السلوك الاجتماعي والتنظيم الاجتماعي
لاحظَ أحد علماء التجريب السيكولوجي أن في حظيرة دجاجِه عددًا من الدجاج يسلك سلوكًا خاصًّا، فمن بينه دجاجة تضرب بمنقارها الدجاجات الأخرى بدون أن تحاول هذه أن تردَّ عليها الهجوم بمثله، كذلك لاحظ أيضًا أن كلَّ دجاجتين تَقْتاتانِ معًا دائمًا أبدًا، تنقر واحدة منهما الأخرى التي تخضع لهذه الإساءة فلا تردُّ عليها بمثلها، وقد أمكنه أن يميِّز بين الدجاجات كلِّ بلونها ومظهرها، واستطاع أن يخلص إلى أن هناك نوعًا من «الترتيب في النقر» أو السيادة الهيرارشية.
وعندما خرج هذا العالم بمشاهداته تلك على دجاجاته أخذ العلماء غيره المهتمون بمثل هذه الدراسات في تطبيقها على الدجاج، فوجدوا أن ذلك العالم كان صادقًا في مشاهداته وفي قانونه الذي وضعه، والذي يحدِّد العلاقة بين أسرة الدجاج الواحدة، ونستطيع أن نشرح هذه النظرية بصورة أخرى، فإذا كانت لدينا ثلاث دجاجات تعيش معًا هي أ، ب، ﺟ فإن الدجاجة أ تنقر الدجاجتين ب، ﺟ ولا تستطيع أن تردَّ هاتان الدجاجتان الاعتداء عليها، بينما تنقر الدجاجة ب الدجاجة ﺟ التي لا تستطيع أن تردَّ عن نفسها العدوان؛ أي إنها تخضع لهما كما تخضع الدجاجة ب للدجاجة أ؛ أي إن هناك ترتيبًا بين الدجاجات الثلاث تعرفه كلٌّ منها ولا تحيد عنه.
على أن هذا السلوك، سلوك النقر بين الدجاج والسيادة الهيرارشية الموجودة فيه يمكن ملاحظته بطريقة أنجع عندما نضع دجاجة أليفة في مكانٍ ما لفترة ما، فإن الدجاجة الأليفة تستقبل الدجاجة الغريبة على الفور بالنقر والضرب والنتف، فترد عليها الاعتداء بمثله إلى أن تجري دجاجة وتفرَّ من الأخرى، وفي المرة التالية يقع الاقتتال بين الدجاجتين، ولكن بصورة أهون حدَّة من الأولى، وهكذا في المرات التالية تقلُّ حدَّة القتال حتى تسلم إحدى الدجاجتين وتخضع للأخرى خضوعًا تامًّا وتعيشان في سلام، ويكفي للدجاجة السائدة أن تُخِيف الأولى بإشارة طفيفة، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذه عادة قبيحة تلحق أكبر الضرر بالدجاج، على أن الأمر على العكس من ذلك، فإن الدجاج الذي تنشأ فيه السيادة الهيرارشية يغتذي بطريقة أفضل ويضع عددًا من البيض أكثر من الدجاج الذي لا يظهر فيه مثل هذا النظام.
ومنذ ظهور نتائج هذه البحوث عُرِف أن بجميع طوائف الفقاريات (الأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور والثدييات)، وكذلك بكثير من مفصلية الأرجل (كالحشرات والسرطانات والعنكبيات وغيرها) مثل هذا النظام، على أن هذا التنظيم الاجتماعي ليس هو وحده الذي يظهر بين الحيوانات التي تعيش في جماعات أو مجموعات وليس أهمها على الإطلاق، ذلك أن هناك وسائل كثيرة يمكن أن يُنظَّم بها السلوك الاجتماعي للحيوان.
وعندما نلحظ تكون التنظيم الاجتماعي بين دجاجتين، فإننا نتبين أن الذي يحدث حقيقةً هو تميُّز السلوك، فعندما يُجمَع بين الدجاج للمرة الأولى فإنها كلها تقتتل، فسلوكها كلها سواء ويوصف قطيع الدجاج بأن سلوكه لم ينتظم، على أن نظام السيادة سرعان ما يظهر فيه، فبعض الدجاج ينقر بعضًا آخر وهذا الأخير يخضع للنقر ويرضى به، وهنا يسْتَتبُّ النظام بينها وتعيش في سلام؛ لأن كلَّ دجاجة تعرف مكانتها من الأخرى.
وثمة تميُّز يظهر في داخل الجماعة الواحدة من الحيوان يعتمد على الاختلاف البيولوجي بينها، ففي مستعمرة النمل مثلًا تتميز عدة طوائف من الأفراد، فهناك الذكور والإناث المجنَّحة التي بدأت المستعمرة أصلًا والتي يظهر فيهما سلوك جنسي، ثم تظهر الإناث العقيم أو الشغالة التي تبني العش وتعتني بالصغار، ثم اليرقات الصغار ذاتها والتي لا يظهر فيها سوى سلوك طفيف جدًّا، ففي هذا المثال نستطيع أن نتبين ثلاث طرق يتميَّز بها السلوك؛ أولاها: التميُّز الوراثي المعتمد على تحديد الجنس، وثانيتها: تميُّز معتمِد على الاغتذاء، وثالثها: معتمِد على النضج أو النموِّ وتكوُّن الصغار. وإذا ما وازنا بين النمل والأغلبية العظمى للحيوانات بما فيها الفقاريات، نجدها تتميَّز إلى ثلاث طوائف فقط هي الذكور والإناث والصغار، وإن كان من اليسير لنا أن نصنِّف الصغار إلى جماعات تعتمد على درجة تكوُّنها ونضجها.
ويظهر في القردة الصيَّاحة جميع طرز التكيف السلوكي العامة، سلوك الاغتذاء وسلوك الطرد أو الإقصاء وسلوك البحث أو التنقيب وسلوك طلب المأوى وجميع أنواع السلوك، على أن من أهم ما يميِّز هذه القردة الصيَّاحة قلة ظهور سلوك العراك أو الاقتتال بينهما، فالذكر من هذه القردة يكفيه أن يصرخ في وجه ذكر آخر، وكذلك يكفي الأنثى أن تصيح صيحة عالية، على أن القردة الصيَّاحة هذه — كما تدلُّ التسمية — تُحدِث أصواتًا شتَّى، فهي تُوصَف بأنها صاخبة، ومن ثم يصل فيها سلوك المحاكاة الجماعية إلى منتهاه؛ ذلك أنه يتبع بعضُها بعضًا على الدوام وهي تجول وتجوب بين قمم الأشجار، كما يظهر في الإناث قدرٌ كبير من سلوك العناية بالصغار، على أن هذه الطرز من السلوك الاجتماعي منظمة في علاقات اجتماعية محدَّدة.
فهناك علاقة الأنثى بصغيرها، وهي أظهر علاقة في الجماعة، فالأنثى دائمًا أبدًا مستجيبة له وتحمله في سنته الأولى أينما ذهبت، وتلتقطه وتأخذ بيده عندما يسقط منها على الأرض وتحنو عليه في أثناء الليل فتضمه إلى صدرها لتحميه من البرد أو المطر، وكثيرًا ما تطعمه بالثمار كلما نما، وهي تحمله فوق ظهرها قبل أن يتمَّ فطامه في عامين؛ والصغير متمسِّك بها عاقدًا ذيله الطويل حولها، فالسلوك هنا نوع من الرعاية المعتمدة؛ أي اعتماد الصغير على أمِّه اعتمادًا تامًّا، وعندما يسقط الصغير منها فإنها تصيح مولولة، وعندما يعود إلى أحضانها فإنها تقرُّ وتهمهم همهمة الرضا.
كما أن هناك علاقة الأنثى، وهي علاقة ودٍّ، فلا يتشاحن الإناث ولا يتعاركن، وإنما ينحن نحو التجمع معًا، وكلٌّ تحمل صغيرها ويتبعن الذكور، على أنه لا تظهر فيهن قيادة، وهناك علاقة الصغار بالصغار الأخرى، فهي دائمًا تلعب معًا وهي تحت رعاية أمهاتها، فتلهو ويعدو بعضها وراء بعض، وقد تتصارع أحينًا وقد يظهر فيها نوعٌ طفيف من علاقة السيادة يربط بعضها ببعض، على أن باقي سلوكها إنما من طراز المحاكاة الجماعية غير المميز.
أما علاقة الذكر بالأنثى فعلاقة الجنس، وعندما يحلُّ عليها الشبق، فإنها تسعى إلى أقرب ذكر في الجماعة حتى يشبعها ثم تتركه إلى غيره وهكذا، فليس ثمة غيرة بين ذكور هذه القردة الصيَّاحة على عكس ما نعرفه من أنواع أخرى كالرباح (أو الميمون) الذي يفتك بأنثاه إن هي نظرت إلى ذكر آخر، فالأنثى في حالة القردة الصيَّاحة لا تفضل ذكرًا على آخر ولا يصطفي الذكر أنثى أو إناثًا، وعلى هذا فإن العلاقات الجنسية في هذه القردة الصيَّاحة وقتية فقط وغير نوعيَّة، وعندما تتحرك الجماعة فإن الذكور تكون في مكان القيادة ومن ثَمَّ تتكون علاقة اتباع القائد بين الجنسين.
وهناك أيضًا علاقة الذكر بالصغار، والعادة أن كبار الذكور لا تلقي بالًا للصغار، إلَّا أنها تصيح صياحًا عاليًّا عندما يسقط واحد منها على الأرض، ولا تزال كذلك حتى يتمَّ إنقاذ هذا الصغير وربما كان هذا الصياح لإشاعة الرعب في قلوب اللواحم التي قد تفكر في الفتك بالصغير، كما أن الذكور تعين الإناث أحيانًا في إنقاذ الصغير إذا ما كانت هذه غير قادرة على إنقاذه، ويدل هذا السلوك على علاقة رعاية معتمدة بين الذكور والصغار، وأخيرًا تجيء علاقة الذكر بالذكر، وذكور الجماعة الواحدة من هذه القردة الصياحة لا تتقاتل فيما بينها، ولكنها تصيح في وجه أيَّة جماعة أخرى أو أي قرد غريب عنها يقترب منها، وهي تصيح معًا فيُسمَع صياحها كالرعد، ونستطيع أن نتبين من هذا السلوك دفاعًا مشتركًا يجمع بين سلوك الاقتتال وسلوك المحاكاة الجماعية، وتميل ذكور الجماعة الواحدة نحو الملازمة وعندما تتحرك فوق قِمم الأشجار فإن كلَّ ذكر فيها يكشف المكان منفردًا، فإذا ما عثر على الطعام فإنه يصيح صيحة خاصَّة يفهمها الجميع فيهرولون نحوه ليشاركوه الطعام، ولا يميل فردٌ ذكر نحو قيادة الجماعة أكثر من الذكور الأخرى، فهذه العلاقة القيادية تتغير من شجرة إلى أخرى، والجميع في هذه الناحية سواء.
وإذا ما حلَّلنا معيشة هذه القردة الصياحة وسلوكها بالنسبة لبعضها بعضًا، فإننا نتبيَّن أن هناك نوعًا واحدًا من العلاقة التي نستطيع أن نصفها بأنها نوعية، وهي العلاقة الكائنة بين الأمِّ وصغيرها، فالقردة الصياحة تُعتبَر حيوانات غير عادية في كون أن بها علاقات عامَّة كثيرة تنطبق على الجنس كلِّه، الذكور والإناث، أو العمر، الصغار والكبار، حتى العلاقة الجنسية تبدو علاقة عامَّة.
وينقسم سلوك القردة الصيَّاحة إلى طرز بيولوجية ثلاثة، سلوك الذكور وسلوك الإناث وسلوك الصغار، ويمدُّنا هذا بمفتاح لدراسة التنظيم الاجتماعي دراسة مرتبة، فما علينا إلَّا أن نتناول بالدراسة كلَّ طراز من الحيوان ودراسة سلوكه بالنسبة لأيِّ طراز آخر نفكر فيه، بما فيه طرازه هو نفسه، فبالنسبة للذكر تُوجَد علاقات ثلاث: الذكر بالذكر، ثم الذكر بالأنثى، ثم الذكر بالصغير، وهكذا ليصبح عدد العلاقات المحددة تحديدًا بيولوجيًّا ستة، ذلك لأن بعض التوافيق يتكرر ويمكن تطبيق هذا التحليل نفسه على موضع أكثر نوعية، وذلك عندما نرغب في معرفة العلاقات السياديَّة بين جميع أفراد الجماعة الواحدة، ويمكن التعبير عن العدد النهائي للعلاقات المحتملة بصيغة رياضيَّة تبين تعقُّد التنظيم الاجتماعي بالنسبة لحجم الجماعة، هذه الصيغة هي ن(ن - ١)/٢ حيث يمثل الرمز ن عدد أفراد المجموعة، فعدد العلاقات إذن في مجموعة من الأفراد عددها ثلاثة هو ثلاث، بينما هي ست في مجموعة من أربعة أفراد وعشر في مجموعة من خمسة أفراد وهلم جرًّا، على أن أيَّة علاقة محددة تحديدًا بيولوجيًّا، كما رأينا ذلك في القردة الصيَّاحة، يمكن تصنيفها على حسب أنواع السلوك الاجتماعي التي تظهر فيها، فعلى سبيل المثال تظهر في علاقة الذكر بالأنثى علاقة جنسية وأخرى قيادية تعتمدان على السلوك الجنسي، وسلوك المحاكات الجماعية على التوالي، ومن هذا يتضح أننا لو أخذنا في الاعتبار جميع العلاقات المحتملة من علاقات السلوك التكيفية، فإننا نحصل من الناحية النظرية على خمسة وأربعين نوعًا مختلفًا للعلاقات بين أفراد الجماعة الواحدة، على أنه لا يبرز من هذه العلاقات في أي نوع من الأنواع سوى عدد قليل وإن كان هذا العدد يتغير من نوع إلى آخر.
وتختلف الحيوانات فيما بينها اختلافًا كبيرًا بالنسبة لسلوكها الاجتماعي، فالقرد الذكر الرباح (الميمون) كما قدمنا يقتتل مع الذكور من أجل إناثه حتى الموت، كما أنه قد يقطِّع الواحدة منها إربًا إربًا إن سوَّلت لها نفسها النظر إلى ذكر آخر، وهكذا يختلف سلوك الجماعة من القرود الرباحة اختلافًا كبيرًا عن سلوك القردة الصيَّاحة، فالسلوك الجنسي في هذه القردة الأخيرة لا نوعية فيه بعكس الحال في كثير من الرئيسيات الأخرى؛ ذلك أن العلاقة بين الذكر والأنثى علاقة أكبر من ارتباطها بالغريزة الجنسية وحدها، وقد يطيب لنا أن نتأمَّل في أن علاقة الذكر بالأنثى هي أساس المجتمع البشري، فاتصال الرجل بالمرأة متكرِّر ويتطلب قيام الأسرة يتلوها العناية بالأطفال، ويلتصق الرجل السليم بأسرته ويحنو عليها ويدأب من أجلها، وتكمن سلامة المجتمع في سلامة الأسرة.
على أن العلاقة الجنسية في بعض الحيوانات لا تبقى سوى دقائق أو ساعات كما في الحيوانات الدنيا، وحتى في بعض الحيوانات العليا كالغنم مثلًا لا تظهر الأنثى ميلًا نحو الذكر إلا يومًا واحدًا فقط في السنة؛ وعلى ذلك لا تكون العلاقة الجنسية ذات أثر في مثل هذه الجماعات من الغنم أو ذوات الظلف أو ذوات الحافر.
ومن ناحية أخرى تلعب فسيولوجية التكاثر في الطيور دورًا هامًّا في السلوك الجنسي؛ ذلك أن معظم الطيور يضع بيضًا كثيرًا، وهي تختلف عن الحشرات التي تستطيع أن تختزن الحيوانات المنوية؛ ولذلك فإن التسافُد المستمر بالنسبة للطيور على الأقل في أثناء فصل التزاوج ضرورة لها، وهذا يتطلب من بعض الطيور علاقة بين الذكر والأنثى أثبت من علاقتهما في كثير من الحيوانات الأخرى، وقد ينفصل الزوجان في أثناء الهجرة انفصالًا مؤقَّتًا؛ أي عندما ينزحان من الشمال إلى الجنوب، على أنهما يعودان: كلٌّ إلى الآخر مع أوبتهما إلى الشمال مع بداية فصل الربيع إن وُفِّقا في العثور كلٌّ على الآخر.
ولا نستطيع أن نستطرد مع جميع أنواع السلوك في الجماعة الواحدة من الحيوان لضيق الحيِّز في هذا الكتيب، على أننا نستطيع أن نُجمِل هنا أن سلوك القيادة يبرز في بعض الجماعات، فالمشهور عن الغنم أن أسنَّ الإناث أكثرها خلفة، ومن حيث إن الحملان أصلًا تتبع أمهاتها، فإن هذه التبعية تنمو فيها مع الزمن؛ ولذلك تقود النعاج المسنة القطيع كلَّه، على أن الأمر يختلف مع قطعان الجاموس، فالذكور القوية هي التي تقودها، وكذلك بالنسبة لسلوك الاقتتال فهو سلوك بارز في بعض الحيوانات، ضعيف في بعض الحيوانات الأخرى.
وقد وصف لورنز معركة بين ذِئبيْنِ حتى أذلَّ أحدهما الآخر، وعندئذٍ لم يجد المهزوم بدًّا من وضع رقبته تحت رحمة الغالب الذي عفا عنه، وفي ذلك إبقاء للنوع من الفناء، على أن المهزوم يظلُّ خاضعًا للغالب ما حييا، بل وتتعاون الذئاب في طلب الصيد، القائد والجماعة، وقد رأينا كيف أن ذكور القردة الصيَّاحة لا تقتتل ولا تتعارك، غير أنها تصيح صياحًا عاليًا عندما يقترب منها دخيل، وسلوك الاقتتال يؤدِّي بطبيعة الحال إلى نظام السيادة، وعندما يعرف كلُّ فرد مكانه في الجماعة فإنه يعيش هنيًّا فيها، وقد قيل بصدد هذه العادة إن الرئيسيات عامَّة (القردة والإنسان) تتضافر في ردِّ المعتدي، ففسر بعض السلوكيين السبب البيولوجي للحروب البشرية بأنها نوع من تضافر شعب ضد اعتداء شعب آخر، ويظهر في الجماعة الواحدة أحيانًا سلوك الرعاية بصورة أخرى غير العناية بالصغار، فقد شاهدنا كيف «يفلي» القردة بعضهم بعضًا.
ومن أبسط الطرق لدراسة العلاقات الاجتماعية المبكرة تربية حيوان صغير مع نوع آخر غيره، ونحن نعرف أننا — معشر البشر — مستطيعون أن نربِّي بيننا كثيرًا من الحيوانات، الثدييات والطيور، وكذلك يسهل علينا أن نضع بيض طائر في عش طائر آخر له نفس العادات في بناء العش، وكذلك يسهل علينا نقل يرقات حشرة في عشِّ حشرة أخرى، وعندئذٍ يحلو لنا أن ندرس ونتتبع النتيجة، وفي كتاب لورنز الذي اسمه: خاتم الملك سليمان تجارب ومشاهدات كثيرة جدًّا تناولها بالوصف البديع الصادق.
وقد درست الحياة الاجتماعية عند الحشرات دراسة مستفيضة، وبخاصة في النمل والنحل وهما من أشهر الحشرات بالنسبة لهذا النوع من الحياة، ويختلف النمل من هذه الناحية بعضه عن بعض في طريقة بناء العش، فهو يبني عشاشه في أي مكان — في التربة وفي المنازل — وعادة ما يبنيها تحت الحجارة ليتخذ من هذه غطاءً لها، ونحن نعرف هذه العشاش من أكوام التربة التي حفرها النمل وأخرجها ليكومها عند مدخل عشِّه، وفي المناطق الحارة يستفيد كثير من أنواع النمل من التجاويف والكهوف الموجودة في سيقان الشجر، كما أن بعضًا منها يبني عشه بحيث يتدلَّى من الشجرة ويبنيه من الطين أو الحرير، وثمة نمل يبني عشَّه من أوراق الشجر، ثم يربط تلك الأوراق بخيوط من الحرير ويحصل هذا النمل على تلك الخيوط من يرقاته، فتمسك الشغالة باليرقة بين فكيها وتستخدمها كالوشيعة (المكوك) في ربط أوراق الشجر، وجميع هذه الأفعال التي يقوم بها النمل بمختلف أنواعه في بناء العش يطلق عليها الغرائز؛ أي الأفعال الموروثة، والغريزة هي نزعة طبيعية نفسية تعتمد على الوراثة، وغالبًا ما تتكون تكونًا كاملًا بعد الولادة مباشرة أو بعد فترة معينة من التكوين، وهي نزعة تؤدي بالحيوان نحو الاهتمام بأشياء من نوع معين أو بطريق معين، وما أن يدركها حتى يحسَّ بالحاجة الملحة نحو الامتثال لها بطريقة محددة، وثمة تعريف آخر للغريزة هو أنه مجموعة من الأفعال المشروطة التي وإن كانت تسهم في التجربة، إلَّا أنها عندما تظهر لأول مرة لا تحددها تجربة الفرد، وهذه الأفعال تكيفية وتنحو نحو حفظ كيان الفرد والسلالة، كما أن جميع أفراد السلالة تؤديها بطريقة تكاد تكون واحدة.
ولا تعتدي الشغالة من النمل على شغالة من نفس نوعها، على أنها تهاجم شغالة الأنواع الأخرى من النمل أو الشغالة من مستعمرة أخرى عندما تحاول أن تدخل في عشِّها، وهناك أنواع من النمل تستخدم في عشِّها عبيدًا من أنواع أخرى؛ وذلك بأن تسرق يرقات من عشاش أخرى وتربيها في عشِّها هي حتى يكتمل تحوُّلها، ويتعرف النمل بعضه على بعض بالرائحة المنبعثة منه؛ ذلك أن لكلِّ مستعمرة رائحة خاصة؛ ولذلك إذا ما رُبِّي النمل من نوع معين في عشِّ نمل من نوع آخر، فسرعان ما يتعود النوعان كلٌّ على الآخر، أما إذا أُخِذ نمل من نوع معين وغمس في الكحول ثم غمس بعد ذلك في عصارة من أجساد نمل من نوع آخر ثم أُعِيد إلى عشِّه الأول، فإن بني جنسه يفتكون به؛ لأن رائحته غدت غير رائحتهم، والنمل إذا ما اقتتل فليس الأمر عندئذٍ أمر سيادة وإنما إبادة، فالغالب من المستعمرتين يبيد سكان المستعمرة المغلوبة كلها.
وقد درس الاقتتال أو العراك بين الطيور دراسة مستفيضة ونشرت في موضوعه بحوث شتَّى، ولستُ بصدد إعادة ذكر نقر الدجاج بعضه بعضً حتى يظهر فيه نظام السيادة الهيرارشية، وإنما سوف نتعرض هنا لتجارب من نوع آخر؛ ذلك هو ما الذي يكون من أمر الطيور في وقت التزاوج؟ فالعادة أن الطيور البرية لا تقتتل في الشتاء؛ أي عندما يكون نشاطها الجنسي خابيًا كامنًا، أما عند مقدم الربيع فإن الطيور تنشط كثيرًا وتصدح الذكور منها وتغني غناء متواصلًا ومن نوع خاص، فالذكر بغنائه في مكان معين ينادي بأن هذا المكان مكانه وأن غناءه تحذير للذكور الأخرى، فلا تسوِّل لها نفسها الاقتراب منه، وإلَّا دخل معها في عراك دامٍ، فإذا ما استقر في المكان تغير غناؤه وأصبح من نوع آخر، وفي هذه المرة يعبِّر عن نداء خاصٍّ للإناث، وقد تروق أنثى له فتقترب منه ويبدأ معها في بناء العش، وهكذا يدأبان في البناء وحضن البيض حتى يفقس عن صغار لا ينفكان يطعمانها بزقِّ الغذاء في أفواهها، حتى تغدو فراخًا يعلمانها الطيران حتى تقوى عليه. ولْنعُدِ الآن إلى التجارب الخاصة التي أُجرِيت على الطيور في تلك الأثناء. ذلك أن المجرب يضع بالقرب من العشِّ طائرًا محنَّطًا من نفس نوع الطائر، ولنسمِّه دميةً، فإن الذكر والأنثى على التوِّ يستثيرهما هذا المنظر، فيهجمان على الدمية وينقرانها بمنقاريهما وبخاصة عندما يكون ريش الفراخ على وشك الإنبات أي النمو، ولا يزالان بتلك الدمية ينقرانها كلَّ يوم وإن كان الهجوم عليها يخبو مع الأيام، إذ قد عرفنا أنها غير ذات ضرر، وفي إحدى التجارب لم يُوضَع بالقرب من العش طائر محنط كامل، وإنما ركبت ريشات شبيهة بريش الطائر في جسم من القش يحاكي بصورة بعيدة نفس نوع الطائر، وعندئذ لم تهجم على هذا المسخ سوى طيور قليلة، ففي الحالة الأولى أثار الطائر المحنَّط الطيور إثارة كاملة، وفي الحالة الثانية لم تُثِرِ الريشات القليلة سوى القليل منها؛ لأن تأثيرها لم يكن كتأثير الأول وما دمنا بصدد هذه التجارب، فيجمل بنا لو أشرنا إلى نوع آخر، فنحن نعلم أن بعضًا من جوارح الطير يفترس طيورًا أخرى، كالعقبان والصقور مثلًا، تفترس الدجاج أو طيورًا أخرى صغيرة، وإذا ما رأى الدجاج عقبانًا طائرة فإنه سرعان ما يولِّي الإدبار طلبًا لمخبأ يختبئ فيه منها، وقد تناولت التجربة إبراز نموذج لعقاب أو صقر يتدلَّى بخيط يتحرك فوق حظيرة الدجاج، فإذا ما تحرك النموذج بحيث يكون رأسه في المقدمة فإن الدجاج يهرب على التوِّ.
وإذا طُلِب منا أن نحصر أسماء الحيوانات التي تعيش معيشة اجتماعية، فقد تخوننا ذاكرتنا وننسى بعض أسمائها؛ ذلك أن الحياة الاجتماعية معروفة في عدد كبير جدًّا منها، وقد تبيَّن في السنوات الحديثة أن بجميع الحيوانات تقريبًا درجة، قلَّت أو كبُرت، من السلوك الاجتماعي والتنظيم الاجتماعي، حتى في الحيوانات البدائية والمنعزلة تميل نحو تكوين جماعات للدفاع المشترك تحت ظروف معينة، وبهذا المعنى يُعتبَر سلوكها اجتماعيًّا، على أن أشهر الحيوانات بالنسبة للحياة الاجتماعية هي الحشرات والفقاريات العليا (الطيور والثدييات).
والسلوك الاجتماعي بالنسبة لأفراد المجتمع الواحد يتضمن علاقات اجتماعية بوسائلها البيولوجية؛ إحداها تختص بالقدرة على التعبير عن نوع بذاته من السلوك الاجتماعي الذي يدخل في العلاقة، أي علاقة الفرد بالأفراد، والنوع الآخر هو قدرة الأفراد على تنظيم السلوك الاجتماعي من خلال التعلُّم، ويختلف بعض الحيوانات عن بعض اختلافًا كبيرًا من حيث هذه القدرات الأساسية، فنجد بالنمل الأبيض درجةً عالية من التنظيم الاجتماعي المحدَّد تحديدًا بيولوجيًّا، ذلك أن في مجتمعه ست طبقات من الأفراد يختلف كلُّ واحد منها عن الأخرى من حيث الشكل الخارجي، ولكلٍّ منها وظيفة سلوكية خاصة، ويتميَّز سلوكها الاجتماعي بالوراثة؛ أي إن معظمه من النوع الذي يُوصَف بالغرائز وليس لدينا دليل — كما يقول سكوت — بأن لدى النمل الأبيض أيةَ قدرة على تنظيم مجتمعه من خلال التعلُّم، وإنما تؤدِّي كلُّ طبقة في المجتمع وظيفةً معينة لا تحيد عنها، وللجماعة كلها في هذه الحال، حال مستعمرة النمل الأبيض، وعندما تكون خاضعة للعوامل البيولوجية خضوعًا تامًّا مثل خضوعه، خواص الفرد الواحد، ومن ثَمَّ يمكن تسميتها «الحيوان غير العادي»، أما بالنسبة للحشرات الاجتماعية الأخرى فإن سلوكها يبدو متأثِّرًا بالتجربة مع شيء ما من المرونة في تنظيمها الاجتماعي، فعلى سبيل المثال تباشر الشغَّالة من النحل وظائف مختلفة في محيط الخلية في مختلف أعمارها، غير أن هناك اتجاهًا نحو ربط مكان الفرد في النظام الاجتماعي ببنيانه الجسمي.
وكثيرًا ما يحلو للحشريين أن يوازنوا بين المجتمعات الحشرية والمجتمعات البشرية، وتارة ما يقسون على المجتمعات البشرية في حكمهم، ففي المجتمع الحشري المنتظم يجري كلُّ شيء بهدوء، فلا جريمة ولا إهمال للأطفال ولا انحراف بين الصغار، ولا بطالة بين الأفراد. وهذا وحده يثير التساؤل: هل للبشر أبدًا أن يصلوا إلى مجتمع ثابت ثبوت مجتمع الحشرات؟ وفي واقع الأمر أن الإجابة على هذا السؤال ترتكز على سؤال آخر هو: ما هو الأساس البيولوجي للتنظيم الاجتماعي الإنساني؟ فالبشر في المكان الأول يبدءون حياتهم وهم أقل تخصصًا بدرجة كبيرة جدًّا من الحشرات، فهم يتبعون نمط الثلاثة الطرز الذي يميِّز النظام الفقاري كلَّه، وهي الذكر والأنثى والصغار، بدون التميُّز إلى طبقات أخرى، علمًا بأن بالفقاريات ميلًا واسعًا نحو تخصص الذكور في القتال والسيادة، والإناث في التركيز نحو العناية بالصغار، وتوثيق علاقات العناية بهؤلاء الصغار، كما أن هناك بين هذه الحيوانات نزعة عامة نحو الاختلاف في السلوك الجنسي.
على أن هناك شواذَّ كثيرة بالنسبة لهذه التعميمات، فيختلف الدوران السلوكيان الفعليان للجنسين اختلافًا كبيرًا، ففي بعض الطيور كالحمام واليمام لا يختلف الجنسان كلٌّ عن الآخر من الناحية التشريحية الخارجية، كما أن الاختلاف بينهما من ناحية السلوك الجنسي طفيف نسبيًّا، وفي الأسماك يكون الذكر في معظم الأحيان هو المسئول عن بناء العش وحراسة البيض والصغار بعد فقس البيض، بينما يكون دور الأنثى مركَّزًا في وضع البيض في الوقت المناسب، على أنه في حيوانات المراعي من إبل وبقر وجاموس وغيرها، تكون الأنثى هي المسئولة عن رعاية الصغار، أما الذكور فتُخصَّص في العراك والاقتتال نظرًا لقوتها البدنية وضخامة أجسامها ونماء قرونها. وقد رأينا حال القردة على أنواعها. وليس من الخطل إذن القول بأن الإنسان، وهو حيوان رئيسي، لا بدَّ أن يظهر فيه طراز أساسي معين من التنظيم الاجتماعي، على أن بالرئيسيات عامة تنوُّعًا كبيرًا بالنسبة لسلوكها الاجتماعي، وليس الإنسان شبيهًا بأيٍّ منها شبهًا وثيقًا، وإذا كان ولا بدَّ من وجود ميزة خالصة لجميع الرئيسيات، من أن بكلا الجنسين بعضًا من أنواع السلوك الاجتماعي المختلفة التي تبين النوع، وهذا يتفق مع ما نعرفه عن السلوك البشري، ومن المحتمل وجود بعض التميُّز البيولوجي للسلوك بين الرجل والمرأة، إلَّا أن هذا التميُّز ليس متطرِّفًا كما في بعض الرئيسيات، كما أنه يوجد قدر كبير من التنوعية في السلوك بين أفراد الجنس الواحد في البشر، حتى إن أفراد الجنسين يتداخل بعضهم في بعض في كثير من الأحيان، والإنسان قادر على درجة عالية من تميُّز السلوك على أساس سيكولوجي؛ ولذلك فإن البشر يبتعدون عن التنظيم البيولوجي المحدود الموجود في بعض مجتمعات الحشرات ابتعادًا كثيرًا؛ ولذلك فهل يمكن لنا نحن معشر البشر بفضل النماء العظيم لتنظيمنا السيكولوجي أن نصل إلى أقصى درجة من درجات توزيع العمل والتحكُّم في السلوك الذي نراه في الحشرات؟ والرد على هذا هو أن التخصص المُفرِط والتحكم الصارم في السلوك ليسا ممَّا يتفق مع طبيعة الإنسان البيولوجية؛ ذلك أن بالإنسان ميلًا تجاه تنوعية السلوك المتضمنة في عملية التعلم، والتي لا يمكن القضاء عليها حتى تحت أقسى أنواع التعوُّد، فالإنسان الذي ينحصر دوره الاجتماعي في مجال ضيق جدًا لن تنتظر منه إظهار مقدرته الكاملة كلها، ويُجمِع السيكولوجيون على أن مثل هذا الشخص يكون مخيِّبًا للآمال خائبًا وغير سعيد، أما الإنسان الكامل فهو الذي تنمو فيه علاقات اجتماعية متنوعة تلائم احتياجاته وقدراته الفردية، وهكذا يكون المجتمع الإنساني الكامل مجتمعًا يعتمد في نمائه على مثل هذه العلاقات.