السلوك والتطور
يعتمد التكيف السلوكي للفرد على قدرتين، تختص الأولى منهما بطاقات الفرد الأساسية، الحركية والحسية والسيكولوجية، وهي كلها طاقات محدَّدة تحددها الوراثة، وتختص القدرة الثانية بتنظيمه السلوكي، الذي وإن كانت تحدِّده الوراثة نوعًا ما، إلا أنه يتحوَّر بسابق التجربة بدرجات متفاوتة، فقد رأينا كيف أن الحيوان الأوَّلي ستنتور يقابل الظروف غير الملائمة، وكيف أنه يحوِّر سلوكه ويتذكر ما حدث له في تجربة سابقة، على أننا نستطيع أن نتنبأ بما يقدر عليه هذا الحيوان وحيد الخلية؛ لأننا على بينة من قدرته الحركية والحسية المحدودة، أما بالنسبة للحيوان متعدِّد الخلايا ذي المقدرة العالية على الإمساك بالأشياء كالبعام والراكون، فإنه قادر على أن يفعل بيديه مئات الأشياء المختلفة في أي موقف يُوضَع فيه، كما أن أثر تجربته السابقة قد تبقى فيه عدة سنوات أو حتى نهاية حياته، وهكذا تختلف الحيوانات، بعضها عن بعض، وتَرِث العليا منها طاقاتٍ متعددةً تنوِّع من تكيُّفها تنويعًا كثيرًا جدًّا، وهي تجابِه المشاكل التي تصادفها.
ويبدو أن هناك ميلًا تطوريًّا عامًّا لدى الحيوانات نحو ظهور قدْرٍ كبير من السلوك التكيفي فيها، فكلما كانت قدرات الحيوان على التعلم وعلى تنظيم سلوكه أكبر، كان تعلُّمه من أبويه أكبر ومن ثَمَّ ينقل هذه الخبرة إلى الجيل التالي. وكلما زادت معرفتنا بسلوك الحيوان الطبيعي، وجدنا الدليل تلو الدليل على أن في كثير من الحيوانات توجد بدايات من هذه القدرة الجديدة التي يمكن أن نطلق عليها الميراث الثقافي، ولنضرب لهذا الميراث مثلًا بالمسالك الوعرة التي تسلكها قطعان غنم الجبال في إبان هجرتها في كلِّ عام، فهي تنتقل فيها من جيل إلى جيل ولا يزال كل جيل يسلكها ولا يضل الطريق أبدًا، وثمة مثال آخر يختص بمخاوف الطيور البرية، فقد تعلَّمتها من أبويها ولا تزال تفرُّ طالبة المأوى المأمون كلما رأت طائرًا جارحًا يحوم قريبًا منها، وهكذا تتعدد الأمثلة لهذا الميراث الثقافي.
وما أن ترسو القدرة على نقل المسائل الثقافية حتى يكون للخواص الثقافية مجال التطور والتغير في طريقها الخاص بعيدًا عن تحديد الوراثة البيولوجية، وقد نضرب مثلًا بلغة الإنسان؛ فهذه اللغة تتغير من جيل إلى جيل بدون أن تتغير الوراثة الأساسية للناطقين بهذه اللغة، على أن الأدلة في الوقت الحاضر تتجمع لدينا مشيرة كلها إلى أن الميراث الثقافي موجود بصورة بسيطة جدًّا في الحيوانات عدا الإنسان، وإن كان مجال البحث مستقبلًا قد يثبت أنه أكثر شيوعًا وأكثر تعقيدًا مما نظنُّ.
وقد سبق لنا أن تبيَّنَّا إحدى النظريات الأساسية للسلوك، وهي أن السلوك محاولة من جانب الحيوان نحو التكيُّف للتغيرات التي تُجرَى في بيئته، وأن بمعظم الحيوانات درجة من السلوك الاجتماعي، وهذا يعني أن بعضًا من التغيرات التي تكيِّف الحيواناتُ نفسَها لها موجود في بيئتها الاجتماعية. وفي واقع الأمر أن التكيف من مثل هذا النوع قد يسبق أحيانًا أي نوع آخر من التكيُّف، فالطائر من النوع المعروف بأبي الحناء، وهو طائر صغير يُميَّز بصدره الأحمر، ويفد إلينا في الشتاء مهاجرًا من الشمال ويرحل عنا في باكورة الربيع عائدًا إلى مواطنه، يزهو لون الذكر منه في شهور الربيع، ويجثم في أماكن ظاهرة ويغرد تغريدًا عاليًا مسموعًا، فيجذب إليه الأنظار، ويبدو أن في هذا السلوك خطرًا عليه، على أن هذه الوسيلة تجذب إليه الأنثى وتردُّ عنه الذكور الأخرى من نفس نوعه. على أن ذَكَر أبي الحناء إن لم يفعل هذا فإنه لن يحصل على مكان يستقلُّ به ولا ينازعه فيه أحد، ومن ثَمَّ لن يحصل على أنثى يتزوجها؛ وعلى ذلك فإنه وهو يفعله سوف يتحقق له مطلبه، وهو التزاوج ونقل صفاته إلى ذرية بعده، فكأن إنتاج الذرية عند أبي الحناء أفضل من الفرد نفسه، ونستطيع أن نشاهد هذه الظاهرة ظاهرة إيثار الذرية على الفرد نفسه في الطيور التي تبني لها أفاصيص على الأرض، فإن أنت اقتربت من واحد منها أو كما يحدث في الطبيعة مثلًا إذا ما اقترب منه حيوان لاحم، فإن الطائر الكبير، الأب أو الأم، يرتفع على التوِّ من العش ويطير فوق سطح الأرض مرفرفًا بجناحيه كأن أحدهما مكسور، وبذلك يدفع الأنظار عن عشِّه وفراخه إليه، وقد يكون في هذا هلاكه إلَّا أن فيه فرصة نحو نجاة الصغار.
وثمة مثال آخر يختصُّ بنوع من الظباء يمتاز بأن له عجزًا أبيض يبين للعيان، ويبدو أن من الخير له أن يبتعد وهو على هذه الألوان عن مصدر الخطر إن ظهر في الميدان على صورة وحش يريد به شرًّا، على أن الأمر على العكس، ذلك أن هذا الظبي إذا ما أحسَّ بالوحش يتربص به، فإنه يتخذ لنفسه مكانًا يظهر منه ويدور فيه ليجذب إليه أنظاره، على أن هذه الحركة تحسُّ بها الظباء الأخرى من القطيع فيأخذ كلٌّ منها في الالتفاف والدوران كلٌّ في دائرة، فتوقع هذه الحركة المغير في حيرة ولا يستطيع أن يركز هجومه على واحد منها، وقد تنجو عشيرة الظباء على هذا النحو.
وتنقلنا هذه الدراسة إلى دراسة العشائر الحيوانية، وقبل أن نبدأ فيها ينبغي لنا أن نتبيَّن ما هي العشيرة الحيوانية، فالملاحظ عن كثير من أنواع الحيوان، أن أيًّا منها يعيش في منطقة واسعة جدًّا قد تمتد مئات الأميال بل الآلاف منها، وفي هذه المنطقة تتجمع أفراد من النوع تعيش معًا مكونة ما يُطلَق عليه اسم العشيرة، وتعيش كلُّ عشيرة في معزل عن الأخرى وإن كانت قد تلتقي مع العشائر الأخرى وقد يتزاوج بعضها ببعض، وعلى هذا النحو لا نستطيع القول بأن العشيرة لا شأن لها بالعشائر الأخرى كليةً، وإنما هي تحت الظروف البيئية التي تعيش فيها تتحاب وتتواءم، على أن هذه العزلة النسبية هي من أهم العوامل التي تدفع إلى التطور؛ ذلك لأن كلَّ عشيرة تختصُّ بصفاتها الوراثية وتتزاوج فيما بينها تزاوجًا داخليًّا، وقد تظهر فيها خواص تميِّزها عن العشائر الأخرى اختلافًا تامًّا، وتحيا على أنها نُوَيع جديد قد يتحوَّل فيما بعد ذلك إلى نوع جديد آخر، وتزداد عزلتها على التدريج حتى كأنها لا تمت بصلة القربى للعشائر الأخرى، وبهذا تنشأ أنواع جديدة على مرِّ العصور.
إن أهم ما يعنينا في هذا المقام من أمر العشائر الحيوانية، هو أن سلوك العشيرة يبدو متصلًا بالعشائر الأخرى اتصالًا قويًّا ولو على حساب كيانها، فمن الأيائل (وهي ضروب من الظباء) ما تتصل فيها كلُّ عشيرة بمساحة معينة حتى لو شحَّ فيها المرعى، فلا تترك هذه المساحة، وإن كان في هذا خطر عليها، وهذا السلوك قوي جدًّا في هذه الحيوانات، والذي نستطيع أن نخلص إليه من هذه الظاهرة هو أن التوزيع الثابت لجميع العشائر أهم عند هذه الأيائل، حتى لو كان على حساب بقاء أو هلاك عشيرة واحدة منها.
من هذا يمكن لنا أن نقرِّر هنا مبدأ عامًّا، هو أنه إذا ما كان هناك تضارب في التكيف على مستويين من التنظيم، فإن الأعلى منهما يسبق الأول، فإذا لم يكن الفرد قادرًا على البقاء يأتي في المرتبة الثانية.
على أن هذه القاعدة ليست عامة جدًّا في جميع الحيوانات، وإنما نجدها أكثر أهمية في بعض الحيوانات من بعض، فهناك أنواع من الطيور قد نما فيها تنظيم اجتماعي وتنظيم بيئي بحيث إن الفرد لا يحيا إلَّا بهما، ومن ناحية أخرى هناك حيوانات كالفئران لا يكون التنظيم الاجتماعي ولا التنظيم البيئي فيها ثابتَيْنِ؛ ولذلك نجد البقاء فيها معتمدًا أساسًا على قدرة جماعات صغيرة جدًّا منها على أن تحيا منفردة، ولهذه الأنواع القدرة على تحمُّل التقلُّبات العددية للأفراد.
وكثيرًا ما تكون القدرة العالية على التنظيم الاجتماعي مصحوبة بتكيُّف كبير في العشيرة كلِّها تحت ظروف بيئيَّة متغيرة، فالزرازير التي أدخلها الإنسان إلى الولايات المتحدة أو إلى نيوزيلندة؛ أي إلى بيئتين مختلفتين عن بيئة الزرازير الأصلية والتي انتُزعت من بين عشائرها، نجحت في تدعيم كيانها في البيئة الجديدة وقامت فيها عشائر كبيرة جديدة، وينطبق الشيء نفسه على كثير من الحيوانات الاجتماعية عندما تؤخذ إلى بيئات جديدة، فالإلك (وهو نوع من الأيائل) حيوان اجتماعي من الطراز الأول يعيش هنيًّا في السهول وفي الغابات وكذلك في حدائق الحيوان.
وكلُّ هذا يؤدي بنا إلى نتيجة هامَّة، وهي أن التكيُّف ليس مجرد تكييف الفرد للظروف المتغيرة، وإنما هو أكثر من ذلك بكثير، وكلما فهمنا من سلوك الحيوان الفرد تجلَّت لنا بصورة أكبر أهمية التنظيم الاجتماعي والتنظيم البيئي، وتجد هذه الاكتشافات ما يطابقها في عدد من الحقائق الجديدة المستمدة من علم الوراثة.
فقد تبنَّى علماء الوراثة حديثًا أهميةَ تحليلِ أصول الوراثة بالنسبة للعشائر، وخصَّصوا له فرعًا جديدًا من دراساتهم أطلقوا عليه: «وراثة العشائر»، ويجمل بنا أن نشير أولًا إلى ما كشف عنه جريجور مندل مؤسِّس علم الوراثة، فقد كشف هذا الراهب العالم النِّسَب التي تكون عليها الأفراد في الجيل الأول لأبوين، وأفراد الجيل الثاني الناتجة من الجيل الأول، والتي تُعرَف بالنسب المندلية، بعد أن استطاع الحصول عليها في جيل من البازلاء أجرى فيه إحصاء للنماذج المختلفة فيه، وقد استطاع مَن تبعوه من العلماء باستخدامهم صنعته أن يصلوا إلى قانون عام يقول: بأن الأغلبية العظمى للنباتات والحيوانات تظهر بصورها التي هي عليه بسبب الوراثة البيولوجية عن طريق الكروموزمومات، وهي جسيمات كالخيوط تكون إحدى مكونات النواة الأساسية، وتحمل العوامل الوراثية أو الجينات، التي تميز الفرد. وقد بدأ علماء الوراثة في النهاية في أن يتأملوا فيما إذا كانت قوانين مندل الوراثية التي اشتقَّها من العشائر التي حصل عليها في الحقل، والتي طبقها مَن تَبِعه من العلماء على عشائر حصلوا عليها صناعيًّا في المعامل، فيما إذا كانت تنطبق أيضًا على العشائر في الطبيعة.
على أنه في واقع الأمر لا تصادف العشائر الحقة هذه الظروف النظرية المثالية أبدًا؛ ذلك لأنها قلما تكون لا نهائية التعداد وقلَّما تشيع فيها الفوضى إلى الحدِّ الذي يجعل تزاوجها تزاوجًا عشوائيًّا حقيقة، ومعنى ذلك أن الجينات في العشائر الطبيعية لا تنتقل بنفس النسب كما كانت في الأبوين؛ وعلى ذلك ففي المثال السابق قد تتغير الجينات ج من ٠٫٩ في الأبوين إلى ٠٫٨ في الذرية، وهكذا تتغير الوراثة من جيل إلى جيل، وهذا قانون أساسي في التطور: فالتحديد والتنظيم يؤديان إلى تغيُّر العشائر الوراثي.
- (١)
ضغط الطفرة: والطفرة هي تغير مباشر في الجينة، وتظهر في الطبيعة نتيجة قلقلة فيها، وهي وإن كانت نادرة إلا أنها موجودة وتكون مسئولة عن تحوير العشيرة على مدار فترة طويلة من الزمن.
- (٢)
ضغط الانتخاب: ذلك الانتخاب الناتج من السرعات النوعية للبقاء والتكاثر، ويعتمد أثره على شدته، فالانتخاب يحدث تغييرًا سريعًا في العشيرة إذا كانت الخاصية التي يعمل عليها تضبطها جينة واحدة ولا تتأثر كثيرًا بالعوامل البيئية التي تصادفها، ويكون التغيير أبطأ كثيرًا إذا ما كانت الخاصية مضبوطة بتوفيقة من الجينات أو تتأثر بالبيئة تأثرًا بالغًا مع خواص السلوك.
- (٣)
التزاوج الداخلي والتحور الوراثي: فالتزاوج الداخلي ينحو نحو أخذ الجينات من الحالة غير متجانسة اللاقحة (ج ﺣ) وتضيفها في توافيق متجانسة اللاقحة (ج ج أو ﺣ ﺣ)، ويظهر أثر ذلك على وجه الخصوص في العشائر الصغيرة العدد؛ وعلى ذلك فإن انقسام العشيرة إلى عشيرات صغيرة سوف يتسبَّب على مرِّ الزمن في تحول الجينات عشوائيًّا، وهذا يعني أن مثل هذه العشائر تتغير على الدوام وتصبح مختلفة كل عن الأخرى مع مضي الزمن.
وتوحي لنا هذه القوانين بفكرة أن العشائر قد تكون وحدات أكثر أهمية في التطور من الأفراد، وأن تنظيم العشيرة، أي إذا ما كانت منقسمة إلى جماعات صغيرة أو كبيرة، وإذا ما كان التزاوج يتمُّ فيها بتشكيل عشوائي، سوف يحدد تغيرها التطوري، وعلى التوِّ فإن هذا يوفق بين التطور والعشائر والتنظيم الاجتماعي وسلوك الحيوان في النهاية.
ودعنا الآن نتطرق إلى تأثير السلوك على التطور، فمن أنواع السلوك التي يختص بها بعض الحيوانات في بعض الأحيان هو العزلة، ويقول سكوت: إن ألفرد ولاس كان أول مَن تنبَّه إلى أثرها في التطور عندما كان يدرس فونات جزر الهند الشرقية، وإن كنَّا نرجعها إلى بوفون الفرنسي. والعزلة تنحو نحو تقليل حجم العشائر وتجعل التزاوج داخليًّا، كما أنها نتيجة العوامل المختلفة التي تربط الحيوانات بمنطقة واحدة، والسلوك هام في ربط الحيوان بمنطقة ما أو في إقامة حواجز تحول دون الحركة الحرة، فقد يكون لدينا نُوَيْعان من نوع واحد من الحيوان يبدوان متشابهَيْنِ جدًّا من حيث المظهر الخارجي، إلَّا أن أحدهما يفضل بيئة على أخرى ويتصل بها، ولو أننا شاهدناهما في الطبيعة لتبيَّنا على الفور انعزال كلٍّ عن الآخر وانفرادهما كل في نُوَيْع خاص. وبطبيعة الحال يتزاوج أفراد النُّوَيْع الواحد تزاوجًا داخليًّا، فيعزل صفاته الوراثية عن صفات النويع الآخر الوراثية، وتنحو الطيور نحو تأسيس عشائر صغيرة في داخل النوع الواحد، تختص كلٌّ منها بمساحة معينة، حتى إذا ما نزحت إلى الجنوب في إبان الهجرة وعادت إلى موطنها في الشمال، فإن كلَّ عشيرة تئوب إلى منطقة نفوذها التي رُبِّيت فيها ونشأت.
وما من شك في أن هذا يولد فيها العزلة التناسلية والتزاوج الداخلي.
وقد سبق لنا أن رأينا أن القدرة على تنظيم السلوك على أساس التجربة والخبرة، هي قدرة توائم البقاء، وأن الحيوانات التي تظهر فيها هذه القدرة يكون الانتخاب في جانبها ضد الحيوانات التي تغيب فيها هذه القدرة، وفي هذا الموقف تناقض ظاهري ويدفعنا إلى القول بأن الحيوان ينتخب للبقاء على أساس ما تعلمه أكثر من قدرته الأساسية على التعلم، على أنه لا يغيب عنَّا أن للحيوان المسن ذي التجربة فرصة أكبر في البقاء من الحيوان الصغير، حتى لو كانت لدى الصغير قدرة موروثة أكبر؛ وعلى ذلك فإن قدرة الحيوان على التكيف تصبح أوثق اتصالًا بالوراثة حتى إنه يصعب علينا أن نتصور كيف أن الانتخاب النوعي يعمل هنا عمله بكفاية، وقد كان داروين على بينة من هذه الصعوبة، على أنه استغل في شرح نظريته عن الانتخاب الطبيعي فكرة لامارك عن وراثة الصفات المكتسبة أو المتعلمة. وما من شك في أننا نستميح العذر لداروين؛ لأن عصره لم يشهد كثيرًا من الانتصارات التي حققتها العلوم البيولوجية الحديثة، فلم تكن قوانين مندل قد عُرِفَت بعدُ، ولم تكن الكروموزومات ولا الجينات قد عُرِفَت بعدُ، وحتى تجارب بافلوف العلمية كانت في غياهب المستقبل البعيد، ومن ثمَّ لم يجد داروين مناصًا من استغلال أفضل الفروض وقتئذٍ، على أننا لا نستطيع في الوقت الحاضر أن نتقبل هذا الفرض؛ ذلك أن التجربة يمكن أن تنتقل من جيل إلى آخر كنوع من الوراثة الثقافية؛ أي إن كلَّ جيل يتعلم من الجيل الذي سبقه، وهذا يجعل الانتخاب يعمل على الخاصية ولكن عند مستوى مختلف من التنظيم، مستوى العشيرة لا مستوى الفرد، فالجماعة أو العشيرة الاجتماعية التي فيها درجة عالية من الوراثة الثقافية ذات ميزة أكبر من الجماعة التي ليس فيها تلك الدرجة. وقد يعني هذا أن العشائر التي تبقى هي تلك التي تكون في أفرادها (كمجموعة) درجة عالية من القدرة على تنظيم سلوكها على أساس التجربة، وهكذا ينمو فيها نوع من الوراثة الثقافية.
وأي نوع تتوفر فيه درجة عالية من التنظيم الاجتماعي يمدُّنا بموقف تصبح فيه البيئة الاجتماعية التي نجمت جزئيًّا من وراثة الحيوان، أحد العوامل الكبرى في الانتخاب الطبيعي، وقد ننتظر أن يؤدي هذا الانتخاب الاجتماعي في النهاية إلى الاستقرار أكثر ممَّا يؤدي إلى التغيُّر، حيث إن أي انحراف قد لا يتناسب مع التنظيم الاجتماعي السائد.
وتؤدِّي بنا هذه الاعتبارات جميعها إلى نتيجة هامة، هي أن هناك طرازًا من التنظيم الاجتماعي والبناء العشيري يلائم التغير التطوري السريع، وفي الوقت نفسه توجد طرز أخرى تؤدي إلى الاستقرار المتطرف. وهذا موجود في الطبيعة فعلًا، فنحن نعرف أنواعًا تتغير على مرِّ العصور تغيرًا سريعًا جدًّا، كما أن هناك أنواعًا لا تزال كما هي مذ عُرِفَت منذ الأحقاب البعيدة حتى الأولى منها.
فتنظيم الجماعات والعشائر الاجتماعية إذن ذو تأثير عميق على التغيُّر الوراثي. ويقرُّ قانون «هاردي»: أن في العشيرة الكبيرة كبرًا لا نهائيًّا، وحيث يتم فيها التزاوج عشوائيًّا، تنتج فيها ميكانية الكروموزومات الوراثية طرازًا ثابتًا جيلًا بعد جيل، إلَّا بالنسبة لتلك التغيُّرات التي قد تحدث نتيجة الطفرات. على أن العشائر الحقة لا تصادفها مقتضيات قانون «هاردي»، فهي محدودة الحجم منظمة الجماعات، مشدودة إلى مناطق، كلُّ جماعة منها إلى منطقة معينة، ومن ثَمَّ فهي لا تتزاوج تزاوجًا عشوائيًّا، ومثل هذه العشائر غالبًا ما تكون في منأًى عن التنافس الفردي؛ وعلى ذلك فإن الانتخاب ينحو نحو العمل على مستوى العشائر، وتنتخب العشائر وتنتخب الأفراد على أساس التنظيم الاجتماعي الذي قد يؤثِّر بدوره على بقاء الجماعة ككلٍّ، وهكذا قد يحدد التنظيم على المستوى الاجتماعي والمستوى البيئي في أحد الأنواع ما إذا كانت سرعة تغيره الوراثي سريعة أو بطيئة.
وقد يتحول تأثير التنظيم الاجتماعي والعشيري على التغيُّر الوراثي أو الجيني ليفسِّر لنا مسألة من أهم المسائل التي تعني الإنسان، تلك هي الخاصة بتطوُّره السريع تطورًا سار على خطوط تختلف اختلافًا واضحًا عن الخطوط التي سار عليها ذوو قرباه من الرئيسات الأخرى، وإنسان العصر الحاضر أو الإنسان المدرك (هومو سابينز) يرجع تاريخه إلى نحو ٢٥–٥٠ ألفًا من السنين، ومن قبله كان إنسان النيندرتال، وتُشير جميع الدلائل المكتشفة في جنوب إفريقيا وغيرها وبنيان الإنسان المدرك التشريحي إلى أن الإنسان قد تطور تطورًا سريعًا مذهلًا، وإلى أنه كان محبًّا للسكنى في السهول، كما استخدم الكهوف ليأوي إليها، فإذا ما تصورنا البشر منقسمين في تلك الحقب إلى جماعات اجتماعية صغيرة تتصل كلُّ جماعة منها بمساحة خاصة بها، وأن هذه العشائر كانت تتبادل فيما بينها على نطاق ضيق، فمعنى ذلك أن الإنسان قد توفَّرت له أسباب التطور السريع، على أنه ما أن ظهرت في إحدى تلك الجماعات القدرة على الإعلام الشفوي (أي اللغة المنطوقة)، فإنها بزَّت الجماعات الأخرى وتفوقت عليها، ومن ثَمَّ بقيت هي واندثرت الأخرى.
وما أن رسخت في الإنسان الدرجة العالية للقدرة على الإعلام الشفوي حتى أصبحت هذه القدرة مستقلة تمامًا عن التحكم البيولوجي فيه؛ أي في الإنسان. وتنحو المجتمعات البشرية نحو التطور الثقافي الذي لا علاقة له بالوراثة البيولوجية.
ويرى سكوت أن التطور الثقافي من واقع الأمر في الوقت الحاضر، قد تقدم في اتجاه لا يتواءم مع التغيُّر البيولوجي؛ وذلك لأن العشائر البشرية في المجتمعات المتمدينة الحديثة كبيرة التعداد جدًّا، ولعلها تتفق مع مقتضيات قانون هاردي: عدد لا حصر له من الأفراد وتزاوج عشوائي بينها فيقل التغيُّر الوراثي، وهذا يعني تغيرًا بيولوجيًّا ضئيلًا، اللهمَّ إلَّا إذا اعتمد على الطفرات أو العوامل الأخرى التي أشرنا إليها من قبل.