خاتمة
لي صديق من مهرة الصيادلة، وآية مهارته أنه — في هذا العصر الذي كاد لا يعرف غير الأدوية الجاهزة — ما زال مولعًا بتركيب المفردات ومزج السوائل وعجن العقاقير، ومولعًا بها إلى حد أني كثيرًا ما سمعته ينعي على أبناء عمه الأطباء عدولهم عن الوصفات الطبية التي تكلفهم شيئًا من العناء وقليلًا من الوقت، إلى «الماركات» المسجلة: إنْ هي إلا بضعة أحرف طلسمية، يسطرونها بصورة ماكنية، وكأنها تعاويذ أُلهمومها إلهامًا — فيها الشفاء بإذن الله — فإذا بها تنقلب، بضرب من السحر، أصنافًا من القناني أو أنماطًا من العلب، مما تخرجه المصانع في ديار الغرب، على مثال الأمشاط والأحذية.
نحن في زمن العجلة، فهل يلام أطباؤنا إذا سايروا زمانهم، وإن يكن في هذا بعض الكلفة على مرضاهم؟ وما يدريك، لعل هؤلاء أحق باللوم من أولئك، أو فقل لي — عافاك الله — من قال لذلك المريض أن «يمرض» في هذا العصر، عصر السرعة والأدوية الجاهزة؟
وكأني بهذا الصيدلي الفاضل ضاق ذرعًا ببني عمه الأطباء، الذين مسخوه تاجر علب وزجاجات، وحرَّموا عليه تركيب مفرداته ومزج سوائله وعجن عقاقيره، فعكف على مزج الآراء في مختلف المواضيع الأدبية والسياسية والاقتصادية، حتى أصبح يريني من «تراكيبه» العجيبة أشكالًا وألوانًا. بيد أنه — والحق يقال — ما ادعى قط القدرة بسوائله ومعاجينه على شفاء الأدب من جموده أو المجتمع من أدوائه. قال لي ذات يوم، ولا أذكر لأية مناسبة: أنا أعلم من لافوازيه … أجل، أنا الصيدلي خريج الجامعة الأميركية منذ عشرين عامًا ونيف، أعلم من أبي الكيمياء الحديثة صاحب الاكتشافات والاختراعات، وواضع الدساتير والنظريات.
وبعد أن سكت برهة قال، وكأنه لتواضعه يهم بالسجود: لكن لست لافوازيه!
لقد عنى صاحبي بكلمته هذه أنَّ علم الكيمياء — كسائر المعارف الإنسانية — تطور نظريًّا وعمليًّا منذ ذلك العهد، فثمة حقائق يعرفها صيدلي اليوم وكان يجهلها لافوازيه، أو نظريات آمن بها أبو الكيمياء الحديثة، فجرحتها اختبارات أحدث، وهو رأي لا جدال فيه.
وقد عنى صاحبنا أمرًا آخر أيضًا، ليس دون الأمر الأول شأنًا، بل لعله المقصود بالذات، وهو أنَّ الفرق بينه وبين لافوازيه لا يزال ولن يزول، رغم المعرفة الراهنة: إنه «صيدلي» ليس إلا، ولافوازيه «نابغة» وكفى.
كان هذا الرأي يتردد في خاطري بعد بضعة أيام، في مجلس ضمني وبعض من لا يزالون يفكرون بغير الرغيف في هذا البلد، لحسن طالعه ولسوء طالعهم، وإنه لصبر محمود. فتناول الحديث — بالبداهة — الأدب والأدباء، والشعر والشعراء، الأموات منهم والأحياء. فقال بعضهم — وهو من مشيخة المحامين — بلهجة أسف بليغ إنه لا يكاد يجد فيما تخرجه المطابع هذه الأيام شعرًا أو نثرًا أو بين بين (يعني: الشعر المنثور)؛ ما يُقرأ؛ أي ما يجدر به أن يقرأه هو. وأخذ في مقارنة أدب جيلنا الحاضر بأدب الجيل الغابر، آتيًا على وصف حلقات السلف الصالح، تاليًا علينا ما تيسر من منثورهم، منشدًا ما حضره من منظومهم، حتى خيل إلينا — لصدق لهجته وشدة حنينه — أنه راجع بنا القهقرى لا محالة.
فذكرت ذلك «المعجون» الذي أتحفني به صاحبي الصيدلي أخيرًا من تراكيبه العجيبة، وقلت لنفسي: هذا وقته، أعالج به المحامي الشيخ، فيكون بلسمًا لجراحات حنينه الدامي، والتفتُّ نحوه: نحن أيها الأستاذ في هذا المجلس عشرة، كل واحد منا أعلم بالأدب من أي الأئمة العشرة الذين عرفتهم في أيام صباك الحلوة — عليهم وعليها رحمة الله — فرويت لنا نوادرهم، وقرأت علينا نبذًا من فصولهم، وأنشدتنا مقاطع من شعرهم. قد يكون بيننا من هم أفقه بالعربية من بعضهم، ولا شك في أنَّ أغلبنا أوسع اطلاعًا على الأدب العربي والآداب الأجنبية منهم جميعًا. نحن أصح فهمًا لحقيقة الأدب ومقاييسه. والثقافة العامة، هل نسيتها يا أستاذ؟ عندنا من المشاركات في مختلف العلوم والفنون ما لم يؤتوا جزءًا منه:
كما قال المتنبي! والنظريات الجديدة في الفن والأدب؟ وفاليري صاحب الشعر الصافي؟ ورسل اللاوعي، ودعاة التكعيب؟ وذلك البيان الذي يزعم أنه سوف يصك قفا النحو صكًّا، ويدق عنق الصرف دقًّا، ثم يعوذ بالموسيقى في خليط من الأنواع يصوِّر للناس بدء الخليقة أو قيام الساعة؟ إذا كان هذا كله لا يكفيك، فماذا تريد يا أستاذ؟ ماذا تريد، بالله عليك؟
فحملق الأستاذ، وهو غير مصدق أذنيه، حتى خشيت على نفسي، قلت: ولكن مهلًا! لعلك ترد عليَّ بأن المتنبي — مثلًا — لم يعرف صنفًا واحدًا من البضاعة التي عرضتها، كأننا في دكان عطار. فهل عاقه ذلك عن أن يكون المتنبي؟ فأنا أجيب: أجل، أنا أفقه من المتنبي، لكن لست المتنبي!
وأقسم ما فارقت صديقي المحامي الشيخ، إلا وقد انبسطت أساريره. ثم ودعني ومشى في خيلاء الظافر، كأنه «أنقذ» المتنبي من هذه «المدرسة الحديثة» التي يراد إدخاله فيها، بعد شيخوخة ألف عام.