الجمال بين الحركة والسكون
١
يغلب على الرأي أنَّ أبا الطيب، بعد أن ملأ الدنيا وشغل الناس خلال عشرة قرون كاملة، سيجشم عصرنا أيضًا ما لا طاقة له به، فلن يفتأ يطرح عليه ضروبًا من الأحاجي، وليس ثمة ما يؤذن بأن لهذا الأمر نهاية. وكأني بالمتنبي لم يكتفِ بالنحاة والصرفيين، وعلماء اللغة والبيانيين، يغيرون على ديوانه متزاحمين بالمناكب؛ ليمعنوا فيه شرحًا أو تشريحًا، كأن شعره مومياء عجيبة، وقعت في أيدي أثريين غلاظ الأكباد، لا يقر لهم قرار حتى يكشفوا عن سر خلودها، وبقاء روعتها على الأيام، فقد أصبح شعر المتنبي في هذا الزمن يتطلب، على ما نرى، طبقة جديدة من أهل الاختصاص.
كان أبو الطيب دون الخامسة والعشرين من عمره لما اتصل، في مدينة منبج من أعمال حلب، بأميرين من آل بحتر، لا يذكرهما التاريخ بخير أو شر، لو لم ينعم الشاعر عليهما، وهو يسأل نوالًا، بثلاث قصائد في المديح ليست من عيون شعره، رغم انطباعها بذلك الطابع الخاص الذي لا يغيب عنا ولا يشتبه علينا، كيفما قلبنا الطرف في ديوانه. ومطلع إحدى القصائد الثلاث:
ولا يعنينا من أبياتها إلا بيت واحد، بل شطر من بيت، يصف فيه المتنبي محبوبته «النظرية» التي يقضي العرف الشعري أن يتغزل بها في فاتحة القصيدة، وهو قوله:
فهنا أحجية من الأحاجي، لا يجدينا في حلها نحو النحاة أو بيان البيانيين أو فقه اللغويين؛ لأنها في غنًى عن هؤلاء جميعًا. ومن الإنصاف أن نبادر إلى القول إنَّ واحدًا منهم لم يجرب حل هذا اللغز من المنظوم، بغير تحويله إلى جملة نثرية، فمروا به مر الكرام، حين لم تستوقفهم فيه نادرة نحوية أو لغوية، ولا مسألة صرفية أو بيانية، مما جرت العادة أن يعيروه نظرًا واهتمامًا، حتى ولا لفظة غريبة يتكلفون مشقة إبدالها بلفظة أخرى تكون أقرب تناولًا وأكثر تداولًا، لقد أعياهم هذا المعنى بساطة ووضوحًا، فكأنه بيت من الشعر لا يكرم نفسه.
قال الواحدي: «حركاتها كيفما تحركت حسنة، وسكون الحسن فيها قد بلغ الغاية.»
قال العكبري: «هي حسنة في السكون، وسكون الحركة فيها قد بلغ النهاية.»
قال اليازجي: «إنها كيفما تحركت لحظاتها؛ فالحسن ساكن في حركاتها، بالغ نهايته في ذلك.»
لن نقف عند الاختلاف بين «سكون الحسن» في كلام الواحدي، وبين «سكون الحركة» في كلام العكبري، كما أننا لن نكترث ﻟ «حركة الألحاظ» في شرح اليازجي الذي يرد المعنى إلى البيت السابق:
لن نقف عند هذا أو ذاك؛ فليست القضية هنا أو هناك. وإذا كان لا بد من التسليم بأمر ما؛ فهو أنَّ هؤلاء الأئمة في تفسيرهم البيت لم يضيفوا إلى لفظه شيئًا، كما أنهم لم يزيدوا معناه وضوحًا، بل الأصح أن يقال إنهم لم يجيئونا بشرح أو تفسير. وليس ما يبعث الأمل في أن نظفر بحاجتنا عند غيرهم من شرَّاح الديوان أو نقدة الشعر على الوجه الأعم.
يقول الحكيم الفرنسي آلن في كتابه «نظام الفنون الجميلة» ما ترجمته: «إنَّ الوجه المليح — أو الحسن — ينبئ عن طمأنينة — أو سكون — الأشياء جميعًا، حتى في حالة الاختلال — أو الحركة — العارضة.» وهو يبني على هذه النظرية، وما يتصل بها أو يتفرع عنها، من آراء في الجمال وعلاقته بالحركة والسكون في الهيئات والأجسام الطبيعية، ثم في فنَّي الرسم والنقش اللذين يمثلان الأجسام والهيئات، كل فنٍّ منهما بمادته وأداته؛ فصولًا مسهبة تفسح للنظر آفاقًا مترامية الأطراف. هنا أيضًا حديث، والحديث شجون، عن «سكون الحسن في الحركات وتناهيه فيها» على نحو ما نراه في نظم المتنبي. فلم يك من قبيل التحذلق إذن ادعاؤنا — بادئ ذي بدء — أنَّ ذلك الشعر أصبح في هذا الزمن يتطلب صنفًا آخر من ذوي الاختصاص، ونحن نعني فريقًا من أهل الدراية، غير علماء اللغة وأصحاب البيان الذين وفوه من هذه الناحية في العصور الخالية قسطه وزيادة. ونحسب أن قد آن للشعر أن يفصل عن علوم اللغة — ألما يبلغ الفطام؟ — لينظم نهائيًّا في سلك الفنون الجميلة، من الرسم إلى الرقص فالموسيقى بين أهله الأدنين. أو ليؤذنْ لنا على الأقل أن نستضيء في دراسة الشعر — منشئه وجوهره وغايته — بأنوار تلك الفنون، فلن نلبث طويلًا حتى نرى أنه ليس منها في الصميم فحسب، بل هو — فوق ذلك — أشرفها مقامًا، وأصعبها مراسًا، وأبعدها وأقربها في وقت معًا من الكمال.
ولربَّ معترض يقول مقسمًا بكل عزيز لديه: إنَّ المتنبي لم تخطر له هذه المعاني البعيدة أو النظريات الغريبة ببال، وإنه كان أنعم حالًا وأطيب خاطرًا في شروح الواحدي والعكبري واليازجي، منه في «نظام الفنون الجميلة» مع هذا الشارح الفرنسي من الطراز الأحدث، ثم يظهر عجبه كيف، وقد طرحنا أحجية المتنبي القائل:
لم نتقدم إلى حل عويصها إلا بأحجية من نوع جديد، عدا أنها مترجمة عن لغة أجنبية، فهي أجدر بالشرح والتفسير.
نرجو أن نوفق — عما قليل — إلى إزالة هذا العجب وإبطال ذلك الاعتراض جهد المستطاع. ولكننا منذ الآن ندعو رجال الفن في ظهرانينا إلى درس المسألة التي يشترك في طرحها أثناء هذا الفصل الشاعرُ العربي والحكيم الفرنسي؛ كي يدلوا برأيهم في موضوعها وفيما يتصل به من المواضيع المشتركة بين الشعر وسائر الفنون الجميلة، فإن لم يفعلوا — ولا إخالهم إلا فاعلين — خشينا أن تصدق فينا التهمة القائلة إننا أردنا أن نسلك الشعر في نظام من الفنون، ليس له عندنا وجود، والأفضل أن نعيده سيرته الأولى بين آله وذويه الأولين من «علوم الآلة»، فهو أجدى له وأولى بنا من أن نتورط وإياه في سبل ملتوية، بعيدة الشقة، لم توطئها الأقدام.
٢
اعتاد الكتاب والمصنفون من العرب، في القرنين الثالث والرابع للهجرة، إذا ذكروا أريسطو في كتبهم ورسائلهم أن يلقبوه بصاحب المنطق، حتى الجاحظ الذي نقل في (كتاب الحيوان) طرفًا من أقوال الفيلسوف الإغريقي، واتهمه بعضهم بأنه قد «سلخ في كتابه معاني كتاب أريسطو» في الموضوع، فلا يندر أن يذكره بهذه العبارة: «قال صاحب المنطق» ثم يسرد كلامه، كما وصل إليه عن طريق التراجمة، وكانوا يدعونهم بالنقلة، وتأويل ذلك أنَّ المسلمين منذ أول عهدهم بالترجمة أو الاقتباس من اليونانية، كان علم المنطق عندهم بمثابة اكتشاف أميركة أو الدنيا الجديدة عند أبناء العالم الغربي القديم — الحدث الذي لا حدث قبله ولا بعده — إذ أصبحت الحاجة ماسة في المسائل الكلامية (أو اللاهوت) إلى أسلحة الجدل المنطقي، تناوئ بها الفرق أو النحل الإسلامية بعضها بعضًا، كلما فرغت من مناظرة أصحاب الأديان الأخرى … ولا عجب أن يسمى صاحب المنطق: «المعلم الأول».
فعلى ذلك القياس يجدر بنا — أثناء هذا البحث الاستاطيقي الذي أخذنا فيه — أن نلقب الحكيم الفرنسي آلن — وقد «سلخنا» رأيه في الحركة والسكون وعلاقتهما بالجمال — ﺑ «صاحب نظام الفنون»، عاقدين النية على سلخ طائفة من معاني كتبه في الموضوع، وما يتصل به أو يتفرع عنه من موضوعات علاقة الشعر بالفنون الجميلة ومرتبته بينها، والتبعة في هذا — إن يكُ من تبعة — واقعة على المتنبي القائل في إحدى لحظات الغفلة أو «اللاوعي» التي يسميها أندره جيد «حصة الله»، وكان في طوره الأول يضنُّ بها ولا يؤثر عليها شيئًا:
فهنا كلام يصح أن ننعته بالغريب، لا نعني غرابته في منظوم المتنبي فحسب، بل غرابته أيضًا في سياق الشعر العربي على إطلاقه، ولم يعودنا شعراء العرب أمثال هذا المعنى في أشباه هذا المبنى: معنى مركب في مبنى بسيط، وهو ما أراده أحد أئمة علم الأدب، الجرجاني، بقوله: «ومنه — أي الكلام — ما أنت ترى الحسن يهجم عليك منه دفعة، ويأتيك ما يملأ العين غرابة، حتى تعلم — إن لم تعلم القائل — أنه من قبل شاعر فحل، وأنه خرج من تحت يد صناع … وذلك ما إذا أُنشدته وضعتَ فيه اليد على شيء، فقلت: «هذا … هذا!» لا تجده إلا في شعر الفحول البزَّل، ثم المطبوعين الذين يُلهمون القول إلهامًا … ثم إنك تحتاج أن تتقرى عدة قصائد، بل أن تفلي ديوانًا من الشعر، حتى تجمع منه عدة أبيات. دلائل الإعجاز.»
ويمكن القول استطرادًا أو على سبيل التجوز إنَّ أقرب الكلام من نوع بيت المتنبي في غرابته وندرته، وليس من مدلوله وموضوعه بالبداهة بيتان لأبي نواس، لا سيما صدر البيت الثاني:
استشهد بهما الجرجاني في فصل من كتابه القيم «دلائل الإعجاز»، عقده على باب «إدراك البلاغة بالذوق والإحساس الروحاني» قال: «ليس في أصناف العلوم الخفية، والأمور الغامضة الدقيقة، أعجب طريقًا في الخفاء من هذا … وإنك لتتعب في الشيء نفسك، وتكد فيه فكرك، وتجهد كل جهدك، حتى إذا قلتَ: «قد قتلته علمًا، وأحكمته فهمًا»، كنت بالذي لا يزال يتراءى لك فيه من شبهة، ويعرض من شك، كما قال أبو نواس …» وبعد أن يذكر الجرجاني هذين البيتين يقول كأنه جاء بفصل الخطاب: «إنك لتنظر في البيت دهرًا طويلًا وتفسره، ولا ترى أنَّ فيه شيئًا لم تعلمه، ثم يبدو لك فيه أمر خفيٌّ لم تكن قد علمته.»
ويعجبني هنا أنَّ أبا الطيب نظم بيته الغريب متغزلًا في محبوبة «نظرية تقليدية»، فهذا عدا أنه أبلغ في إبراز التضاد، ملائم جد الملاءمة لبحثنا الاستاطيقي في الشعر والجمال، ونحن منه في عالم من «الصور» نظري لا يمتُّ إلى دنيانا الحسية إلا بسبب بعيد، تكاد فيه الأشياء تكون محجوبة بصورها عن الأذهان، على حد قول أبي نواس، الذي لم يلهم فقط أن يفرق بين المحسوسات في ذاتها وبين صورها القائمة في الفكر، بل تجاوزه أيضًا إلى الإبانة عن حقيقة انحجاب الأشياء بصورها الذهنية، خالعًا على هذا الرأي الفلسفي حلة شعرية موشاة بالوحي والإغراء، ليس يعيبها أنَّ «اللاظن» لحمتها و«اللاعلم» سداها. هكذا رأينا الشاعر المطبوع، وكأنه مسخر بطبعه، مسوق برغمه، يخلق شعرًا من هذه المادة «الخسيسة» التي لم يكن يرضاها في الشعر، بل كثيرًا ما نعاها على الشعراء، نعني: النؤى والأحجار أو الرسوم الدوارس، وذلك بعبارات مستفادة من رطانة المناطقة أيضًا. فيا لشاعرية الأطلال التي لا تفتأ — لبعدها عنا زمانًا لا مكانًا — تتضاءل حتى أمست:
ليس من غرضنا أن نبحث الآن ما لهذا المعنى الغريب في شعر أبي نواس — معنى انحجاب الأشياء في ذاتها بصورها في الذهن — من اتصال قريب أو بعيد بنظرية المعرفة في الفلسفتين القديمة والحديثة، الذاتية أو الموضوعية. ولكن لا بد من الإشارة إلى رأي بسطه العلامة فكتور باك — من أساتذة كلية الآداب في جامعة باريس — وهو يدلل على صحة إحدى نظرياته في الجمال والشعور به، ذاهبًا مذهبًا ذاتيًّا لا موضوعيًّا في هذا العلم؛ إذ يُرجع ما للإحساسات السماعية والبصرية من قيمة استاطيقية، إلى «أنَّ الأذن والعين أصبحتا — أو تكادان — من الحواس «التمثيلية الذهنية» ليس غير»؛ يعني: من جراء ما يكتنف مرئياتنا ومسموعاتنا من عِبر وذكر، وهموم وخوالج، ومذاهب وغايات، بحيث لا تبصر عين، ولا تسمع أذن إلا من خلال «النفس» في مختلف حالاتها، ولنقلْ: في مختلف ألوانها. ومن هذا القبيل استاطيقية الأطلال على ما نرجح.
وبعد، أليس من العجيب أن تكون الكلمة التي نقلناها من كتاب صاحب نظام الفنون، في معرض الحديث عن بيت المتنبي؛ مساوقة لمفهوم ذلك البيت ومنطوقه، حتى إنها لتشتبه علينا معنى لا مبنى، حينما نقرنها إلى ما اقترحه في تفسيره كل من الواحدي والعكبري في المتقدمين، واليازجي في المتأخرين، فكأنها مختلسة من شرح كان طي الخفاء لهذا الحكيم الفرنسي على ديوان الشاعر العربي؟
«إنَّ الوجه الحسن ينبئ عن سكون الأشياء جميعًا، حتى في حالة الحركة العارضة.»
ولكن … أتلك هي المرة الأولى التي يُعنى فيها صاحب نظام الفنون بشرح دواوين الشعر، على نحو ما يفعل أدباء العرب وعلماؤهم قديمًا وحديثًا؟ كلا؛ فقد قرأنا من تصانيفه تفسيرًا لديوان الشاعر فاليري، لعل أوضح مزاياه أنه كتاب صنفه أحد أساطين علم الاستاطيقي، في شرح ديوان شاعر من الشعراء، ناهيك بآراء له في الشعر، تكاد لا تحصى كثرة ولا تحصر تنوعًا، مثبتة في عديد كتبه ومقالاته، فهي إذن شنشنة نعرفها من أخزم … ومَن أجدرُ من أبي الطيب بهذه «التكرمة» على بعد العهد والدار؟
وهكذا نرى الغربيين يرجعون إلى منظوم شعرائهم النابغين، فيوسعونه شرحًا وتفسيرًا، بعد أن كانوا «قد نظروا فيه دهرًا طويلًا، حتى حسبوا أن ليس فيه شيء لم يعلموه، ثم يبدو لهم أمر خفيٌّ، لا شيء أعجب طريقًا منه في الخفاء …» كما يقول الإمام الجرجاني صاحب «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» المتوفى سنة ٤٧١ للهجرة. فكأن الشاعر العبقري الذي يتوجه بغرائب وحيه نحو جميع الأجيال، يخاطب كل جيل بلسان، ويكشف لهم عن آفاق بعد آفاق. أليس هذا شأن أبي الطيب معنا في قوله:
وأبي نواس في قوله:
وهنا يعترضنا سؤال: هل خطرت للمتنبي أو لأبي نواس هذه القضايا المركبة ببال، حينما أرسل الأول ذلك البيت الفريد من الشعر في فاتحة قصيدة مديح نظمها في صباه، وكان يحسب أنه لا بد من استهلالها ببضعة أبيات في الغزل، جريًا على عادة الشعراء، أو حينما أطلق الآخر بيتيه زوجيْ حمام من مقطوعة شعرية صغيرة، لعلها البقية الباقية من قصيدة طويلة نظمها في النعي على شعراء العصر، وقوفهم بالأطلال، كالنوادب المستأجرات؟ أم أنَّ المتنبي لم يردْ إلا الطباق من أنواع البديع، كما أنَّ أبا نواس لم يعتزم غير الحط من شأن الرسوم الدوارس، وخرق حرمتها في التقليد الشعري، محرضًا على ما ذهب إليه من «التجديد» أو الخروج على القديم؟ فأنا أجيب على هذا السؤال بسؤال: أمن الضروري أن يكون شيء من ذلك قد خطر لأحدهما أو لكليهما ببال؟ فرب قافية تتحكم بذهن الشاعر العبقري، وتغلبه على أمره، فبينما هو يزوج لفظة من لفظة، وكأن الألفاظ كائنات حية، إذا بدنيا أُحدثتْ من العدم بغتة، على غير وخير مثال. ألا إنَّ سرَّ الشعر لعجيب، ليس أعجب منه طريقًا في الخفاء!
٣
يقول صاحب نظام الفنون من فصل عنوانه «الساكن» في أحدث تصانيفه «مقدمات على الاستاطيقي» ما ترجمته: «إنَّ الناس يعجبون مما في الصور الجميلة من قوة وسلطان. لكن عجبهم يزول إذا فطنوا إلى أنَّ الصور تكون في نجوة من إلحاح الذبان، وأشعة الشمس، وضروب الغزل والضراعة. لا أعني أنَّ الصور قليلًا ما توحي، بل إنها — على الضد — تنطق بمقتضى طبيعتها، وليس تبعًا لعوامل خارجية. كل صورة هي صورة جلالة ومهابة، وإنَّ أعظم ما تكرِّم به رجلًا هو أنَّ تصوره زميتًا ركينًا. وبالواقع، إن أتفه حادث ليلفت رأس ملك من الملوك، ثم يعجز عن أن يلفت صورة من الصور …»
ليس «إلحاح الذبان» وحده ما يذكرني هنا حكاية القاضي في «كتاب الحيوان»، وأرجح أنها ليست حكاية، بل صورة فريدة رسمها الجاحظ، تامة الشيات، زاهية الألوان؛ لتعرض في ركن من أركان ذلك المتحف الحافل: «كان لنا بالبصرة قاضٍ يقال له عبد الله بن سوار، لم يرَ الناس حاكمًا قط زميتًا ولا ركينًا، ولا وقورًا حليمًا، ضبط من نفسه، وملك من حركته مثل الذي ضبط وملك. كان يأتي مجلسه — في المسجد — فيحتبي ولا يتكئ، فلا يزال منتصبًا لا يتحرك له عضو، ولا يلتفت، ولا يحلُّ حبوته، ولا يحل رجلًا على رجل، ولا يعتمد على أحد شقيه، كأنه بناء بني أو صخرة منصوبة … فالحق يقال إنه لم يقم في طول تلك المدة والولاية مرة واحدة إلى الوضوء، ولا احتاج إليه، ولا شرب ماء ولا غيره من الشراب. كذلك كان شأنه في طوال الأيام وقصارها، وفي صيفها وفي شتائها، وكان مع ذلك لا يحرك يده ولا يشير برأسه، وليس إلا أن يتكلم …»
لا أعرف أبلغ دلالة ولا ألطف إشارة من «ليس إلا أن يتكلم» في تلك الصورة الجاحظية، في صورة ذلك «الساكن». فهذه العبارة، بما ضُمنته من لهجة الاعتذار، هي النقيصة — الحركة العارضة — التي بها يكتمل جمال الصورة الفني، أو تستوفي شروط المقارنة بينها وبين ما في كلام صاحب نظام الفنون من تبيين لمعانيها وتنويه بمحاسنها.
قال الجاحظ: «فبينما هو — أي القاضي — ذات يوم، وأصحابه حواليه وفي السماطين بين يديه، إذ سقط على أنفه ذباب، فأطال المكث، ثم تحول إلى مؤق عينه، فرام الصبر في سقوطه على المؤق وعلى عضه وعلى نفاذ خرطومه، كما رام الصبر في سقوطه على أنفه، من غير أن يحرك أرنبته، أو يغض وجهه، أو يدبَّ بأصبعه. فلما طال ذلك عليه من الذباب، وشغله وأوجعه وأحرقه، وقصد إلى مكان لا يحتمل التغافل، أطبق جفنه الأعلى على جفنه الأسفل، فلم ينهض. فدعاه ذلك إلى أن يوالي بين الإطباق والفتح، فتنحى عنه ريثما سكن جفنه، ثم عاد إلى مؤقه بأشد من مرته الأولى، فغمس خرطومه في مكان كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتماله وعجزه عن الصبر عليه في الثانية أقلَّ. فحرك أجفانه وزاد في شدة الحركة، وألحَّ في فتح العين وفي تتابع الفتح والإطباق، فتنحى عنه بقدر ما سكنت حركته، ثم عاد إلى موضعه، فما زال يلح عليه حتى استفرغ صبره وبلغ مجهوده، فلم يجد بدًّا من أن يذب عن عينه بيده، ففعل وعيون القوم إليه ترمقه، وكأنهم لا يريدونه. فتنحى عنه بقدر ما ردَّ يده وسكنت حركته، ثم ألجأه إلى أن ذب عن وجهه بطرف كمه، ثم ألجأه إلى أن تابع بين ذلك …» حتى سقطت الصورة الكريمة من الركن الذي كانت زينة له، وهي تولول جاهرةً بالآية الحكيمة: وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
يقول صاحب نظام الفنون: «بالساكن وحده يعبر الفن عن القدرة البشرية، فلا أمارة أدلُّ على قوة النفس من السكينة إذا ما آنسنا فيها عقلًا. وبالضد، إنَّ في الحركة — أيًّا كان نوعها — إبهامًا ولبسًا، كالجواد الأصيل في عدوه — لا تدري أإِقدام هو أم إحجام، وغارة أم هزيمة. والصور التي تؤخذ على «الحارك» في حلبة السباق تكشف لنا عن حيوان ذي جنَّة، وليس عن ذلك المجلي القدير المرن المهيب، الذي كنا نتوهمه. وهكذا رجل الحرب في كرِّه وفرِّه، تبدو منه مظاهر الفرق واليأس في وقت معًا، فكأن في كل فعل عنيف لوثة جنون. والبطل البطل من أصمَّ أذنيه وأغمض عينيه عن جميع الأشياء حوله، غير مكترث لهجماتها أو دعواتها المستمرة، فليس يوصف بأنه خائف حذر كالوحش في مرابضها، بل بأنه لا يبصر ولا يسمع إلا ما يشاء، حين يشاء. ولأمر ما كان الوثن أول نماذج البطولة، فإن الوثن لا يناله تغيير، ولا يطرأ عليه فساد أبدًا …»
وقد اتفق للجاحظ، ذات يوم، بعد حكاية القاضي البصري؛ هذا البطل الذي كاد، لولا إِلحاح الذبان، أن يكون صنمًا — كأنه بناء بُنِي أو صخرة منصوبة — أن يجمع في شخصه المهول، بين لوثة الحيوان الأصيل في عدوه، وبين رعب المقاتل القانط في كرِّه وفرِّه، وكل ذلك بفضل الذبان أيضًا، قال: «فأما الذي أصابني أنا من الذبان، فأني خرجت أمشي من عند ابن المبارك أريد دير الربيع، ولم أقدر على دابة، فمررت في عشب ونبات ملتف كثير الذبان، فسقط منه ذباب على أنفي، فطردته، فلم أقدر. فتحول إلى عيني، فزدت في تحريك يدي، فتنحى بقدر شدة حركتي، ولذبان الكلأ والغياض والرياض وقع ليس لغيرها. ثم عاد إليَّ، فعدت عليه، ثم عاد بأشد من ذلك، فاستعملت كمي فذببت به عن وجهي … وأنا أحث السير، أُؤَمِّل بسرعتي انقطاعه عني، فلما عاد نزعت طيلساني من عنقي، فذببت به عني، بدل كمي، فلما لم أجد له حيلة استعملت العدو، فعدوت منه شوطًا لم أتكلف مثله منذ كنت صبيًّا … فتلقاني الأندلسي فقال لي: ما لك يا أبا عثمان؟ هل من حادثة؟ قلت: نعم! أريد أن أخرج من موضع للذبان عليَّ فيه سلطان …»
ليس من شأننا تحليل ما في هذه الصور الجاحظية من عناصر السخرية، بحسبي أن أشير الآن إلى أنَّ الضحك — أو ما يغري به — هو ألدُّ خصوم الجمال والشعور به. لقد ظلت صورة القاضي ابن سوار رائعة المحاسن في سكينتها العاقلة، حتى جاء الذباب يعبث بها، فيمسخها بشرًا سويًّا، ثم ينزلها عن رفعة تلك المصطبة في ضجة سقوط الأصنام، تتناثر حجارتها شظايا، وتَطايرُ أرواحها شعاعًا.
٤
يقول صاحب نظام الفنون: «كلٌ يعلم ما في تصوير الأفعال من صعوبة، والحق أنه ليس إلا بالرقص تصوير لها، ثم لا نلبث أن نتبين في هذا الفن أيضًا، التماسًا للسكون في الحركة، وهو ناموس الرقص. كذلك في التمثيل المسرحي، يُلاحظ أنَّ ما من حركة يأتيها كبار الممثلين، حتى الهزليين منهم، إلا تكون انتقالًا من سكون إلى سكون …»
ويقول في موضع آخر: «إنَّ موضوع فن النقش تصوير السكنات، فبدلًا من أن يسبغ النقاش على قطع الرخام، مَشابهَ من حركات الآدميين، لا يكون من همه إلا أن يرجع بصورهم إلى سكينة الحجارة، وقد أصبح في حكم المقرر لدينا أنَّ كل حركة أو هياج ينبغي أن يُضبط ويملك، بحيث يجد الساكن في ذاته ومن ذاته مقنعًا وغناء. ولعمري إنَّ في وسع أخسِّ قالب أن يمثل لأنظارنا رجلًا يشتد في العدو، أو يجدُّ في شق الأرض، ولكن مهما يُفرغ فيه من صدق التمثيل، فالإنسان بلحمه ودمه يظل أصلح لهذا وأوفى بالمراد. وبعد، فمن الذي يزعم أنَّ الناس يبرزون في أفعالهم؟ فأنا أذهب، بالضد، إلى أنهم يختبئون فيها. على أنه يهولنا دائمًا في هذه الأناسيِّ من جفصين — الذين يقاتلون أو يركضون أو يتوعدون — ما يبدو في هيئاتهم من سمة جنون، فكل شيء في تهاويل أولئك المهتاجين أو المضطربين ظاهر خارجي، وليس هو بشيء … لهذا يكون النوم جميلًا، وأجمل منه الطمأنينة اليقظى، وتكون تلك اللُّمع من السكينة التي لا تكاد تلمحها العين، غاية ما يجهد فن النقش في تثبيته، ولا غرو أنَّ الأصنام معبودة منذ كانت الأصنام.»
ويقول: «من عادة أرباب الفن، إذا هم همُّوا بإخراج صورة شخص ما، أن يصنعوا أولًا طائفة من الرسوم تمثله في مختلف أوضاعه وحالاته، فيكون كل رسم منها متممًا للآخر، مصححًا إياه، ثم تبرز الصورة دفعة، وهي ناطقة مبينة عما توحي به تلك الرسوم جميعًا في تعاقبها، وزيادة. هكذا يظفر المصور الفنان بما يروم إثباته من طمأنينة الوجه أو توازنه … إنَّ الصورة — كسائر الأعمال الفنية — ليست ترتجل ارتجالًا.»
ويحسن هنا أن نستشهد بكلمة بليغة للفيلسوف هيجل — من أئمة الاستاطيقي الرواد في القرن الماضي — قالها مقارنًا بين التمثال الذي ليس له عينان ينظر بهما، فكأن الحياة مفاضة على جوارحه كافة، يبين عنها أقل جزء منه — وكذلك الفكر — وبين الصورة التي يعنى فيها المصور بأن يجعل الروح مجتمعًا منحصرًا في الحدق وما يليها، حتى ليخيل إلينا أنه ثمة منفصل مستقل عن سائر الوجه، بلهَ الشخص … يقول هيجل: «إنَّ التمثال الأعمى ينظر بجميع جسده.»
كما قال أيضًا الشاعر بشار، ذلك الأعمى الآخر الذي لم يكن تمثالًا، وأكبر الظن أنَّ شدة تشهِّيه — مع تلك العاهة فيه — هو ما فتق ذهنه عن هذه الصورة بشتى وجوهها.
لسنا نزعم الآن أنَّ المتنبي إذا أراد تمثيل غادته الغزلية التي «سكن الحس في حركاتها سكونًا لا حدَّ له» قد صنع دمية عمياء تنظر بكل جوارحها في عالم الدمى … كلا، فالأرجح أنه قد رسم صورة كسائر الصور الفنية، لها عينان تبصر بهما، عدا ما نفث فيهما من سحر عجيب يقلب «الألحاظ سيوفًا حمراء، أبدًا، من دم المحبين» إغراقًا في التلوين. ولعل اليازجي، بسائق فطرته الحصيفة، فطن إلى هذا المعنى؛ معنى «الصورة لا التمثال»، حينما حاول أن يردَّ «الحركات» في البيت الذي نحن بصدده إلى «الألحاظ» في البيت السابق؛ لأن جماع الحسن عنده هو في الحدق وهالاتها، سواء كانت نجلاء سليمة أو نواعس سقيمة، فتلك منطقة الجمال. لكن اليازجي لم يلبث أن أخذ في حديث عن «حركة الألحاظ» غامض مختلط، أصبحنا معه لا ندري أنحن تجاه إحدى الصور المجونية التي تنصب للإعلان في واجهات المخازن، دائرة عيونها، متحركة ذقونها، أم أنَّ معشوقة أبي الطيب قفزت اليوم من إطارها — بإغراء من هذا الشيخ الجليل — وسارت مهرولة في الأزقة، غامزة ذات اليمين وذات الشمال؟ نعوذ بالشعر من الشارحين.
ولقد بدرت لنا من خلال هذا الفصل — وأخلق به أن يعدَّ مغامرة بيانية، لا أن يحشر في صف البحوث الأدبية أو الفنية — بادرةُ خاطر سريع هو من الغرابة بمكان، سوف نرسله على عواهنه، ولسنا ندعي أنه من الآراء المحكمة وضعًا، القريبة مأخذًا، التي لا يشوبها لبس، ولا يعتريها وهن. يقول الشاعر بودلير، من قصيدة بلسان الجمال ما ترجمته:
وهو لم يغفل أيضًا في بعض تشابيهه الشعرية عن «استعارة» الحجارة لتمثيل الجمال المطلق، على نحو ما نقلناه من كلام صاحب نظام الفنون، فكأنه رأي متواتر بلغ حد الإجماع. ولكن، هل يؤذن لي «على الماشي» أن أوثر ذلك «الصدر» العضال من نظم المتنبي على هذين البيتين الصحيحين من شعر بودلير؟ لا تعصبًا لأبي الطيب آثرت الشطر المفرد على القصيدة الكاملة، رغم وحدة أسلوبها معنى ومبنى، ووضوح طريقتها نهجًا وغاية، بيد أنَّ لشعر المتنبي — في إيجاز لفظه ودقة تخييله — وحيًا طويل المدى، بعيد الصدى، لا نكاد نجد مثله في أبيات الشاعر الفرنسي، التي يرضيها كل الرضى أن تشرح نفسها بنفسها؛ لأن الفن في عصرنا بلغ أشده، بل جاوز حده، منذ طفق الشعر «يتفلسف» في موضوع ذاته، كما نفعل نحن الآن، ولسنا ندري أشرًّا أم خيرًا يكون … عسى أن يكون الاثنان معًا، على السواء.
أما تلك الخاطرة العجلى التي قلنا إنها تتراءى بمثل لمح البصر، من خلال هذا الفصل، وقد حاولنا أن نتبينها في شيء من الوضوح والاستقرار، مستشهدين بأبيات الشاعر بودلير، على لسان الجمال الذي جهر ببغضه الحركة ولم يفرق بين الضحك والبكاء؛ لأنها تنقل الخطوط أو تبدل قسمات الوجه المليح، فهي غلبة هذه الصورة «الساكنة في صدودها وإعراضها» على الغزل الشعري عامة، والغزل العربي خاصة، كأن الشعر يضنُّ بغادته التقليدية أو مولاته أن تأتي على محاسنها المثلى مظاهر الضحك والبكاء، والحب والقلى؛ فهو يناديها من أغوار سليقته أو «لاوعيه» بصوت أبي نواس:
ولا غرو أنَّ الأصنام معبودة منذ كانت الأصنام.
يقول الحكيم آلن في شرح كلمته عن «الجمال والسكون» التي على هامشها كتب هذا المبحث إنه أراد الإشارة إلى ما يُعجب ويأسر اللب في الوجه المليح، متى كان صاحبه في خلوِّ ذهن من خواطر الفتنة والدلال، يرسل النفس على سجيتها، ولا يعلم أنَّ أحدًا من خلق الله يراقبه أو ينظر إليه. «فثمة وجوه تعبر عن الدهشة، وأخرى عن المكر والحيلة، وغيرها عن الغرور أو الصلف أو الشك، وهلم جرًّا، حتى في حال النوم. لكن الجمال الذي نعنيه هنا هو في صورة لا تعبر بحد ذاتها عن شيء مطلقًا …» كأن ما قد يعبر الوجه عنه — أيًّا كان نوعه — يصرفنا عن التأمل في محاسنه، كي يقذف بنا في لجٍّ من الاستطلاع لا يدرك غوره. ويضرب مثلًا: الغضون في الوجه، سواء أكانت من أثر الهرم أو المرض طبيعية باقية، أم من أثر الغضب أو التجني كسبية زائلة، فهي تبعث في نفوسنا شعور همٍّ وجزع وإشفاق، لا شعور الطمأنينة والمتعة الخالصة، الذي يبعثه دائمًا مشهد الأشكال أو الصور الجميلة.
ومن غرائب الاتفاق — بعد أن رأينا اليازجي «يحصر» حركات الحسناء التي شاء القدر أن يتغزل بها أبو الطيب في نطاق الألحاظ، كأنها لا تفتأ تغمز بطرفها من حضر ومن غاب — أن يروي لنا صاحب نظام الفنون في باب «الوجوه» من كتابه «مقدمات على الاستاطيقي» خبرَ فتاة في إحدى قصص سطندال «كانت عيناها تحدثان جميع الأشياء والأشخاص حولها حديثًا لا ينتهي». ثم يقول: «قابلوا بين هذه الحمقاء وبين كلاليا ذات الحسن الإلهي، التي كان وجهها الجميل لا يعبر لأول وهلة إلا عن عدم الاكتراث، أو عن إعراض غير متكلف. بيد أنَّ أنفس صورة امرأة في متحفنا الأدبي هي — ولا مراء — صورة الصبية البارعة الحسن فرونيكا، في قصة «خوري القرية» لبلزاك، أتى الجدريُّ على ملامح وجهها، فكأنه غطى على محاسنه فقط؛ لأنها ما لبثت أن استعادت جمالها وبهاءها، بقوة الحب الصادق الذي شغف — على حين غرة — فؤادها.»
٥
كنت ذات ليلة ورأسي بين يدي أتدبر «نظام هذه الفنون الجميلة؛ لأنظر أين منازل الشعر منه، كما يرصد الفلكي النجوم، تارة يقلب وجهه في السماء، وطورًا يقلب أوراقه الصفراء، فراعني أن ليس هنالك نظام واحد لا يتبدل كالنظام الشمسي مثلًا، بل أنظمة متعددة بتعدد الفلاسفة ذوي البصر بالاستاطيقي، ذهب كلٌّ مذهبًا في نسق الفنون وتعيين مراتبها، ثم هو يطمع بأن يراها وفق هواه تسير، وعلى محوره تدور … لكن فرخ روعي مذ بدا لي أنَّ الاختلاف مهما يكن عظيمًا، لن يؤدي إلى اختلال مهما يكن حقيرًا، في ذلك الوجود العجيب القائم على تخوم مبهمة من دنيانا، والذي يسمونه: عالم الفن. لتكن غلطة حسابية يُحشر لأجلها الفلكيون أحياءً وأمواتًا، فيجمعون بعد لأي عليها، كأنهم ما اجتمعوا إلا لهذا، فماذا يكون؟ لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فالنظام في طبيعة الأشياء، قصارانا أن نحدس به ونتوهمه، أو بالأكثر أن نتدبره ونتفهمه.»
لم يكُ في النية، إذ أخذنا في هذا البحث، أن نعرض بإجمال أو تفصيل لمختلف الأنظمة التي وضعها الفلاسفة وعلماء الاستاطيقي في تصنيف الفنون الجميلة وتعيين مراتبها، من أريسطو المعلم الأول إلى قانْت وهيجل وشوبنهور، حتى باك وآلن وغيرهم من أصحاب النحل والمذاهب، فهو شرح يطول، ليس هنا موضعه. وإذا كان مما لا بد عنه ذكر طرف من آراء القوم فيما بين الشعر وسائر الفنون، من صلات قريبة أو بعيدة، رثة أو وثيقة، فحبذا لو كان يكفي — لتوفية البحث حقه — أن نقول: «هذه اللوحة ناطقة بشعر موزون، وتلك القصيدة صورة تامة التلوين، وهذا الرقص موشح أندلسي، وذلك اللحن كاتدرائية تسبح في الفضاء!» ففي هذه العبارات وأمثالها إشارة صريحة إلى نسبة غير منحولة بين تلك الفنون، لكن هذا دون الكفاية. ولقد كان الشاعر مالارمه يرى أنَّ «الرقص شعرٌ حيٌّ». وحاول يومًا أن يثبت بالأدلة العقلية والنقلية أنَّ راقصة على مسرح هي «كناية شعرية». ثم زعم بعضهم أنَّ لفكتور هوجو وبول فاليري قصائد مشيدة كالبروج والمعابد. فلو اشتغل أيضًا أحد قوادنا المتقاعدين بالنقد الشعري لم يكن عجيبًا أن يهجم علينا بهذا الرأي اللجب، وهو أنَّ قصائد المتنبي في مدح سيف الدولة «جيوش على أكمل تعبئة، ومطلع القصيدة منها كطليعة الجيش».
لا خلاف في أنَّ الشعر عند الإغريق القدماء وغيرهم من سالف الأمم لم ينفصل عن الرقص والموسيقى والغناء، وأنَّ القصيدة كانت تلحن وتنشد ويرقص عليها في وقت معًا. ومن الثابت أنَّ تلك الفنون الأربعة متفرعة عن أصل واحد من النغم أو الضرب أو التوقيع؛ فالموسيقى هو علم الأعداد، والأعداد أبسط الألفاظ، والألفاظ مادة الكلام، لا سيما الكلام المنظوم. وأشار ابن خلدون إلى هذه القربى بين فنون الشعر والرقص والموسيقى والغناء في منشئها وتطورها، قال: «وهذا التناسب في الأجزاء، وفي المتحرك والساكن من الحروف — أي العروض — قطرة من بحر من تناسب الأصوات، كما هو معروف في كتب الموسيقى … ثم تفنن الحداة منهم في حداء إبلهم، والفتيان في قضاء خلواتهم، فرجَّعوا الأصوات وترنموا. وكانوا يسمون الترنم إذا كان بالشعر غناء، وإذا كان بالتهليل أو نوع القراءة تغبيرًا … وكان أكثر ما يكون منهم في الخفيف — من الأوزان — الذي يُرقص عليه ويُمشى بالدف والمزمار، فيطرب ويستخف الحلوم … وكانوا يسمونه الهزج، وهذا البسيط من التلاحين هو من أوائلها.»
ولا ينبغي أن نغلو في ادعاء هذه النسبة أو القربى بين الفنون الجميلة، ولا أن نكثر من ترداد تلك الجمل الراقصة الملونة الملحنة إلى حد الإسراف؛ فقد روي أنَّ بعضهم سأل المصور ديجاس، وهو يحاوره في «تفسير» صورة من صوره، يوم عرضها للناظرين، كما حاولنا نحن «تفسير» بيت المتنبي، قال: ألا تجد في هذه اللوحة يا سيدي أثرًا من الشاعر مترلنك؟
فأجابه المصور على البديهة: إنَّ هذا الأزرق يا سيدي خرج من الأنبوب، لا من الدواة.
فمن أين طلعت علينا تلك الحسناء التي تغزل بها أبو الطيب، إن لم يكن من دواة الشاعر؟