبح سببًا للجريمة. وذهب ليرى ذلك الشخص الذي أحرق المحطة وبدا له المجرم شخصًا عاديًّا، ولم يكن نادمًا على فعلته. وأحسَّ فومين في كلامه بحقد لم يشبع، ظل المجرم يستمد منه طاقته الروحية حتى وهو مقبوض عليه. الآن لم يعد فومين يذكر ملامحه وكلماته على وجه الدقة، لكنه يذكر جيدًا غله الذي لم يُخفِه أمامه هو، كبير بناة المنشأة الشعبية المدمرة، وتفسيره لفعلته على أنها إجراء ضروري لإرضاء عقله وضميره. أصغى فومين إلى المجرم آنذاك صامتًا، وأدرك أنه يستحيل إقناعه بالكلمة، أمَّا إقناعه بالعمل فممكن، لكنه لن يدع لهم الفرصة أبدًا لإتمام العمل حتى النهاية، وسوف يخرِّب ويدمِّر دائمًا كل ما يبنيه سواه وهو بعدُ في البداية.
رأى فومين كائنًا كان يظن أنه إما لا وجود له أبدًا في العالم، وإما أنه يعيش بعد الثورة في حالة عجز وعدم قدرة على إلحاق الضرر. أمَّا في واقع الأمر فقد كان هذا الكائن يحيا حياةً مستعرة، بل كان له حتى عقل يؤمن بصحة ما يعتقده؛ عندئذٍ تسلَّل الشك إلى إيمان فومين بقرب حلول النعيم على ظهر الأرض كلها. وبدت صورة المستقبل المشرق في مخيلته وكأنها ابتعدت نحو الأفق المضبب، وتحت قدميه امتدَّت من جديد الأرض الرمادية القاسية الوعرة والتي كان عليه أن يسير فوقها طويلًا، نحو ذلك العالم البراق، الذي بدا جد قريب وسهل المنال.
عقد الفلاحون والبناة والمساهِمون في المحطة اجتماعًا، واستمعوا في الاجتماع إلى ما قاله فومين وأطرقوا صامتين، وهم لا يُخفون أساهم المشترك، ثم تقدمت يفدوكيا ريميكو وقالت بوجل إنه ينبغي جمع المال وإعادة بناء المحطة المحروقة؛ فخلال عام أو عام ونصف يمكن إعادة بناء كل شيء بأيدينا — قالت ريميكو — وربما أسرع من ذلك بكثير. فردَّ عليها من مجلسه فلاح داخله المرح، ولم يكن معروف من هو: «ماذا دهاك يا فتاة؟ ضيعت بائنتك في النار، والآن تلقين فيها ببائنة أخرى. بهذه الطريقة لن تتزوَّجي حتى الممات، وستذبلين عانسًا!»
وبعد أن بحثوا الأمر، وكم سيحصلون من مؤسسة التأمينات تعويضًا عن الحريق، وبكم ستُساعدهم الدولة إقراضًا، وكم ينبغي إضافته من المُدَّخرات المكتَسبة بالكد، قرَّر المساهمون أن يتعهَّدوا ببناء المحطة من جديد لثاني مرة، وقال صانع البراميل الحرفي يفتوخوف: «الكهرباء انطفأت ولكننا سنواصل العيش بلا انطفاء! أمَّا أنت يا نزار إيفانوفيتش فنوصيك جميعًا بصورة قاطعة بالبناء وفق الخطة والمقاييس مثلما كان من قبل!» كان يفتوخوف يُحب أن يوصي بتنفيذ أكبر الأعمال وأصغرها بصورة قاطعة. وكان هو نفسه يحيا بصورة قاطعة وثورية، واخترع برميلًا كرويًّا مستديرًا. وكأنما مس نور دافئ روح نزار فومين المحزونة آنذاك. ودون أن يدري ما الذي ينبغي أن يفعله أو يقوله، لمس يفدوكيا ريميكو، وأراد أن يقبِّلها في خدها وهو خَجِل من الناس، فلم يجرؤ على تقبيلها إلا في شعرها الداكن فوق أذنها. هذا ما كان حينذاك، وبقي الإحساس الحي بالسعادة، ورائحة شعر الفتاة ريميكو، وصورتها الوديعة، ماثلة في ذاكرة فومين حتى الآن.
ومن جديد شيَّد نزار فومين في المكان السابق محطةً كهربائية أقوى مرتين من تلك التي احترقت في النار. واستغرق هذا العمل عامين تقريبًا. وخلال هذه الفترة هجرت أفروديت نزار فومين … فقد أحبَّت شخصًا آخر، مهندسًا قدم من موسكو لتركيب محطة إذاعة وتزوَّجته زواجًا ثانيًا. وكان لفومين أصدقاء عديدون من الفلاحين والعمال، لكنه أحس باليتم بدون أفروديته الحبيبة، ولفَّت برودة الوحدة قلبه. كان قبلًا يعتقد على الدوام أن أفروديته الوفية هي ربة، لكنها الآن أصبحت بائسةً بحاجتها واحتياجها إلى الاستمتاع بحب جديد بتعلُّقها بالفرحة والمتعة التي كانت أقوى من إرادتها، أقوى من وفائها وتعلُّقها الأبي بمن كان يحبها وحدها على الدوام. ولكن نزار فومين لم يستطع حتى بعد فراق أفروديت أن ينساها، وظلَّ يُحبها كما في السابق. لم يشأ حتى أن يقاوم مشاعره التي تحوَّلت الآن إلى عذاب … فلتكن الظروف قد انتزعت منه زوجته، فجعلتها الآن بعيدةً عنه جسديًّا، فليس من الضروري أن تستحوذ على الشخص عن قرب وتسعد فقط بجواره، يكفي أن تُحس بالشخص الحبيب ساكنًا مقيمًا في قلبك. وهذا، في الحقيقة، أصعب وأشد تعذيبًا من الاستحواذ القريب؛ لأن الحب لشخص لا مبالٍ لا يعيش إلا على قوة وفائه وحدها، دون أن يحصل في المقابل على ما يغذِّيه. ولكن هل يقوم فومين وغيره من أبناء وطنه بتغيير العالم إلى الافضل من أجل أن يسيطروا عليه أو لكي يتصرَّفوا فيه بعد ذلك كملكية لهم؟ … وتذكَّر فومين أنه قد خطرت له آنذاك فكرة غريبة ظلَّت بلا تفسير. أحسَّ في فراقه عن أفروديت بأن القوة الشريرة قطعت عليه طريق حياته مرةً أخرى. وربما كانت من حيث الأصل هي تلك القوة ذاتها التي احترقت بسببها المحطة الكهربائية. كان يدرك الفرق بين الحدثين، وكان يرى التباين بينهما، لكنهما بنفس الدرجة من القسوة عملا على تدمير حياته، وكان يواجههما نفس الشخص. من الجائز أن يكون هو نفسه المذنب في حق أفروديت؛ فقد يقع الشر رغمًا عن الشخص، بلا قصد، ودون أن يلاحظ، حتى وهو يشحذ قواه لفعل الخير لشخص آخر. يبدو أن ذلك يحدث لأن القلوب تختلف بعضها عن بعض … فأحدها حين يتلقَّى الخير، يستهلكه كله في سد حاجته، فلا يبقى منه شيء للآخرين. أمَّا القلب الآخر فقادر حتى على معالجة الشر وتحويله إلى خير وقوة … لنفسه وللآخرين.
أدرك نزار فومين بعد الحريق وبعد فقدان أفروديت أن النعيم الشامل والاستمتاع بالحياة، كما كان يتصوَّرهما من قبل، ليسا سوى حلم واهم، وأن حقيقة الإنسان ونعيمه الفعلي لا يكمنان في ذلك. وعبر صراعه مع عذابه وتخطيه وتحمُّله لَمَا كان يمكن أن يقضي عليه، وإعادة بناء ما تهدَّم، أحسَّ فومين بغتةً بفرحة طليقة، مستقلة عن الشرير وعن الصدفة. وأدرك سذاجته السابقة فبدأت عريكته تقسو وتتصلَّب، وتنضج في الشدائد وتتعلَّم القدرة على مغالبة وتفتيت صخور المصاعب التي تعترض طريق الحياة. وساعتها غاب العالم، الذي بدا له حتى هذه اللحظة واضحًا وسهل المنال، في الظلام الغامض البعيد، لا لأن الظلمة والأسى والرهبة كانت هناك بالفعل، بل لأن العالم كان في الحقيقة أكثر اتساعًا وامتدادًا في الاتجاهات بحيث تستحيل الإحاطة به دفعةً واحدة لا في روح الإنسان، ولا في الفضاء المجرد. وأرضى هذا التصوُّر الجديد نفس فومين أكثر من ذلك النعيم التعيس، الذي ظن فيما مضى أن الناس لا تعيش إلا من أجله.
بيد أنه هو وجيله لم يكونا آنذاك إلا في بداية طريق الحياة للشعب الروسي السوفييتي بأسره. ولم يكن كل ما عاناه نزار فومين في ذلك الزمن سوى مقدمة لمصيره الشاق، واختبار أولي للإنسان الشاب واستعداده لتحمل عبء القضية التاريخية الواجبة، التي شرع شعبه في إنجازها. وفي الحقيقة فثمة شيء دنيء ومزعزع في السعي إلى السعادة من أجل الذات فحسب؛ فبالمأثرة وحدها وتأدية الواجب إزاء الشعب الذي أنجبه يبدأ الإنسان، وفي هذا يكمن ارتياحه الأسمى أو سعادته الحقيقية الخالدة التي لا يمكن أن تعصف بها أية بلوى أو مصيبة أو يأس. بيد أن فومين لم يستطع آنذاك إخفاء حزنه بسبب مصائبه. وربما لو لم يكن بقربه أناس أحبوه كرفيقهم في الرأي، لخارت قواه تمامًا ولمَا استطاع أن يتمالك نفسه. قال له أحد رفاقه المقربين بأسًى متفهم: «اهدأ، تمالك نفسك! ماذا كنت تنتظر ذا غير ذلك؟ … من ذا الذي سيقدِّم لنا الفرحة والحقيقة؟ علينا نحن أن نصنعهما؛ لأن حزبنا يحقِّق معنى الحياة في العالم … حزبنا هو حرس البشرية، وأنت من الحرس! الحزب لا يربِّي عُجولًا بلهاء، بل أبطالًا لعصر الثورات والحروب العظيم … سوف تتعاظم أمامنا المهام دومًا، وسنرقى إلى ذُرى جبال تتكشَّف لنا منها كل الآفاق، حتى آخر الدنيا! فما بالك تعوي وتحزن! عش معنا … ماذا؟ أتريد أن تحصل على الدفء من الفرن المنزلي والزوجة فقط؟ أنت شخص ذكي وتعرف أننا لسنا بحاجة للمخلوق العاجز الذي يحافظ على نفسه! لقد حل زمان آخر!»
سمع فومين كلمة «حرس» لأول مرة آنذاك … ومضت حياته بعد ذلك. وذات يوم قابلته أفروديت، زوجته، وهي تشعر بالمهانة لخيانة زوجها الثاني لها، وقالت له إنها حزينة وتحن إليه، وإنها لم تفهم الحياة على الوجه الصحيح؛ إذ أرادت أن تفرح فقط دون أن تتحمل واجبًا أو التزامًا. وأصغى نزار فومين إلى أفروديت في صمت؛ فقد كانت مشاعر الغيرة والكرامة المجروحة ما تزال تتحرَّك في قلبه، ورغم أنها كانت مكبوتةً وشبه خرساء؛ فقد ظلت حية، مثل الحشرات التي لا تفنى. بيد أن فرحته وهو أمام وجه أفروديت، وقرب قلبها الخافق لملاقاته، أسكتا حزنه البائس، فقبَّل بعد سنتين ونيف من الفراق يد أفروديت الممدودة إليه.
وبدأت سنوات جديدة في العمر، وكثيرًا ما جعلت الظروف من فومين ضحية، وساقته إلى حافة الهلاك، بيد أن روحه لم يعد من الممكن أن تنضب يأسًا وكآبة. كان يعيش ويفكر ويعمل، كأنما يشعر دائمًا بيد كبيرة تقوده إلى الأمام برقة وصلابة … نحو مصير الأبطال. نفس تلك اليد الكبيرة أدفأته، ووصل دفؤها إلى أعماق قلبه.
•••
«إلى اللقاء يا أفروديت!»
قال نزار فومين بصوت مسموع.
أينما كانت الآن حيةً أم ميتة، فهنا، في هذه المدينة الخاوية من البشر، ما تزال مستكنةً إلى الآن آثار قدمَيها على الأرض، وما تزال باقيةً أشياؤها التي أمسكَت بها يداها في وقت ما، طابعةً عليها دفء أصابعها، وهنا انتشرت في كل مكان علامات حياتها غير المرئية، التي لن تندثر كلها أبدًا مهما تبدَّل العالم في تبدلًا عميقًا. وقنعت مشاعر فومين نحو أفروديت، في تواضعها، بمجرد فكرة أنها كانت تتنفس هنا في وقت ما وما زال هواء الوطن يحمل دفء شفتيها الخفيف وبقايا رائحة جسدها المختفي … فلا شيء يفنى في العالم بلا أثر.
«إلى اللقاء يا أفروديت! أنا الآن أحس بك في ذكرياتي فقط، ولكني أريد أن أراك كلك، حية، سالمة!
نهض فومين من على الدكة، ونظر إلى المدينة التي أصبحت منخفضة بأطلالها، ومكشوفة للعين من طرف إلى طرف، وانحنى لها، وعاد أدراجه إلى الفوج. كان قلبه المدرَّب على الصبر قادرًا ربما حتى على تحمُّل الفراق الأبدي، وكان قادرًا على الحفاظ على الوفاء ومشاعر الارتباط حتى آخر أيامه. أمَّا في أعماقه الدفينة فكان يحمل كرامة الجندي، القادر على القيام بأي عمل أو مأثرة. وكان فومين يشعر بالسعادة وهو يُطيح بالعدو الملتصق بالأسمنت وبالأرض، أو وهو يجعل من قنوط روحه أملًا، ومن الأمل نجاحًا ونصرًا.