القبض
سمعت دقة على الباب.
كنت جالسة إلى مكتبي الصغير في غرفة نومي، مستغرقة في كتابة رواية جديدة.
عقارب الساعة تشير إلى الثالثة بعد ظهر يوم الأحد ٦ سبتمبر ١٩٨١م. تجاهلت الدقة على الباب، ربما يكون البواب أو بائع اللبن أو المكوجي أو أي أحد، وسوف يعود أدراجه إذا لم يَفتح أحد.
عذابي حين أجلس للكتابة هو تلك المسئوليات الصغيرة في البيت، أو جرس الباب أو جرس التليفون. استطعت التخلص من التليفون بنزع الفيشة من الحائط. لكن الباب! هل أنزع الباب من الجدار؟!
هذه الرواية تعذبني، من أجلها تركتُ كلَّ شيء. تفرغت تمامًا لها، مستعصية كالحب المستحيل، تريدني بكل كياني بكل عقلي وجسدي، أو لا تعطيني نفسها على الإطلاق. الكل أو لا شيء، مثلي تمامًا وبقدر ما أعطيها تعطيني، ولا تريد أن يزاحمها في عقلي وقلبي أحد، لا زوج ولا ابن ولا ابنة ولا انشغال في أي عمل، ولا حتى قضية المرأة.
بدأتها في خريف ١٩٧٨م، في ذلك الوقت كنت أعمل مستشارة بالأمم المتحدة في أفريقيا. بيتي كان في أديس أبابا، لكني كنت أتجوَّل في البلاد الأفريقية بحكم عملي. ولأول مرة في حياتي أرى منابع النيل في الحبشة وأوغندا، بحيرة فيكتوريا تخيلتها وأنا طفلة، لون مياهها ورائحتها ذكرتني بمصر، حيث ولدت. أحمل مصر داخلي أينما سافرت، السيول فوق صخور الحبشة تجري أنهرًا صغيرة بلون نهر النيل، لون بشرتي، وملامح الناس في أديس أبابا تشبه ملامح جدودي وأبي وعماتي في كفر طلحة.
الدقة الثانية على الباب.
لا زلت جالسة أتجاهل الدقة، وأتجاهل أبواق السيارات في الشارع، تجولت في جميع بلاد العالم، ولم أر أناسًا كالمصريين يدوسون على أبواقِ السيارات بأيديهم بمثل ما يدسون بأقدامهم على دواسة البنزين. شقتي في الدور الخامس، لكن أصوات أبواق السيارات كالصراخ، كالعويل المستمر.
في أديس أبابا كانت شقتي هادئة تطل على الهضاب الخضراء، هدوء كامل، لا صوت ولا بوق سيارة، لكن الرواية أبتْ واستعصت. استطعت أن أكتب البحوث العلمية والمقالات، وكتبًا عن المرأة؛ إلا الرواية. هذه الرواية أمرها عجيب، تبعد عني بقدر ما أبعد عن مصر. وما إن أهبط في مطار القاهرة، وأشم رائحة التراب وعرق الناس وأبواق السيارات، ووجوه الأطفال الشاحبة فوقها الذباب، وطوابير النساء بالجلاليب السوداء، وعيون الرجال المرهقة المنكسرة، حتى تقترب الرواية، وتقترب.
كنت أبحث عن أديب كتب أدبًا عظيمًا، وهو خارج وطنه. عقلي يقول لي إنه ممكن، وأسافر.
لم أكن أسافر اختيارًا، كنت أبحث عن وطن آخر، منذ شتاء ١٩٧٢م، وأنا أشعر بالغربة في وطني. لماذا؟ لأنني كتبت كتابًا فيه أفكار جديدة، لأنني وقفت في محاضرة لي في كلية الطب بجامعة عين شمس، وقلت رأيي في المرأة والمجتمع والطب والأدب والسياسة. وأنا لا أفصل بين أيٍّ منها.
لم أكتب إلا ما يمليه عليَّ عقلي، ولم أقل إلا رأيي أمام جموع الطلبة والطالبات. كانت القاعة مليئة بالمئات أو الألوف والكل كان سعيدًا، وانتهت المحاضرة بمناقشات عميقة علمية وعدتُ إلى بيتي.
لكن ما حدث بعد هذه المحاضرة كان عجيبًا.
طلبتني مباحث أمن الدولة وحقَّقت معي، غضب وزير الصحة، غضبت نقابة الأطباء، غضبت دور النشر وأجهزة الإعلام.
وأصبح اسمي في القائمة السوداء.
إن أجهزة الدولة حين تغضب على كاتبٍ تستطيع أن تمنعه من النشر، وتخنق صوته فلا يصل إلى أحد، لا يمكن أن يتربَّع كاتب على قمة الأدب، إلا إذا رضِيَتْ عنه السلطة.
كل شيءٍ عندنا في يد الدولة، وتحت سيطرتها المباشرة أو غير المباشرة، بالقانون الواضح أو بالقانون الخفي، بالعُرف أو بالخوف المزمن القديم من السلطة. أحد الأدباء الكبار في جريدة الأهرام قال لي يومًا حين سألته «لماذا يقول لي رأيًا ويكتب رأيًا آخر؟»: «إذا فصلوني من الأهرام؛ هل تتولين الإنفاق على أولادي في المدارس؟» الناس من خوف الذل في ذل.
معظم الناس عندنا موظفون حتى الأدباء، والفلاسفة.
منذ سنين طويلة لم أقرأ أدبًا عظيمًا، ولم أسمع عن فيلسوف واحد.
اشتغلت في الأمم المتحدة لأتحرر من الحكومة، لكني اكتشفت أن أجهزة الأمم المتحدة كأجهزة الحكومة، وخبراء الأمم المتحدة موظفون يخافون على الراتب الشهري، مثل كل الموظفين، ويسود في الأمم المتحدة الرجال من الطبقات العليا والبلاد الكبرى الثرية، وتهبط إلى القاع النساء من العالم الثالث.
الدقة الثالثة على الباب.
لا بد أنه البواب، ولن أفتح له الباب. هذا البوَّاب لا يحترم من السكان إلا صاحب العمارة، لا يمكن أن يدق بابه ثلاث مرات، وبهذا العنف. الناس في مصر تغيرت، لم يعد أحد يحترم إلا أصحاب العمارات والدولارات وشركات الانفتاح، ومزارع الدواجن والبيض الإسرائيلي واللبان الأمريكي.
كتبت استقالتي من الأمم المتحدة في خريف ١٩٨٠م؛ لأُنهي غربتي وأعود إلى مصر، لكن غربتي ظلت وأنا في مصر، بل زادت، وزادت غربتي في الحكومة، فكتبت استقالتي في شتاء ١٩٨١م، وقلت فيها: إن كل شيءٍ أجنبي أصبح أعلى قيمة من أيِّ شيءٍ مصري، حتى الإنسان.
الدقة الرابعة والخامسة، وتكررت الدقات على الباب.
لا يمكن أن يكون هو البوَّاب، مهما استهان بالسكان المستأجرين، فلن تصل به الجرأة إلى هذا الحد.
نهضت وسرت نحو الباب.
ظلال طويلة سوداء وراء الشراعة الزجاجية، وصوت أنفاس تلهث، سرَتْ رعشة فوق جسدي. وحدي تمامًا بالشقة، زوجي سافر قبل الفجر إلى قريته قرب طنطا، ابنتي وابني خرجا ولن يعودا إلا في الليل.
ربما لصوص! لكن اللصوصَ لا تدق الأبواب.
مترددة متوجسة لم أفتح الباب، لا أمان ولا طمأنينة هذه السنين. هتفت من وراء الباب بصوتٍ جعلته عاليًا شجاعًا: مَنْ وراء الباب؟
وجاءني الصوت الغريب: البوليس!
دارت الأرض لحظة، وتصورت أن حادثًا وقع لابني أو ابنتي أو زوجي، وهو عائد على الطريق، لكن الصوت عُدواني، لا يَنُم عن حادث.
بأصابع مرتجفةٍ فتحت الشراعة.
اتسعت عيناي في ذهول، عدد كبير من الرجال المسلحين بالبنادق والسناكي، عيون حادة تنفذ من خلال الأعمدة الحديدية الرفيعة، وصوت خشن يقول بلهجةٍ آمرة: افتحي الباب!
ربما حلم، الواقع يختلط بالخيال والوعي باللاوعي، وعقلي ما زال لا يصدق أنه حقيقة.
– من أنتم؟
– افتحي الباب، بالأمر.
خيال لا شك. منذ طفولتي حتى اليوم لم يكلمني أحد بهذه اللهجة، لا أبي ولا أمي، ولا أي إنسان دخل حياتي أو طرق بابي.
أبي لم يوجه لي أمرًا طوال حياته، كان يناقشني في كل شيء، حتى وجود الله. أما الله فأنا كنت أناقشه، ولا بدَّ أن يقنعني الله بما يقول.
تجمَّع الغضب في حلقي: أي أمر؟!
– البوليس.
– ملابسكم ليست بوليسية!
تقدم من خلف الفرقة المسلحة ضابط، يرتدي قبعة بوليسية، وسترة بيضاء، وفوق كل كتف قطعة ذهبية أو نحاسية تلمع، وأسنانه بيضاء تلمع في ابتسامةٍ مؤذية: افتحي الباب من فضلك.
– لماذا؟
– عندنا أمر بتفتيش بيتك.
– أريد أن أرى هذا الأمر، قبل أن أفتح الباب.
– ليس معنا الأمر الآن.
– لا يمكن أن أفتح لكم دون أن أرى أمر النيابة. هذا هو القانون.
– لا بد أن تفتحي الباب.
– لن أفتح الباب، حتى أرى أمر النيابة.
أغلقت الشراعة، جسدي يرتعد، قلبي تحت ضلوعي يدق بعنف.
ولكن دقات الباب كانت أشد عنفًا.
ربما كابوس، فتحت عيني لأصحو من النوم، لكني وجدت نفسي صاحية، وواقفة فوق قدمي في الصالة، والباب يرتج تحت الدقات العنيفة.
حركت قدمي فوق الأرض إلى الأمام وإلى الخلف، وتجوَّلت في الحجرات الثلاث، لا أعرف ماذا أفعل.
بيتي شقة صغيرة معلقة في الدور الخامس بين السماء والأرض. الشارع يبعد عنها عشرين مترًا تقريبًا. لو قفزت من النافذة سيتهشم رأسي فوق أسفلت الشارع، لا نوافذ تطل على جيران، البيوت في الناحية الأخرى من الشارع البعيدة، والسيارات تندفع فوقه في سرعة البرق، أمام باب العمارة عدد من سيارات البوليس، ورجال مسلحون. البنادق مرفوعة فاغرة أفواهها كلها ناحيتي.
ماذا حدث؟ هل انقلبت الدنيا أم أن كياني الصغير قد انقلب وتحول إلى عصابة خطيرة تهدد الدنيا؟
رفعت عيني إلى السماء، السماء في مكانها، ولا شيء تغير في الدنيا، لكنها دنيا شبه غائبة، لا مبالية، ولا تدري شيئًا عن تلك الدقات العنيفة فوق بابي.
تركت النافذة، رأيت التليفون فوق مكتبي، رفعت السماعة وطلبت رقمًا، لم أسمع الجرس، طلبت رقمًا آخر. الجرس يرن بدون انقطاع، طلبت رقمًا ثالثًا، الخط مشغول طوال الوقت.
الدق يزداد عنفًا، جدران البيت تهتز، في أعماقي ارتجاجة، وفي رأسي صوت يقول لي: افتحي لهم، وصوت آخر ينبعث من مكانٍ سحيق في نفسي، من عمقٍ بعيدٍ في ذاكرتي، في طفولتي، يقول لي بإصرار: لا تفتحي، لا تستسلمي.
في كل مراحل عمري، لم أكن أطيع إلا ذلك الصوت المنبعث من أعمق أعماقي.
ولم أفتح الباب، دخلت غرفتي وارتديت ثوب الخروج، كان ثوبًا أبيض، ارتديت حذائي، وضعت بطاقتي في حقيبة اليد الصغيرة، وعشرة جنيهات ومفتاح الشقة والسيارة، ومنديلًا أبيض صغيرًا. أخذت أتجول في الشقة، غرفة ابنتي، سريرها، مكتبها، مكتبتها، صورتها داخل إطارٍ صغير. مضرب التنس، والكور داخل علبة، وحذاء كاوتش. دخلت غرفة ابني، سريره، مكتبه، مكتبته، صورته وهو طفل، كراريس المدرسة وأقلام ملونة، خرجت إلى الصالة، المكتبة الكبيرة، شرائط الموسيقى، رأس خشبي أسود من نيروبي. عدت إلى غرفتي، سريري، سرير زوجي، صفوف الكتب، فوق الكتب صورته وصورتي معًا، صحف الصباح فوق المنضدة الصغيرة، خرج مبكرًا ولم يقرأها. من عادته أن يقرأ الصحف في الصباح، لكني أتركها حتى المساء، لو قرأتها في الصباح تفسد الأكاذيب مزاجي، وأفقد الهدوء المطلوب للرواية.
جذب عيني في الصفحة الأولى مانشت كبير: «التحفظ على مثيري الفتنة الطائفية.» قرأت منذ أيام عن أحداث الزاوية الحمراء، معركة بين مسلمين ومسيحيين قُتل فيها بعض أشخاص. مصر لم تعرف أبدًا المعارك الطائفية، يد خفية تعبث بوحدة الوطن، أيفعلون في مصر ما فعلوه في لبنان؟!
سمعت صوت انكسار الباب، كأنه انفجار.
أحذيتهم الجديدة تدق الأرض بسرعة كجنود جيشٍ انطلق نحو القتال، هجموا على الشقة كالجراد الوحشي، أفواههم مفتوحة تلهث، وبنادقهم فوق أكتافهم مشهرة.
لم أكن أرى نفسي، لكن يبدو أن شكلي تغير، ووجهي تغير، وعيناي تغيرتا. لا بد أن شيطانًا تقمص جسمي؛ لأني لم أعد خائفة.
وقفت أمامهم في الصالة الصغيرة مرفوعة الرأس، مستعدة لمواجهتهم حتى الموت.
تسمَّروا أمامي لحظة جامدين، لا بد أن شكلي كان مرعبًا، وقلت بصوتٍ مرعبٍ أيضًا: كسرتم الباب؟! هذه جريمة!
ولم أعرف ما الذي حدث، لعل صوتي أكَّد لهم أنني امرأة، ولست شيطانًا. لعلهم فُوجئوا بأنني لا زلت موجودةً بالشقة ولم أهرب.
أحاطوا بي وهم يلهثون، وجوه طويلة شاحبة مبلَّلة بالعرق، أفواه مفتوحة تلهث، أنوف مقوَّسة كمناقير الطيور الجارحة.
التفَّت حولي فرقة منهم كالسلسلة الحديدية، فرقة أخرى انتشرت في الحجرات الثلاث، فتشوا أدراجي، لمحت أحدهم يمسك الرواية من فوق مكتبي. هتفت بغضب: هذه رواية، اتركها، لا تلمسها.
لكنه دسها في حقيبة معه، وصرخت بغضب: هذه جريمة أخرى!
كيف تنتزعون مني روايتي؟! لا دخل لكم بها.
رجلٌ آخر أخذ يقلب في مفكرتي الخاصة فوق المكتب، يقرأ فيها ويداه تلعبان في ساعة مكتبي الصغيرة.
وسمعت رئيسهم يقول: خذوها إلى السيارة، وسنحلق بكم بعد أن نكمل تفتيش الشقة.
قلت له: أتفتشون الشقة في غيابي؟! هذه جريمة ثالثة، إذا ضاع شيء منها أنت المسئول.
هبطنا الأدوار الخمسة، أبواب الشقق كلها مغلقة، عيون من وراء الأبواب مذعورة، وقفنا عند الدور الأرضي ننتظر. بقية الرجال ورئيسهم الضابط لا زالوا داخل شقتي يعبثون بأوراقي وأشيائي الخاصة. الغضب يتجمع في حلقي كالغُصَّة، اقترب أحد الجيران فأبعدوه بسرعة البنادق.
هبط الضابط ومن حوله رجاله يحملون أوراقي ويلهثون. سار الموكب المسلح خارج باب العمارة، توقف الناس في الشارع من بعيد، يرمقون الموكب المهيب، عيونهم مليئة بالخوف والرهبة. امرأة تحمل طفلًا صاحت بغضب: يا خيبتكم! تشهرون البنادق في وجه امرأة؟! اذهبوا وحاربوا إسرائيل، فتاة من بعيد تلوح لي بيدها، لوحت لها بيدي.
انتفض الضابط وأمر الرجال المسلحين بركوب السيارات، قفز الرجال في السيارات حاملين البنادق على أكتافهم، أخذني الضابط إلى إحدى السيارات، طلب مني أن أصعد لأجلس بينه وبين السائق. رفضت وقلت: سأجلس بجوار النافذة.
نظر الضابط إليَّ بدهشة، الآن فقط رأيت وجهه، شعر أسود أكرت، عينان سوداوان، شارب كثيف أسود فوق الشفة العليا، شفتان ممتلئتان انفرجتا عن أسنانٍ بيضاء وهو يقول: هذا ممنوع، هذا ضد التعليمات. صوته خشن، لكن فيه رنة ضعف، وعيناه رغم السواد الداكن اللامع فيهما استكانة، ونوع من الخضوع للأوامر أو الاستسلام للقدر.
حاول أن يقنعني بالجلوس بينه وبين السائق، رفضت الجلوس بين رجلين في هذا الحر الشديد. جسدان غريبان ينزَّان بعرق الكراهية، منذ البداية لا بد أن أفرض إرادتي، لا أعرف إلى أين يأخذني؛ السجن أو الموت. لم يعد يهمني سوى أن أجلس في المقعد الذي أريد، وليحدث بعد ذلك ما يحدث.
نظر الضابط في عيني، ثبَّتَ عيني في عينه، لم تطرف عيناي، عيناه طرفتا، ونظر إلى الأرض. ربما كان يفكر ويقول لنفسه: إذا كانت الأوامر بغير عقل، فأنت لك عقل ولا داعي لإثارة الناس في الشارع، ثم إنها امرأة، ولن تقفز من باب السيارة وهي سائرة.
بدا عليه اليأس، ثم صعد أمامي وركب إلى جوار السائق، وصعدت بعده، وركبت إلى جوار النافذة والباب.
تحرك الهواء بمجرد أن تحركت السيارة، أخذت شهيقًا عميقًا، انتصرت إرادتي، شيء بسيط، لكنه هام؛ لأنه الانتصار الأول.
الناس ما زالوا واقفين على جانب الشارع، بعض الشباب رفعوا أيديهم ولوحوا لي. رفعت يدي ولوحت لهم، انتفض الضابط على مقعده قائلًا: أرجوكِ لا تُكلِّمي الناس.
– أنا لا أكلم الناس، أنا ألوح لهم.
انطلقت السيارة، حلقي جاف، قلبي ما زال يدق، لكن ضرباته ثقيلة، أطرافي باردة، أصابع يدي كما هي، وعلى ركبتي حقيبة يدي الجلدية، وفي قدمي حذائي، نسمة منعشة تنفذ إلى وجهي من نافذة السيارة، وأمام عيني شارع الجيزة، وحديقة الحيوان، وشارع الجامعة، والسيارات، والناس في الطريق، وكل شيء من حولي كما كان.
ولكني لست كما كانت، شيء ما خطير حدث، في غمضة عين لم أعد أنتمي إلى هذا العالم خارج السيارة، ولا إلى هؤلاء الناس السائرين في الشارع أو الراكبين سياراتهم، والعائدين إلى بيوتهم.
العودة إلى بيتي بدت لي كالمستحيل، أو كالانتقال من عالمٍ إلى عالمٍ آخر. فتحت عيني ثم أغمضتهما، وتصورت أنني سأفتحهما فأجد نفسي في بيتي، وقد انتهى الكابوس.
فتحت عيني ووجدتني جالسة في السيارة، وإلى جواري ضابط بوليس، ومن خلفي ألمح أطراف البنادق تطل من سقف السيارة، عقلي ما زال عاجزًا عن التصديق، خلع الضابط قبعته، ووضعها على ركبتيه. مسح العرق فوق وجهه ورأسه بمنديلٍ أبيض كبير، وهو يقول: تعبتينا جدًّا يا دكتورة.
اتسعت عيناي، هل يخاطبني؟ وهل أنا ما زلت هذه الدكتورة؟ ذاكرتي بدأت تعود، كنت جالسة أكتب الرواية، ثم سمعت الدقة على الباب، ثم الدقات، ثم انكسار الباب كالانفجار.
قلت بدهشة: من أتعب من؟! كسرتم الباب! هذه جريمة يعاقب عليها القانون.
ابتسم بسخرية: أي قانون؟! ألم تسمعي خطبة الأمس؟
– أي خطبة؟
– خطبة رئيس الجمهورية، السادات.
– لا أسمع الخطب.
– لو سمعتِها لعرفت كل شيء.
– أعرف ماذا؟
– تعرفين لماذا جئنا إليك، وإلى أين نأخذك؟!
– إلى أين تأخذونني؟!
– لا شيء، مجرد سؤال أو سؤالين، وتعودين إلى البيت.
– تحقيق؟!
– لا، أبسط من ذلك، مجرد سؤال أو سؤالين وتعودين إلى البيت.
•••
لو قال لي ذلك الضابط إنه يأخذني إلى السجن، ربما كان الأمر محتملًا أو أقل سوءًا. على الأقل كنت سأعرف إلى أين أنا ذاهبة، المعرفة مهما كانت أقل إيلامًا من الجهل.
الجهل كالموت، بل هو الموت فعلًا؛ لأننا لو عرفنا الموت لما كان هناك موت، ولا خوف من الموت.
الجهل هو الخوف، ولا شيء يُرعب الإنسان سوى الجهل. وقد استغرقت الرحلة العجيبة من باب بيتي إلى السجن عدة ساعات، عشت خلالها أغرب جهل في حياتي، كالعمياء تمامًا، وكأنما ربطوا حول عيني غطاء سميكًا أسود يحجب الضوء، ويحجب الطريق، ولا أعرف إلى أين أذهب. وفي كل مرة أسأل الضابط: إلى أين نذهب؟ يرد قائلًا: أبدًا، لا شيء، مجرد ساعة وتعودين إلى البيت.
تابعت حركة السيارة، وهي تنحرف من الشارع الرئيسي، وتدخل في شوارع صغيرة. نور المصابيح العالية ينعكس على نوافذ البيوت المغلقة. هدوء غريب، تعلقت عيناي فجأة بنورٍ يُضاء في إحدى النوافذ، لكن النافذة ظلت مغلقة. رجل عجوز يسير كأنه يعرج ويدخل في أحد البيوت. شاب وفتاة يسيران وأيديهما متشابكة بحذاء سور ضخم. كشف نور السيارة ظهرهما، تفككت أيديهما بسرعةٍ واختفيا في ظل شجرة، خُيِّل إليَّ أن الضابط سيهبط من السيارة ويقبض عليهما، لكن السيارة واصلت السير، والضابط ينظر إلى الأمام مستغرقًا في تتبع الطريق، ومن حينٍ إلى حين يقول للسائق: يمين شمال، شمال يمين، ثم قال أخيرًا: أيوه، هنا، قف.
لم أعرف بالضبط أين أنا، دخلت مع الضابط إلى مبنى صغير، وصعدنا بضع درجات. رأيت رجلًا قصيرًا سمينًا أصلع، طلب مني بطاقتي الشخصية. نقل الرجل عينيه من صورتي في البطاقة إلى وجهي، وقال: تعبتينا جدًّا يا دكتورة، لماذا لم تفتحي لهم الباب؟ قلت: لم يكن معهم أمر مكتوب من النيابة. نظر إليَّ بدهشةٍ ولاحظت أن له عينًا أصغر من عين، وقال: أي أمر؟ ألم تسمعي الخطبة؟
– أي خطبة؟!
– خطبة الأمس.
– هل أوامر النيابة أصحبت تصدر عن طريق الخطب؟ أم أن الخطب أصبحت تلغي القوانين؟!
أعاد إليَّ بطاقتي، وهبطت مع الضابط الدرجات، ثم سرنا خلف المبنى، وهبطنا إلى سلمٍ صغير، وأدخلني الضابط إلى حجرة في الدور السفلي، وأشار إلى كرسي خشبي صغير وسط الغرفة، وقال: اجلسي هنا قليلًا، وسأعود حالًا.
جلست، وأنا أتلفت حولي. ظهر رجل عجوز عند الباب، كأنما انشقت الأرض عنه، ورأيته يرفع يده إلى أعلى كأنه يحييني. كدت أرفع يدي لأرد على تحيته، لولا أنني أدركت أنه يؤدي التحية للضابط الذي اختفى.
ظل الرجل واقفًا بالباب، يسعل بشدة، وعروقه في عنقه نافرة. حول العنق ياقة مسودة بعرقٍ قديم، لون سترته تحت ضوء اللمبة الخافت يميل إلى الصفرة. وعلى كتفه شيء أشبه بالشريط، وعلى صدره ثلاثة أزرار نحاسية بلون الصدأ، تدلى أحدها بخيطٍ رفيعٍ يوشك أن يسقط. مسح الرجل عينيه بكُمِّ سترته، ورأيت في يده سُبحة صفراء، وفي قدميه شبشب بلاستيك.
ظل واقفًا ناحية الباب، وظَهْرُه ناحيتي، وصوت أنفاسه يأتيني رتيبًا متصلًا كهواءٍ مضغوطٍ يخرج من ثقبٍ في عنق زجاجةٍ مغلقة، يحرك السبحة بين أصابعه: الله، الله، الله.
كلمة الله لم تكن صوته، وإنما حركة صدره، وهي تعلو وتهبط مع حركة أصابعه، طرقعة مسموعة. ابتلعت لعابًا جافًّا مرًّا.
قلت: هل عندك قليلٌ من الماء؟
استدار نحوي، وجهه مليء بالتجاعيد، جرى بظهرٍ محنيٍّ قليلًا إلى ركنٍ مظلم، وعاد بقُلةٍ من الفخار عنقها مكسور، ومن حول الفوهة بقع سوداء على شكل شفاه، ورائحة عطنة تنبعث منها. ترددت والقُلة في يدي أقربها من فمي، قال الرجل بعنف: اشربي، هذا ماء زمزم، والله أحسن ناس تشرب من قُلَلي، أخذ القُلة من يدي ورفعها إلى فمه. الماء يكركر في فمه، مسح فمه بيده وخبأ القُلة في الركن، ثم جلس على دكةٍ خشبيةٍ وراح يكلم نفسه: أملؤها كل صباح من الطرنبة في بيتي، لا أشرب من ماء الصنبور هذه الأيام. مواسير المياه فيها، أعوذ بالله، ربنا غاضب هذه الأيام على الناس. كنت أضع القُلة في النافذة لتبرد، لكن كل من كان يمر في الشارع يرفعها إلى فمه، ولا يبقى لي شيء، الدنيا تغيرت. لم أكن أحمل هم القُلة ولا الماء، كنت أصعد إلى دورة مياه المدير في الدور الأول وأتوضأ، لكن الماء أصبح ينقطع، حتى عند المدير الكبير. رجل طيب متواضع ليس كالمدير السابق، لعنة الله عليه، حصل على ترقيةٍ كبيرةٍ، وانتقل من هنا إلى مكتب الرئاسة والحمد لله.
وسمعت فجأة صوتًا خُيِّل إليَّ أنه صرخة ألم، صوتًا رنَّ في أذني حادًّا، لم أعرف أنه صوت فتاة أو فتى أو طفل، ودَقَّ قلبي بعنف. ظننت أنه صوت ابني أو ابنتي، بعقلي الواعي كنت أدرك أن السيارة حملتني بعيدًا عن بيتي بأكثر من عشرة كليو مترات، ولا يمكن أن أسمع صوت أحد في بيتي، حتى وإن صرخ، لكني نهضت واقفةً على قدمي، خفقات قلبي أسمعها بأذني، وعرق كسائل لزج جعل الثوب يلتصق بجسدي، وقلت للرجل: أتظن أنني سأبقى هنا كثيرًا؟
حملق الرجل فيَّ بعينين صغيرتين حمراوين خاليتَيْن من الرموش، ثم قال وهو يستدير نحو الباب: الله أعلم.
قلت: ألا يوجد تليفون هنا لأتصل بالبيت؟ أريد أن أُطَمْئن أسرتي إلى أنني هنا.
لم أعرف تمامًا ماذا قصدت بكلمة «هنا»، لكن الرجل حملق فيَّ مرةً أخرى بدهشةٍ أشد، ثم انفرجت شفتاه عن ابتسامة شبه ساخرة، وقال: «تليفون؟! لا يوجد هنا تليفون.» ثم أطبق شفتيه بسرعة كأنما أفشى لي سرًّا ليس له أن يفشيه، وقال: أنا لا أعرف شيئًا هنا، ولا أعرف هل يوجد تليفون أم لا يوجد تليفون. هذه كلها أمور علمُها عند ربي، وما دمت وصلت إلى هنا فكل شيءٍ علمه عند الله.
مددت ذراعي في الظلمة لأنظر إلى الساعة فوق معصمي، وأنا أقول للرجل: كنت وحدي بالبيت حين جاءوا، ولا بد أن زوجي وابنتي وابني عادوا الآن ويبحثون عني، ثم أنا لا أعرف لماذا يقبضون عليَّ، ولماذا يتركونني هكذا أنتظر، ولا أحد يقول لي إلى أين أذهب. لا بد أنهم يخفون عني شيئًا لا يريدون أن أعرفه.
وقال الرجل، وهو يمد ذراعه، ويكشف عن جرحٍ قديمٍ ربطه بقطعةٍ من الشاش المتسخ: «إنهم لا يخفون عنك شيئًا يعرفونه. إنهم لا يعرفون شيئًا يا ابنتي، وينتظرون مثلك تمامًا، الكل ينتظر، أمر ربنا. ماذا يفعل الواحد ولكل واحدٍ مهمة محددة؟ أيام زمان كان الأمر يأتي مكتوبًا.»
كان عقلي شاردًا، لكن أذني التقطت كلمة «مكتوبًا»، وكنت قد سمعت من قبل عبارة «أمر ربنا»، وتساءلت بصوتٍ كأني نائمة: أمر ربنا كان يأتي مكتوبًا؟! لكن ما إن سمعت صوتي يرن في الغرفة الخالية، حتى أدركت أنني يقِظَة، وتذكرت ما حدث وقلت: لم أفتح لهم الباب، لم يكن معهم أمر مكتوب!
وأطبق الرجل جفنيه على عينيه، وقال: «كان الأمر يأتي إليهم مكتوبًا، لكن هذه الأيام الوقت ضيق، وكل شيء يمشي بسرعة، والأمر يأتي مستعجلًا عن طريق البرق. ويوزع على الجميع على شكل برقية عاجلة. البرقية لا تكون مكتوبة بخط اليد، ولا مضروبة بالمكنة، ولا أحد يعرف من أرسل البرقية إلا المدير الكبير، وهو أيضًا لا يعرف؛ لأنه يسمع الصوت في التليفون، ولا يعرف صاحب الصوت، لكنه يعرف اللهجة، ويعرف أنه أمرٌ أتى من فوق، وعليه التنفيذ فورًا، وبسرعة يدق المدير الجرس، ويجمع ضباطه. الضباط هنا قلوبهم طيبة، وهذا الضابط الذي دخل معك رجل طيب جدًّا، من أسرة طيبة. أبوه تربى في قصر الملك، وخاله الآن في قصر الرئاسة في عابدين، كلهم ناس لهم أصل، وإذا قال لك الواحد منهم إنه لا يعرف؛ فاعلمي أنه صادق لا يكذب؛ فهو لا يعرف شيئًا والمفروض ألا يعرف، وإلا تسربت أسرار الدولة خارج الدولة. وهذا شيء خطير يحاسب عليه المدير الكبير شخصيًّا. وأنا يا راجل يا صغير، أنا أيضًا أُحاسَب على أي شيءٍ كبيرٍ أو صغير. عندنا هنا لا شيء صغير، والمفروض أن أعرف الصغير من الكبير، لكن المدير نفسه لا يعرف. الدنيا تتغير بسرعة والشيء الصغير يصبح كبيرًا دون أن يُعرَف، ودون أن يقول له أحد. وأنا لا يقول لي أحد شيئًا، مجرد أربع كلماتٍ بالعدد: «افتح الغرفة وانتظر التعليمات.» وأقول لزوجتي إن عندي طوارئ، قد أغيب أسبوعًا أو شهرًا. كانت تظن أني متزوج من امرأةٍ ثانية، لكن الزواج يحتاج إلى مال، وأنا الحمد لله ليس عندي إلا الستر، ولقمة الحلال أطعمها هي وأولادها السبعة، كلهم في المدارس والحمد لله، وأشكر الله والحكومة؛ لأن التعليم بالمجان، لكن الأحذية … الحذاء الواحد أصبح ثمنه يساوي مرتبي في شهرٍ واحد. وأقول يا رب سبعة أحذية، وشبشب بلاستيك لي، هذا الشبشب في قدمي ثمن حذاء، وعندي حذائي القديم، أوفره للمناسبات، أو حين أصعد لمقابلة المدير، لكن عندي رئيس بثلاثة شرائط لا يخاف الله، قال للمدير إنني أرتدي الشبشب في أوقات العمل الرسمية، وطلبني المدير، وصعدت إليه وفي قدمي الحذاء، ورأيته جالسًا بالقميص والبنطلون بدون الجاكتة. لا يرتدي الجاكتة في الصيف إلا إذا جاءنا أحد من مكتب الوزير. وألهمني الله فقلت له: يا سعادة البيه أنا لا أخلع الحذاء إلا لأتوضأ وأصلي، وأنا أصلي خمس مرات، وأتوضأ خمس مرات، فالدنيا صيف وحر وعرق، ولا مؤاخذة عندي غازات في الأمعاء بسبب عسر الهضم، فأنا رجل فقير إلى الله، وعندي ستة عمال وأمهم.»
صوته خافت بعيد كأنه ينبعث من بطن الأرض. آلام حادة في ظهري، وأنا جالسة على كرسي خشبي صغير بدون ظهر، نهضت وبدأت أتمشى في الغرفة، أفرد ذراعي وساقي وأحرك عنقي ورأسي.
قلت له: إلى أين ذهب الضابط؟ ألا تعرف ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ وقال الرجل وهو يتمطى ويتثاءب: وهل يعرف أحدٌ منا ما الذي سيحدث له، حتى يعرف ما الذي سيحدث لغيره؟ هذه كلها أمور بيد الله، وما دمت قد وصلت إلى هنا فلا تتعبي نفسك في التفكير في الغد. إن أمرك لم يعد بيدك، وإنما بيدٍ أخرى، وعليك أن تنتظري، كلنا ننتظر، من منا لا ينتظر؟ أنا أنتظر مثلك لأعود إلى زوجتي وأولادي ولا أعرف متى أعود ولا هم يعرفون. الصبر طيب، ومن صبر نال. اسمعي كلام رجل عجوز اشتغل في هذا المكان ثلاثين عامًا، لا فائدة من التفكير. اتركي عقلك وراءك ولا تفكري في شيء، وما دمت قد وصلت إلى هنا، فاعرفي أن هناك من يفكر لك، وكلما قل تفكيرك في أمر نفسك مرت الساعات أسرع وأسهل، وما دمت تؤمنين بالله والرسول فلا خوف عليك، الله لا يتخلى أبدًا عن عبيده، وربما لا تصدقين أن المدير الكبير حين صعدت له ذلك اليوم وفي قدمي الحذاء نظر إلى رئيسي ذي الشرائط الثلاثة، وقال له إنني أرتدي الحذاء. وقال رئيسي إنني أخبئ الشبشب. وتصورت أن المدير سيأمر بتفتيش الغرفة، لكنه لم يأمر بالتفتيش وضحك فجأة، ولم أعرف هل أضحك مثله، فالمفروض أنني أضحك حين يضحك، وإن لم يكن هناك شيء مضحك، وقلت له يا سعادة البيه، الدنيا حر، وأنا أخلع الحذاء من شدة الحر كما تخلع سعادتك الجاكتة، ولم يغضب مني المدير، وظل يضحك ويقول لرئيسي: أليس في قلبك رحمة على هذا الرجل العجوز؟ أقسم بالله العظيم لم أر في حياتي أطيب من هذا المدير، ولم أر إنسانًا عنده كل هذه الرحمة في قلبه، وظل يضحك، وأنا أيضًا ضحكت وأقول لنفسي: لا بد أن هناك شيئًا مضحكًا.
وسمعته يضحك كأنه يسعل، ويهز رأسه كالمختنق بغُصَّة في حلقه، ومسح عينيه الدامعتين من الضحك أو السعال بكف كبيرة مشققة، ظلت تخفي وجهه طويلًا كأنه أغمض عينيه ونام، لكن كفه هبطت من فوق وجهه مبللة بدموعٍ أو عرقٍ غزير.
الغرفة كانت مختنقة بهواءٍ راكدٍ لا يتحرك، رائحة تشبه التراب أو بطن الأرض، والعرق الغزير ينساب فوق وجهي وعنقي، وظهري كخيوطٍ رفيعةٍ تتحرك وتزحف فوق جسدي كالكائنات الحية. وكنت لا أزال أتمشى في الغرفة ذهابًا وإيابًا كحيوانٍ محبوسٍ داخل قفص، وتوقفت فجأة وأنا أقول للرجل: أريد أن أذهب إلى دورة المياه. ورد الرجل على الفور: لا توجد هنا إلا دورة مياه واحدة، وهي في الدور الأول، بجوار مكتب المدير، ولا أحد يدخلها من غير المديرين، أو على الأقل من الرجال، فما بال امرأة مثلك؟!
وسرى الغضب المفاجئ كالقشعريرة فوق جسدي وانتفضْت، أو ربما قفزت في الهواء كفرخة مذبوحة، وقلت: ماذا تقصد بقولك امرأة مثلي؟! أتظن أنني امرأة أقل من الرجل؟! أنا امرأة أكثر احترامًا من أي رجلٍ هنا بما فيهم مديرك الكبير!
ولم يظهر على الرجل أي تغير، وقال بصوته الخافت، وكأنه ينبعث من قبرٍ أو من جسد شخص ميت: لا يأتي إلى هنا إلا الناس المحترمة، أما الناس غير المحترمة فلا يأتون عندي، ويذهبون إلى غرفةٍ أخرى في المبنى الآخر، والحارس عليهم أقل مني درجة، وهو الذي يكنس الغرفة، ويمسح، ولا يرتدي الزي الرسمي مثلي. الحارس هنا محترم؛ لأن الناس التي تأتي هنا كلها محترمة! وزراء جاءوا هنا وأكبر من وزراء! كلهم محترمون ويعاملونني باحترام. ينادونني بكلمة أستاذ. أما هناك فالناس كلها غير محترمة، ويبيت في الغرفة مائة شخص أو أكثر، بعضهم يبول وهو نائم أو جالس، والحارس هو الذي يمسح ويكنس. أما هنا، هنا نعمة، أنت في نعمة ولا تكفري بنعمة الله، قولي الحمد لله، وابتسمي ولا تكشري! من يأتي إلى هنا ويكشر يعرض نفسه للمتاعب، إنهم لا يحبون مَن يغضب، ولا يحبون أيضًا من يظهر الفرح، لا تغضبي أو تحزني، فالحزن يضايقهم أيضًا؛ لأنهم يتصورون أن الناس تحزن؛ لأنها تكرههم، وهذا غير صحيح؛ لأن التي تأتي إلى هنا لا تكرههم. كلهم ناس محترمون لا تعرف الكره ولا الحقد، وليس في قلوبهم إلا الحب والإيمان بالله!
وتوقف الرجل عن الكلام كأنما مات فجأة، ورفعت عيني إليه. كنت قد جلست مرةً أخرى وسقط رأسي فوق صدري ربما غفوت. تجمد الرجل لحظة ولامست يده رأسه، وظل واقفًا هكذا، ولم أعرف ماذا حدث، لكني رأيت ضابطًا جديدًا يدخل إلى الغرفة، ويقول لي: هيا بنا.
وقلت: إلى أين؟
وقال: أبدًا، لا شيء، مجرد ساعة أو ساعتين، وتعودين إلى البيت.
•••
لا أدري كيف صدقته حين قال لي: ستعودين إلى البيت بعد ساعة أو ساعتين. تصورت أنه لا يمكن أن يكذب، لم تكن ملامحه توحي بالكذب، أو هكذا خُيِّل لي، ولم أكن أفقت بعدُ من الإغفاءة في الغرفة الخانقة في بطن الأرض. ولا زال صوت الرجل العجوز في أذني كصوت الشياطين أو الملائكة يحاسبون الموتى في القبور، والتجاعيد ملأت وجهه كوجه جدتي، حين كانت تحكي لنا ونحن أطفال عن عذاب القبر.
خرجت من باب الغرفة، لفحني تيار هواء شديد، دفعني بقوة أمام الضابط، ورأيت السيارة تنتظر، تصورت فعلًا أنه سيأخذني إلى البيت بعد ساعة أو ساعتين، وأنني سأغلق عيني وأفتحها وأرى بيتي وزوجي وابنتي وابني.
وكنت أحملق في وجه الضابط في تلك اللحظة. كان يبتسم وعلى وجهه ذلك التعبير عن الحرج أو الخجل، وفي عينيه نظرة إنسانية غريبة، لا توحي أبدًا أنه رجل بوليس، أو رجل كاذب، أو رجل غريب عني. كأنني رأيته من قبل، وملامحه مألوفة، وسألني والسيارة سائرة: هل أشتري لك زجاجة كوكاكولا؟ لا بد أنك تشعرين بالظمأ! قلت، وأنا أكاد أضحك كطفلة: سأموت من الظمأ!
وأُوقفت السيارة، وأرسل السائق ليشتري. لاحظت أيضًا أنه ليس السائق السابق، لكني لمحتُ من خلال نافذة صغيرة وراء ظهري عددًا من الرجال المسلحين يركبون معنا في الخلف. عاد السائق ومعه زجاجتان من الكوكاكولا ورغيفان فينو داخل كل منهما قطعة من الجبن الرومي. لم أكن جائعة، لكن الضابط دس الرغيف في حقيبة يدي، وهو يقول: ستجوعين فيما بعد.
ملأني رده بالريبة والشك، وثقل قلبي بإحساسٍ غامض، إنني ذاهبة إلى مكان سأجوع فيه، لكني طردت الريبة والشك، وتصورت أن ملامح الضابط صادقة وبريئة، ولم أدرك أنني كنت أرسم له ملامح من عندي، وأن الأمل في عودتي إلى بيتي جعلني كالعمياء لا أرى أن السيارة تتجه بي في طريقٍ آخر.
كالعمياء تمامًا لم أرَ أن مدينة القاهرة كلها أصبحت وراء ظهري، وأن الشارع الذي نسير فيه ليس شارعنا، رأيته يشبه شارعنا، ومن البعد رأيت وجهًا يشبه وجه ابني يطل من نافذة، وكدت أهتف وأنادي عليه، لكني أطبقت شفتيَّ في صمت. بعينيَّ المفتوحتين عن آخرهما رأيت أننا أصبحنا خارج القاهرة، وأن السيارة تنحرف في طريق زراعي، وعن يميني أرى الحقول الواسعة تمتد في الظلمة، وعن يساري يجلس الضابط وإلى جواره السائق، ومن خلال النافذة بجوار السائق رأيت مياه النيل تلمع تحت ضوء مصابيح الشارع.
ونظرت إلى وجه الضابط، ورأيت ملامحه البوليسية دون دهشة ودون صدمة، وكأنني كنت أراها طول الوقت، وكأنني أعرف طول الوقت أنه يكذب عليَّ، وأنني لن أعود إلى بيتي، وأن وجه ابني قد أصبح بعيدًا عني، أبعد من ذلك النجم الذي يلمع في السماء، وأطرقت رأسي ونظرت إلى أصابع يدي، لمست يدي اليمنى بيدي اليسرى. أنا يقظة وعلى قيد الحياة! رفعت رأسي ونظرت من النافذة، نسمة الليل محملة برائحة الزرع. الهواء كالضربات الخفيفة السريعة على وجهي، هواء الليل معبأ برائحة الخريف. تعرفت على الطريق، أول رحلة إلى القناطر الخيرية، كنت طفلة في الابتدائي، عندي صورة قديمة راقدة على العشب الأخضر، ومن حولي تلميذات الفصل، ومن خلفنا القناطر، الحقول ممتدة. من بعيد ألمح بيتًا صغيرًا فيه ضوء، يشبه بيتنا وسط الحقول، وأنا طفلة. وجه أمي يلوح لي في الظلمة، ووجه أبي. مات الاثنان منذ أكثر من عشرين عامًا، عيونهما تلمع في الظلمة، ابتسامة ربما أو دموع. عيناي جافتان، حلقي جاف، ابتلعت لعابًا مرًّا.
توقفت السيارة فجأة في الخلاء، تجمَّد الدم في عروقي، عصابة لصوص مسلحة، ستذبحني وتخفي جثتي في الحقول، وربما اغتصاب قبل القتل، مخاوف وقصص قديمة منذ الطفولة تأهبت للدفاع عن نفسي، لكني سمعت السائق يقول: السيارة تعطلت. هبط الجميع، وحوطني الرجال المسلحون، فتح السائق غطاء السيارة، وانهمك هو والضابط في إصلاحها. صوت الموتور كحشرجات حيوانٍ يحتضر. السيارة تنتفض فوق العجلات في قفزاتٍ متقطعةٍ كفرخةٍ مذبوحة. أطل الضابط برأسه من تحت غطاء السيارة، وصاح في الرجال المسلحين بصوتٍ غاضب: لماذا تحوطون الدكتورة بهذا الشكل؟! تعالوا هنا.
بدأت أتمشى على جانب الطريق، نسمة الليل هادئة حزينة، الحقول ممتدة في الظلمة. ابتعدت عن السيارة قليلًا، قدماي تسرعان الخطى. قلبي يدق بأملٍ مفاجئٍ في الحرية، لحسن حظي أنني وُلدت في بلدٍ متخلف، والجهاز البوليسي سياراته قديمة تتعطل. لأول مرة أدرك فوائد التخلف، الرجال المسلحون وضعوا بنادقهم على الأرض، وراحوا يدفعون مؤخرة السيارة. السائق داخلها يحاول أن يُوقظ الموتور الميت. الضابط يمسح عرقه بمنديلٍ أبيض ويلعن السائق.
أخذت شهيقًا عميقًا، وحركة ذراعي وساقي في الهواء. وبدأت أسير إلى الأمام، دون أن أنظر خلفي.
لكني سمعت صوت السيارة يزأر، وعجلاتها تجري فوق الأسفلت. تبدد الأمل الخاطف، هذه السيارات العتيقة كالقطط بسبعة أرواح.
وجدتني مرة أخرى جالسة إلى جوار الضابط. قُبَّعته على ركبتيه يمسح عرقه بالمنديل، وأصابعه عليها بقع سوداء.
وقال: الحمد لله.
وقلت: الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه! وضحك، ولم أضحك. كان رأسي خارج النافذة وعيناي شاردتين، وعقلي لا زال متشككًا لا يدرك تمامًا ما يحدث، أو إلى أين تنتهي هذه الرحلة المجهولة مع رجال غرباء مسلحين؟
وسمعت الضابط يقول فجأة: أتعرفين أنني قرأت كتبك ورواياتك؟ اتسعت عيناي في دهشة: أيخاطبني؟ وهل أنا كتبت كتبًا أو روايات؟! كأنما نسيت من أنا.
وقلت متسائلة: كتبي؟ رواياتي؟!
وقال: نعم، كتبك ورواياتك.
رأيت قبعته البوليسية فوق ركبتيه، وأفقت تمامًا متذكرة ما حدث.
وقلت: هذا عجيب!
وقال: ما هو العجيب؟
وقلت: كنت أظن أن رجال البوليس لا يقرءُون الكتب أو الروايات.
وقال: نحن مثل كل البشر، ومهنتنا مثل مهن كل الرجال.
قلت: مهن الرجال! ألا توجد نساء في البوليس؟
وقال: لا، لا البوليس ولا الجيش ولا القضاء ولا الحاكم ولا الوالي ولا رجل الدين. هذه كلها مجالات مغلقة أمام المرأة، كتبت ذلك في أحد كتبك، أليس كذلك؟
قلت: هذا صحيح.
قال: نحن في بلدٍ إسلامي، والمرأة في الإسلام ناقصة عقل ودين، أم أنك ضد الإسلام؟
وقلت: ليس هناك إسلام واحد، كل دولة تفسر الإسلام كما تشاء، أليس كذلك؟
خُيِّل إليَّ وأنا أتحاور معه أنني أتبادل حديثًا عاديًّا مع أحد الزملاء في نزهة بالسيارة على شاطئ النيل، لكني لمحت النافذة الزجاجية خلف رأسي ورءوس الرجال ورءوس البنادق، فأطبقت شفتي صامتة لحظة، ثم قلت في غضب: إلى أين نذهب؟! ظل صامتًا وهو ينظر أمامه إلى الطريق، ثم قال: ستعرفين حالًا، لا تتعجلي الأمور.
وقلت: هذا هو طريق القناطر الخيرية، وأنت تأخذني إلى سجن القناطر.
لماذا لم تقل ذلك منذ البداية؟!
وقال: أبدًا، لن آخذك إلى سجن القناطر.
تابعت الطريق بعيني، إذا لم يكن هو السجن فماذا يكون؟ السجن أفضل فهو شيء معلوم، أما هذا المصير المجهول! عيناي تجولان في الظلمة. لا زالت الحقول عن يميني، والنيل عن يساري. مياه النيل تحت ضوء السيارة تبدو منكسرة حزينة. السماء سوداء تبرق فيها النجوم والأشجار كالأشباح تتحرك بغير صوت. صوت الموتور يرتفع فوق الصمت وعجلات السيارة تصطك بالأرض الأسفلت، أغمض الضابط عينيه ونام. السائق أسدل أيضًا جفنيه فوق عينيه، والسيارة تسير وحدها وتنحرف لتسقط في النيل، لولا حركة سريعة من يد السائق. اهتزت السيارة وارتطم رأس الضابط بسقفها، فتح عينيه مذعورًا، وصاح في السائق: أتنام يا حمار؟ أتريد أن نموت كلنا غرقى في النيل؟ ألا يكفيك أنك خرجت بسيارةٍ لا تصلح إلا للبيع في سودة الخردة؟!
انطلقت الكلمات من بين شفتيه كالقذائف مختلطة برذاذ لعابه، ثم أغلق شفتيه، وظل محملقًا أمامه في الطريق، وجفناه يسقطان شيئًا فشيئًا فوق عينيه إلى أن أصبحت عيناه مغلقتين تمامًا، وسقط رأسه فوق صدره، وبدأت أنفاسه المنتظمة ترتفع.
أصابع السائق سمراء مشققة تقبض على عجلة القيادة كأنها فأس، وتحركها من اليمين إلى اليسار كشادوف، وجهه أسمر نحيل تنتشر فوقه بقع بيضاء. مرض جلدي معروف في الطب باسم البلاجرا، نقص في الغذاء وعلى الأخص فيتامين «ب»، يضعف العضلات ويخدِّر الأعصاب وخلايا المخ. يصيب الإنسان بتبلد الإحساس، منتشر بين أبناء الفلاحين الفقراء. الوجوه الشاحبة السمراء ذات البقع البيضاء واقفة في الطابور الطويل، اشتغلت طبيبة في الريف منذ سنين، وجه السائق يذكرني بوجوه المرضى من الفلاحين. الضابط لعن أباه وجدَّه وهو صامت مطرق حزين حزن آلاف السنين.
السيارة تعتدل فوق الطريق، صوت الموتور الرتيب، والضابط شخيره يرتفع فوق صوت الموتور. شفتاه تتهدلان، شفتان سمينتان، تسقط الشفة السفلى فوق ذقن مربعة ممتلئة، وعنق سمين أبيض، سترته مفتوحة عند العنق، ورأسه يهتز، ثم يسقط فوق صدر سمين. خيط رفيع من اللعاب الأبيض ينساب من بين الشفتين، ويسقط فوق قطعة ذهبية تلمع على الصدر.
رفعت رأسي نحو الطريق، أنوار القناطر الخيرية تنعكس على صفحة النيل، تنحرف السيارة بعيدًا عن الأنوار، تدخل في طريقٍ مظلم ضيِّقٍ كالسرداب، تنحرف في طريقٍ آخر أكثر ظلمة وأكثر ضيقًا، اختفت رائحة الزرع والنيل، ملأت أنفي رائحة تراب.
في نهاية السرداب المظلم رأيت عمودًا طويلًا يسد الطريق، توقفت السيارة عند العمود. فتح الضابط عينيه فجأة بذعرٍ ومسح فمه بكفه، برز من جانب الطريق رجل نحيل عيناه تلمعان وتتحركان بسرعة كعيني قاطع طريق. رمق الضابط والسيارة، ثم أسرع يجري بظهرٍ محنيٍّ وشد العمود بحبلٍ أو سلسلة، فارتفع العمود في الهواء عن مساحة تسمح بمرور السيارة، ثم سقط مرة أخرى، وأغلق الطريق خلفنا.
السيارة تزحف ببطءٍ في ممرٍّ مظلمٍ طويلٍ. الهواء راكد، والظلمة تشتد. صمت يشبه صمت القبور، جدران عالية كالقلعة، اختفت السماء والنجوم، ثم توقفت السيارة تمامًا.
عيناي تصطدمان ببابٍ أسودٍ ضخم، كأبواب القلاع والحصون في عهود المماليك. أقبل علينا عدد من الرجال المسلحين كزبانية محاكم التفتيش، البنادق والسناكي طويلة مدببة كالإبر التي كانوا يغرسونها في أجساد الساحرات؛ بحثًا عن علامة الشيطان، عيونهم تجري كقطع الزجاج، نظراتهم تحوطني، ترمقني من الأمام ومن الخلف ومن رأسي إلى قدمي.
دق أحدهم الباب بكعب بندقيته، أطل من الشق رأس بدون شعر، وعينان زجاجيتان تدوران بسرعة، رفع يده بالتحية حين رأى الضابط، وانحنى داخل الشق.
الشق في الباب بحجم رجل قزم، العتبة عالية، رفعت قدمي في الهواء لأجتاز العتبة، قامتي طويلة لا تدخل من الشق دون أن أنحني. ظهري ينثني كجسدٍ يدخل من فتحة القبر، ثوبي أبيض بلون الكفن. يدا الضابط تساعداني في الدخول كيدي الحانوتي، كأنما رأيت هذا المشهد من قبل، متى؟ ظلمة شديدة ورائحة تراب وعفونة.
شددت جفني لأفتحهما، كانا مفتوحين من قبل، رأيت الممر المظلم، في نهايته شبح أسود رأسه مربوط بمنديلٍ أبيض، من فوق الرأس لمبة كهربية كالعين الواحدة المفتوحة الحمراء. رفع يده بالتحية، خبط كعب البندقية في الأرض الأسمنت، ضرب كعبي حذائه الحديدي أحدهما بالآخر.
ثم انفتح ثقب وابتلعتني الأرض.
إلا أن الأرض لم تبتلعني كما تصورت، وأصبحت وأنا داخل السجن أقل خوفًا مما كنت خارجه. ربما توقعت أسوأ مما رأيت، أو ربما لا يشعر الإنسان بالخطر إلا وهو خارجه، فإذا ما أصبح في قلب الخطر صار جزءًا منه، ولم يعد يشعر به.
أو لعلها الابتسامة الرقيقة التي قابلني بها مسئول السجن، أرق ابتسامة رأيتها على وجه رجل أو امرأة في كل مراحل حياتي. لا أذكر أنني رأيت مثل هذه الابتسامة على وجه أحد. أيمكن أن تكون ابتسامة حقيقية، أم أنني أرسم له بيدي الملامح التي أريدها، كما فعلت مع ضابط البوليس؟ أو أن رجال البوليس لديهم تلك القدرة على الابتسامة، وهم يقودون الإنسان إلى المشنقة، وكلما اقترب حبل المشنقة من عنقه زادت ابتسامتهم رقة، وزاد صوتهم عذوبة وهم يقولون له: ماذا تطلب؟ ماذا تشرب؟ أتريد سيجارة؟
وسمعت المسئول يقول برقة: ماذا تشربين؟ وسرت فوق جسدي قشعريرة كالرجفة، وأنا أحملق في وجهه وهو جالس إلى مكتبه، ومن فوق رأسه صورة مكبرة للسادات، بالملابس العسكرية، وفي يده عصا.
كان الضابط ما زال واقفًا، وفي يده ورقة مدها نحو المسئول، وهو يقول: أرجو أن توقع عليها باستلام المتحفظ عليها.
رنت كلمة «المتحفظ عليها» في أذني غريبة. تلفتُّ حولي كأنما أبحث عن واحدة غيري، ثم أدركت أنهم يتحدثون عني، لم يعد لي اسمي أو لقبي أو شخصيتي. أصبحت المتحفظ عليها رقم «١٥٣٦». في القائمة الطويلة استبدل اسمي بهذا الرقم، ووقَّع مسئول السجن باستلام المتحفظ عليها من الضابط، ووقَّع الضابط في دفتر السجن أنه سلم المتحفظ عليها إلى مسئول السجن. كل ذلك وأنا جالسة مكاني لم أتحرك.
ثم بأصابع رقيقة أرق من ابتسامته، سحب مني المسئول حقيبة يدي، أفرغ محتوياتها فوق مكتبه؛ بطاقتي الشخصية، مفكرتي الصغيرة، وقلمي، مفتاح الشقة والسيارة، منديل يد أبيض، عشرة جنيهات، والرغيف الفينو. هز الحقيبة عدة مرات، أدخل أصابعه في الجراب الداخلي، وخرجت يده تمسك مرآة صغيرة.
أعاد إلى الحقيبة المنديل الأبيض والرغيف، وناولها لي وهو يقول: بقية الأشياء كلها ممنوعة، وسنضعها لك في أمانات السجن، حتى تخرجي من عندنا بإذن الله.
«تخرجي!» الكلمة ترن عجيبة، والخروج من هنا كالانتقال من الموت إلى الحياة، كالتحول من جسدٍ إلى جسد، أو من شكلٍ إلى شكلٍ آخر.
لمحت مرآتي الصغيرة على المكتب، فمددت يدي إليها، وكدت أرفعها أمام وجهي، لكن يد المسئول كانت أسرع.
– المرآة ممنوعة.
– لماذا؟
– تعتبر من الأدوات الحادة، والأدوات الحادة كلها ممنوعة.
أدواتٌ حادة؟! أنا في طريقي إلى مكانٍ بكل هذه الخطورة! عيناي تدوران حولي فوق الجدران، والسقف، مكتب عادي كأي مكتبٍ في الحكومة، والوجه داخل إطار الصورة كاشفٌ عن أسنانه، ضاغطٌ على فكيه، من تحته رأس المسئول الأصلع، شعرات قليلة فوق الأذنين، قطع ذهبية أو نحاسية فوق الكتفين، يدوِّن شيئًا في الدفتر. رفع رأسه، عيناه مرهقتان حمراوان كأنما أيقظوه من النوم فجأة. دق الجرس، دخلت امرأة سمراء قصيرة، ترتدي معطفًا رماديًّا، في يدها سلسلة حديدية تضم عددًا من المفاتيح الضخمة.
انفرجت شفتاه عن ابتسامةٍ واهنة: متأسف يا دكتورة، كنت أودُّ أن أراك في مكانٍ آخر، ثم وقف ووقفت. قامتي أطول من قامته، سار ناحية الباب وتوقف، من فوق رأسه مرآة معلقة في الحائط. لمحت فيها وجهي، وجهي لا زال كما كان، لكنه شاحب وأكثر طولًا، خداي وأسناني الأمامية أكثر بروزًا، عيناي تشوبهما حمرة خفيفة، لكن سواد العين كما كان أسود لامع. خفق قلبي بفرحةٍ مفاجئة، كنت أظن أنني مت، أو أن شكلي لم يعد هو شكلي. رأيت التليفون الأسود على منضدةٍ صغيرة، مددت إليه يدي لأدير رقم بيتي، وأطمئن زوجي وابنتي وابني على أنني لا زلت بخير، لكن يد المسئول كانت أسرع: هذا ممنوع، متأسف يا دكتورة.
رمقت التليفون، وأنا أستدير لأخرج، كأنما ألقي النظرة الأخيرة على آخر شيءٍ في عالمٍ لم أعد فيه.
ثم رفعت وجهي، وأنا واقفة على عتبة الباب، المرأة تواجهني، رأسها مربوطٌ بمنديلٍ أبيض. بشرتها شديدة السمرة، وجهها مليء بالحفر الصغيرة كآثار جدري قديم، بقع بيضاء فوق أنفها وخديها.
سارت أمامي تطرقع بشبشبها البلاستيك، والمفاتيح في يدها تصطك، والسلسلة الحديدة حلقاتها صغيرة مستديرة، كالسلسلة التي تُربط بها الكلاب.