السجن
إذا كانت أصعبُ لحظة في حياة المحكوم عليه بالإعدام هي اللحظة التي تَسبق سقوط المقصلة على عُنقه، فإن أصعبَ لحظة في حياتي هي التي سَبقَت دخولي الزنزانة.
عيناي تتابعان حركة السلسلة في اليد السمراء المبقعة والأصابع المشققة، ومن حولها المفاتيح الضخمة تهتز. المفتاح الواحد كالمطرقة الضخمة له رأس شاكوش وذراع حديدية طويلة لها أسنان مشرشرة.
الأبواب ذات القضبان الحديدية تنعكس ظلالها على الجدران المرتفعة في الظلمة كالأشباح الخرافية. حديد يدور في الحديد ويصطك، الصوت يرتطم بالأسوار، ويرتدُّ الصدى فوق الجدران، كأن مئات الأبواب الحديدية توصد وتُغلق، وصفير حاد كالصمت، وأصوات تطن كالصفير، كريح من الدخان المكتوم ينفذ من ثقبٍ ضيق.
الشبشب البلاستيك في القدمين السمراوين المشققتين يرتطم بالأرض. ظهرها محني داخل المعطف الرمادي، الياقة حول العنق مسودة بعرقٍ قديم. كتف أعلى من كتف، على الكتف العلوي شريط أسود كريشة سوداء على رأس طائر خرافي، أو حيوان أسطوري في الأزمنة القديمة، لكن المفاتيح في يدها تجعلها أشبه بزعيم عصابة في غابة، أو أحد الأحراش المهجورة.
الظلمة تشتد وتصبح لها كثافة فوق جفني، الهواء يركد ويثقل وتصبح له رائحة نفاذة تحرق غشاء الأنف كالغاز الحانق.
توقفت المرأة عند أحد الأبواب الضخمة ذي القضبان الحديدية، أدخلت المفتاح في الباب وظهرها ناحيتي، أنفاسها لها صوت مسموع كأنما تلهث.
ثم رنَّ صوتها في الظلمة وبعيدًا، كأنما يأتيني من بطن الأرض، أو من زمن سحيقٍ بالغ القدم: ادخلي.
كان الباب الحديد ضخمًا وثقيلًا، دفعته بيدها بصعوبة لم ينفتح إلا عن مساحةٍ صغيرةٍ تتسع لمرور جسدي، ورأيت أصابعها المشققة فوق ثوبي الأبيض تساعدني في الدخول.
رأيت هذا المشهد من قبل، الآن تذكرت، منذ سنين بعيدة. الأصابع السمراء المشققة تحوط جسد أمي الملفوف في الكفن الأبيض، وتدفعه ببطءٍ داخل الثقب المفتوح في الأرض، ومن حولي أبي وأهلي بملابس الحداد، عيونهم تلمع بالدموع.
عيناي مفتوحتان بغير دموع، ارتطم رأسي بحديد الباب.
– حاسبي على نفسك.
صوتها أيضًا مألوف، لا تزال واقفة على عتبة الباب، عيناها تتسعان بلمعةٍ خاطفةٍ قبل أن تخفيها.
دار المفتاح في الباب ثلاث دورات، ودبَّ الصمت في أذني كالصفير الحاد، كصرخة واحدة ممتدة بغير انقطاع، سددت أذني بأصابعي والمنديل الأبيض وضعتُه على أنفي. في السقف لمبة كهربية تحملق كالعين الجاحظة المشنوقة، أسرَّة حديدية من دورين، أجسام تتحرك داخل عباءات سوداء. الرءوس ملفوفة بالطرح البيضاء أو السوداء، وجوه مختفية تحت النقاب، ثقوب صغيرة تطل منها عيون.
هل سقطت في قاع بئر؟ أم هبطت على كوكبٍ آخر؟ أم أنني عدت إلى زمن العبيد والحريم؟ أم هذا حلم وأنا نائمة؟
لكني لست نائمةً، أنا واقفة صاحية واعية تمامًا أنني داخل السجن، وهذه هي الزنزانة أو العنبر. الجدران الأربعة، الباب الحديدي ذو القضبان.
أغمضت عيني ثم فتحتهما، لا تزال الأشباح أمامي، تعرفت على أحد الوجوه تحت الضوء الأصفر.
هتفت بسرور: صافيناز.
وتعانقنا، صحفية وأديبة لم أكن رأيتها منذ سنينٍ طويلة، تغيرت كثيرًا، لم تكن ترتدي الحجاب.
رمقتني عينان من خلال ثقبين في النقاب الأسود، وسألت: من زميلتنا الجديدة؟!
ردت صافيناز: الدكتورة نوال السعداوي، صاحبة الكتب الخطيرة، الكتب المليئة بالكفر!
رأيت جسمها يتحرك فوق الدور العلوي لأحد الأسرة، ونهضت من نومها فجأة تهتف: أهلًا، نوال.
الدكتورة أمينة رشيد، أستاذة بجامعة القاهرة، التقيت بها عدة مرات في بيتي وبيوت بعض الصديقات. ونشأت بيننا صداقة، تعانقنا بفرح، وقالت صافيناز لأمينة: هل قرأت الكتب التي نشرتها نوال؟
وقالت أمينة: طبعًا قرأتها، وطالباتي في الجامعة قرأن الكتب، وطلبن مني أن أستضيف نوال في الكلية ليتحدثن معها، إنها كتب مهمة والكثيرون يعجبون بها.
رددت صافيناز: إنها كتب كافرة وملحدة.
قالت: أمينة: هل قرأتِها؟
ردت صافيناز: أنا لا أقرأ إلا كتاب الله.
قالت أمينة: وكيف تحكمين على كتبٍ لم تقرئيها؟!
ومرت لحظة صمت.
بدأت بعض الفتيات المنقبات يسألن في استطلاعٍ عن هذه الكتب.
عينان من خلال الثقبين اقتربتا مني، وسمعت الصوت يسألني: هل تصلين؟ هل تصومين رمضان؟ أليس وجه المرأة عورة؟
وقلت: العورة هي الظلم والكذب وإلغاء عقل الإنسان، امرأة أو رجل. العورة هي وجودنا في هذا السجن بدون جريمة وبدون تحقيق!
اتسعت العينان داخل الثقبين، وامتلأت بالبريق. التفت ناحية أمينة: وأنت يا أمينة متى جئت؟
قالت أمينة: من يومين، جاءت القوة المسلحة إلى بيتي، كان معي ابني، ومنهمكة في نقل أثاث بيتي إلى شقتي الجديدة، وطلبت منهم تأجيل القبض عليَّ حتى يسافر ابني وحتى أنهي نقل الأثاث، لكنهم رفضوا وجاءوا بي إلى السجن. لم نكن في هذا العنبر، كنا في المستشفى في الغرفة نفسها مع فريدة النقاش وشاهندة مقلد. ولم أشعر أنني في سجن، كان عندنا الصحف والراديو والأطعمة والباب يفتح علينا طول النهار، لكنهم نقلونا إلى هذا العنبر، ومنعوا عنا كل شيء. وأنت ماذا حدث لك يا نوال؟
قلت: دقوا الباب، رفضت أن أفتح لهم، لم يكن معهم أمر من النيابة. كسروا الباب وجاءوا بي إلى هنا.
اتسعت عينا أمينة: كسروا الباب؟!
وفجأة سمعنا المفتاح يدور في الباب، انفتح باب العنبر، ودخلت امرأة، ثم انغلق الباب.
رأيت وجهها في الضوء الأصفر، وهي تقبل نحونا وهتفت بسرور: لطيفة!
الدكتورة لطيفة الزيات، التقينا منذ عشرين عامًا وتصادقنا، يجمع بيننا الأدب والفن، والصداقة. تعانقنا بفرح.
وقالت لطيفة: قرأت في جريدة المساء اسمي ضمن قائمة المتحفظ عليهم، وحين عدت إلى البيت وجدت رجل البوليس.
كانوا يظنون أن أختي هي أنا، وضحكت.
ثم نظرت إليَّ: وأنت يا نوال ماذا حدث؟
قلت: رفضت أن أفتح الباب بدون أمر النيابة، كسروا الباب.
وقالت لطيفة: وصلت الأمور إلى نهايتها ليقبضوا على كاتبة مستقلة مثل نوال، رحمة الله على الديمقراطية وحرية الرأي!
كان الفجر على وشك الطلوع.
وقلت: لا بد أن ننام قليلًا لنستأنف المعارك غدًا، وضحكنا، لكن القلب ثقيل، والوجوه مرهقة، والعيون فيها قلق. عادت أمينة إلى مكانها فوق الدور العلوي للسرير، إلى جوارها فتاة مسيحية اسمها «نور» لها وجه طفلة. حاولت لطيفة أن تنام على نصف سرير إلى جوار صافيناز، لكنها نهضت بعد قليل، وضعت المرتبة على الأرض، ولفت حول عينيها رباطًا أبيض ونامت.
ظللت مفتوحة العينين أتأمَّل ما حولي، السقف الأجرب الأسود، الجدران المشققة. القضبان الحديدية، نافذة صغيرة قرب السقف مسدودة بالأعمدة الحديدية، أجسام نساء وفتيات يرقدن على الأرض أو فوق الأسرَّة الحديدية السوداء ذات الدورين.
فردت ذراعي ونظرت إلى أصابعي، حركت يدي وأمسكت اليد الأخرى. كل ما حدث حقيقة، وليس حلمًا. لا زلت أرتدي الثوب الأبيض الذي ارتدينه بسرعة، وهم يدقون الباب، والحذاء المفتوح، قدماي متورمتان قليلًا. إرهاق اليوم الطويل، حلقي جاف، وفي رأسي طنين، وصور تتابع كالشريط السينمائي، أحداث قديمة منذ الطفولة وأحداث جديدة، الدقات العنيفة فوق الباب، صوت الباب وهو ينكسر، فوهات البنادق المفتوحة. العيون الزجاجية تجري وتدور، صوت الرجل العجوز، السرداب الضيق المظلم، والعمود يرتفع وينخفض، والشق في الباب الضخم الأسود. الجو خانق شديد الحرارة. تمددت على الأرض إلى جواري سرير حديدي بدورين. في الدور الأول ترقد امرأة شعرها طويل يخفي كل وجهها. وفي الدور الثاني ترقد امرأة ملفوفة بالسواد من الرأس حتى القدم. أجساد أخرى راقدة على الأسرَّة أو على الأرض. بعضها نصف عارٍ، وبعضها ملفوف بالسواد، لمحت سريرًا خاليًا. اتكأت بيدي على الأرض، وحملت جسدي فوق قدمي، وسرت نحو السرير، لكن ما إن جلست عليه حتى هبطت شرائطه الحديدية الممزقة ولامست الأرض. رفعت المرتبة المطاط من فوق السرير ووضعتها على الأرض، تمددت عليها. من فوق رأسي جدار أسود تلتصق به لمبة كهرباء مضاءة طول الوقت تسكب في عيني شعاعًا أحمر كسِيخٍ من الحديد المنصهر. وأصواتٌ كالطنين أو الصفير الحاد تنسكب في أذني كخيطٍ طويلٍ من السائل الكاوي. من أين تأتي هذه الأصوات؟
وضعت المنديل الأبيض على عيني، سددت أذني بأصابعي وأغمضت عيني، لكن الأصوات ظلت تخترق أذني، والضوء ظل ينفذ من خلال المنديل، ومن خلال الجفن إلى عيني، فتحت عيني. بين العين والجفن مساحة كبيرة من الألم الحارق الذي لا يخف، ومسافة طويلة من الزمن الذي لن ينقضي. الزمن لم يعد هو الزمن، أصبح هو والجدار شيئًا واحدًا، والهواء أيضًا لا يتحرك. ولا شيء يتحرك حولي إلا الصراصير والفئران، ومن تحتي مرتبة رفيعة من المطاط تفوح منها رائحة بول قديم، وتحت رأسي حقيبة يدي الفارغة، ولا زلت أرتدي الفستان الأبيض الذي خرجت به، والحذاء في قدمي.
رفعت المنديل من فوق وجهي ودسسته في أذني، طنين وصراخ حادٌّ متصل لا أعرف مصدره. أصوات عجيبة وضجيج لم أسمعه من قبل. من أين تأتي هذه الأصوات؟ كأنها تنفذ من الجدران الأربعة، ومن السقف، ومن بطن الأرض، أصوات بشرية وغير بشرية، صراخ حادٌّ كصراخ الطفل المولود، ونحيب ونواح كعواء الذئاب وشجار وسباب وبكاء مكتوم كالنشيج، وسعال كالصفير، وصفعات باليد وركلات بالقدَم، وخرير ماء كالشخير، ودعاء وابتهال وترتيل كالصلاة، ونقيق ضفادع، ومُواء قطط، ونباح كلاب، ومن فوق كل ذلك صفارة حادة، نداءات الصراصير.
كنت راقدة فوق ظهري لأبعد رأسي ما أمكن عن رائحة المرتبة تحتي. الحر كان شديدًا، العرق أحسه لزجًا، والفستان التصق بجسمي. لا نقطة هواء واحدة، وصدري لم يعد يتحرك لا صاعدًا ولا هابطًا. لا زفير ولا شهيق، وخُيِّل إليَّ أنني أموت أو مت فعلًا.
وبغريزة الدفاع عن الحياة انفتح جفناي وحدَهما في ذعر، لم أكن مذعورة بالمعنى الصحيح. كنت في حالةٍ من الإعياء القريبة من الموت تتلاشى فيها كل المشاعر، ومنها الشعور بالذعر.
ولا أدري لماذا انفتح جفناي. كان يمكن أن أموت وأنا مغمضة العينين، لكن اكتشفت شيئًا لم أكن أعرفه، أن الإنسان يموت وهو مفتوح العينين. كأنما يريد أن يرى كيف يموت، أو كأنما يدافع عن حياته بكل حواسه ومنها حاسة البصر.
في تلك اللحظة خيِّل إليَّ أنني أمتص بعيني الهواء الذي عجز صدري عن امتصاصه، وربما لهذا السبب لم أمُت. ظللت أحس وأرى، لكن صدري لم يكن يتحرك.
ماذا كنت أرى في تلك اللحظة؟!
عيناي كانتا ناحية السقف، ورأيت برصًا كبيرًا أصفر ملتصقًا بالسقف، يزحف ببطءٍ. وخطرت لي فكرة غريبة، أن نظراتي الثانية عليه قد تجذبه نحوي، فيسقط فوقي، وأغمضت عيني، ثم فتحت عينًا واحدة بحذرٍ شديد. ورأيت البرص يحرك أرجله، ثم سقط فجأة.
لو كنت في حالتي العادية كان لا بد أن أنهض مذعورة قبل أن يسقط البرص فوقي، لكني لم أتحرك. وأحسست بالبرص يجري فوق ساقي، ولم أحرك ساقي، ثم رأيته يقفز مذعورًا، ويختفي في شق الجدار.
اتسعت عيناي في دهشة، وغمرني فجأة شعور غير مفهوم من السعادة، وأغمضت عيني في راحةٍ ونمت حتى الصباح.
حتى هذه اللحظة لا أعرف كيف نمت، ولا أعرف سر تلك الراحة أو السعادة التي غمرتني فجأة؛ ربما لأن البرص هو الذي خاف مني، وأنا لم أخف منه، أو ربما هي سعادة الإنسان حين يكتشف ذاته، أو تتبدَّى أمام عينيه شجاعة جديدة في نفسه لم يكن يعرفها، أو يتبدد خوف أو وهم كان يعيش به.
وكنت أعيش بوهمٍ غريب، أو بخوفٍ غير منطقيٍّ من البرص. جدتي كانت تقول إن البرص إذا لامس جسم بني آدم مرض بداء «البَرَص». كنت طفلة حين سمعت هذا الكلام، وارتبط في ذهني «البُرص» كحشرة «بالبَرص» كمرض جلدي. وظل هذا الارتباط في وجداني، حتى بعد أن درست الطب، وعرفت أن لا علاقة بين البُرص والبَرَص.
وتعلمت في السجن ما لم أتعمله في كلية الطب، زحف البرص على جسمي، ولم يحدث لي أي شيء. وزحفت الصراصير عليَّ ولم يحدث لي أي شيء. وتبدد الخوف الذي عشت به من هذه الكائنات الصغيرة البريئة، التي تتحرك برشاقة عجيبة في الليل، وتبحث لنفسها عن الطعام في القمامة وشقوق الجدران. وأصبحت أنام نومًا عميقًا هنيئًا، وهي تتراقص من حولي دون أن يصيبني شيء.
أول ليلة في السجن نسيت وأنا نائمة ما حدث، وتصورت في الصباح أنني سأرى غرفة نومي، سريري الأبيض الصغير إلى جواره سرير زوجي، صفوف الكتب في المكتبة البيضاء، وجه ابني يطل من الباب، صوت ابنتي في الحمام، أنغام الموسيقى من الصالة الصغيرة، لكني فتحت عيني على جدار أسود عالٍ مليء بالشقوق تزحف فيها الحشرات السوداء والبيضاء، ومن تحتي أرض أسمنت تنفث رطوبة وعفونة، وأصوات من بطن الأرض، أو من تحت جدار تصرُخ بالسباب «يا بنت اﻟ…» لعنات تصب على أعضاء الأم الجنسية، على كل أعضاء النساء. سباب من كل نوع يلعن الأم والأب والجدود وجدود الجدود، يلعن الدين والدنيا، بكاء ونحيب وشجار وصراخ أطفال، صوت امرأة يصيح: «نادي يا بت على البت فتحية.» صوت آخر يرد صائحًا: «فتحية مين فيهم، فتحية الحرامية ولا فتحية القتالة؟!» أصوات تصرخ وتولول، جرادل وصفائح تخبط بعضها بالبعض، حديد يرتطم بالحديد، وأبواب تُفتح وتُغلق وتُصفق. خبطات فوق الجدران ومن تحت ومن فوق.
أغمضت عيني وفتحتهما، أين أنا؟ أتحسس رأسي، ما الذي تحت رأسي؟ حذائي؟! ما الذي تحت جسدي؟ الأرض الأسمنت؟! وما هذه الرائحة الغريبة كرائحة المجاري؟ وهذه الأجساد السوداء والرءوس الملفوفة بالسواد، والعيون المطلقة من الثقوب؟! تشككت في يقظتي الكاملة، لكن الحقيقة الباردة زحفت فوق جسدي كالشلَل. كنت جالسة أكتب الرواية، وفجأة دقوا الباب، رفضت أن أفتح لهم، كسروا الباب ودخلوا. تتابعت الأحداث كشريطٍ يجري فوق كُرة من المطاط.
لأول مرة في حياتي أحس بالعجز أمام قوة أكبر مني. زحف الإحساس بالعجز على جسدي كالشلل، خيِّل إليَّ أنني لم أعد قادرة على تحريك ذراعي ولا ساقي، ومن شدة الفزع وجدتني أقفز واقفة على قدمي.
لا أدري كيف انتقلت من النقيض إلى النقيض لمجرد اكتشافي بأن جسدي قادر على الحركة كما كان. انقلب الإحساس بالعجز إلى إحساس بالقدرة، ولم يعد مهمًّا أن يكون أمامي جدار أو قضبان، لكن المهم أن يظل جسدي قادرًا على الحركة، وأن أستطيع أن أنقل قدمي فوق الأرض قدمًا وراء قدم.
في حركة قدمي، وأنا أنقلها على الأرض شيء أشبه بالفرح، كمريض بالشلل شُفي فجأة، وأصبح يمشي.
لا أدري ما سر تلك القدرة الإنسانية على التكيُّف والانتصار على أسوأ الظروف. لكن كل شيءٍ بدا محتملًا ما دام جسدي يتحرك. لعلي بدأت بفكرة الموت أو الشلل ليبدو كل شيء بعد ذلك أقل خطرًا، وربما هذه هي قدرة الإنسان على التكيف، أن يبدأ بالأسوأ فيصبح الأقل سوءًا محتملًا.
•••
ولم يمض يومان حتى رأينا الدكتورة عواطف عبد الرحمن تدخل علينا العنبر، إنها أيضًا صديقة لي منذ سنين.
فرحت بها وعانقتها، وأنا أقول ضاحكة: لماذا تأخرت في الحضور يا عواطف؟! قالت وهي تضحك: كنت مسافرة وقبضوا عليَّ في المطار، هبطت من الطائرة فرأيت البوليس في انتظاري، وكان ابني ينتظرني في المطار، وسار معي والبوليس من حولنا، لم يفزع ولم يخجل، بل سار إلى جواري مزهوًّا بأمه، وكان معه الصحف، ورأيت صورنا جميعًا، وحكى لي ابني ما حدث، وقال لي إنهم كسروا باب بيتك يا نوال، هل هذا صحيح؟!
وبدأنا نحكي ما حدث، وانضمت إلينا جميع الزميلات في العنبر، كنا أربع عشرة امرأة وفتاة، من مختلف الأجيال والأعمار والأفكار.
•••
منذ اللحظة التي فتحت فيها عيني على أول صباح في السجن أدركت من حركة جسمي، وأنا أنهض وأشد عضلات ظهري وعُنقي أن قرارًا حاسمًا قد استقرَّ في رأسي: أن أعيش في هذا المكان كما عشت في أي مكانٍ آخر. قرار حاسم بدا لي كالجنون؛ لأنه يلغي الواقع، ويلغي المنطق، ويلغي الجدران والأبواب الحديد.
في كل مكان ذهبت أو سافرت إليه، ومهما كان بعيدًا أو غريبًا، أتلفَّت حولي في دهشة، وكأنني ولدت فيه وسأموت فيه، ولم أعرف مكانًا غيره، والوجوه من حولي مهما بدت غريبة تبدو لي وكأنني رأيتها من قبل.
وجدتني واقفة أمام الباب ذي القضبان أقفز على أطراف أصابعي، وأحرك ذراعي وساقي في الهواء، بتلك الحركات الرياضية التي تعودت أن أقوم بها كل صباح في بيتي أو في النادي. ومن بين القضبان الحديدية أرمق قطعة من السماء الزرقاء المطلقة فوق الأسوار والأسلاك، وأكاد أضحك كطفل، وأتطلع إلى كل الوجوه من حولي وأبتسم، وأقول: صباح الخير، صوتي يرن في أذني مرحًا متفائلًا مستبشرًا خيرًا، يرن في الجو من حولي صافيًا كرنين آنية من الفضة المجلوة، وكأنني في بيتي، وكأن هذه العيون من حولي هي عيون أهلي.
حتى الآن لا أعرف ما سر ذلك المرح الذي أستقبل به أي صباحٍ جديد، هل يغسل النوم مخي من الأحزان والآلام؟ أم أنني أتصور بسذاجة طفل أن اليوم الجديد سيأتي بشيءٍ جديد، أم أن لذاكرتي قدرة خارقة على طرد الحزن والألم؟ أحيانًا كنت أتهم نفسي بالسذاجة أو الطفولة، وأود التخلص منها. وحين ماتت أمي ومات أبي حاولت التخلص من طفولتي، وحين كبرت ابنتي وأصبحت فتاة شابة، وحين كبر ابني ولم يعد طفلًا.
أمي كانت تنهرني حين أضحك فجأة في معزًى أو مأتم، وأبي أيضًا كان يرمقني بنظراتٍ حادة ويقول: أنت كبرت، ولست طفلة! بل إن ابنتي قالت لي مرة: أنت كبرت يا ماما!
حتى في عز الأزمات، وفي أشد الأوقات واللحظات التي تستدعي اليأس، لم أكن أعرف من أين ينبعث ذلك التفاؤل غير المنطقي كتفاؤل طفل ساذج.
كانت الأمور تسوء أحيانًا أكثر مما هي سيئة، وتتدهور أحوالنا داخل السجن، ونسمع عن أخبار تنبئ بالخطر، ويسود التشاؤم جميع المسجونات معي في العنبر، وتظن كل واحدة منهن أنها محاطة بأبشع المخاطر، ويجلسن جميعًا ساكتاتٍ واجمات متشائمات، فإذا بشيءٍ يهبُّ فجأة منتصبًا داخلي كالمارد، غاضبًا ثائرًا على الوجوم والاستسلام للكآبة والحزن، متمردًا على الجمود وعدم الحركة، يقاوم الانهزام والتشاؤم لأقول: لن نموت، وإذا متنا فلن نموت ساكتات، لن نمضي في الليل دون ضجة، لا بد أن نغضب ونغضب، نضرب الأرض ونرج الأرض، لن نموت دون ثورة!
ثم نضحك، تضحك عواطف ولطيفة وأمينة وصافيناز. كلنا كنا نقاوم ونضحك أحيانًا إلا اثنتين، لم تكن عيونهما تعرف اللمعة أو التفاؤل. واحدة منهما كان اسمها «بدور»، شابة في الثلاثين من عمرها، في نقابها الأسود ثقبان للعين، ترتل القرآن بصوتٍ يذكرني بترتيل القرآن في المآتم، وملابس الحداد، والطرح السوداء تلفها المعزيات حول رءوسهن، متلاصقات في صفٍّ واحدٍ كرءوس الغربان، مناديل بيضاء يرفعنها فوق عيون حمراء، أو يحركنها في الهواء حول رءوسهن السوداء، ويطلقن أصواتًا حادة.
لم أكن أفرق في طفولتي بين أصوات الندب والنواح في المآتم، وأصوات الزغاريد في الأفراح. وكنت أضحك أحيانًا في المآتم، فإذا بالشفاه من حولي كلها ممطوطة، وقد أسمع من يقول لي: عيب أو حرام.
وفي السجن لم أكن أسمع من «بدور» إلا كلمة حرام. كل شيء عندها حرام حتى الرياضة البدنية، فالمرأة يجب ألا تهتز جسمها. والضحك عندها حرام؛ لأن في القرآن آية تقول: إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، رأيتها مرة تضحك دون أن تدري، فرفعت يدها بسرعة إلى فمها، وكتمت الضحك وهي تقول: اللهم اجعله خيرًا يا رب!
صوتها وحركة يدها والطرحة السوداء على رأسها تشبه جدتي الريفية أم أبي، إلا أن جدتي كانت تكشف وجهها، ولم تعرف النقاب أو الحجاب. وجدتي كانت نحيفة الجسم خفيفة الحركة، تشتغل طول النهار في الحقل، وتعود إلى البيت لتطبخ وتخبز، لكن «بدور» سمينة ثقيلة الحركة، لا تفعل شيئًا طول النهار سوى الجلوس، أو تتناقش مع زميلاتها المنقبات حول ما في القرآن ونقاشها كالشجار.
والثانية كان اسمها «فوقية» شابةٌ في حوالي الثلاثين أيضًا، تشبه «بدور» إلى حدٍّ كبير في ملامحها وحركتها، لكنها لم تكن ترتدي النقاب على وجهها، ولا الحجاب. كانت سافرة مثلنا تمامًا، لكنها كانت تضع الحجاب على عقلها، ولا تتصور أن هناك من يفكر بطريقةٍ أخرى غير طريقتها، ونقاشها أيضًا يأخذ شكل الشجار.
كانت تشبه «بدور» في ذلك الإيمان الأعمى بفكرةٍ واحدة، ومن لا يؤمن مثلها يكون كافرًا، لكن إيمانها لم يكن بالله أو محمد مثل «بدور». لا تتحرك من مكانها إلا نادرًا، تظل جالسة طوال النهار تتناقش في السياسة والحزب والجماهير الكادحة، وتختلف مع الأخريات حول معاني الاشتراكية العلمية.
التجربة الأولى في السجن، وفي أعماقي عشق عجيب لأول كل شيء في حياتي. أول مرة ركبت الحمار وأنا طفلة، وأول مرة ركبت القطار للمدرسة، وأول مرة ركبت الطائرة من القاهرة إلى أسوان، وأول مرة أسبح في بحر الإسكندرية، وأول مرة أفقد زوجي بالطلاق، وأول مرة أفقد عملي بالحكومة، وأول مرة أخوض آلام الولادة ليخرج من جسدي رأس طفلي، وأول مرة أضع السماعة في أذني وأسمع دقات القلب، وأول مرة أرى حروف اسمي في الطبقة، وأول خطوة أخطوها نحو أول رجلٍ في حياتي.
ففي كل مرةٍ كانت تنتابني رعشة، مزيج من الخوف والفرح. وفي كل مرة يتغلب الفرح على الخوف، حتى هذه المرة وهم يسوقونني إلى السجن تغلب الفرح على الخوف، كيف؟ لا أدري! لكني كنت أحسه في أعماقي كامنًا مختفيًا يخشى الظهور أمام الآخرين، وكأنه نوعٌ من الإثم.
لقد وُلدت في عالمٍ يكره الفرح والفرحين، حتى أمي كانت ترمقني بضيق أو كراهية حين تراني أرقص بفرح. كنت أظن أول الأمر أنها لا تريدني أرقص، لكني أدركت فيما بعد أنها لا تريدني أفرح، لماذا؟
عرفت حين كبرت أنها وُلدت مثلي في عالم يكره الفرح والفرحين، وينظر إلى كل لذةٍ إنسانية على أنها انحراف. أما لذة الاستكشاف فهي محرمة؛ لأن المعرفة محرمة. الآلهة وحدها هي التي تمتلك المعرفة، والجهل هو النعمة التي منحها الله لعبيده من البشر، ومن يشتهي المعرفة كمن يشتهي الإثم والخطيئة والثمرة المحرمة.
لكني وُلدت بغريزةٍ عارمة جامحة للمعرفة، لمعرفة كل شيء، كل شيءٍ حتى الموت. وربما بلغت حافة الموت أحيانًا لمجرد إشباع استكشافاتٍ طفولية.
أما السجن فهو في نظري كالموت يستحق الاستكشاف. وطوال حياتي أنظر إلى من دخل السجن وخرج على أنه عرف شيئًا لم أعرف، وعاش حياةً لم أعشها.
والفرق بين السجن والموت، أن الإنسان قد يخرج من السجن ويعود إلى الحياة، ويحكي للناس عما رآه. أما الموت فلا أحد يعود ولا أحد يحكي.
لهذا لم تكن تجربة الموت تطوف بخيالي. أما السجن! كم تمنيت أن أدخل السجن، بشرط أن أخرج منه مرةً أخرى سليمة، وفي الوقت الذي أريده، لكنها شروط لا يمكن أن يضمنها أحد. وظل السجن في خيالي كالكابوس، كالموت، الداخل إليه مفقود، والخارج منه مولود.
وفي السجن عرفت النقيضين معًا؛ قمة الحزن وقمة الفرح، ذروة الألم وذروة اللذة، أعظم جمال وأشد قبح. وفي بعض اللحظات تصورت نفسي أعيش قصة حب جديدة. كيف؟ لا أدري، لكني في السجن وجدت قلبي متفتحًا للحب كما كنت في أول الشباب وربيع عمري. وفي السجن تذكرت ضحكتي المنطلقة وأنا طفلة، وعاد إلى فمي طعم دموعي في أقسى وأصعب أيام حياتي.
وفي السجن استعدت كل طفولتي، وأصبحت أصفق وأرقص فرحًا لمجرد سماع صوت الملعقة، وهي تقلب السكر في كوبٍ من الشاي.
كان الشاي كالتراب الأسود والقش، والسكر قطع سمراء يحوطها النمل، لكن ما إن أفتح عيني في الصباح وأشم بخار الشاي يتصاعد من الإبريق، حتى أقفز من مكاني، وأصب الشاي في الكوب البلاستيك الأخضر، أرشفه على مهلٍ رشفة رشفة، ومذاقه في فمي ألذ من أي شاي في حياتي، والوجوه من حولي كلها محببة، قريبة إلى نفسي. حتى تلك الوجوه المختفية تحت النقاب الأسود، حين رفعت النقاب رأيت وجوهًا مشرقة صافية تفيض بالحب والتعاون والإنسانية.
وعشت الحياة الجماعية وسط النساء والفتيات. استعدت سعادتي حين كنت تلميذة في المدرسة الثانوية، نفرح ونغضب ونتخاصم، ثم نتصالح. نفرح بأقل شيءٍ ونحزن لأبسط سبب. تظهر الدموع في عيوننا ونحن نبتسم، وتشرق الابتسامة ونحن لا نزال نبكي. تبدو الخلافات بيننا أحيانًا كالبحور تفصل بين الواحدة والأخرى، وكل واحدة منا جزيرة وحدها. ويشتد العراك والخلاف، لكن سرعان ما يحدث التقارب والتآلف والوقوف صفًّا واحدًا في مواجهة السلطة الواحدة التي وضعتنا وراء القضبان.
«نور» الفتاة الوحيدة المسيحية. قبضوا عليها ضمن من قبضوا عليهم من المسيحيين والأقباط، فتاة في حوالي العشرين من عمرها رقيقة خجولة لا علاقة لها بالسياسة أو الفتنة الطائفية، التهمة التي ألصقت بكل من انتمى إلى المعارضة. وكنا نتساءل: إذا كانت الدولة تتهم هؤلاء المتحفظ عليهم داخل السجون بإشعال الفتنة الطائفية والكراهية والحقد بين فئات الشعب، لماذا إذن وضعتهم جميعًا في عنابر واحدة؟ لماذا حبست المسلم المتطرف مع المسيحي مع اليمين مع اليسار؟ أتريد بذلك أن يفتك بعضهم بالبعض داخل السجون؟
لكن الذي حدث هو العكس تمامًا. ساد الوئام بين الجميع، تحقق التفاهم داخل السجون بين كل فصائل المعارضة.
وفجأة صدر قرار جديد، فصل المسيحيين عن المسلمين، حبس كل فريقٍ في عنابر منفصلة!
ودخل مسئول السجن علينا ذات صباح ينادي على «نور» اسم الفتاة المسيحية.
وقال: هاتي ملابسك وتعالي معي.
شحب وجهها بالخوف.
قلنا جميعًا في صوتٍ واحد: إلى أين تأخذها؟!
قال: صدر أمر بفصل المسيحيين عن المسلمين.
قلنا: لماذا؟ لا يمكن أن تحبس وحدها بعيدًا عنا!
وقفنا صفًّا واحدًا لنحول دون فصلها، لكنه انتزعها بالقوة. عانقتنا واحدة واحدة وهي تبكي.
جلسنا واجمات صامتات، وفي الصمت أدركنا حقيقة الأمر، أن قرار التحفظ لم يصدر خوفًا من الفتنة الطائفية، لكن خوفًا من الوحدة الوطنية.
•••
أشد الكوارث بداياتها، وأخطر ما في حياة المسجون هو الانتقال المفاجئ من حياةٍ إلى حياة، ومن عاداتٍ اكتسبها طوال حياته إلى عاداتٍ جديدة لا بد أن يتعلمها. وتزداد المشقة كلما كان الإنسان مرفَّهًا أو مدلَّلًا، ينتظر دائمًا أن يخدمه الآخرون.
لكني تعودت أن أخدم نفسي، أعمل كثيرًا وآكل قليلًا، وأستحم بالماء البارد في الشتاء، وأمارس الرياضة البدنية منذ الطفولة. أدركت مبكرًا حاجتي إلى ذراعين قويتين أدافع بهما عن نفسي عند الضرورة، في الشارع أو في الأتوبيس حين يحاول أي رجلٍ أن يحول كياني إلى جسدٍ أنثوي يستطيع أن يمسكه من الخلف أو الأمام.
وفي الجامعة حين كانت زميلاتي الطالبات يتفاخرن بنعومة أيديهن، وصغر أقدامهن ورقة أجسادهن الصغيرة، وارتخاء عضلاتهن الضعيفة، كنت أفخر بقامتي الفارعة وعضلاتي القوية المشدودة. كيف حدث ذلك؟ لا أدري! كنت أحس في أعماقي عقلًا يرفض الضعف كأنوثة، أو الأنوثة كضعف. لم أضع أبدًا مساحيق التجميل على وجهي، لكني تعودت أن أغسل وجهي كل صباح، وأسناني بالفرشاة والمعجون، وأمارس رياضتي الصباحية، ثم أضع جسمي تحت ماء الدش الغزير.
فتحت عيني ذلك الصباح الأول في السجن، فلم أجد ماء في الصنبور ولا فرشاة أسنان ولا معجون ولا صابونة ولا فوطة ولا دش. والمرحاض ثقب في الأرض بغير باب وبغير سيفون. طافح بمياه المجاري والصراصير.
بدأت حياتنا في السجن بإصلاح حال المرحاض. كان ذلك هو نقطة الاتفاق الأولي، وبداية اللقاء بين جميع الزميلات منقباتٍ وسافرات.
لحسن الحظ أن أمعاء الإنسان لا تفرق بين يمين أو يسار أو دين ودين. ومهما اختلف الإنسان مع الإنسان فكريًّا أو سياسيًّا، فحاجتهما إلى المرحاض واحدة.
وعقَدنا أول اجتماع في العنبر حضرته جميع الزميلات، حتى «بدور» التي رفضت أول الأمر أن تعقد جلسة واحدة مع اللائي أطلقت عليهن «الكافرات الملحدات» كانت أكثرنا حماسًا لهذا الاجتماع. لم أرها متحمسة بهذا الشكل، حتى وهي تصلي أو تقرأ القرآن. وعرفت من بعدُ أنها كانت تخاف دخول المرحاض بسبب الصراصير. ولولا الإمساك الشديد الذي كاد يقتلها لظلت على هذا النحو إلى الأبد.
«فوقية» أيضًا كانت شديدة الحماس لهذا الاجتماع الأول. كانت مثل «بدور» تقاطع المرحاض، ليس خوفًا من الصراصير، وإنما عجزًا عن الجلوس القرفصاء فوق ذلك الثقب في الأرض.
كنا جميعًا نعاني هذه المشكلة، وتُفزِعنا الصراصير والحشرات، إلا أن المشكلة كانت حادة بالنسبة لبدور وفوقية.
ظننت أول الأمر أن مشكلة الإمساك هي سبب حماسها للاجتماع، لكني أدركت من بعدُ أنها تعشق عقد الاجتماعات، أو أنها أدمنت هذه العادة، عادة تنظيم الاجتماعات، وتعودت أيضًا الكلام باللغة الفصيحة والضغط على مخارج الألفاظ، والجلوس في كرسي الرئاسة.
وفي السجن الكراسي من الممنوعات، كنا نجلس على الأرض، وبدا عليها في الأيام الأولى أنها تفقد الكرسي والمنصة، ثم خَلقت لنفسها منصة وهميَّة من الدور العلوي للسرير الحديدي، صعدت إليه بصعوبةٍ شديدةٍ، ثم عدلت عنه بعد أن سقط السرير بها، وأصبحت تجلس على الدور السفلي، ثم تعودت الجلوس على الأرض، لكنها لم تتعود أبدًا أن تربع ساقيها أو تثنيهما تحتها وهي جالسة. وكانت مثل «بدور» ضد تحريك عضلات الجسم، وليس بسبب الحرام أو القرآن، ولكن بسبب إضاعة الوقت في حركات عضلية لا طائل وراءها، وكنا نضحك معها، ونقول لها: ألا تؤمنين بجدوى الحركة لأي عضلةٍ في الجسم إلا اللِّسان؟
- (١)
إصلاح المراحيض وصنابير المياه، وتركيب دش في أحد المراحيض من أجل الاستحمام.
- (٢)
إبادة الصراصير والحشرات القارضة، وغير القارضة.
- (٣)
الحصول على «الخبز الملكي»، وليس خبز السجن العادي الذي يسعى داخله الدود والسوس.
- (٤)
سد الفراغ في الجدار بيننا وبين عنبر الأمهات؛ لمنع الأصوات التي تقلقنا طول الليل والنهار.
اكتشفنا أن الأصوات العجيبة؛ الصراخ والنواح والعواء والنحيب كلها تأتي من عنبر الأمهات السجينات مع أطفالهن الذين وُلدوا في السجن. ثلاثمائة أم وثلاثمائة طفل داخل عنبرٍ واحدٍ مثل عنبرنا، لا يفصلنا عنهم إلا نصف جدار، لا يصل إلى السقف. إذا كفت الأمهات عن الشجار والصراخ بدأ الأطفال في العويل، وإذا كفَّ الأطفال بدأت الأمهات. وهكذا ليل نهار.
إذا كان هناك من جحيمٍ فوق الأرض، فإنه عنبر الأمهات في سجن النساء بالقناطر الخيرية. أصبح عنبرنا بالنسبة لذلك العنبر هو النعيم، وجنَّة الله فوق الأرض، والمسائل كلها نسبية. نحن أربع عشرة امرأة في العنبر، عندنا مساحة من الأرض، نستطيع أن نفرد أجسامنا، نستطيع أن نمد الساقين، أن نتمشى بين الأسرَّة.
لكن إلى جوارنا وعلى نفس المساحة نفسها من الأرض تتكدس مئات الأمهات، ومئات الأطفال، لكل أم طفل على الأقل، أجساد النساء متلاصقة والأطفال، الحشرات تقرض أجساد المواليد، الأطفال تصرخ، الأمهات يتنازعن على جرادل الماء، على الخبز، على قليلٍ من السكر يُذاب في الماء ليشربه الطفل، تُمسك كل واحدةٍ بشعر الأخرى، يتشابكن بالأيدي والأرجل، تدوس الأقدام الحافية المشققة على بطون الأطفال وأردافهم العارية فوق الأرض، ينطلق السباب، المرأة تسب المرأة وتلعن أمها وأعضاء الأنثى، تسب نفسها.
تلعن اليوم الذي ولدتها أمها، وتلعن اليوم الذي وَلدت فيه طفلها. نساء فقيرات أميات دخلن السجن بسبب الفقر، أو بسبب الجهل، أو بسبب قهر الرجال، وراء المسجونة منهن رجل، أب يكوي ابنته لتسرق، زوج يضرب زوجته لتمارس الدعاة، أخ يهدد أخته لتهرب له الحشيش والمخدرات، رئيس عصابة سرق طفلة ودرَّبها في الشوارع على التسول.
قاع المجتمع، قاع القاع، المعذبات فوق الأرض، الوجه الآخر من النظام.
في الليلة الثالثة أمسكت رأسي، أحسست أنني سأفقد عقلي، لا بد أنهم وضعونا في هذا المكان؛ لتصيبنا هذه الأصوات بالجنون!
في كل حياتي لم أسمع مثل هذه الأصوات، كملايين المطارق تدق فوق الأذنين، وتتحول الأصوات كلها إلى صوتٍ واحد كثيفٍ حارق، ويكاد يلمس باليد كالسائل الكاوي.
كل شيءٍ بدا محتملًا، السوس في الفول والدود في الخبز والصراصير والبق والقمل والأبراص والثعابين. كل شيءٍ إلا هذا السائل الكاوي الذي يمتد في الأذنين، وينتشر في الرأس، ويغزو كل خلايا المخ، ويضغط على العقل كالغاز السام.
وفي صباح اليوم الرابع، كنا جميعًا وقوفًا منقباتٍ وسافراتٍ صفًّا واحدًا، ومطلبنا الأول قبل المرحاض، وقبل الخبز الملكي، وقبل إحضار ملابس من البيوت، وقبل خروجنا في الفناء إلى الهواء والشمس، هو سد ذلك الجدار بيننا وبين عنبر الأمهات والأطفال بالطوب والأسمنت.
•••
أصابتنا الدهشة حين بادرت إدارة السجن إلى تلبية هذا الطلب بأسرع من أي طلبٍ آخر. في صباح اليوم التالي رأينا الرجال بالسراويل والسترات الزرقاء البالية، يحملون الطوب والأسمنت وأدوات البناء، ومن حولهم عدد من الجنود المسلحين بالبنادق.
ما إن ظهروا في الفناء الواسع، حتى دبت في عنابر المسجونات حركة غير عادية؛ رءوس منكوشة الشعر تطل من بين القضبان، وعيون تلمع، أيادٍ تلوح، ابتسامات، ضحكات، غمزات العين، عنبر الدعارة كله خرج إلى الفناء يشهد موكب الرجال، موكب حزين من الشباب عاشوا الشهور والسنين داخل الزنازين في سجن الرجال المجاور لنا. أقدامهم حافية وجوههم ناحلة شاحبة، عيونهم منكسرة حزينة، رفع أحدهم عينيه ورأى النساء والفتيات بالجلاليب البيضاء، لمح العيون تبرق وتبتسم، لمعت عيناه فجأة، ابتسم، ثم أطرق إلى الأرض، رفع الآخرون رءوسهم، لمعت عيونهم، اقتربت الفتيات من الصف الطويل المنتظم، واحدة مدت يدها وصافحت واحدًا منهم، ناولته سيجارة، أخذها بلهفة، توقف آخرون عن السير، وبدءوا يرمقون الفتاة بعيونٍ وجلة، تعرج الصف المنتظم، وبدأت حركة كالهرج، وعيونهم تبرق، حرك الجنود المسلحون بنادقهم فانتظم الصف من جديد.
من خلال القضبان لمحتهم «بدور» من بعيد، فأطلقت صرخة: رجالٌ قادمون! قفزت الزميلات المنقبات والمحجبات يرتدين العباءات والطرح والنقاب، ويختفين وراء الأسرة والجدران. فتحت لهم الشاويشة باب الحوش الصغير، ثم باب العنبر، ودخلوا، وأكملوا بناء الجدار بيننا وبين عنبر الأمهات.
انقطع السائل الكاوي الذي كان يخرق الأذنين. أحسسنا فجأة أننا انتقلنا من الجحيم إلى النعيم. تبادلنا نظرات التشكك، وهتفت واحدة: غريبة، هل يمكن أن نصدق أن إدارة السجن تسعى إلى راحتنا بمثل هذه السرعة؟ رفعت «فوقية» عينيها الصغيرتين تفحصان بدقة الجدار الذي تم بناؤه، ثم قالت وهي تضغط على الكلمات بثقةٍ وتأكد: إني أعتقد دون أدنى شك أن الغرض الوحيد من بنائهم هذا الجدار هو تركيب أجهزة داخله لتسجيل كل ما يدور هنا.
ارتفعت عيون زائغة تفحص الجدار بنظراتٍ وجلةٍ قلقة، وساد جوٌّ من الكآبة والصمت والخوف المكبوت.
وضحكت وأنا أقول: هذا شيء جميل، سوف تصلهم بسرعة آراؤنا التي يخاف الآخرون من البوح بها أمامهم.
وضحكت لطيفة وقالت: وسيسمعون أننا نضحك، وضحكت جميع الزميلات إلا «بدور» و«فوقية»، ظلت عضلات وجهيهما متقلصة. رمقت «بدور» زميلاتها المنقبات بعينين غاضبتين، وقالت: الضحك بهذا الصوت العالي حرام. أما «فوقية» فقالت بصوتٍ مكتئبٍ: لا بد أن نناقش هذه المشكلة، التكنولوجيا تقدمت وهم يركِّبون أجهزة تسجيل بأحجامٍ صغيرةٍ جدًّا في كل مكان، فما بال السجون أو عنابر المساجين السياسيين! سوف يسجِّلون كل كلمة نقولها، ولن نستطيع أن نتنفس دون أن تنقل الأجهزة الإلكترونية حركة صدورنا وشكل أنفاسنا!
الهواء بدأ يثقل صدورنا أصبحت تتحرك بحذرٍ شديدٍ، أو لا تتحرك على الإطلاق، أحسست بالاختناق، حاولت أن أخفف جو الكآبة، وقلت: فليسجلوا ما شاءوا لهم التسجيل، ونتنفس نحن كما نشاء، ونقول ما نشاء. لقد دخلنا السجن؛ لأننا ننادي بالحرية، ونرفض القيود، فهل نضع على أنفسنا القيود داخل السجن؟ هل نخنق أنفسنا بأنفسنا؟ ثم ماذا سيحدث لنا أكثر مما نحن فيه؟ لا ينقص إلا الموت.
وقالت لطيفة: صحيح لا ينقصنا إلا الموت، وماذا بعد السجن؟
وضحكت عواطف: على الأقل قبل أن نموت يسمعون آراءنا.
تحمست واحدة من المنقبات: والله العظيم سوف أقول كل ما عندي، وليسمع الطاغوت.
وردت واحدة: يسقط قرار التحفظ، وقانون العيب، وأخلاق القرية. وتوالت الهتافات: يسقط قانون الاشتباه، ومحكمة القيم، يسقط الانفتاح، تسقط معاهدة كامب ديفيد، والتطبيع، تسقط الدكتاتورية، يسقط الاستعمار الجديد، تسقط الإمبريالية والصهيونية، وصديقي كارتر وريجان وصديقي بيجن، يسقط الكذب والزيف.
وردد الجميع الهتاف بصوتٍ واحد، ثم بدأت الضحكات ترن في العنبر، وغمزت واحدة بعينها للجدار الجديد، وهي تقول: سجل يا عم سجل.
•••
في الأيام الأولى كانت الأوامر مشددة، والذعر منتشرًا خارج السجن وداخله. صوت السادات الجهوري لا ينقطع في الراديو، وصورته في الصحف وعلى شاشة التلفزيون كل يوم، فاغرًا فَاهُ عن آخره، كاشفًا عن أسنانه كلها، ضاغطًا على فكيه بكل قوته، ملوحًا بقبضة يده في الهواء.
لن أرحم، سوف أسحق، لن أرحم.
من حوله رجالات الدولة، الجيش والبوليس والمباحث والمخابرات والصحافة والإعلام، مجلس الشعب والشورى، جهاز المدعي الاشتراكي، كبار موظفي الحكومة والوزارات والقطاع الخاص، وشركات الانفتاح والبنوك الأجنبية، ومشاريع الثورة الخضراء، والأمن الغذائي والرخاء وأقطاب الأمن والسلام.
من شدة الذعر أصبح الناس يخافون السير في الشوارع، وكل من له قريب أو قريبة في السجن بات قلقًا ينتظر من يدق بابه ليأخذه إلى السجن. وأصبح كل من يرفع سماعة التليفون يظن أن صوته يذهب مباشرةً إلى المباحث. وكل إنسان ينام في غرفة نومه يتلفت وينظر إلى الجدران متصورًا أنها مليئة بأجهزة التسجيل والعدسات الإلكترونية.
كان المفروض ألا نعرف شيئًا عما يحدث خارج السجن، أو داخل السجن، أن نظل داخل العنبر وراء البابين الحديدين. لا تصل إلينا الصحف ولا راديو ولا رسائل ولا زيارات أهل، ولا أطعمة من البيوت، ولا اتصال ولا كلام من خلال القضبان، مع أي واحدة من المسجونات السائرات في الفناء.
لم يكن يدخل عندنا إلا الشاويشة والضابطة ومسئول السجن والمسئولون الآخرون القادمون من وزارة الداخلية أو المباحث.
في كل يوم كنا نرى هؤلاء المسئولين ذوي الملابس البوليسية، أو ذوي النظارات السوداء الذين يفدون إلى عنبرنا في زياراتٍ متكررةٍ مفاجئة، يفاجئون بها إدارة السجن بمثل ما يفاجئوننا.
ملامحهم متشابهة وعضلات وجوههم مشدودة كأنما بالأسلاك، ومشيتهم وحركاتهم، والعصا ذات البوز المدبب في اليد اليسرى، وفي اليد اليمنى سبحة حباتها صفراء صغيرة، يحركونها دون توقُّف والأظافر مقصوصة بعنايةٍ شديدةٍ من الجوانب، ولها بوز مدبب ينتهي رفيعًا دقيقًا كالإبرة.
وجوههم حليقة، ورءوسهم أيضًا حليقة بشكلٍ واحد، كأنما يذهبون إلى حلاقٍ واحد، ورائحتهم واحدة، ذلك النوع من ماء الكولونيا الذي يسكبه الرجل على وجهه بعد الحلاق.
الرائحة كانت تفوح في العنبر، وتبدو لنا غريبة شاذة. تفتح لهم الشاويشة باب الحوش الصغير، ثم باب العنبر، وينتشرون أمامنا كالجراد الناعم الخالي من الأجنحة، وقد خبأ أجنحته في طيات بطنه الكبيرة، البارزة فوق حزام البنطلون.
يتقدمهم كبيرهم أو رئيسهم، بكامل هيئة البوليسية، النجوم تلمع على صدره وكتفيه، والعصا ذات البوز يحركها في الهواء، وعضلات عنقه وظهره مشدودة إلى الوراء، نائبه إلى جواره بالملابس البوليسية أيضًا، نجومه على كتفيه أقل، وإلى جوار النائب مساعده بالملابس الرسمية أيضًا، لكن النجوم أقل فأقل. مسئول المباحث بالملابس غير الرسمية، والوجه التنكري خلف النظارة السوداء، إلى جواره نائبه، إلى جوارهما المساعد الأصغر، الأقصر قامة، ونظارته السوداء أصغر حجمًا، وارتفاعة بطنه فوق حزام البنطلون أقل.
في آخر الصف كان طبيب السجن، بدون معطف أبيض، يرتدي أيضًا الملابس البوليسية، يسرع الخطى ليقترب بأذنه من فم الذي أمامه في الصف. ومن وراء الطبيب تقف الضابطة، منتصبة إلى جوار مسئول السجن، تشبهه لكنها بدون ملابس رسمية. تشد عضلات وجهها وشفتاها مضمومتان بقوة، وذراعاها حول صدرها مضمومتان وساقاها السمينتان مضمومتان بشدة تهتزان فوق كعبين عاليين رفيعين من الألومونيوم. والشاويشة إلى جوارها تحاول هي الأخرى أن تشد عضلات ظهرها المحني داخل معطفها الرمادي، والشريط الأسود الباهت فوق كتفها، ويداها المعروقتان السمراوان مضمومتان فوق صدرها، وقدماها المشققتان داخل الشبشب البلاستيك.
كنا نجلس بعضنا على الأرض، وبعضنا على الأسرة، شاخصاتٍ بعيوننا المفتوحة المكشوفة أو المختفية وراء الحجاب أو المطلة من خلال ثقوب النقاب، نتابع حركة ذلك الطابور الطويل من الهيئة العليا لإدارة الدولة البوليسية.
وهز رئيسهم رأسه وهو يهز عصاه، وارتفع كتفاه إلى أعلى وفحص الجدران بعينيه، ثم دار بهما على الوجوه أمامه وقال: أرجو أن تكونوا مرتاحين هنا.
تبادلت الزميلات النظرات الساخرة، وقالت واحدة بسخرية: مرتاحين جدًّا بوجودكم.
انطلقت ضحكة من تحت نقابٍ أسود. تجاهل الرئيس الضحكة، وقال: نحن نحاول أن نلبي طلباتكم في حدود السلطة المتاحة لنا، وفي حدود التعليمات التي وصلتنا حتى الآن، أليس كذلك يا أستاذ عبد الرحمن؟!
(ونظر إلى أحد المسئولين في إدارة السجن.)
وقال المسئول بسرعة: أيوه يا فندم، تم بناء الجدار حتى السقف ليمنع عنهن أصوات الأمهات والأطفال، وتم تركيب دش في أحد المراحيض، وأخطرنا إدارة الحشرات بوزارة الصحة لإرسال حملة لإبادة الحشرات من العنبر، وخصصنا لهن نوبتجية من عنبر الدعارة لتنظيف العنبر، وتم صرف الخبز الملكي لهن، ونحن لا نتأخر يا سعادة البيه عن تلبية طلباتهن.
ونهضت واحدة من الفتيات: أنا أريد ورقة وقلمًا لأكتب رسالة لأمي و… وقاطعها قائلًا: إلا الورق والقلم! ممنوع منعًا باتًّا، إلا الورقة والقلم! الطبنجة أهون من الورقة والقلم.
رنت المقارنة بين الطبنجة والورقة والقلم في أذني غريبة، كعبارةٍ في تمثيلية هزيلة. ظننت أنني جالسة في مسرح، لم أتصور أن الورقة والقلم يمكن أن يكونا أخطر من الطبنجة في عالم الواقع والحقيقة.
لكن يبدو أن الأمر كان كذلك، بل أكثر من ذلك. رأينا سجينات يفتشن جسديًّا. تمد الضابطة أو الشاويشة يدها داخل جسد المرأة، فإذا ما عثرت على قصاصة ورق انقلب السجن رأسًا على عقب.
أخذ يتمشى في العنبر ومن خلفه الطابور، ألقى نظرة على المراحيض، ثم استدار نحونا وقال: أنتم في نعمةٍ هنا، عندك دورة مياه، ونحن نراعي دائمًا راحة النساء، لا يمكن أن نعامل المرأة كالرجل.
رمقني بنظرة وهو يقول: أليس كذلك يا دكتورة نوال؟ أم أنك تريدين المساواة بالرجال المتحفظ عليهم في طرة؟
وقلت: لا بد أن أرى أولًا كيف يعيش المتحفظ عليهم في طرة، ثم أصدر حكمي.
وقال: هنا جنة بالنسبة للسجون الأخرى.
وقالت عواطف: ولماذا لا تأتي وتسكن في الجنة؟!
وقالت واحدة من الفتيات: «نريد ملابس من بيوتنا، أنا جئت بهذا الثوب الوحيد الذي أرتديه ليل نهار، وأغسله وأجلس إلى جواره حتى يجف، ثم أرتديه.»
أخفت المنقبات عيونهن بأيديهن خجلًا، خطر في بال بعضهن أن هذا الصف من الرجال تخيلها جالسة عارية بدون ملابس تنتظر أن يجف ثوبها. وأطرقت الفتاة في خجلٍ أيضًا.
وقلت: هذا أمر لا يخجلنا، ولكنه يخجل رجال البوليس الذين كذبوا علينا، ولم يصرحوا بأنهم يسوقننا إلى السجن. أنا أيضًا أغسل ثوبي الوحيد وأنتظره حتى يجف.
وهز الرئيس رأسه وقال: هذا أمر علاجه سهل، أليس كذلك يا شفيق بيه؟ ونظر إلى مسئول المباحث. وهز مسئول المباحث رأسه، فاهتزت النظارة السوداء فوق عينيه.
وقال: طبعًا يا صلاح بيه، هذا موضوع بسيط جدًّا، وسوف تصل إليهن الملابس خلال أيام.
وانبسطت أسارير صلاح بيه فجأة، وكاد يبتسم وهو يقول: عال عال، إذن لا توجد مشكلة.
وانتقلت الابتسامة كأنما بالعدوى السريعة من فوق شفتي صلاح بيه إلى شفتي نائبه، ثم مساعده، ثم الآخرين واحدًا وراء الآخر، حتى الضابطة والشاويشة. الطبيب كان آخر من ابتسم. تردد لحظة في أن يفتح شفتيه المزمومتين، ربما أراد أن تكون شفتاه مستقلتين تمامًا عن شفتي الرئيس، لكن يبدو أنه أعاد التفكير، وتذكر أنه موظف في وزارة الداخلية شأنه شأن الضابط، فانفرجت شفتاه باسمًا، ولم يكتفِ بالابتسامة، بل ألقى رأسه إلى الوراء، وضحك بصوتٍ عالٍ مؤكدًا وجوده، ومحققًا ذاته المستقلة عن الضابطة أو الشاويشة.
وقالت واحدة من المنقبات بصوتٍ خافتٍ لا يكاد يُسمع: وكيف سنحصل على الملابس من بيوتنا؟ هل سيسمح لأهلنا بزيارتنا وإحضار الملابس معهم؟
ورد مسئول المباحث بسرعة: لا، الزيارات ممنوعة، كل واحدة منكن تحتاج إلى ملابس تكتب طلبًا بالملابس التي تريدها، وتسلم الطلب لضابط المباحث المسئول.
وهتف صلاح بيه: عال عال، إذن لا توجد مشكلة.
واتجه نحو الباب ليخرج من العنبر، ومن خلفه الطابور الطويل، لكني ناديت عليه.
قائلة: يا أستاذ صلاح.
استدار نحوي، وعيناه تتعكران بغضبٍ مفاجئ؛ ربما لأنني ناديته باسمه أو بلقب «أستاذ» وليس «بيه».
قلت: توجد مشكلة، يا أستاذ صلاح.
تعكرت جميع العيون، وتقلصت الوجوه.
وقلت: المشكلة أننا لا نعرف كيف سنكتب هذه الطلبات دون أن يكون معنا قلم وورقة.
تراخت العضلات وهزَّ الرئيس رأسه موافقًا وقال: معك حق. ثم نظر إلى مساعده، ونظر مساعده إلى مسئول المباحث، ونظر مسئول المباحث إلى ضابط المباحث الذي قال: هذه ليست مشكلة، سوف تحضر لكم الضابطة قلمًا وورقة لكتابة هذه الطلبات. ورمق الضابطة من تحت النظارة السوداء وهو يردد: لكتابة هذه الطلبات فقط، كل واحدة تأخذ ورقة واحدة، وتكتبها أمامك، ثم تأخذين منها القلم والطلب على الفور.
وهتفت الضابطة: حاضر يا بيه.
ونهضت واحدة من المنقبات، وقالت: وأنا أريد أن أكتب رسالة لأمي، قبضوا علي في الشارع، وهي في البيت لا تعرف أين أنا، لا بد أنها تدور في الشوارع تبحث عني.
وقال صلاح بيه: لا تقلقي، لا بد أنها عرفت الآن.
وقالت الفتاة المنقبة: عرفت ماذا؟
وقال ضابط المباحث: عرفت أنك في مكان أمين، ولا خوف عليك. لقد أعلن السيد رئيس الجمهورية أن قرار التحفظ لا يعني إلا الحفاظ عليكم في مكانٍ أمينٍ، حتى يبدأ المدعي الاشتراكي التحقيقات.
ورنت ضحكة في العنبر.
وقالت واحدة من السافرات: ومتى سيبدأ المدعي الاشتراكي التحقيقات؟ ورفع مسئول المباحث يديه إلى فوق قائلًا: الله أعلم، نحن مثلكم لا نعرف شيئًا، وننتظر التعليمات من فوق.
وتابعت حركة يديه عينان صغيرتان ساذجتان تلمعان من خلال ثوب النقاب، ورفعت عينيها إلى السقف، ثم شهقت بدهشة: من فوق؟!
رد صلاح بيه بسرعة وهو يحرك العصا في الهواء: كلنا في انتظار التعليمات من فوق، وتعشموا خيرًا إن شاء الله، فأنتم في دولة القانون والمؤسسات، ولن تبقى في السجن أي واحدة تثبُت براءتها.
واستدار ليتجه نحو الباب، ولم أشعر إلا وأنا واقفة على قدمي، وقد عاد إلى ذاكرتي فجأة كل ما حدث، كأنما كنت نائمة وصحيت، الدقات العنيفة على الباب، صوت الباب ينكسر كالانفجار، البنادق المشهرة في وجهي، صوت الرجل العجوز، الطريق الطويل المظلم، رحلة الساعات المظلمة إلى المجهول، السلسلة، المفتاح، الجدران، القضبان، الحشرات، الأرق، ابني وابنتي وزوجي يدورون في الشوارع يبحثون عني، الأيام والليالي والعمر الذي يضيع في الظلام، وبعد كل ذلك يأتي هؤلاء الرجال المعطرون بعد أن ناموا الليل كله وغيروا ملابسهم، واستحموا بالصابون وأكلوا وشربوا، جاءوا يستعرضون علينا ملابسهم البوليسية ونجومهم اللامعة، ونحن جالسات على الأرض، وجوه شاحبة مرهقة، عيون قلقة مؤرقة، متربة، أقدام معفرة، اسودَّت كعوبها من السير فوق تراب الحوش، ثم الخوض في مياه المجاري بالمرحاض، ويقولون إننا في الجنة وفي مكانٍ أمين، ومن تثبت براءتها سوف تخرج!
وهتفت بصوتٍ عالٍ: يا أستاذ صلاح.
واستدار نحوي، واستدار معه كل الطابور، رأيت عيونهم متسعة تحملق فيَّ، فأخذت أحملق فيهم، وأنا أحسُّ أن صدري ينتفخ بالغضب، لكني تذكرت أن هؤلاء ينتظرون الأوامر من فوق، إنهم ينفذون الأوامر فحسب، تحكمت في غضبي وقلت بصوتٍ بارد، لكنه قاطع كحد السكين: إن العقل والمنطق، يا أستاذ صلاح، لا يمكن أن يفهم ما قلته الآن عن هذه البريئة التي ستخرج من السجن بعد أن تثبت براءتها. ألا ترى أن هذه العبارة ضد القانون؟! إذا خرجت هذه البريئة من السجن بعد شهر أو سنة، فمن يا ترى هذا الذي سيعوضها عن هذه الأيام والليالي التي عاشتها هنا؟ وكيف يمكن أن تقول لنا هذه العبارة، وتخرج هكذا باسمًا مستريح الضمير، وتقول عال عال، لا توجد مشاكل؟! أول مشكلة يا أستاذ صلاح أن البريئة كان يجب أصلًا ألا تكون هنا، ثم ها نحن هنا منذ أيام وأسابيع، ولم يبدأ أحد معنا التحقيق، ولا تعرف أي واحدةٍ منا ما هي التهمة الموجهة ضدها، اقتحموا بيوتنا بالقوة المسلحة، وبدون أمر من النيابة وحتى اليوم لا يعرف أهلنا عنا شيئًا، ولا نعرف عنهم شيئًا. وبيننا الأمهات اللائي تركن أطفالهن في سن الرضاعة، والطالبات اللائي حرمن الدراسة، والعاملات اللائي انقطعن عن العمل والوظيفة، والكاتبات اللائي توقفن عن الكتابة، ومعنا الحامل في الأسابيع الأخيرة بدون رعاية طبية، والزميلات اللائي انتقلت إليهن عدوى مرض الجرب، وكلنا مهددات بالأمراض المنتشرة من حولنا، والتي ينقلها الذباب والحشرات والهواء المحمل بالدخان والتراب، وميكروبات الدرن، هل يمكن أن تسمي هذا بالمكان الأمين؟! وتقول إننا في دولة القانون؟! أين هو القانون؟ ولماذا لم يبدأ التحقيق معنا حتى اليوم؟! وكيف نُحبس بدون تحقيق؟!
كنت واقفةً مشدودة العضلات، عيناي ثابتتان على وجه رئيس الطابور، وظهري ناحية الزميلات، ورأيت الوجوه أمامي كلها تتقلص، والعيون تتعكر، والجو يتكهرب، لكن الطابور واقف صامت لا يتحرك. كل واحدٍ ينظر إلى الآخر بطرف عين، والعيون كلها ترمق صلاح بيه لترى ماذا سيفعل لتفعل مثله. وصلاح بيه واقف لا يتحرك، وجهه ناحيتي، لكن عينيه مرفوعتان إلى أعلى كأنما في انتظار تعليمات تهبط من فوق، وتقول له بماذا يرد عليَّ.
وأحسست حركة خلفي، لمحت بطرف عيني الزميلات، وقد وقفن جميعًا، مشدودات الرءوس والظهور. الوجوه المكشوفة تنم عن الغضب والوجوه المختفية تحت النقاب انتصبت عظامها في تحدٍّ، ولمعت العيون من خلال الثقوب تأهبًا للانقضاض.
ظلت عينا صلاح بيه مرفوعتين وهو صامت، ثم هبطت عيناه بحركةٍ تنم عن خيبة الأمل. ربما لم تهبط إليه أية تعليمات، وأصبح عليه أن يتصرف وحده، أو لعل أفكارًا كثيرة متضاربة دارت في رأسه، ولم يعرف أيغضب أم لا يغضب. إن أمور السياسة على كف عفريت. لا أحد يعرف ما الذي يمكن أن يحدث غدًا أو بعد ساعةٍ واحدة. لم تعد هناك ضمانات لبقاء أي واحدٍ في مقعده. أي حاكم في أكبر دولة يمكن أن يختفي بطلقة رصاصٍ واحدة. أي حكومة ممكن أن تطير في غمضة عين بانقلاب في الجيش، أو ثورة بين الشعب. وفي يومٍ وليلة يصبح من في الحكم في السجن، ومن في السجن في الحكم، وسبحان الباقي على حال، وأطرق برأسه كأنه يفكر.
وقالت لطيفة «بغضبٍ شديد»: أين هو القانون؟ وأين دولة القانون ونحن هنا في السجن بدون جريمة وبدون تحقيق؟! كيف نُدان ونُحبس قبل أن نحاكم؟! هذا ظلم، وانتهاك لحقوق الإنسان.
وقالت عواطف (ثائرة): المفروض أن نُحاكم أولًا حسب القانون، لا أن نُحبَس ثم نُحاكَم، هذا هو الدستور.
وقالت واحدة من المنقبات: أنا لا أعرف لماذا أنا هنا؟! كنت ذاهبة لأزور خالتي، وقبضوا عليَّ في الشارع!
وقالت أمينة: إذا كنا متهماتٍ؛ فلماذا لا تحققون معنا، لماذا يتأخر التحقيق؟ إن ساعة واحدة في السجن بدون جريمة تساوي عشر سنين.
ظل صامتًا يستمع، ولا أحد يعرف ما الذي سيفعله.
ثم هز رأسه، وابتسم ابتسامة مفتعلة، وقال بصوتٍ هادئٍ تمامًا: لست أنا الذي وضعتكم في السجن، أنا لست إلا منفذًا للأوامر، وحتى الآن لم تصل إليَّ أي أوامر بشأن التحقيقات، ولا زلت في انتظار التعليمات من فوق.
العينان الساذجتان البريئتان المطلتان من ثقبي النقاب، عينا طفلة في السادسة عشرة، لا تعرف شيئًا في الحياة، تابعت حركة يديه وهو يرفعهما إلى أعلى، وهتفت بصوتٍ طفولي: من فوق؟ من أين؟
وحرك مسئول المباحث رأسه إلى أعلى قائلًا: من عند ربنا، وفجأة رأينا «بدور» تنتفض رافعةً يدها إلى أعلى: أستغفر الله العظيم، الله جل جلاله لا يصدر تعليمات بالحبس في السجون، إنه الطاغوت، أخذه الله، ردت المنقبات في نفسٍ واحد: آمين.
وانفرجت شفتا الشاويشة دون أن تدري، وقالت هي الأخرى: آمين.
رمقها صلاح بيه بنظرةٍ غاضبةٍ وقال بلهجةٍ آمرة: اسكتي أنت، لا تفتحي فمك.
وقالت الشاويشة بصوتٍ خافت: أنا لم أقل شيئًا، أنا قلت آمين.
وانفجر غاضبًا يصيح: قلت اسكتي، لا تتكلمي وأنا موجود.
صبَّ على رأسها كل غضبه المكتوم، فهي مجرد شاويشة، في أسفل السلم الوظيفي ويمكن له أن ينفس عن غضبه فيها دون أن ترد. وفعلًا انكمشت الشاويشة والتصقت بالجدار.
ورفع هو رأسه منبسط الأسارير، وكأنما استعاد سلطته وهيبته، واستدار وخرج من باب العنبر إلى الحوش يرفع قدمًا فيرتفع كتفه إلى أعلى، ويهبط الكتف الآخر، ثم يدوس بقدمه على الأرض، فيرتفع الكتف الهابط، ويهبط الكتف الذي ارتفع. مفاصل جسمه وأطرافه كأنها مشدودة بخيوطٍ من أعلى المسرح.
ومن خلفه الطابور الطويل، يحاول كل منهم أن يمشي مشيته، وفي نهاية الطابور الشاويشة تحمل في يدها المفاتيح، خرجت وراءهم بعد أن أغلقت البابين الحديديين.
•••
عادت الضابطة شكرية، ومعها الشاويشة تحمل كرسيًّا خشبيًّا. جلست الضابطة على الكرسي، رأيت في يدها بعض الأوراق البيضاء وقلمًا. عدت الأوراق ورقة ورقة، ثم عدتنا واحدة واحدة.
وقالت: أربع عشرة واحدة أربع عشرة ورقة، لكل واحدةٍ منكن ورقة واحدة، تكتب الطلب الآن أمامي بالملابس التي تريدها، ثم تسلمني الطلب والقلم.
•••
تعودت أن أكتب، والكتابة تقطع الزمن كحدِّ السيف، والزمن في السجن يمتد طويلًا كأنه اللازمن، لكن لا أكتب إلا في الليل.
في النهار الحراسة علينا مشددة محكمة، يُغلق علينا بابان حديديان، لا نتحرك إلا داخل العنبر، أو في ذلك الحوش الترابي الصغير أمام العنبر. تخرج إليه من الساعة الثامنة والنصف صباحًا حتى الرابعة بعد الظهر. تحوطه أربعة أسوار عالية من فوق أسلاك شائكة، ألفُّ الحوش خمسين مرة في بضع دقائق، ثم أقف وراء الباب أنظر من خلال القضبان إلى السجينات وهن يسِرْن في الفناء بشعورهن الطويلة المنكوشة، وجلاليبهن البيضاء الطويلة الممزقة، تكشف عن أجزاء من أجسامهن، حاملات جرادل الماء على رءوسهن، سائراتٍ بخطواتٍ ثقيلةٍ بطيئةٍ كسربٍ من البقر المريض المساق إلى السلخانة.
واحدة منهن طويلة نحيلة، اقتربت نحو قضبان الباب، خداها عظامهما بارزة، على كل خد دائرة سوداء من الطين، عيناها واسعتان غائرتان في عظام الرأس كالخندقين العميقين، مقلتان سوداوان بارزتان فوق بياض العين، جمرتان مشتعلتان بوهجٍ أسود.
نار سوداء تطل من الرماد قبل الاحتراق النهائي أو الانطفاء الكامل.
من وراء القضبان حين أقف نفذت المقلتان المشتعلتان إلى عيني. كاللهب الحارق أحسستهما بين الجفن والعين.
أمسكت بيديها قضبان الباب، أظافرها طويلة مدببة، وبين الظفر واللحم مساحة من الطين الأسود. وشعرها منكوش طويل، كامرأة من أهل الكهف عاشت في بطن الأرض قرونًا، واشتعل عقلها بنار مجنونة لم تجد لها منفذًا إلا الثقبين في عظام الرأس.
شهقت بصوتٍ كالزفير الطويل: رغيف، هاتي لها رغيفًا، تلفتُّ حولي متسائلة: لها؟
أشارت بإصبعٍ مدبب إلى صدرها، وقالت: هاتي لها رغيف.
تخاطب نفسها، وكأنها شخص آخر. انفصام في الشخصية يُعالج به الإنسان الألم الفادح، متوهمًا أن الألم يحدث لشخصٍ آخر، وليس له هو.
لكن ليس في عنبرنا خبز، لا زلنا في أول الصباح، والشاويشة نبوية لم تحضر الخبز بعدُ. في الأيام الأولى كان لكل واحدةٍ منا رغيفان في اليوم. قدمنا احتجاجًا لإدارة السجن، أصبح لكل واحدة ثلاثة أرغفة من الخبز الملكي، وليس ذلك الخبز القديم أو الخبز الميري.
في اليوم الأول لم آكل منه شيئًا، فتحت الرغيف فرأيت الدود الأبيض والسوس الأسود كرءوس الدبابيس ملتصقًا بلبابة الخبز، وعلى صحن الفول أيضًا رأيت عددًا لا نهائيًّا من تلك الكائنات الدقيقة السوداء والبيضاء طافية على السطح.
ظل الصحن بالفول، ومن فوقه الرغيف بجواري، طول النهار وطول الليل حتى الفجر، فتحت عيني على صوت فتاة من المنقبات تتوضأ لصلاة الفجر. أسفل الجدار رأيت صحن الألومينيوم من فوقه الرغيف والصراصير والخنافس تجري من حوله. اختفت في شقوق الجدار ما إن أحسَّت بقدمٍ تدب إلى جوارها. رأيتها وهي تنثني فوق الصحن، وسمعتها وهي تمضغ الخبر، وابتلعت قليل من الماء وهي تهمس لنفسها: الجوع كفر.
أسفل الجدار وفي المكان نفسه، عثرت على رغيف قديم جاف كقرص من الأسمنت. اختطفته من فوق الأرض وعُدت أجري إلى الحوش، لم أرهما. الجمرتان في عظام الجمجمة، رأيت ظهرها المحني، وهي تجري وتعرج ومن خلفها الشاويشة بالعصا الخيزران: لا تقتربي من عنبر السياسة يا شحاتة يا بنت الشحاتة، إلهي ربنا يأخذك ويريح السجن منك.
ثم ألقت العصا، بصقت على الأرض، ومسحت فمها بكفها، دخلت الحوش ومن خلفها مساعدتها «ذوبة» تحمل فوق صدرها صفًّا طويلًا من الأرغفة، ومن فوقه صحن كبير من الألومونيوم.
هتفت «ذوبة» بصوتٍ مرحٍ، وهي تبتسم كاشفةً عن صفين من الأسنان الصغيرة الشديدة البياض في وجهٍ شديد السمرة: اثنين وأربعين رغيفًا، بالتمام والكمال كل واحدة ثلاثة أرغفة. والصحن ملآن بالفول حتى الحافة. كل هذا لأجل خاطر ماما نبوية، وخاطركم يا ستات يا سياسيات.
اختطفت من فوق صدرها رغيفًا، وجريت نحو باب الحوش. رأيت المقلتين السوداوين تلمعان من بعيد في الفناء، مختفية وراء جدار، تطل برأسها ثم تختفي، وعيناها تلمعان لحظة خاطفة وتختفيان، كنجمين يبرقان ثم ينطفئان.
وهتفت بصوتٍ عالٍ: تعالي، لا تخافي.
سمعت الشاويشة نبوية صوتي، وكانت داخل العنبر مع ذوبة يوزعان الأرغفة على الزميلات، فأقبلت تجري مهرولة وهي تقول: أرجوك يا دكتورة، ممنوع الكلام مع المسجونات، سيأتي ضابط المباحث حالًا، وإذا رآها تكلمك فلن يفوت اليوم على خير.
قلت: هذه المرأة تكاد تموت من الجوع، انظري إلى عينيها، نار الجوع مشتعلة في عينيها.
وقالت الشاويشة: أتصدقين أنها ستأخذ الرغيف لتأكله؟ إنها تلقيه في القمامة، ثم تجلس وتنبش التراب وتأكله. إنها امرأة مجنونة، انظري! إنها تضحك من بعيد وليس في فمها إلا ثلاثة أسنان.
فرشت الشاويشة البطانية على أرض الحوش، وجلست. وقفتُ إلى جوارها أراقب المرأة من خلال قضبان الباب.
رأيتها تجلس على الأرض، تنبش التراب بأظافرها الطويلة، وتغني بصوتٍ عالٍ:
وضحكت الشاويشة: إلهي ربنا ياخدك يا بت يا صباح. والنبي أنت مكانك السراية الصفرا، وليس السجن.
تربعت إلى جوار الشاويشة، وأسندت ظهري إلى الجدار.
وقلت: ولماذا هي في سجن؟ ما جريمتها؟
وقالت نبوية: جريمتها تسول. تخرج من السجن تتسول في السيدة زينب، ثم تدخل السجن تتسول، وتدور في الفناء طول النهار والليل تعرج، أو تجلس تنبش التراب وتغني. امرأة مجنونة، عقلها طق. كانت هنا في عنبر المتسولات، قبل أن تأتوا، أخلينا العنبر لكم. المتسولات ليس لهن إلا كشك صغير في الفناء لا يتسع لهن، يرقدن في الفناء والواحدة منهن تبول على نفسها وهي جالسة أو راقدة. عيشتهن تصعب على الكافر، إلا هذه المرأة المجنونة. اسمعي ماذا تغني، وصوتها كئيب مثل نعيق البوم.
أرهف السمع لألتقط كلمات الأغنية. صوتها مليء بشجنٍ عجيب. صوت مبحوح يبدأ عاليًا ثم ينخفض، كحبال صوت تتمزق، ثم يرتفع كوترٍ مشدود، ويشتد عذوبة ويرق حتى ينقطع، ولا أسمع إلا حشرجة أنفاس مشروخة متقطعة.
وأخفت الشاويشة فمها وهي تضحك، وقالت: لا أعلم، اسألي الدكتورة، دمعت عيناها من الضحك، ومسحت عينيها بكفها، وهي تقول: اللهم اجعله خيرًا يا رب، اللهم اجعل كلامنا خفيفًا على قلوبهم.
وتساءلت الفتاة المنقبة: من هم؟
وواصلت الشاويشة، وهي تضحك: أرواح الجان يا ابنتي. فهذا السجن مليء بأرواح الجان.
رفعت الفتاة النقاب عن فمها، وبصقت في فتحة العباءة وهي تقول: اللهم احمنا شرهم.
وبدأت مدخنة السجن تقذف علينا الدخان الكثيف الأسود. والشاويشة لا تزال تضحك وأنفاسها تتقطع بضحك مكتوم كالنشيج، وتمسح عينيها الدامعتين من فرط الضحك بمنديلٍ أبيض أخرجته من جيب معطفها الرمادي. مسحت به جبهتها وأنفها وخديها، ثم بسطت المنديل تحت عينيها، فإذا به قد أسود.
كفت عن الضحك، وقالت بأسًى: نهارك أسود يا صباح مثل وجهك، ومثل هذا الهباب الأسود الذي تردمنا بها المدخنة كل يوم، متى تتوب عليَّ يا رب من هذا السجن؟!
كانت ذوبة قد خرجت من العنبر، ووقفت إلى جوار الشاويشة بقدميها الحافيتين، وقامتها الطويلة النحيلة داخل جلبابٍ أبيض مفتوح عند الصدر، يكشف عن شقٍّ عميقٍ بين نهديها النافرين السمراوين.
وهتفت ذوبة رافعة يديها إلى السماء: متى تتوب علينا كلنا يا رب؟!
رفعت الفتاة المنقبة عينيها من فوق المصحف، وقالت: سيتوب الله عليك حين ترتدين النقاب.
وضحكت ذوبة وهي تجلس على الأرض: والله يا رب لو خرجت إفراج في الجلسة غدًا لأرتدي النقاب وأتوب.
ولكزتها الشاويشة في كتفها: والله لو تابت كل بنات الدعارة، فلن تتوب ذوبة، إنها بنت حرام وأبوها ابن حرام.
اعترضت ذوبة: لا يا ماما نبوية، كله إلا أبويا، أبويا كان رجلًا طيبًا ابن حلال، لكن ابن الحرام هو زوجي، إلهي ربنا يأخذه ويأخذ أمثاله.
وأخرجت من جيب جلبابها سيجارة. نفثت الدخان من أنفها وهي شاخصةً بعينيها نحو السماء، رأسها مرفوع يكشف عن عنقٍ طويلٍ أسمر، لمع في الضوء كعنق من الأبنوس، تمثال في متحف لرأس شاب زنجي من عصور الرق.
مساحة السماء المطلة من فوق الأسوار تغطِّيها سحابة رمادية بلون الدخان. ينفذ منها شعاع شمس، يجتاز الأسلاك، ويهبط على السور متعثرًا فوق النتوءات الحجرية، متعرجًا مع الشقوق، يستقر على شكل دائرة من اللون الذهبي إلى جوار قدمي، وأنا جالسة على الأرض، والرغيف ما زال في حجري، وصباح المتسولة لا تزال تنبش التراب وتغني.
مددت قدمي، الشعاع فوق ساقي ساخن يحرق كشعاع من اللهب. سحبت قدمي، رفعت يدي أمام وجهي، وبدأت أحركها كمروحة، لكن الهواء لا يتحرك. لا يدخل أنفي هواء، وإنما ذرات صغيرة سوداء تحرق غشاء الأنف، وتتطاير في الجو كرمال في صحراء سوداء، أو رذاذ ماء في بحرٍ من القطران.
مسحت وجهي بالمنديل الأبيض فأصبح أسود. الصوت المبحوح لا زال يرن في أذني، والكلمات كالشهيق المذبوح محمولة فوق الهواء الساكن. تتحرك مع ذرات الدخان الأسود، وتدخل أذني كسائلٍ مضغوط من الغاز السام:
وسمعت صوتًا غريبًا إلى جواري، كمصمصة مئات الشفاه في مأتمٍ ضخم. ورأيت الزميلات المنقبات جالسات على الأرض، ظهورهن إلى الجدار، رءوسهن منكسة فوق صدورهن. والشفاه تتحرك بتلك المصمصة الغريبة.
ورفعت فتاة رأسها المغطى بالنقاب الأسود نحو السماء، وقالت: كل شيءٍ بأوان، ولن تخرج من هنا إلا حين يأتي الأوان وبإذن الله.
وهتفت الأخريات في نفسٍ واحد: كله بإذن الله.
ورن صوت فتحية القتالة من وراء قضبان الباب: افتحي يا نبوية.
امرأة طويلة ترتدي جلباب المسجونات الأبيض، وعلى رأسها صينية. دخلت إلى الحوش وأغلقت الشاويشة الباب، رفعت الصينية من فوق رأسها، ووضعتها على الأرض أمام الشاويشة. حركتها تشبه حركة ابنة عمتي نفيسة وهي ترفع عن رأسها زلعة الماء، وتضعها على الأرض دون أن تسقط منها قطرة ماء. عظامها قوية، عضلاتها قوية، رأسها مرفوعة في كبرياء. كشفت الغطاء عن الصينية. صحن كبير مملوء بالملوخية حتى الحافة، لم تسقط منه قطرة واحدة، دجاجة محمرة في صحنٍ آخر. بطاطس محمرة وباذنجان مخلل وأرز مفلفل ورغيفان وكوب شاي مملوء، حتى الحافة لم تسقط منه قطرة واحدة، وإبريق مليء بالماء وصابونة وفوطة.
شمرت الشاويشة كمي المعطف، وغسلت يديها. أمسكت الدجاجة، وهي تقول: بسم الله الرحمن الرحيم، تفضلوا معي يا ستات.
ردت الزميلات في نفس واحد: بالهنا والشفا يا شاويشة.
استغرقت الشاويشة في الأكل. عن يمينها تربعت فتحية القتالة تهش الذباب عن الطعام بالفوطة، ذوبة نهضت لتمسح العنبر ودورة المياه، الزميلات المنقبات جالسات في أماكنهن على الأرض. ظهورهن إلى الجدار، عيونهن على المصحف، وشفاههن تتحرك بسرعة ودون صوت.
ولم ينتبه إليها أحد وهي تقترب من قضبان الباب. لمحت الجمرتين المشتعلتين كالنجمين يبرقان. مددت لها ذراعي بالرغيف من بين القضبان، اختطفته بأصابعها الطويلة ذات الأظافر المدببة كمخالب الحدأة، فتحت فمها كاشفة عن ثلاثة أسنان أمامية صغيرة، كفم طفل لم تكتمل أسنانه بعد. عيناها تلمعان كعيون الأطفال، أطلقت ضحكة كالشهقة، واستدارت تجري وهي تعرج وتغني.
•••
صوت صباح المتسولة، وهي تغني يذكرني بصوت عمتي زينب.
كنت تلميذة بالمدرسة الثانوية حين ماتت بالكوليرا سنة ١٩٤٨م. قبل أن تموت كنت أسمعها تغني، وهي جالسة على الأرض الترابية في حوش الدار، ظهرها إلى الجدار وفي حجرها طفلها يرضع. بعد أن ماتت رأيت جدتي تجلس مكانها وفي حجرها الطفل تغني له، وتعطيه ثديًا ضامرًا ليس فيه قطرة لبن.
الحوش الترابي هنا يذكرني بالحوش في دار جدتي، لهجة السجينات الريفية كنساء قريتي كفر طلحة، أقدامهن الحافية المشققة، أيديهن السمراء المعروقة. ذكريات طفولتي صورة واحدة ممتدة في الماضي، حتى الحاضر دون زمن أو فواصل. تنتهي الصورة فجأة كأنما تبتر عند وجه ابني أو ابنتي أو زوجي، ثلاثة وجوه لم تعد تلوح لخيالي حتى وأنا نائمة.
كصورة على الشاشة تقترب من بيتي، وتكاد تكشف عن وجهٍ واحدٍ منهم أو حتى ظهره، ثم تنقطع فجأة، كأنما تمتد لها يد الرقيب بالمقص، يد حديدة كإرادتي، وقراري القاطع كحد السكين. قرار واعٍ أصدره عقلي الظاهر والباطن، أن أعيش السجن وكأنه حياتي منذ وُلدت وحتى أموت. لا أمل في الغد سوى أن أفتح عيني على هذه الجدران الأربعة، فأجدها أقل سوادًا. وشقوقها وثقوبها ضاقت والتحمت وابتلعت الكائنات ذات الأرجل المشرشرة. والثقب المسدود في المرحاض لم يعد مسدودًا، والثقوب في الدش انفتحت، ونزل منها الماء غزيرًا، والثقب في فوهة المدخنة ضاق وانسد.
في الأيام الأولى لم تكن آمالي في المستقبل تتجاوز جدران العنبر والمرحاض. وحين تخرج إلى الحوش الترابي الصغير تتسع آمالي لتشمل جدران الحوش. وأطل من بين قضبان الباب الحديدي على فناء السجن الكبير، وأحس بآمالي تتسلل إلى الفناء الواسع، وتلك الشجرة الضخمة بفروعها المتشعبة وأوراقها الخضراء الناعمة، ربما تلامسها أصابعي في الغد.
لم يكن عقلي حين يفكر في المستقبل يتجاوز أسوار الحوش أو أسوار الفناء. وكلما فتحت عيني على يومٍ جديدٍ، ورأيت شيئًا من آمال المستقبل تتحقق داخل المرحاض أو العنبر يهزني التفاؤل والمرح، وحين تم تركيب الدش وهبط رذاذ الماء الغزير على جسمي لأول مرة منذ دخولي السجن أخذت أغني، وأنا أغسل شعري بلحنٍ قديمٍ أحبه من الطفولة، ورائحة الصابون في أنفي، وطعم الماء في فمي لهما عذوبة لم أحسها منذ الطفولة، وملمس الماء له لذة عارمة فوق جسدي، وكأني لم أستحم منذ الطفولة، وصوتي أيضًا له عذوبة وهو يرن في أذني، وكأني لم أغنِّ منذ كنت طفلة.
سمعت الصوت في خارج الباب المكسور نصف المفتوح. ورأيت الثقبين الصغيرين في النقاب الأسود، ارتفعت اليد داخل القفاز الأسود بسرعة وأخفت الثقبين، واليد الأخرى سدت الأذن، وسمعتها تقول: أستغفر الله العظيم من كل ذنبٍ عظيم، الغناء حرام.
اتسعت عيناي في دهشة، حتى جدتي والدة أمي، التي ولدت من أم تركية وعاشت في عصر الحريم في بيت جدي، ولم أر شعرها طوال حياتي، ولم أرها تخرج من البيت إلا محمولة داخل نعش، كنت أسمعها تغني، وهي جالسة في الصالة الفسيحة على الشلتة الناعمة، قدماها داخل الجورب الصوفي ممدودتان فوق السجادة العجمي المزركشة، ورأسها الملفوف بالطرحة البيضاء يهتز وهي تغني. وكان جدي الرجل العسكري الصارم، وابن الشيخ الديني المتشدد يمر عليها، وهي جالسة، ويسمعها تغني دون أن يقول لها مرة واحدة إن الغناء حرام.
وبدا لي شكلها من خلال رذاذ الماء، وهي واقفة وراء ضلفة الباب المكسور، برأسها وجسمها الملفوفين بالسواد، ويد سوداء على أذنها ويد أخرى على عينيها كتمثال حجري من عصور الإقطاع الأولى والعبودية.
•••
حلم كان يداعبني وأنا واقفة من وراء الباب الحديدي، أنظر من خلال القضبان على السجينات السائرات في الفناء الواسع، أن أفتح عيني فأجدني واحدة منهن أسير في ذلك الفناء الممتد، حتى الشجرة الضخمة بفروعها المتشعبة الكبيرة، وأوراقها الخضراء تبرق وتهتز من بعيد.
تسمعني الشاويشة فتضرب صدرها بكفِّها السمراء المشققة، وتقول: بعيد الشر عنك يا دكتورة، هؤلاء كلهن من عنابر الدعارة والمخدرات والنشالات والمتسولات وكلهن بنات حرام.
وأقول لها ضاحكة: ولكنهن طليقات يسرن بحريةٍ في الفناء، ونحن هنا سجينات.
وتقول الشاويشة: شدة وتزول، كلها أسبوعين أو ثلاثة وتنتهي فترة التكدير، ثم ماذا في الفناء؟ لا شيء أكثر من هذا الحوش، تراب في تراب.
وقلت: هناك شجرة.
كانت فتحية القتالة تهش الذباب عن صحون الطعام أمام الشاويشة، فتنهدت وقالت: لك حق يا دكتورة، هذه الشجرة أذهب إليها كل يوم، وأجلس تحتها وكأني جالسة في الحقل أمام دارنا في البلد.
لكزتها الشاويشة في كتفها ضاحكة: أصلك فلاحة بنت فلاح، لكن هي دكتورة، لا تعرف الحقل ولا الدار في بلدكم الفقرانة.
ضحكتها تشبه ضحكة جدتي الفلاحة أم أبي.
نظرت إليها فتحية بعينيها الصغيرتين، الآن فقط رأيتهما بريق يخطف البصر، ونظرة ثابتة قوية. الآن فقط أدرك أنها يمكن أن تقتُل، ظننت من قبل أنها عاجزة عن قتل بعوضة.
وقالت: بلدنا الفقرانة يا نبوية؟ يا شاويشة يا فقرانة.
تداركت الشاويشة قائلة: كلنا فقرانين، والفلاحون كلهم فقراء، والفقر ليس عيبًا، ما عيب إلا العيب.
وقال فتحية ضاحكة: ما عيب إلا القانون العيب، أليس كذلك يا دكتورة؟
قلت: صدقت والله يا فتحية.
يسمونها فتحية القتالة. في السجن تتشابه أسماء النساء، يفرقون بين الواحدة والأخرى بجريمتها، وتضاف الجريمة إلى اسمها كاللقب. يقولون: فتحية القتالة، أو فتحية دعارة، أو فتحية مخدرات، أو فتحية الحرامية، أو فتحية سياسة، إذا كانت السجينة تهمتها سياسية.
فتحية القتالة كانت تدهشني أحيانًا بحركاتها الممشوقة القوية، أو صوتها الواثق، أو كلامها الساخر، أو ذلك البريق الذي كان يكسو عينيها، فتذكرني بزينب ابنة عمتي الفلاحة.
وقلت لها: لي ابنة عمة تشبهك يا فتحية.
وضحكت: دكتورة مثلك أم فلاحة مثلي؟
وقلت: هي فلاحة، لكن لها عقل دكتورة؛ كانت معي في المدرسة الابتدائية، وكانت الأولى على الفصل، لكن أبوها زوجها لابن عمها الفلاح، جدتي الفلاحة أم أبي أرادت أن تزوجني ابن عمتي الفلاح. لو تزوجته لأصبحت مثلها تمامًا، فلاحة أشتغل بالفأس في الحقل.
وتنهدت فتحية: ما أحلى الشغل بالفأس في الحقل، لا أستطيع أن أعيش بغير فأس، الفأس هي حياتي منذ خرجت من بطن أمي.
وقالت الشاويشة ضاحكة: أصلك قتالة بنت قتالة، فتحية هذه التي تبتسم أمامك يا دكتورة كالملائكة ضربت زوجها على رأسه بالفأس، ثم قطعت جسمه قطعًا صغيرة جمعتها في شوال، وألقته في البحر ليأكله السمك.
وضحكت فتحية: ولماذا لا يأكله السمك؟ على الأقل تكون له فائدة أخيرة في الدنيا يكفِّر بها ذنبه قبل أن يلقى وجه ربه.
ثم نهضت من جلستها على الأرض رافعةً ذيل جلبابها، كاشفةً عن ساقين عضلاتهما نافرة قوية، وسارت نحو الباب تدبُّ على الأرض بقدميها الحافيتين، وتشمر أكمام جلبابها عن ذراعين قويتين: افتحي لي الباب يا نبوية، لا أكره في الدنيا قدر القعدة هكذا بدون فائدة.
رمقت بعينيها الصغيرتين الفتيات المنقبات، وهن جالسات ملتصقات بالجدار، مختفيات تحت النقاب والعباءات السوداء، أيديهن داخل القفازات ثابتة فوق المصاحف في حجرهن.
شوحت بذراعها وهي تخاطبهن: ما لكن يا بناتي ملفوفات في الكفن الأسود قبل الأوان؟!
ردت عليها واحدة وهي ترمق ذراعيها وساقيها العاريتين: حرام أن تكشفي ذراعيك وساقيك بهذا الشكل، وانثنت فتحية تتحسس ساقيها، وقالت: ذراعاي وساقاي حلوة لماذا أغطيها؟ افتحي يا نبوية، أريد أن أخرج من هنا، عندي أشغالي كثيرة.
كشفت ذوبة ذراعيها وساقيها هي الأخرى، وقالت: وأنا أيضًا يا ماما فتحية، ذراعاي وساقاي حلوة.
لكزتها الشاويشة في كتفها وهي تناولها المفتاحين الضخمين: قومي افتحي لأمك فتحية، أنت سوداء مثل الجواري، ولا أعرف كيف تمارسين الدعارة، وأنت جلدة على عظمة، وليس فيك لحم.
نهضت ذوبة وهي تمط عنقها بكبرياء، وتنفث الدخان من أنفها قائلة: أنا لا أمارس يا ماما نبوية، أنا عندي شقة وثلاث بنات، أنا قوادة على سن ورمح وأنت عارفة.
فتحت الباب وخرجت فتحية القتالة، أغلقت الباب وراءها، ثم عادت لتجلس إلى جوار الشاويشة.
لكزتها الشاويشة مرة أخرى: أنا لا أعرف حاجة عنك، ولا عن أي واحدةٍ معك في عنبر الدعارة. حدَّ الله بيني وبينكن، أنا لا أعرف إلا الستات المحترمات في عنبر السياسة.
ورمقتنا الشاويشة بعينيها الصغيرتين واحدةً وراء الأخرى، كأنما تعدنا. وفجأة صاحت: يا مصيبتي أنتن ثلاث عشرة فقط، أين الرابعة عشرة؟!
وجاء صوت الفتاة الصغيرة من داخل العنبر تقول: أنا هنا يا شاويشة، أكنس العنبر.
لكزت الشاويشة ذوبة في كتفها مرةً أخرى، وقالت: قومي يا ذوبة امسحي العنبر والدورة، واغسلي الملابس.
ألقت ذوبة عقب السيجارة من فمها، وأطفأته في التراب بقدمها الحافية، ونظرت إلينا وهي تقول: مَنْ عندها ملابس تريد غسلها؟
•••
لم أكن أعطيها ملابسي لتغسلها بعد الرياضة الصباحية، كنت أغسل ملابسي، وأنشرها على الحبل في الحوش قبل أن تهرب الشمس من فوق السور. تعودت أن أغسل ملابسي بيدي قبل أن أشتري الغسالة الكهربائية منذ عامين، وفي السجن أجد لذة غريبة في غسل ملابسي ونشرها على الحبل قطعة قطعة تحت الشمس.
لم يكن عندي مشابك، والهواء إذا هبَّ يطيرها فتسقط على الأرض التراب، ثم ألتقطها وأغسلها مرة أخرى. وحين تهب المدخنة تتساقط رقائق الهباب فوقها كاللطع السوداء، فأعود أغسلها من جديد.
طوال حياتي كنت أكره التكرار وأمله، لكن في السجن لم أمل غسل ملابسي مرة بعد مرة، وذراعي حتى الكوع في الماء ورغاوي الصابون تضربان الملابس بشدة، وأعصرها بقوة، ثم أنشرها على الحبل. أفردها قطعة قطعة حتى آخر المدى لتجف بسرعة، وأجلس أمامها شاخصةً إليها، فإذا سقطت قطعة جريت فأمسكتها قبل أن تلامس الأرض. فإذا لامست الأرض قبل أن أصل إليها كورتها بين يدي، وجريت داخل العنبر لأغسلها في الجردل، ثم أعود لأنشرها، وأجلس أراقبها بعينين يقظتين أحركهما من أول الحبل إلى آخره، وألتقط بعيني الهباب الأسود الطائر في الجو قبل أن يهبط فوقها. أرى الذرات الدقيقة تتحرك أمام عدسة عيني، وأشد عضلات عنقي لأثبت رأسي كأنني أنظر من خلال ميكروسكوب. أحاول أن أثبت عيني فوق الدوائر السوداء العائمة في الضوء، كدوائر الخلايا تحت عيني في معمل كلية الطب، لكنها ليست إلا لحظات وتتحرك عيناي بعيدًا عن الملابس المنشورة على الحبل لتنفذ من خلال قضبان الباب إلى الفناء الواسع. امرأة قصيرة نحيفة شعرها قصير أكرت، على وجهها آثار جروح قديمة، تشير إليَّ بأصبعها، لكن صوت الشاويشة الحاد يرن عاليًا: امشي يا حرامية يا بنت الحرامية، ممنوع الكلام مع السياسيات.
عينا الشاويشة لا يمكن أن يفوتهما شيء، جالسة في الحوش معظم الوقت، ساقاها ممدودتان، نحيلتان مشققتان، تدلكهما ذوبة بكفَّيْها الصغيرتين، لكنها ترى كل شيء من تحت الجفنين نصف المغلقتين.
وسمعتها تقول فجأة: ماذا تقولين في الرواية يا دكتورة؟
قلت بدهشة: أي رواية؟
غمزت لي بعينها وقالت: الرواية التي تكتبينها هنا عن السجن.
وضحكت: أنا أكتبها في الذاكرة، ليس عندي قلم وورق.
وهتفت ذوبة: هو أنت دكتورة في الطب أم في الكتابة؟
وردت الشاويشة: هي دكتورة في الطب والكتابة، لكن تهمتها الوحيدة هي الكتابة. لا هي في الجماعات الدينية، ولا هي في الأحزاب الشيوعية، ولا هي في أي حزب. يقولون عنك إنك كتبت كلامًا ضد السادات، صحيح يا دكتورة؟ وهتفت ذوبة وعيناها السوداوان تلمعان: ضد السادات شخصيًّا؟!
وقلت: ليس ضده شخصيًّا، أنا لا أكتب ضد أي أحد شخصيًّا. لي آرائي وأفكاري، المفروض أن البلد فيها ديموقراطية، وكل إنسان من حقه أن يكتب رأيه الحر.
وقالت الشاويشة: طبعًا، الناس لازم تكتب رأيها وتقول الحق، لكن كل الناس تخاف وتسكت. والكتابة يعني لها فائدة يا دكتورة؟ ما هي الكتابة كلام على الورق وخلاص، ولا ينوبك إلا دخول السجن، لكن على العموم كل شيء نصيب، ولنا نصيب أن نراك ونرى زميلاتك. كلكم ناس محترمين، لا يمكن يدخل عنبر السياسة إلا الناس المحترمة سواء في سجن النساء أو سجن الرجال. رأيت في عنابر الرجال وزراء وأكبر من الوزراء، ومن النساء السياسيات رأيت ستات محترمات. حتى اليوم تزورني واحدة منهن في كل عيد، ومعها هدية لي ولأولادي. العشرة في السجن لا يمكن ينساها الإنسان الأصيل. عنابر السياسة كلها ناس عندها أصل، لكن العنابر الأخرى: حرامية ومتسولات ودعارة وتاجرات مخدرات، وكلهم أولاد حرام إلا القتالات. أحسن ناس القتالات، الواحدة منهن تأتي من بيتها إلى السجن على طول لا تعرف اللف والدوران. والقتل غير كل الجرائم، القتل ليس جريمة، لحظة غضب وتفوت. القتالة تقتل لأجل أولادها وشرفها، لكن السرقة والدعارة والمخدران يدُرْن في الشوارع هنا وهناك، ويدخلن السجن ويخرجن عشرين مرة، ولا يمكن الواحدة منهن تتوب أو تعرف ربنا. ولا يمكن تعترف أنها عملت حاجة، كل واحدة تدخل السجن تقول أنا لم أعمل أي ذنب.
أتابع كلامها وأنا جالسة بالقرب منها فوق البطانية الرصاصية. بين أصابعي قطعة مدببة من الحجر أرسم بها على التراب رأس الشاويشة من الجانب، كانت قد أخرجت من جيبها مشطًا من العظم مربعًا أبيض. ناولته لذوبة، فكَّت المنديل الأبيض حول رأسها، وراحت ذوبة تمشط لها شعرها القصير الأكرت، وهي تواصل كلامها: «وإذا هي لم تعمل أي ذنب؛ لماذا يمسكها البوليس هي بالذات من دون خلق الله؟ لازم عملت حاجة، لكن فيه ناس تدخل السجن وهي مظلومة، وياما في السجن مظاليم. الناس الغلابة يدخلون السجن؛ لأنهم غلابة. الواحدة فيهم بريئة وجاهلة، ولا تعرف حاجة، لكن البريئة الجاهلة هي التي تدخل السجن. البريئة يحكمون عليها، لكن الواعية لا يمكن تقع، حتى في السياسة. واحدة دخلت عندي هنا في عنبر السياسة من ثلاث سنين. بريئة ولا تعرف حاجة في السياسة، مجرد خطأ في الاسم، حبسوا البريئة، والثانية الواعية هربت. تعرفين أخذوا كم شهر ليصححوا الخطأ وتخرج إفراج؟ ثلاثة شهور والله. وواحدة ثانية ليس لها دخل بالسياسة، زوجها رجل سياسي، مسكوه وحبسوه، وجدوا معه رسالة من زوجته كتبت فيها: أنا معك يا حبيبي حتى آخر العمر. مسكوها وحبسوها، وفي عنبر القتالات ياما مظاليم. الرجل يقتل ويهرب وتدخل أمه السجن أو زوجته أو أخته. الأم تفدي ابنها، وتقول أنا التي قتلت. والزوجة تفدي زوجها، الرجل يهرب من الجيش يمسكون أمه وزوجته. الرجل يشغل زوجته في الدعارة أو في المخدرات، وهي التي تدخل السجن. النساء غلابة يا دكتورة، يدخلن السجن من أجل غيرهن، حتى صباح الشحاتة، تدخل السجن لأن ضيفًا كبيرًا للسادات وصل مصر، يجري البوليس يلمها هي وأمثالها من الشوارع. يكنسن الشوارع من الزبالة ومن المتسولين لأجل خاطر الضيف الكبير يقول إن بلدنا نظيفة. تدخل صباح السجن أسبوعين وتخرج، ثم تدخل وتخرج، حالتها تصعب على الكافر وغيرها كثير، حتى هنا في عنبر السياسة.
والواحدة فيهم تدخل وتخرج ويمسكونها، كل ما يحصل في البلد حاجة، حتى البنت البريئة التي دخلت خطأ في الاسم. من يوم ما دخلت السجن كتبوا اسمها في القوائم غلط، وكل ما يحصل إضراب أو مظاهرة يمسكونها. مع الشيوعية يمسكونها ومع الجماعات الإسلامية يمسكونها، وهي لا شيوعية ولا مسلمة. أبوها نصراني وأمها مسلمة، لكن حظها سيِّئ والعياذ الله. يعني كان لازم يكون اسمها وداد إبراهيم فوزي، ينفع يكون اسم واحدة نصرانية أو مسلمة أو شيوعية أو حتى يهودية، لكن حظها سيئ. المسألة كلها حظ، ولا يمكن واحدة لها حظ تدخل السجن أو لها ظهر، أو لها رجل يحميها أو لها أطيان وفلوس. ولا حق ولا عدل ولا محكمة ولا قاضي. الفلوس هي كل حاجة، وتطلِّع أكبرها واحدة في الدعارة أو المخدرات براءة على طول، ولو دخلت السجن تدخل فترة قصيرة وتعيش في السجن ملكة.»
كانت ذوبة تحرك المشط العظم داخل شعر الشاويشة الخشن، تحك به جلدة رأسها، ثم تخرجه، وتلتقط من بين أسنانه الدقيقة قملة سوداء تضعها على سطح المشط الأبيض، ثم تضغط عليها بظفر إبهامها، محدثة طرقعة خفيفة، وبقعة صغيرة من الدم الأحمر فوق السطح الأبيض.
بين أصابعي لا تزال قطعة الحجر المدببة، أكتب بها على التراب حروفًا وكلمات بلا معنى، خط يتعرج كخطي وأنا طفلة.
الشاويشة رقدت على جنبها، وذوبة إلى جوار رأسها تمشط شعرها وتفليها، تبتسم في سعادة كلما عثرت بين أسنان المشط على قملة جديدة. تهرش رأسها وتواصل كلامها: «آه يا دكتورة لو رأيت الحاجة بديعة في عنبر المخدرات، حاجة تشرح القلب، تعيش ملكة. عندها في العنبر كل شيء، حتى التليفزيون الملون، وتكسب هنا في السجن أضعاف ما تكسبه خارج السجن، لكن كله من عند الله. المكسب من عند الله، والخسارة من عند الله. ربنا إذا أراد يسعد إنسان أعطاه مال قارون، حكمته أنه لا يعطي إلا من يستحق، والحاجة بديعة تستحق كل خير. قلبها طيب وكريمة، تزكي عن مالها وتصلي وتصوم وتعرف ربنا. وفي الأعياد تذبح الذبائح وتوزع على العنابر، وكل السجن يأكل. أنا مسكت عليها في عنبر المخدرات السنة اللي فاتت، ومن يومها وهي ترسل إليَّ الصينية، لكن كله من عند الله، وكل شيء نصيب.»
وجدتني أكتب على التراب ببوز قطعة الحجر: خطأ في الاسم ثلاثة شهور، عينا الشاويشة وهي راقدة تتابعان حركة يدي فوق التراب. هزت رأسها قائلة: لو ظهر ضابط المباحث الآن في الفناء ورآك من بعيد وأنت تكتبين؛ سيظن أن معك ورقة وقلمًا. ليس في باله ولا في خياله إلا الورقة والقلم. يطلبني في المكتب ويسألني، وأقسم له بالله العظيم أن عنبر السياسة كله ليس به لا ورقة ولا قلم، لكنه لا يصدق، دائمًا يشك، ومن صباح ربنا يلف السجن، ليس له شغلة ولا مشغلة. ولو رأى واحدة عرجاء أو حتى عمياء تنظر ناحية عنبر السياسة يمسكها ويفتشها، أو ينادي على الضابطة أو الشاويشة لتخلع عنها كل ملابسها ملط، وتفتش جسمها، ويا ويلها لو لقوا ورقة سيجارة فوقها كتابة بالقلم الرصاص أو قلم الحواجب، أي قلم والسلام، وأي كلام مكتوب، كلمتين مثل: كيف الحال، أي كلام فارغ، يا داهية دقي، هي تروح في داهية، والشاويشة تروح في داهية؛ لأن الشاويشة هي المسئولة، والشاويشة غلبانة أغلب من المسجونة، لكن المهم أن ورقة واحدة لا يمكن تكون موجودة، ولا يمكن كلمة واحدة مكتوبة تخرج من عنبر السياسة أو تدخل العنابر الأخرى ممكن إلا عنبر السياسة، كلمة واحدة مكتوبة في عنبر السياسة أخطر من الطبنجة.
الكتابة أخطر من القتل يا دكتورة، القتل عندنا هنا أبسط حاجة، والقتالات أحسن ناس، وكلهم غلابة. فتحية القتالة كانت فلاحة غلبانة تزرع بإيدها وتقلع، وزوجها راقد في البيت، تنبل من تنابلة السلطان، يأكل ويتقرع ويشرب الجوزة. في يوم رجعت من الغيط لقيته راقد فوق بنتها، عمرها تسع سنين، ضربته بالفأس على رأسه، وأخذت حكمًا بالسجن المؤبد، هي معنا هنا من عشر سنين، قلبها حنون ورقيق مثل النسمة، ولا يمكن نصدق أنها تقتل ناموسة، لكن حظها سيئ. ربنا رزقها برجل ابن كلب، لو أن ربنا رزقها برجل طيب كان زمانها في دارها وأرضها وبنتها في حضنها، لكن كل شيء نصيب.
أصابع ذوبة كانت في تلك اللحظة تطارد قملة مختبئة بين أسنان المشط، رفعت عينيها السوداوين نحو السماء، وقالت: لو كان ربنا رزقني برجل محترم لا يشغلني في الدعارة، كان زماني في شقتي وبنتي في حضني، ولو كان ربنا رزق سعاد الحرامية بأب محترم لا يكويها لتسرق كان زمانها ست محترمة في دارها، كل واحدة دخلت السجن هنا وراءها رجل ابن كلب، أب، زوج، أخ، عم، ابن عم، أي رجل، لكن ربنا هو الذي يرزق، وكل شيء نصيب.
لكزتها الشاويشة في كتفها قائلة: لكن ربنا لم يقل لأي واحدة تسرق أو تشغل دعارة أو بيع مخدرات، ربنا يرزق صحيح، لكن أعطى الإنسان عقلًا يعرف الصح من الغلط، أنا ربنا رزقني بأب فقير لم أدخل مدرسة، ولا أعرف أقرأ ولا أكتب، لكن عندي عقل يقول لي هذا حرام، وهذا حلال. ولأجل هذا أنا طلعت شاويشة، لماذا لم أطلع حرامية أو دعارة مثلك يا بنت يا ذوبة؟ الواحدة فيكم تعمل العاملة وتقول ربنا، ليس له ذنب!
وضعت ذوبة المشط على الأرض والقملة لا تزال بين أسنانه وشوحت بيديها قائلة: أيوة ربنا، كل شيء بإرادة ربنا، أراد لي الدعارة، بقيت دعارة، لو كان ربنا أراد لي أكون دكتورة كنت بقيت دكتورة، نظرت إليَّ ذوبة وقالت: ما رأيك يا دكتورة؟
كنت لا أزال أحرك أصبعي فوق التراب، وبينها قطعة الحجر المدببة، ووجدتني أرسم مربعين. داخل المربع الأول كتبت: ربنا ليس له ذنب، داخل المربع الثاني كتبت: ربنا له ذنب.
تأملت الشاويشة بعينيها الصغيرتين الحروف على الأرض، وقالت: ماذا كتبت؟
وضحكت وأنا أقول: كتبت أن السادات هو المسئول الأول.
ضربت الشاويشة على صدرها بيدها: يا مصيبتي! لو جاء الآن ضابط المباحث وقرأ ما كتبتيه، أروح أنا في داهية. مدت يدها السمراء المعروقة ومسحت الكلمات فوق التراب وهي تقول: وما فائدة الكتابة يا دكتورة؟ كلام في كلام ولا ينوبك إلا السجن، والسادات فوق السماء. ملك ولا الملك فاروق في زمانه! ولو طلب لبن العصفور.
ورفعت عينيها نصف المغمضتين نحو السماء. في هذه اللحظة انتفضت العصافير فوق الأسلاك الشائكة، وطارت في الجو مذعورة. وارتجَّت الأسوار بصوتٍ كالرعد أو الزلزال، ثم حجبت السماء طائرة هيلوكوبتر حلقت فوق رءوسنا لحظة خاطفة، ثم اختفت. لم أر إلا بطنها الرمادي، لمع في الشمس كالبطن الحبلى لحيوان مائي ضخم، أو حشرة خرافية مجنونة أجنحتها في رأسها تدور.
انتفضت الشاويشة واقفةً على قدمها، ودقت الأرض بقدم حافية أدخلتها بسرعة في الشبشب، ثم ضربت كعبها المشقق في الكعب الآخر، ورفعت يدها بأصابع مشدودة إلى جبهتها تؤدي التحية العسكرية أو البوليسية المألوفة منذ سلاطين الأتراك والمماليك.
وشهقت: السادات!
عاد الهدوء إلى السماء كما كانت، وعادت العصافير، ووقفت على الأسلاك الشائكة. وعادت الشاويشة، وجلست تربط شعرها بالمنديل، وهي لا تزال تلهث: السادات خارج من استراحته في القناطر، يا مصيبتي لو كان سمعني، تبقى رحت في داهية يا نبوية يا بنت زكية.
شوحت ذوبة بيديها: وكيف يسمعك السادات وهو فوق في السماء؟!
كانت ذوبة هي الأخرى قد انتفضت واقفةً حين سمعت هدير الطائرة، وزميلات العنبر أيضًا خرجن إلى الحوش مسرعاتٍ يرفعن عيونهن إلى السماء.
قذفت الشاويشة ذوبة بطوبة صغيرة وهي تقول: «اسكتي أنت يا بت يا ذوبة، أنت لا تعرفين شيئًا، أنا شاويشة وأعرف أكثر منك، دبة النملة هنا.»
(ودقت الشاويشة بيدها على الأرض.)
«دبة النملة هنا ممكن تتسمع في أي مكان في السماء أو الأرض. الدنيا تقدمت وكل شيء ممكن، واحدة دكتورة محترمة مثلك يا دكتورة قالت لزوجها كلمة، وهي راقدة في السرير في حجرة النوم. في اليوم الثاني كانت هنا في السجن معي، زمان ونحن عيال كنا نضحك على أمي إذا قالت: «الحيطان لها ودان.» لكن عشت يا نبوية، ورأيت بعينك أن الحيطان لها ودان بحق وحقيق.»
وتحركت عيناها الصغيرتان بغير رموش فوق الجدران تفحصها، تفتح عينًا وتغمض عينًا. وكانت الزميلات المنقبات قد جلسن في أماكنهن المعتادة في الحوش، يسندن ظهورهن إلى الجدار، وارتفعت العيون الصغيرة تدور حول الجدران من خلال ثقوب ضيقة في مساحاتٍ كبيرةٍ من السواد، وهتفن بصوتٍ واحد: الله فوق الجميع.
•••
سألتني الشاويشة وهي راقدة على جنبها: هل رأيت السادات شخصيًّا؟
قلت: نعم.
قالت: كم مرة؟
قلت: مرتين أو ثلاث، لا أتذكر.
قلت: وهل تكلمت معه؟
قلت: كانت اجتماعات كبيرة، ولم أتكلم معه، ولكني تكلمت في الاجتماع.
أغمضت عينيها، كأنها تنعس وهي تقول: أي اجتماع؟
ولم تفتح عينيها، لا بد أنها نامت. وتأملت وجهها الأسمر الطويل.
ثم شدَّت جفنيها فجأة وقالت بدهشة: ماذا قلت للسادات؟
وضحكت وأنا أقول: لا شيء، نامي يا شاويشة، وسأحرس لك الباب.
ابتسمت وأغلقت عينيها مرةً أخرى.
تذكرت ذلك اليوم منذ سنين بعيدة، قبل عام ١٩٧٠م؛ لأن جمال عبد الناصر كان لا يزال حيًّا. وفي أحد الاجتماعات الكبرى للاتحاد الاشتراكي دُعيت للحضور ضمن مئات من أعضاء النقابات المهنية. كنت عضوًا بمجلس نقابة الأطباء، وجلست في مقعدي مثل الآخرين أنتظر وصول المسئولين الكبار في الاتحاد الاشتراكي.
كنا حوالي ثلاثمائة أو أكثر من الأطباء والصحفيين والمحامين والمهندسين، وغيرهم من مختلف المهن في مصر. جلسوا في مقاعدهم أكثر من ساعتين في انتظار ظهور أحد على المنصة الضخمة في القاعة الرئيسية للاتحاد الاشتراكي.
كان أول اجتماع لي مع هؤلاء الكبار من أعوان عبد الناصر، وقلت لزميلي الجالس إلى جواري: موعد الاجتماع الساعة الحادية عشرة، والساعة الآن تجاوزت الواحدة ظهرًا، لا بدَّ أن شيئًا ما خطيرًا حدث ومنع حضورهم، وجاءني أغرب رد يمكن أن أسمعه، قال بهدوء كمن تعود على هذا الحال: إنهم يتأخرون دائمًا هكذا.
قلت بدهشة: غير معقول! وهؤلاء الناس لماذا ينتظرون؟
قال بهدوء: يخافون الانصراف.
وقلت متعجبة: لا أستطيع أن أصدق هذا.
وقطع حديثنا انتفاضة وقوف وتصفيق، ورأيت أنور السادات يدخل (كان نائبًا لرئيس الجمهورية) ومن خلفه كبار رجال الدولة والاتحاد الاشتراكي، وجلسوا إلى المنصة، وبدأ أنور السادات الاجتماع دون أن يذكر كلمة واحدة؛ لتبرير أو تفسير ذلك التأخير. وأدركت صدق الزميل، حين قال لي: إنهم يتأخرون دائمًا هكذا.
وانتهى السادات من كلامه، وبدأ الحوار بينه وبين الحاضرين. تكلم بعض رؤساء النقابات، ولم يشر أحدهم إلى موضوع التأخير. تكلم آخرون ولم يذكر أحد شيئًا عن ذلك الموضوع، وأدركت صدق الزميل، حين قال: إنهم يخافون الانصراف فما بال الكلام؟!
ورفعت يدي وطلبت الكلمة، وبدأت كلامي كالآتي: تكلم السيد أنور السادات عن المعركة، وأن اقتصاديات الحرب تستدعي الادخار في كل شيء، والعمل الجاد في جميع المواقع وزيادة الإنتاج في كل المجالات، لكني لاحظت اليوم أن أكثر من ثلاثمائة شخص تعطلوا عن أعمالهم أكثر من ساعتين في انتظار وصولكم إلى هذه القاعة، ويبدو أن هذه هي العادة المتعبة في مثل هذه الاجتماعات؛ لأنكم لم تذكروا شيئًا عن سبب هذا التأخير، وأني أطلب أن نحسب بلغة الاقتصاد والأرقام مقدار ما ضاع على الدولة أو الدخل القومي من جرَّاء مثل هذا التأخير.
ثم تحدثت عن نقاط أخرى تتعلق بزيف الشعارات وغياب الديمقراطية. كنت أتكلم بهدوء، وأدلل على ملاحظاتي بالأمثلة الواقعية التي نعيشها. لا أذكر تمامًا ماذا قال السادات، لكنه لم يرد على النقاط التي ذكرتها، تجاهل أيضًا موضوع التأخير، وقال كلامًا عامًّا معناه أنني أطلب الكمال أو المثالية، لكن المثالية أو الكمال ليست إلا صفات الله سبحانه وتعالى.
ودهشت، ودهش جميع الحاضرين؛ لأني لم أكن أطلب الكمال، ولكني كنت أطلب الحد الأدنى لاحترام الإنسان المصري أو الجماهير المصرية التي تُكدس في قاعات الاجتماعات وتُعطل عن الإنتاج.
قبل أن ينتهي الاجتماع أحسست بيدٍ تُوضع على كتفي، ومسئول كبير من وزارة الداخلية يدعوني لمقابلة مسئول أكبر في الداخلية. وقال لي المسئول: نحن في معركة، ولا نريد أي نقدٍ الآن.
وقلت: لكن المعركة تتطلب النقد الموضوعي؛ من أجل عدم تكرار الهزيمة.
واندرج اسمي في القائمة المغضوب عليها.
•••
فتحت الشاويشة عينيها وقالت فجأة: وزوجة السادات؟ يقولون هنا في السجن: إنها هي التي حرضت زوجها ضدك.
قلت: لماذا تحرضه ضدي يا شاويشة؟
وابتسمت الشاويشة في خبثٍ، وقالت: ألا تعرفين؟
قلت: لا أعرف شيئًا، وكيف أعرف وأنا داخل السجن؟!
دعكت الشاويشة عينيها بكفها السمراء المعروقة.
وقالت: يقولون إنها تغار من أي امرأةٍ أجمل منها، أو أذكى منها. هي سيدة مصر الأولى، ولا تريد أي امرأة أخرى تتفوق عليها.
قلت: من قال لك هذا؟
رمقتني بعينيها الضيقتين، وابتسمت بمكرٍ، وقالت: يا دكتورة، ألا تعرفين كل هذا؟
قلت: لا أعرف.
قالت: ويقولون إنك كتبت شيئًا ضدها.
قلت: لا أذكر أنني كتبت شيئًا ضدها شخصيًّا، لكني ضد أن تكون زوجة الحاكم هي السيدة الأولى. هذا تقليد أمريكي، وأنا ضد التقليد، كما أنه يضع وظيفة الزوجة أو زوجة الحاكم فوق جميع الوظائف الأخرى. هناك نساء مصريات لهن جهود أكبر من زوجة الحاكم، ولهن منزلة في قلوب وعقول الشعب المصري أكثر منها. المفروض أن تُكرَّم المرأة بسبب جهودها، وليس لأنها زوجة رجل له نفوذ وسلطة.
وقالت الشاويشة: كل يوم نقرأ في الجرائد عن نشاطها، إنها تبذل جهودًا كبيرة أيضًا.
قلت: لم نسمع عن نشاطها إلا بعد أن تولى زوجها الحكم، ولا أدري هل يستمر نشاطها بعد أن يذهب عن الحكم؟ ثم ما نوع هذا النشاط؟! وهل فعلًا يغير من وضع المرأة أو يحل مشاكلها، وخاصةً المرأة الفقيرة التي تشتغل في البيت وخارج البيت؟!
شوحت الشاويشة بيديها السمراوين، وقالت: الناس الفقراء مثلنا مطحونون، وليس لنا إلا الله. يقولون إنها في الحفلات ترتدي جواهر بآلاف الجنيهات، أكثر من جواهر الملكة فريدة في زمانها. والله يا دكتورة نحن شعب غلبان، تعود على الذل، وعلى الضرب بالكرباج.
تلفتت حولها وأطبقت شفتيها، ثم همست بصوتٍ خافت: يا مصيبتي، لو كانت الحيطان لها وادن بصحيح.
ثم ضحكت وأحكمت المنديل حول رأسها، وهي تقول: وإذا سمعوني ماذا يفعلون لي؟ لا شيء أكثر مما أنا فيه، ثم مصمصت شفتيها: وهل يسخطون القرد أكثر مما هو قرد؟ حملقت فيَّ بعينيها الذابلتين، وقالت: ولكني أخاف عليك أنت.
قلت: لا تخافي يا شاويشة عليَّ.
قالت: كيف لا أخاف عليك؟ سببوا لك أضرارًا كثيرة. عرفت ذلك من ابنة أختي، طالبة في كلية الطب، قرأت كتبك كلها، وعرفت أنهم رفدوك من عملك، ومنعوك من النشر، حتى مجلة «الصحة» قفلوها. وكانت تواظب على قراءة مجلة «الصحة»، وكل كلمة تكتبينها في مجلة نقابة الأطباء أو أي جريدة، وتابعتك لما تطوعت مع الفدائيين الفلسطينيين في الأردن بعد الهزيمة وفي القنال، وفي الإسماعيلية. لا يمكن يفوتها شيء أو كلمة تكتبينها، ولما عرفت أنك في السجن معي هنا أرادت أن تأتي معي لتراك، أمنية حياتها أن تراك. وعَدْتها أنه بمجرد أن تخرجي إفراج إن شاء الله أن أزورك أنا وهي في بيتك بإذن الله تعالى. يا رب يفرجها عنك وعن كل زميلاتك، يا دكتورة.
رفعت يديها إلى فوق، ثم أمسكت رأسها، وظلت تحملق في الفراغ طويلًا، كأنما تصلي في صمت.
ثم نظرت نحوي، وقالت: ابنة أختي تقول لي دائمًا إنها ستكون دكتورة مثلك، تريد أن تكون مثلك في كل شيء.
وضحكت وقلت: فيما عدا أن تدخل السجن، وانفجرت شفتا الشاويشة الجافتين عن ابتسامة، وقالت: وماله السجن يا دكتورة، السجن شرف في هذا الزمن، شرف والله العظيم، ونعمة من عند الله، نعمة وأي نعمة! نشكرك يا رب.
وقبَّلت كفها ظهرًا وبطنًا، ثم نادت على ذوبة: يا بت يا ذوبة، أين أنت يا بت؟
•••
أحضرت ذوبة جردل الماء وصابونة وقطعة حجر، مدت الشاويشة ساقيها في الماء، بدأت تدعك لها قدميها المشققتين المسوَدَّتَيْن بالتراب والطين. رأسها الصغير يهتز بشعرها الطويل الأسود، بين شفتيها سيجارة، وأنفها من الجانب مرفوع بكبرياء، ينفذ الدخان من فتحتيه الصغيرتين، على طرف الأنف هبطت ذبابة سوداء، لم تكن ذبابة، دائرة سوداء بحجم حبة العدس بارزة فوق السطح، ما لبثت أن انتشرت فوق الخدَّيْن البارزين كطفح جلدي أسود. مسحت وجهها في كُم جلبابها الأبيض، فأصبح أسود، بصقت السيجارة فوق الأرض، وداست عليها بكعبها وهي تقول: لعنة الله على السجن ومدخنة السجن التي تصب علينا كل صباح زفت وقطران.
ملأت الشاويشة كفها بالماء ورشتها على وجهها قائلة: «لا تقولي زفت وقطران، ليس عندنا زفت ولا قطران، سجن القناطر الخيرية جنة، لو رأيت السجون الأخرى لحمدت الله، وقبلت يديك وجهًا وظهرًا. أنت يا بنت يا ذوبة لا تحمدي الله أبدًا، لو رأيت مصائب الناس هانت عليك مصيبتك. اسأليني أنا، رأيت أشياء تشيب لها الرأس، لا تقولي زفت ولا قطران، والمدخنة لا تشتغل إلا نصف النهار والدخان يطير في الجو، ولا يقرص ولا يعض ولا يحرق الجلد، ولا يوجع القلب، أنا رأيت أشياء توجع القلب، جلود تُحرق، عيون تُطفأ فيها السيجارة، بطون تُنفخ بمنفاخ. لا تقولي زفت ولا قطران، هنا نعمة، والله العظيم نعمة، لكن ماذا نفعل في بني آدم، لا يملأ عينه إلا التراب؟»
•••
الوقت الآن بعد منتصف الليل، وأنا جالسة أكتب فوق قعر الصفيحة. منذ دخلت السجن وأنا أكتب على ورق التواليت وورق السجائر. ورق التواليت ليس ممنوعًا، نشتريه بالبطاقة من الكانتين، والسجائر أيضًا.
لم أكن أدخن في السجن، خارج السجن كنت أدخن أحيانًا، لكن هنا قررت عدم التدخين. سمعت عن مساجين تضعفهم سيجارة، أو نفَس واحد في سيجارة، والدخان أيضًا يقطع النفس، وأنا أحتاج هنا لنفس طويل؛ فالمعركة أمامي لا تزال طويلة.
السجائر كانت عملة التبادل بدل النقود، كل خدمة تُؤدَّى لها مقابل عدد معين من السجائر، نعطي الشاويشة ومساعدة الشاويشة ذوبة، أو أي واحدة أخرى من عنبر الدعارة. يفحصها طبيب السجن، وإذا كانت خالية من الأمراض التناسلية يرسلونها إلينا بضعة أيام، ثم يغيرونها بواحدةٍ أخرى. لا تستمر الواحدة منهن معنا فترة طويلة، يخشون عليها من أفكارنا، أو تعاملنا الإنساني معها، فيصبح ولاؤها لنا أكثر من ولائها لهم.
ذوبة رأيتها مرة شاردة، وفي عينيها دموع. قالت لي: لن آتي في الغد، أرادوا أن أتجسس عليكم. رفضتُ لا أستطيع أن أخونكم، وقد أكلت معكم العيش والملح.
عيناها سوداوان فيهما لمعة ذكاء، وصراحة، واستقامة، وشرف.
ثم قالت: ولكني لا أستطيع أن أعيش بدون السجائر والبرشام، ماذا أعمل يا دكتورة؟ إذا لم آخذ هذه المخدرات لا أنام طول الليل، لا بد أتخدر حتى أنسى وأنام.
عيناها لا تزالان أمامي مليئتين بالدموع. في مؤخرة رأسي ألم حاد كرأس مسمار، آلام في ظهري المقوس فوق قعر الصفيحة، أصابعي تؤلمني، القلم متعب في الكتابة، قلم قصير أقصر من أصابعي، والورق خفيف شفاف، إذا ضغطت عليه بالقلم ينقطع، وإذا لم أضغط لا تظهر الحروف، والضوء من حولي خافت لا أكاد أرى، وتحت قدمي وضعت الصحن الألومونيوم لأرفعهما عن الرطوبة.
خنفسة سوداء صعدت فوق الصحن لتزحف على ساقي، ضربتها بقدمي.
نهضت الزميلات المنقبات ليصلين الفجر، خبأت أوراقي تحت البلاطة في ركن دورة المياه. عينان تنظران إليَّ من خلال ثقبي النقاب. «بدور» و«فوقية» يقولان عنها إنها جاسوسة تعمل لحساب المباحث، لكن عينيها فيهما استطلاع طفولي بريء، اسمها اعتدال. كالأطفال اقتربت مني، وقالت: ماذا تكتبين؟
قلت: قصة.
لمعت عيناها: قصة حب؟!
ضحكت وقلت: نعم.
ابتسمت في سعادة: أريد أن أقرأها، أنا مخطوبة لابن خالتي من ثلاثة شهور، ارتديت النقاب من شهر واحد؛ من أجله. هو يقرأ القرآن، ولكني لا أعرف القراءة، لم أدخل مدرسة، أريد أن أتعلم القراءة والكتابة. كل البنات هنا يقرأن إلا أنا؛ هل يمكن أن أتعلم القراءة؟
قلت: طبعًا، ما زلت صغيرة. كم عمرك يا اعتدال؟
قالت: ستة عشر عامًا.
ثم قالت في حماس: في كم يوم أتعلم القراءة والكتابة؟
قلت: في ستة عشر يومًا، كل سنة بيومٍ واحد.
وضحكت ضحكتها كالأطفال، طويلة متقطعة كالنشيج.
قالت: هل تعلميني؟
قلت: ليس عندي مانع.
عانقتني وهي تقفز بالفرح، والفرح كالعدوى ينتقل بسرعة. أحسست أنني الأخرى أصبحت مثلها طفلة يملأ قلبي الفرح. الآلام في ظهري اختفت، أحس بجسمي قويًّا نشيطًا. سرت إلى الباب ذي القضبان، نسمة الفجر تلامس وجهي منعشة رطبة، السماء لا تزال سوداء، لكن نور الشفق يزحف ببطء.
وفجأة سمعت صوت الكروان.
دق قلبي بعنف، قفزت فوق القضبان، أصعد عليها بقدمي الحافيتين، وأمد عنقي نحو السماء، أدس رأسي بين القضبين الحديديين.
لا أستطيع أن أراه، لكن صوته يهزني كأنه يناديني. صوت عذب حزين، يشق السكون، الناي المنفرد في الظلمة، تغريد كصوت الأم، كالدعاء، كالبكاء، كالضحكة الطويلة يطلقها طفل، أو صرخة وحيدة في الليل، أو النشيج الطويل المتقطع.
كل فجر أنتظره وأسمعه، وكل غروب أيضًا. لا يغرد الكروان إلا في السكون والظلام. لا يحلق إلا في هذه اللحظة الساقطة بين الليل والنهار، طائر وحيد في الكون.
أرفع رأسي إلى السماء، أريد أن أراه، لم أر في حياتي أي كروان، لكن السماء محاطة بالأسوار والأسلاك، والكروان يسمعه الإنسان في السجن دون أن يراه.
يكفيني أن أسمعه دون أن أراه، يكفيني أن أرى قطرة ضوء من نور الشفق وقطرة ندى، وأن تظل أصابعي قادرة على الإمساك بالقلم. لا يزال عندي ورق أحرك القلم فوقه، لا يهم أن أرى الكلمات، لا يهم أي شيء سوى أن تولد الكلمات فوق الورق، ويولد الفجر وتنقشع الظلمة.
ارتديت حذائي الكاوتش لأبدأ التمرينات الصباحية، حركة الجسم تعني الحياة. قوة الجسم تعني قوة العقل وقوة النفس، وفي السجن يحتاج الإنسان لمجموع قواه.
وسمعت من خلفي صوت أقدام حافية تقفز فوق الأرض. كانت هي اعتدال، أنهت صلاة الفجر، وخلعت النقاب والعباءة، وبدأت تحرك جسمها بالتمرينات الرياضية.
تصبب العرق غزيرًا، يغسل الأرق ويغسل التعب. ذابت كل أوجاع الظهر والعنق، وضعت جسمي تحت رذاذ الدش الغزير. الآن فقط أشعر بانتعاشٍ عجيب، كأنني ولدت الآن وفي هذه اللحظة شهيتي متفتحة لليوم الجديد، وجوع شديد وظمأ مجنون لكوب من الشاي.
•••
ذلك الصباح جاءت فتحية القتالة وفي يدها فأس، ناولته لي وهي تقول: ازرعي الحوش يا دكتورة، أنا زرعت الحوش عندنا في عنبر القتالات، وأصبح مثل الجنة. زرعت ملوخية وجرجيرًا وفجلًا وبقدونس وفولًا، ووردًا وزهورًا، خبطت الأرض بكعبها القوي، ثم قالت: الأرض عندكم كلها حجر، اضربي الحجر ببوز الفأس، وأخرجيه من الأرض، أرض القناطر خصبة، افتحي غويط، حتى تصلي إلى الأرض السوداء الحلوة.
ملمس الفأس في يدي له لذة، وحركة ذراعي صاعدة هابطة. أضرب الأرض بكل قوتي، العرق يتصبب غزيرًا، متعة كالنشوة تغزو جسدي وعقلي. منذ الطفولة لم أمسك فأسًا، كنت أتسابق إليه أنا وأخي، كان أكبر مني، وساقاه أطول من ساقي، لكني كنت أسبقه وآخذ الفأس. أحب هذه الحركة العنيفة لكل عضلات الجسم، وأحب رائحة بطن الأرض حين أشقها، والبذور أضعها بين الشقوق، الماء يجري في القناة الطويلة له رائحة الطمي، والحقول الخضراء الممتدة، والزرع الأخضر يلمع تحت الشمس.
كل إجازة صيف نسافر إلى قريتنا كفر طلحة، أقفز من الفرح أنا وإخوتي، ونظل طول الليل نحلم بالحقول وركوب الحمير ورائحة الخبيز والفطير، وجدتي وعماتي يغمرننا بالقبلات، وبنات عماتي يحملن الجِرار على رءوسهن، ونذهب معهن إلى النيل، نملأ الجرار ونصطاد السمك.
وكل إجازة صيف كنا نسافر أيضًا إلى بيت جدي في القاهرة. فيلا كالقصر تحوطها الحديقة الكبيرة، وكلب ضخم ينبح طول الوقت، وخالتي صوتها عالٍ حاد. تصرخ كلما رأتني أمشي بحذائي المتسخ فوق السجادة العجمي المزركشة، وتمسح بفوطة صفراء أكر الأبواب وكل شيء أدوس عليه أو ألمسه.
كنت أكره خالتي أخت أمي، وأكره القصر والسجاجيد، وأُكَر الأبواب اللامعة. وأحب عمتي الفلاحة، والحصيرة على الأرض أدوس عليها بحذائي، أرقد عليها وأتمرغ في التراب ولا يصرخ أحد. والأبواب بغير أُكَر تلمع، أمسكها بيدي فلا يمسحها أحد بفوطة صفراء، والحمارة أقفز فوقها وأسوقها إلى الحقل، تسير بي على حافة القناة، وتجري دون أن أقع.
•••
يد الفأس خشبية خشنة متعرجة ومن حولها يدي، تقبض عليها بكل قوتي. الحجر في الأرض لا ينكسر إلا بعد ضرباتٍ قويةٍ عنيفة. حجر أحمر وأبيض، أرفع الفأس عاليًا، ثم أهبط به فوق الحجر حتى ينكسر.
سال الدم من يدي، ربطت يدي بمنديلٍ أبيض، وواصلت الفحت. في أعماقي طاقة مخزونة منذ الطفولة، ولذة عارمة أحسها وأنا منهمكة، مستغرقة في إخراج الحجر من بطن الأرض.
كم ساعة ذلك النهار مرت وأنا أشتغل بالفأس؟ لا أدري، لكن الساعة كانت تمر وراء الساعة دون أن أحس، نسيت أنني في السجن.
ثم أفقت على صوت، رأيت «لطيفة» تنظر إلى وجهي المحتقن يتصبب منه العرق، والمنديل الأبيض حول يدي مبلل بالدم الأحمر. سمعتها تقول: كفَى، غدًا أكملي بقية الحوش، يدك تنزف.
قلت بعناد الأطفال: لا بد أن أكمله اليوم قبل الساعة الرابعة، قبل أن تغلق الشاويشة علينا باب العنبر.
قبل الساعة الرابعة بدقائق، كنت قد انتهيت من فحت الحوش كله. أصبح كالحقل الصغير المحروث، الحجر الأبيض والأحمر جمعته ذوبة خارج الحوش في كومٍ كبيرٍ ارتفع عاليًا، ثم ألقيت جسدي المنهوك على الأرض. صدري يلهث، المنديل حول يدي ملوث بالتراب والدم. رمقتني «لطيفة» طويلًا بعينين مذهولتين، وقالت: اليوم فقط عرفت المارد الجبار داخلك.
قلت، وأنا أسند ظهري المنهك إلى الجدار: اليوم فقط أشعر بالراحة، المارد المحبوس خرج.
•••
في الليل عادت الآلام إلى ظهري وعنقي. ومن تحتي أتحسس اللوح الخشبي الممدود فوق الشرائط الحديدية الممزقة. من فوقه المرتبة الكاوتش الرفيعة المسودة.
أدلك عنقي بيدي وترتفع أصابعي لأهرش رأسي. شيء ما صغير يزحف فوق جلدة الرأس، أحاول أن أمسكه قبل أن يفلت في ثنايات الشعر، أو يزحف من فتحة الجلباب ليهبط إلى ظهري.
في الأيام الأولى لم أكن أغمض عيني، تحررت منذ اليوم الأول من الأبراص والصراصير والفئران، إلا تلك الكائنات الدقيقة التي تلدغ فروة الرأس، أو تزحف في الليل تحت الملابس الداخلية، وتختفي بين ثنايا الجلد. ليالٍ كثيرةٍ مرتْ قبل أن أتحرر منها هي الأخرى، ثم انتصر وجودي على وجودها، فأصبحت أنام وكأنما هي غير موجودة.
لكني لم أكن أستغرق في النوم، ظهري فوق السرير لا يصبح أبدًا في وضع أفقي مستقيم. وتطل أجزاء من جسمي وأطرافي من بين الشرائط، وتكاد تلامس الأرض. النوم على الأرض كان أفضل لولا تلك الكائنات الزاحفة أثناء الليل من الحوش إلى العنبر. حيوانات صغيرة وحشرات تدخل من بين القضبان تموء وتصفِّر وتصوصر وتقرض وتقلب العلب والصفائح رأسًا على عقب.
حين قلت للشاويشة إنني لا أنام إلا فوق سرير خشبي مستقيم ذهبت وغابت، ثم عادت تلهث ومن خلفها ذوبة تحمل اللوح الخشبي. عثرت عليه في مخزن بالسجن، وقدمته لي هدية.
اللوح الخشبي كان طويلًا رفيعًا. يهتز مع أي حركةٍ من جسمي. لا أتقلب دون أن أصحو لأنهض وأغير وضعي فوق اللوح. وإذا تقلبت وأنا غائبة في النوم وجدت نفسي على الأرض، لكن جسمي بعد بضع ليالٍ أصبح يتقلب كما يشاء دون أن أسقط، ودون أن أصحو. أفتح عيني في الصباح، وأجدني راقدة كالمصلوبة فوق ذلك الصراط الطويل كواحدة من لاعبات السيرك فوق الحبال، أو فقيرة من الهنود ينامون على المسامير. أتأمل جسمي بإعجابٍ منقطع النظير لقدرته الخارقة على التكيف والنوم العميق تحت أسوأ الظروف.
•••
الليل في السجن أطول من النهار، لكن النهار أقبح من الليل. فالظلمة تخفي الشقوق المسودة، والقمامة في الأركان، وبصمات الأصابع وبقع الدم على المراتب والجدران والقضبان وأعمدة الأسرة ومواسير المياه وأبواب المراحيض والصنابير.
كان عندنا ثلاثة صنابير صفراء عتيقة؛ أحدها مخلوع، والثاني لا تهبط منه قطرة ماء، والثالث يخر الماء منه ليل نهار. وفي الركن ثلاثة مراحيض؛ أحدها مسدود لا يمكن استخدامه، الثاني بدون باب وبدون سيفون، والثالث له سيفون لا يشتغل، ونصف باب مكسور لا ينغلق، وفي سقفه الدش يخر سرسوبًا من الماء طول الوقت. أي واحدة فينا تستخدم المرحاض تحس بالماء يتساقط فوق رأسها من الدش، ومن تحتها تغوص قدماها في مياه المجاري الطافحة من ثقب المرحاض، والصراصير الكبيرة تتطاير حولها.
لم تكن «بدور» تدخل المرحاض إلا ونراها تقفز خارجه، قبل أن تكمل مهمتها صارخةً: صرصار.
ما إن نسمع صرختها، حتى نجري إليها وفي يد كلٍّ منا شبشبها شهرته في يدها كالسيف؛ استعدادًا لضرب الصرصار.
وفي يوم سمعنا صرختها وهي جالسة في الحوش، وظننا أن صرصارًا هجم عليها، وخلعنا الشباشب وتأهَّبنا للمعركة، لكننا لم نرَ صرصارًا وإنما رجل. لم تكن مرتدية النقاب وأفزعها أن يلمح رجلٌ شعرها العاري، وقفزت من الحوش إلى العنبر في خطوةٍ واحدة، وأخفت شعرها ووجهها تحت النقاب.
أصبحنا من بعد كلما سمعنا صرختها، وقبل أن تخلع الشباشب نسأل: صرصار أم رجل؟
انكفأت مرة على عتبة الباب، وهي تجري قبل أن يلمح شعرها رجل، فانكسرت سنتها الأمامية، وجرحت شفتها العليا، ولم يوقفها الدم النازف من فمها عن الجري، وإخفاء شعرها تحت النقاب.
في الأيام الشديدة الحرارة، كانت تجلس إلى جوار المنقبات في الحوش، وكلهن بدون العباءة وبدون النقاب. في حجر كل واحدةٍ منهن المصحف، وعينها على الصفحة، وعينها الأخرى على الفناء، وما إن يلوح خيال رجل من بعيد، حتى ينتفضن قافزات داخل العنبر ليرتدين النقاب والعباءات والقفازات.
في عنبر الدعارة المقابل لنا تحدث الانتفاضة نفسها، ولكن في الاتجاه المضاد، ويقفزن خارج العنبر كاشفات عن شعورهن الطويلة، يغمزن بعيونهن ويضحكن ويطرقعن باللبان.
في سجن النساء كان الرجل، أي رجل، وإن كان سجينًا عجوزًا جاء يجمع القمامة، كائنًا هامًّا يحدث ضجة خطيرة بين المنقبات من ناحية، وبين سجينات الدعارة من الناحية الأخرى. وكنت أرى الرجل، وهو يبتسم مزهوًّا بأهميته الجديدة حين يلمح الانتفاضة بين النساء والفتيات، سواء بالابتعاد والاختفاء، أو الظهور والاقتراب.
إلا أن الظهور والاقتراب من ناحية بنات الدعارة لم يكن يحدث في حالة الرجال المسئولين عن الإدارة. ربما لم يكن هؤلاء الرجال في نظرهن رجالًا، أو لعل الملابس البوليسية كانت تسلب الرجل حقيقته كرجل، أو هي السلطة أو الخوف من السلطة يكتسح أمامه المشاعر البشرية بما فيها الغرائز.
وكانت عينا ذوبة تمتلئان بالغضب والخزي حين ترى زميلاتها من عنبر الدعارة يتقافزن متزاحمات حول الرجل، وتهتف بصوتٍ حادٍّ: اختشوا يا دعارة!
تلوي واحدة منهن خصرها، وتضع يدها فوق ردفيها وتشهق صارخة: اسكتي يا تسول يا دعارة غلط، ثم تجري في الفناء وردفاها يتقافزان داخل البنطلون الجينز الضيق.
تقذفها ذوبة بطوبة وهي تصرخ: أنا لا أتسول هنا في عنبر السياسة، أنا آخذ نصيبي بعرق جبيني، وعنبر السياسة ستات محترمات يا حرامية، يا دعارة غلط.
تهز المرأة خصرها وردفيها وتصرخ: تمسحين عنبر السياسة بسيجارة يا شحاتة! أنا دعارة على سن ورمح، ولا واحدة هنا تقدر تقول عني حرامية.
ضربَتْها على ردفها امرأة نحيفة شعرها أكرت، وجهها عليه آثار جروح وصاحت: والحرامية مالها؟ أنا آخذ نصيبي بعرق جبيني، ولا أبيع شرفي، يا حشاشة يا بائعة المخدرات.
انتفضت امرأة سمينة بيضاء وصرخت: اخرسي قطع لسانك! مالها المخدرات؟! أنا أبيع حشيش، وأشتري حشيش بفلوسي وشرفي، لكني لا أسرق يا حرامية يا بنت الحرامية.
وبدأن يتبادلن السباب، وتمسك الواحدة بشعر الأخرى، ويتشابكن بالأذرع والأرجل في عراكٍ لا تفضه إلا الشاويشة بالعصا الخيزران.
•••
عيناها صغيرتان، الجفنان ملتهبان بغير رموش، لكن لهما قدرة غريبة على الملاحظة، أنفها أيضًا له قدرة على الشم، والشعر الأسود عند فتحتي الأنف يهتز كشوارب القط أو الأرنب، حين تقترب من ذلك المكان، حيث دفنَّا الممنوعات.
بدأت الممنوعات بالقلم والورق، ثم الصحف، وانتهت براديو ترنزستور بحجم علبة السجائر. كنا ندفنها جميعًا في حفرة في بطن الأرض. في ساعة التمام بعد أن تغلق الشاويشة علينا باب العنبر، تخرج الصحف نقرؤُها واحدة وراء الأخرى، ثم نحرقها في المرحاض، قبل أن تفتح الشاويشة الباب في الثامنة والنصف صباحًا.
تدخل إلى العنبر تتشمم رائحة الورق المحروق، وترمق بعينيها الصغيرتين الرقائق المفحمة السوداء كالهباب طافية على سطح مياه المجاري في الثقب المستدير، ومن حولها الصراصير.
وتلتقي عيناها بعيوننا، لا تقول شيئًا، وهي لا تقول شيئًا؛ فالأمر معروف، ولا شيء في السجن ممنوع، المهم أن يعرف الإنسان الطريق الصحيح.
وأصبحنا نتابع الأخبار في مصر والعالم. في الأيام الأولى لم نعرف شيئًا، كنا نلتقط الأخبار من أفواه السجينات السائرات في الفناء، وحين تدخل علينا ذوبة «أو من تنوب عنها» تحمل الأرغفة كل صباح نسألها الأخبار، بل قبل أن نسألها نحس من نظرة عينيها ورنة صوتها إذا ما كانت الأخبار تسوء أو تتحسن. والشاويشة نبوية أيضًا أو من تنوب عنها، رغم العينين الصغيرتين نصف المغلقتين القادرتين على إظهار عكس ما تبطن، استطعنا أن نكشف أعماقها، ونفك رموزها، ونفسر حركة رأسها، نظرة عينيها، الطريقة التي تفتح بها الباب كل صباح، يدها وهي تدفع الباب الحديدي لتدخل العنبر، رأسها وهي تطل من الباب، صوتها حين تقول لنا: صباح الخير يا ستات، جلستها في الحوش، اختفاؤها من الحوش، عودتها وهي تسرع الخطى، وحركة المفتاحين الضخمين في يدها.
حواس السجين كعصب الإبصار عند الأعمى، كعصب الشم واللمس والسمع، تولد لها إمكانيات جديدة خارقة للعادة.
وأصبحنا نعرف الوقت الذي سيحدث فيه التفتيش، قبل أن يحدث، واللحظة التي سيأتي فيها ضابط المباحث قبل أن يأتي. تدربت حواسنا الكامنة على التقاط أي حركةٍ غير عاديةٍ في الفناء الواسع. وأصبح وجه الشاويشة كالكتاب المفتوح نقرأ منه ما نشاء.
في الليل كنا نتجمع حول الراديو الصغير، نقرب رءوسنا من فم المذياع، صوته منخفض، البطاريات ضعيفة، وفجأة يرن صوت السادات، يرتفع صوت الراديو، يهدر الصوت كأنه شلال، أنفاسه تتقطع، أنفاسنا تتابع هذه الأنفاس، مصيرنا معلق بهذه الأنفاس، وبهذه الكلمات المندفعة كالقذائف.
وفجأة انقطعت أنفاسه وانقطع صوته تمامًا، وقفزت واحدة من المنقبات بفرحٍ قائلة: انقطع نفسه من الكلام ومات! قلوبنا تدق وعيونها تبرق، لكن واحدة أخرى تقول: البطارية هي التي ماتت، لا بد من شراء بطارية جديدة.
يعود الوجوم والكآبة. شراء بطارية للراديو مشكلة، لا يمكن شراؤها من كانتين السجن كالسجائر، لكن الشراء من السوق يحتاج إلى نقود، وليس في أيدينا نقود. قدمت كل واحدةٍ منا شيئًا من عندها ثمنًا للبطارية، واحدة أعطت حقيبة يدها الجلدية، واحدة قدمت حذاء، أعطيت أنا قطعة من ملابسي، وجاءتنا بطارية نصف عمر.
كانت خطب السادات طويلة، الخطبة الواحدة تستهلك بطارية، وحين ينقطع صوته فجأة نظن أنه أصيب بسكتةٍ قلبيةٍ وتبدأ قلوبنا في الخفقان، لكننا سرعان ما نكتشف أن البطارية هي التي أصيبت بالسكتة.
الراديو كان أهم عندنا من الصحف، نحرك المسمار فنسمع إذاعات العالم، أخبار الاعتقالات في مصر تتصدر أنباء العالم. السادات وضع معارضيه في السجون، ولا زال يتحدث عن الديمقراطية، حتى المذيع في صوت أمريكا يقول إن الديمقراطية في مصر ليست حقيقية.
العيون من حولي أراها تبرق، عينان من خلال النقاب تلمعان، وصوتها يقول بنشوة: العالم كله معنا ضد السادات؟ صوت واحدة تقول: أخبارنا في كل البلاد، أصبحت لنا أهمية عظيمة.
فرحة السجين بأنه ليس وحده، العالم كله يتابع أخباره وراء القضبان، العالم كله يعترض ويحتج!
كان الراديو الصغير بحجم كف اليد كالشيء السحري العجيب، يبعث الحياة والبهجة والتفاؤل. ما إن نسمع خبرًا في صفنا، حتى نصفق بحماس.
لكن الصحف كانت النقيض، ولم نكن نحصل إلا على الصحف المصرية. الصحف كلها ضدنا، تردد خطب السادات، تتهمنا بالفتنة الطائفية، والتآمر ضد الوطن.
ألصقوا بنا التهم دون محاكمة، وحكموا علينا دون تحقيق، ونحن في السجون، لا نستطيع أن نرد أو ندافع عن أنفسنا.
•••
من جريدة الأهرام ١٢ سبتمبر ١٩٨١م قصصت من الصفحة الثامنة قطعة ورق تحمل بعض السطور. سأحتفظ بهذه القصاصة معي إلى أن أخرج إلى التحقيق، سأواجه المحقق بما كتبته الصحف عنا قبل أن يُحقَّق معنا. وكانت القصاصة تحمل هذه السطور: مجلس الشورى يناقش تقريرًا عن خطاب الرئيس السادات؛ أكدت اللجنة في مجلس الشورى أنَّ قرار الرئيس بالتحفظ على بعض الأشخاص لم يستهدف أبدًا المعارضة، وإنما استهدف المتآمرين ضد مصالح الشعب، بدليل أن أعلى الأصوات في المعارضة الذين حملوا على النظام أعنف الحملات في داخل البلاد وخارجها لم يشملهم قرار التحفظ، وهم أحرار طلقاء ينعمون بالحرية والديمقراطية في عهد السادات البطل العظيم، وفي ظل دولة المؤسسات والقانون.
كيف يلصق بنا مجلس الشورى تهمة التآمر ضد الوطن دون تحقيق؟!
وضعت القصاصة في المخبأ تحت الأرض، سآخذها معي إلى جلسة التحقيق، إذا كان هناك تحقيق.
كل يوم ننتظر النداء على اسم واحدة منا للخروج إلى التحقيق، لكن اليوم يمر وراء اليوم، ولا خروج ولا تحقيق. وفي الليل نفرش البطانية على الأرض بجوار الباب ونجلس، تحاول كل واحدةٍ منا أن تتخيل أسئلة المحقق لها.
إذا كانت التهمة ملفقة؛ فلا بد أن تكون الأسئلة أيضًا ملفقة، نحاول أن نؤلف الأسئلة التي يمكن أن تُلفَّق لأي واحدةٍ منا، ونؤلف الإجابة أيضًا.
وقالت زميلة: إذا سألني المدعي الاشتراكي: لماذا آكل مرتين في اليوم بدل ثلاث مرات؛ بماذا أجيب؟
ردت زميلة أخرى: إذا سألك هذا السؤال، قولي له: ولماذا سموك المدعي الاشتراكي.
وردت زميلة: سموه المدعي الاشتراكي؛ ليبقى في البلد شيء من الاشتراكية.
وقالت واحدة: لم يبق من الاشتراكية إلا المدعي الاشتراكي.
وقالت واحدة أخرى: سموه المدعي الاشتراكي؛ ليدعي علينا زورًا وبهتانًا.
وقالت فتاة: حلمت بالأمس أنني جالسة أمام المدعي الاشتراكي، وقال لي أنت متهمة بقلب نظام الحكم، قلت له: هو الحكم ناقصني، هو مقلوب من غيري.
وقالت أخرى: كل ليلة أحلم بالمدعي الاشتراكي، وكل صباح أكحل عيني استعدادًا للخروج ومقابلته، أصبح هو الرجل الوحيد في حياتي.
ورنت الضحكات في العنبر، كل شيء من حولنا يبدو مضحكًا؛ السجن والقضبان، الوجوه البوليسية المشدودة، الصوت المتشنج في الراديو مانشتات الصحف. صورة الصفحة الأولى كل يوم. الفم المفتوح عن آخره، الأنفاس اللاهثة. قبضة اليد الملوحة في الهواء، الكلمات المختلطة برذاذ اللعاب، الاتهامات العجيبة، تصريحات وزارة الداخلية ومجلس الشورى والنيابة العامة والمدعي الاشتراكي.
أنعيش مسرحية كوميدية؟ فتاة في السادسة عشرة من عمرها لا تعرف شيئًا، متهمة بقلب نظام الحكم.
حين ترن الضحكات في الليل تتقطع صفارة الصراصير الحادة، تنتصب شواربها الطويلة، وهي تجري في الأركان، تتوقف لحظة دون حركة كأنما تتصنت. تضع واحدة يدها على فمها وتكتم الضحك قائلةً: لا تضحكوا بصوتٍ عال، ضابط المباحث يلف حول العنبر، يلصق أذنه بالجدار ويتصنت علينا، وتضحك واحدة: مسكين! يتعب نفسه على الفاضي.
وترد واحدة: نحن لا نهاجم الدولة. بالعكس لقد وقعنا كلنا في غرام المدعي الاشتراكي، وأصبحنا نحلم به كل ليلة، ونتكحل له كل صباح.
تنهض واحدة تصيح: قد يدخل علينا الآن يفتش العنبر.
تصرخ واحدة: تفتيش يا جماعة خبئوا الممنوعات.
– خبئوا الراديو، والوابور، والجرائد.
– وقلم الحواجب، وورق التواليت.
– واللي قالبة نظام الحكم تعدله.
ضحكاتهن وأصواتهن ترد في أذني كتلميذات في المدرسة الثانوية. عيونهن تلمع كعيون زميلاتي في مدرسة حلوان الداخلية منذ سنين بعيدة، حين كنا نطل برءوسنا من تحت الأغطية بعد أن يدق جرس النوم، وينطفئ نور العنبر، تتهامس وتضحك. كل اثنتين في سريرٍ واحد أو ثلاثة أو أربعة. وما إن نسمع وقع أقدام ضابطة الداخلية في الممر الخارجي، حتى تجري كل واحدة إلى سريرها، تدخل رأسها تحت الغطاء، وتغمض عينيها، مرهفة الأذنين لصوت حذائها «الكريب»، حين تدخل على أطراف أصابعها تتجسس على أجسادنا، وتفتش على أحلامنا، وتراقب حركة عقلنا الباطن ونحن نائمات، وتعدنا واحدة واحدة، وتتأكد أن كل واحدة منا قد نامت في سريرها، وأن صدورنا تعلو وتهبط بانتظام تحت الغطاء، فإذا ما لاح لها أن الحركة غير منتظمة شدت بيدها الغطاء؛ لتتأكد أن العينين مغمضتين في نومٍ حقيقي. فإذا ما لمحت رعشة فوق الجفن شدت البنت من ذراعها وساقيها أمامها إلى غرفة التأديب.
أما إذا كشفت الغطاء، ورأت بدل العينين الاثنين أربع عيون دقت جرس الإنذار، وصحت كل عنابر الداخلية على الفضيحة: أبلة «نظيرة» ضبطت جريمة، وأمسكت اثنتين نائمتين في سريرٍ واحد.
كنت طفلة في الثانية عشرة، ولا أعرف ما هي الجريمة، لكني سمعت من التلميذات الكبيرات أن خيالات جنسية تملأ رأس أبلة «نظيرة» طول الليل، تسبب لها الأرق والتوتر، فتنهض من سريرها بعصبية وتدور على العنابر، ولا تهدأ إلا بعد أن تمسك بنتًا أو اثنتين، وتلهب أقدامها العارية بالعصا الخيزران.
•••
لأول مرة وقعت عيناي على ضابطة السجن «شكرية» تذكرت أبلة «نظيرة» ضابطة الداخلية، الجسم الطويل النحيل، الظهر المحني، الرأس الطويل المدبَّب من الخلف، الشعر القصير الخشن، انقباضة عضلات الوجه، العصبية والتوتر، العينان الجاحظتان تتحركان بسرعة وتدوران حول نفسها كعيون حيوان محاصر. أنف طويل مقوس ومدبَّب كمنقار الحدأة، شفتان رفيعتان شبه متلاشيتين، ذقن مثلثة مدببة ومقوسة، ذراعاها، كتفاها، ظهرها، ردفاها، وساقاها كلها مقوسة.
لم نكن نرى لها فمًا وهي صامتة، مجرد خط عميق مشدود تحت الأنف كأنما بالسلك، لكن إذا تكلمت انشق وجهها فجأة عن ثقبٍ واسعٍ مستدير بغير أسنان.
حين كنت طفلة كنت أظن أن أسنانها سقطت من شدة التوتر والضغط على فكيها طول الوقت، كأنها تأكل أسنانها ولسانها، وصدقت الزميلات الكبيرات حين قلن إنها أكلت مرة قطعة من لسانها. ونظرت باستطلاع في فمها ذا يوم، لكنها كانت أطول مني وفمها أعلى من كتفي.
لكن في السجن رأيت أن كتفي أعلى من كتف الضابطة شكرية، وأستطيع أن أنظر في فمها، ورأيت أن لها أسنانًا مشرشرة صفراء، كأسنان مدمني الدخان أو المخدرات.
أشفقت عليها، تمنيت أن تفتح لي قلبها، وتحكي مأساة حياتها. قلت لها وهي تفتش حقيبتي يومًا: لماذا اشتغلت ضابطة في سجن؟ هل تجدين لذة في فتح حقائب الغير؟!
زمت شفتيها في غضب.
وقلت لها: تأكدي أنني لست ضدك، وأنا أعرف تمامًا أنك لست عدوتي، لكن عدونا واحد.
كلامي كان يفزعها، لكن أكثر ما كان يفزعها هو أن تراني أقفز في الحوش بالحذاء الكاوتش وبنطلون الرياضة القصير، حتى الركبتين، أرسله إليَّ زوجي مع ملابس الرياضة في حقيبةٍ صغيرة. كانت هي تؤمن أن ركبتي المرأة عورة، وخاصةً في السجن، لكنها على خلاف «بدور» كانت ترى أن الله هو الذي سيحاسبني في الآخرة، وأنها لا تتعدى على سلطة الله.
ما أفزعها حقيقةً أن عدوى الرياضة انتقلت من خلال القضبان إلى السجينات الأخريات في الفناء، ما إن يرينني أقفز في الحوش حتى يقفن أمامي صفًّا طويلًا ويقفزن مثلي. إذا رفعت الذراعين إلى أعلى ارتفعت الأذرع، إذا صفقت ويدي فوق رأسي صفقت الأيادي فوق الرءوس، إذا ثنيت جذعي ثنين جذوعهن، إذا رفعت رأسي إلى فوق رفعن رءوسهن، إذا قفزت في الهواء قفزن، إذا ضربت الأرض بقدمي ضربن الأرض بأقدامهن.
وإذا هتفت: واحد، اثنين.
هتفن معي: واحد، اثنين.
عرفت السجينات موعد رياضتي، الساعة التاسعة صباح كل يوم يتجمعن أمام الباب بجلاليبهن البيضاء الطويلة وأقدامهن الحافية، واقفات مستعدات. ما إن أبدأ حتى ينتظمن في الصف، ويبدأن معي حركة بحركة.
ظهرت الضابطة «شكرية» في الفناء على صوت التصفيقة الواحدة لمئات الأيادي في لحظةٍ واحدة. أفزعها الصوت، فانتفضت فوق كعبيها الرفيعين من الألومونيوم صائحة: كل واحدة تدخل عنبرها بسرعة.
لكن واحدة منهن لم تخرج من الصف، لم أكن أنهيت رياضتي بعدُ، وواصلت حركاتي وطابور السجينات يتبعها دون توقف.
دقت الضابطة بقدمها على الأرض بغضب، اقتربت مني، وقالت لي من خلال القضبان: هذا تحريضٌ على التمرد داخل السجن.
قلت: لائحة السجن لا تمنع الرياضة البدنية.
ولم أتوقف، وطابور السجينات لم يتوقف أيضًا، وفي صباح كل يوم في الساعة التاسعة تمامًا أراهن واقفات منتظرات، باسمات، مشدودات الأجسام، متأهبات.
وفي يوم تأخرت قليلًا عن الساعة التاسعة، فإذا بأصواتهن تناديني يا دكتورة، يا دكتورة، الساعة تسعة.
أجري إليهن ألهث كأنما على موعد، وأبدأ التمرينات، أحرك ذراعي وساقي بذلك الإيقاع المنتظم الذي يشبه الرقص، وأمامي أرى صفًّا طويلًا من الأذرع والسيقان، تتحرك في الهواء، وتضرب الأرض بالإيقاع المنتظم نفسه.
كأنما أجسادهن وجسدي شيء واحد، كأنما ليس بيننا القضبان والفواصل الحديدية، كأنما نحن جسد واحد.
وأحس خفقات قلبي تحت ضلوعي، وعرقي يسيل على وجهي ويدخل فمي. ملمسه على لساني له لذة حادة لاسعة، وفي رأسي لا يزال صدى الصوت والكلمات: هذا تحريض على التمرد داخل السجن! وأحس خلايا عقلي تتفتح على حقيقة، كأنما أدركها لأول مرة، أي حركة جماعية منتظمة وإن كانت مجرد الرياضة البدنية أو الرقص لها إيقاع في العقل والجسد، يشبه إيقاع الثورة أو التمرد.
كأنما اكتشفت الضابطة «شكرية» الحركة الكامنة في خلايا عقلي قبل أن أكتشفها أنا، وكانت أبلة «نظيرة» ضابطة الداخلية مثلها تمامًا، تفك طلاسم عقلي الباطن وأنا نائمة، وترى أحلامي قبل أن أراها، وتفهم حركة جسمي قبل أن يدركها عقلي.
•••
إلا أنه ليس إلا الحلم كالوهم، وسرعان ما تتفرق الأجسام المشدودة أو ترتخي، أو تجري مذعورة إذا ما لاحت العصا ذات البوز المدبب، وأجد نفسي واقفة وحدي وراء القضبان، أحملق في الفراغ، وفي قدمي حذاء الكاوتش. قد أواصل الحركة وحدي، لكنها تبدو لي بلا معنى، وأستدير لأدخل إلى العنبر، لكني ألمح الفأس فأسرع إليه بأملٍ جديد، أرفعه بكل قوتي إلى أعلى، ثم أهبط به لأضرب الأرض.
تكشف الأرض عن بطنها الخصبة السوداء، أساويها بكفي، أحس نبضها، دافئة تحت يدي كذراعي وساقي، رائحتها كرائحتي، رائحة الطمي والعرق يتساقط من الجسم، أنثر البذور من حولي، ثم أغطيها بالرماد كما أغطي جسمي، وأجري لأملأ الجردل وأسقيها حتى ترتوي.
سمعتني «فوقية» وأنا أطلب من «فتحية القتالة» بذور عنب وبرتقال.
شهقت وقالت: هل سنبقى هنا حتى تطرح الأرض عنبًا وبرتقالًا؟!
دهشت للسؤال، ربما نسيت أنني في السجن، أو لعلي وأنا أزرع لم أفكر في الحصاد. كثيرًا ما أكتب دون أن أنشر، الكتابة في حد ذاتها لها لذة والزراعة لها لذة. العمل في حد ذاته له لذة، وقلت: نبقى أو لا نبقى، المهم هو أن أزرع.
قالت: الزراعة بلا محصول ليست لها لذة، وليس لها معنى.
قلت: الزراعة عندي هدف في حد ذاتها، ولها لذة، ثم ماذا تقصدين بالمحصول؟
قالت: هل نبقى هنا حتى نأكل العنب والبرتقال؟
قلت: إذا بقينا نأكله، وإذا لم نبقَ يأكله من يأتون هنا بعدنا.
مطت شفتيها واستدارت، ودخلت العنبر.
لكنْ شفتاها الممطوطتان ظلتا أمام عيني، أرفع ذراعي بالفأس فوق رأسي عاليًا، وعيناي مرفوعتان إلى السماء، ثم أهبط به لأكسر الأرض. ظلت يدي مرفوعة في الهواء لحظة، وعيناي على السماء، ولاح لي وأنا أهبط بالفأس أنني لا أكسر الأرض، وإنما أكسر الزمن. أريد أن أقتل الزمن لأتخلص من العبء؛ عبء الانتظار، عبء الترقب، عبء إرهاف الأذنين، كل يوم وكل ساعة وكل لحظة، لذلك الصوت الذي ينادي اسمي.
كنت أظن أنني لا أنتظر، أنني وُلدت هنا وسأموت هنا، وأنني مشغولة طول الوقت بأشياء أخرى. ما إن تفتح الشاويشة باب العنبر حتى أجري إلى الحوش أنشر ملابسي التي غسلتُها، وأنشر المرتبة تحت الشمس، والبطاطين. ألف الحوش خمسين مرة، ثم أبدأ التمرينات الرياضية، بعد الرياضة تأتي الزراعة، ثم الجلسات الجماعية، المناقشات، المحاضرات، تحليل آخر الأنباء، الإعداد لجلسات التحقيق، متابعة أحاديث الشاويشة مع ذوبة وفتحية القتالة. وفي الليل درس القراءة والكتابة لاعتدال، ثم الجلوس على قعر الصفيحة والكتابة.
أستقبل الكتابة بنهمٍ وشوق، وأنسى أنني في السجن، وأنسى أنني أنتظر، لكن ما إن أحرك رأسي ناحية النافذة العلوية ذات القضبان، حتى أدرك أنني لم أنسَ، وأن في أعماقي انتظارًا طويلًا، انتظارًا مخيفًا كانتظار الموت، أخفيه عن نفسي وعن عقلي الواعي وغير الواعي؛ انتظارًا لا أعترف به، ولا أريد أن أعترف به.
ليس هو انتظار التحقيق أو الجلسة أمام المدعي الاشتراكي، وإنما الخروج النهائي، الأبدي، الإفراج.
انتظار الإفراج شيء قتلته منذ البداية، منذ أول لحظة دخلت فيها السجن. لا شيء يقتل الإنسان سوى الانتظار.
لا يموت الإنسان في السجن من الجوع أو من الحر أو البرد أو الضرب أو الأمراض أو الحشرات، لكنه قد يموت من الانتظار، الانتظار يحوِّل الزمن إلى اللازمن، والشيء إلى اللاشيء، والمعنى إلى اللامعنى.
فتحت عيني في أول صباح لي في السجن، ووجدتني لا أنتظر شيئًا، لا الخروج للتحقيق ولا الإفراج، ولا زيارات الأهل. نسيت أن لي أهلًا، أو لي بيتًا، أو لي حياة أخرى خارج هذا المكان.
أعظم صفات الإنسان أنه ينسَى.
وهل كنت أحيا في السجن دون أن أنسى؟!
عينا طفلي حين يفتحهما في الصباح، فلا يجدني ولا يعرف أين أنا، ذلك الصباح هل فتح عينيه؟ منذ متى؟ لا أدري، ربما قرن من الزمان؛ فالزمن في السجن غير الزمن، والساعة الواحدة تمتد أمامنا بغير نهاية كالدهر.
•••
أحملق في الظلام، لم يكن الفجر شقشق بعد، متكورة حول نفسي كجنين في بطن أمه، أتلمَّس الدفء من الجدران التي تحوطني، هل أنا مت وعدت إلى الرحم الأصلي، أم أنني لم أولد بعد؟
الصمت والظلمة تلتفان حولي كعباءةٍ سوداء، كثافة مثلجة تضغط على أذني في صفيرٍ متصلٍ لا نهائي. أُخرج رأسي من بين القضبان، أرقب أول نقطة ضوء، أول قطرة ندًى، ظمأ شديد يلهب حلقي، ماذا تعشيت بالأمس؟ لا أذكر شيئًا، حتى ملامح طفلي نسيتها.
الصوت العذب الحزين يشق السكون، الناي المنفرد في الظلمة، نداء كصوت الأم، كالدعاء، كالبكاء، كالضحكة الطويلة يطلقها طفل، أو صرخة وحيدة في الليل.
كل فجر أنتظره وأسمعه، أرفع رأسي إلى قطعة السماء من بين القضبان، لا أستطيع أن أرى الكروان، يكفيني أن أسمعه دون أن أراه، يكفيني أنني أسمع، وأنني أستطيع أن أحرك ذراعي وساقي، وأقفز على أرض العنبر، وأن قلبي يخفق، وأن العرق يتصبَّب، وأنني أضع جسمي تحت الدش فيهبط الماء الغزير، وأنني أجفف شعري، وأشعل الوابور لأصنع الشاي.
•••
كنا نخبئ الوابور داخل علبة كرتون تحت أحد الأسرَّة المكسورة. ومن حوله نضع علب السكر والشاي، والفول، والعدس، والعسل الأسود. إلى جوار كل ذلك نضع ملابسنا داخل علب الكرتون، أو في حقائب، أو في أكياس من الورق.
في الأيام الأولى كانت القطط تدخل في الليل من خلال القضبان، وتقلب علب العسل الأسود على الملابس، وعلب السكر على الشاي على العدس، ثم قدَّمنا احتجاجًا لإدارة السجن، فركبوا سلكًا على الباب، لم يعد يسمح بدخول القطط والحيوانات بحجم القطط، لكن الكائنات الأصغر حجمًا والحشرات والزواحف كانت تدخل.
كنت أشعل الوابور بصعوبة، وجميع الزميلات في العنبر يجدن صعوبة في تشغيله، فهو من النوع ذي الشريط، والجاز لا بد أن يملأ الوابور إلى ارتفاعٍ معين، والشريط لا بد أن يكون بارزًا بطول معين، إذا شددنا طرف الشريط العلوي بضعة ملِّيمترات هبَّت النار في وجهنا، لتحرق أطراف شعورنا. وإذا شددنا طرف الشريط السفلي بضعة ملِّيمترات لم يشتعل الوابور على الإطلاق، أو اشتعل الجاز داخل الوابور، وملأ العنبر بالدخان، ونجري مبتعدات عن الوابور؛ خشية أن ينفجر فينا، ونحاول أن نطفئه، لكن عملية الإطفاء كانت أشد صعوبة من إشعاله. ولا بد أن تقف أربعة أو خمسة منا حول الوابور، وننفخ فيه بنفسٍ واحد، حتى ينطفئ مخلفًا وراءه سُحبًا من الدخان الكثيف الأسود، ورائحة خانقة من الجاز المحروق.
كل مرة نشغِّل فيها الوابور أتساءل ماذا نفعل لو أنَّ حريقًا شب في العنبر، بعد الساعة الرابعة مساء، كانت الشاويشة تغلق علينا البابين الحديديين، وتمضي إلى بيتها، إدارة السجن تمضي إلى بيتها، لا يبقى بالسجن إلا حارسة الليل، يسمونها «سهارة الليل».
كل ليلة نسمع النداء يتردَّد من أحد العنابر:
يا سهارة الليل، يا سهارة الليل، نداء قد يستمر طول الليل، كالصرخة الممتدة الطويلة، كالأنين الدائم، كالاستجداء، أو الاسترحام، كالدعاء اليائس في سماءٍ مظلمة مصمتة صامتة لا ترد، وآلهة بغير آذان، كصفارة النجدة للإنقاذ أو الإسعاف، لكن الأطباء نائمون والحراس نائمون، ولا أحد يسمع صوت المرأة المستغيثة إلا بعض نساء حولها، ينادين في نفسٍ واحد: يا سهارة الليل، واحدة بتموت.
وتموت هذه الواحدة دون أن يسعفها أحد، يغطين جثمانها بالبطانية، وهن يبكين بصوتٍ خافت، ثم ينمن. وفي الصباح تخرج نساء العنابر من خلفها يولولن ويصرخن ويلطمن الخدود نائحات عليها وعلى أنفسهن.
ينفذ النواح إلينا من خلال القضبان، ونحن جالسات على الأرض في الحوش ننقي الفول أو العدس، وظهورنا إلى الجدار. تلتقي العيون، عيون مرهقة شاحبة قلقة، كعيون حيوانات حبيسة، تنتظر يوم الذبح، أو يوم الموت، تمسك واحدة من المنقبات رأسها الملفوف بالسواد بيديها داخل القفاز الأسود، وتطرق إلى الأرض هامسة: ارحمها يا رب.
ترد المنقبات في نفسٍ واحد: يا رب!
تمسك واحدة رأسها بيديها وتجهش بالبكاء.
يضيء وجه واحدة من المنقبات بابتسامةٍ مفاجئة، وتقول: الإيمان بالله يا جماعة، لا شيء إلا بإرادة الله.
وتقول واحدة أخرى: استراحت من عذاب الدنيا، وقد رحمها الله، وها هي تخرج إفراج.
تضحك واحدة: تخرج إفراج بدون تصريح من السادات.
تهتف واحدة: تصريح الله فوق تصريح السادات، والله أكبر.
ويهتفن في نفسٍ واحد: الله أكبر!
وفي الليل يتكرر النداء: «يا سهارة الليل!» ربما هي واحدة أخرى مريضة تموت، أو أم تضع مولودًا، ويختلط النداء بالصراخ والبكاء، ثم يسود الصمت في النهاية، نهاية الليل، وقبل أن تزحف خيوط الفجر، يقطع السكون صوت الكروان، كالنداء الطويل أو الشهقة الطويلة المتقطعة، ويعقب الكروان صوت الآذان، واحدة تؤذن لصلاة الفجر، ثم تنهض جميع المنقبات للصلاة، يتوضأن من الجردل أو الصفيحة إذا كان الماء مقطوعًا، يرتدين العباءات والقفازات، ثم يقفن صفوفًا وراء الإمامة، وتبدأ الصلاة الجماعية والدعاء والابتهال والتسبيح، يلصقن جباههن بالأرض ويهتفن بصوتٍ واحد: الله أكبر.
•••
في السجن تسود ثلاثة ألوان، الأبيض والأسود والرمادي. ثلاثة ألوان توحي بالمرض والاحتضار والموت، والمرض في السجن أسوأ من الموت. إنه نوع من الموت البطيء الطويل، أو الموت مئات المرات بدلًا من مرة واحدة.
منذ اللحظة الأولى التي رأيت فيها طبيبَ السجن وعيادته قررتُ ألا أمرض.
هل يمرض الإنسان بإرادته؟ نعم، أحيانًا لا، إلا أن الإنسان قد يمرض، بل قد يموت بإرادته. والعكس أيضًا صحيح، قد لا يمرض الإنسان، وقد لا يموت بإرادته.
في صباح اليوم التالي لدخولي السجن أخذوني إلى الفحص الطبي في العيادة. إجراء ضروري في السجن لكل المسجونات الجُدد، أو «الإيراد الجديد». الفحص الطبي للقلب والصدر والبطن والأطراف، الطول والوزن، علامات مميزة في الوجه أو الرأس أو الجسم، وتلتقط صورة للمسجونة وهي واقفة ظهرها إلى الجدار على صدرها لوحة نحاسية تحمل رقمها وبصمات يدها.
توضع الصورة مع البصمات مع أوصاف الرأس والجسم والطول والوزن في دوسيه بالعيادة الطبية، ونسخ أخرى في دوسيه آخر بإدارة السجن ووزارة الداخلية. أخذتني الضابطة والشاويشة إلى العيادة الطبية في ذلك المبنى المتَّسخ الذي يسمونه المستشفى. في الطريق إلى غرفة الطبيب مررت بعنبر الدرن، وعنبر الجرب، وعنبر الأمراض المعدية الأخرى. الوجوه الناحلة الشاحبة والأجساد الذابلة، ممدودة على الأرض. البصاق المدمم، والرائحة العفنة، والأربطة البيضاء المسودة بالتراب والصديد والدم.
وأمام باب العيادة طوابير المسجونات الجُدد، واقفات ينتظرن الفحص الطبي، أجساد هزيلة بالجلاليب البيضاء متراصَّة في صفوفٍ متلاصقة متهالكة، وجوه صفراء عيون زائغة، أنفاس متقطعة.
تذكرت السنين البعيدة في مستشفى قصر العيني، والمستشفيات المجانية في وزارة الصحة، الطوابير هي الطوابير، الوجوه هي الوجوه، الشحوب هو الشحوب، بل والشتائم نفسها تنطلق من أفواه الطبيب والحكيمة والممرضين.
إلا أنهم هناك كانوا أحسن حالًا من هنا، هناك بعد الانتظار الطويل يعودون إلى بيوتهم وفي أيديهم زجاجة من الدواء، مزيج من الراوند والصودا أو أي مزيج آخر، أسود أو أبيض، لا يشفى مرضهم، وقد يصيبهم بمرض آخر، لكنهم في النهاية يعودون إلى بيوتهم وأهلهم.
لكن هنا، لا عودة إلى البيت أو الأهل. هنا الانتظار الطويل ليلَ نهار، وصيف شتاء، بغير عودة، وبغير بيت، وبغير أهل.
هنا الشتائم فقط، ولا نهاية للشتائم إلا الركلات بالقدم، وزنازين التأديب.
هنا المرض ولا شفاء ولا دواء إلا أقراص بغير اسم وبغير لون، تلفها الممرضة بأصابعها المسودة في قطعة ورق مسودة من ورق التواليت أو الجرائد القديمة، أو لا تلفها على الإطلاق، وتلقَى بها في يد المسجونة أو في حِجرها.
ومع ذلك كان الخروج إلى المستشفى حلمًا جميلًا لا يتحقق، لم تكن المستشفى تبعد عن عنبرنا أكثر من أربعين مترًا، لكنها أربعون مترًا في فناء السجن الواسع. وكان ممنوعًا أن نخرج على الفناء أو نسير فيه مترًا واحدًا.
وحينما تمرض واحدة من الزميلات، فإنها تبلِّغ الشاويشة، وتذهب الشاويشة لتبلغ الضابطة، وتذهب الضابطة لتبلغ المأمور، ويبلغ المأمور ضابط المباحث.
إذا رأى ضابط المباحث أن الأمر يستدعي فحص الطبيب أصدر أمرًا إلى طبيب السجن بالتوجه إلى عنبر السياسات. وقد يحضر الطبيب فورًا، أو بعد الانتهاء من عمله حسب الظروف.
أول مرة دخل العنبر لم أعرف أنه طبيب، أو أنه كان زميلًا لي في الكلية. ملامحه بدت غريبة كأنما أراها لأول مرة، تشبه ملامح رجل البوليس، وملابسه أيضًا بوليسية، أول مرة أرى طبيبًا يرتدي الملابس البوليسية.
هل تعتبر الملابس من ملامح الإنسان؟ أو لعلها الوظيفة أو الحياة داخل السجن مع رجال البوليس تشكل ملامح الشخصية، وتجعل لزملاء المهنة الواحدة ملامح متشابهة.
لكنه ما إن بدأ يتكلم ويمشي أمامي في العنبر حتى تذكرته. كان زميلًا لي في كلية الطب منذ خمسة وعشرين عامًا تقريبًا، له صوت مميز، أخنف، متوسط الخشونة ينتهي بشهقة في آخر كل جملة. وحين يمشي يحرك ذراعًا واحدة إلى الأمام، وتظل الذراع الثانية ملتصقة بجسمه، طويل نحيل أبيض، ونظارة بيضاء، وحقيبة كتبه منتفخة دائمًا، يضعها فوق ركبتيه وهو جالس في المدرج، رأسه منكفئ فوق الكشكول، والقلم في يده يتحرك بسرعة، أسرع من حركة شفتي الأستاذ، فإذا ما فاتته كلمة مما يقوله الأستاذ رفع رأسه من فوق الورقة، عيناه جاحظتان حائرتان، وشفتاه تتهدلان، ويتلفت حوله كغريقٍ يطلب الإنقاذ.
ولم يكن يغير مكانه، يحجزه قبل موعد المحاضرة بحقيبة كتبه. المقعد الأول في الصف الأول أقصى اليمين بجوار الممر القريب من الباب، وما إن تنتهي المحاضرة حتى يقفز من مقعده إلى الممر، ومن الممر إلى الباب، ليجري في فناء الكلية، ويدخل إلى المشرحة أو المعمل أو المدرج الآخر؛ ليحجز لنفسه المقعد الأول في الصف الأول بجوار الباب.
لم تكن حقيبته تفارقه أبدًا، إما على ركبتيه في المدرج، إذا كان إلى جواره زميل. وإذا كانت إلى جواره زميلة وضع الحقيبة بينه وبينها. وفي المشرحة أو المعمل تستقر الحقيبة بين ساقيه، أو على الأرض بين قدميه.
وكان يحفظ المحاضرات عن ظهر قلب كأنها القرآن، وإذا سأله أي زميل عن موعد محاضرة رد قائلًا: إن شاء الله ستكون يوم كذا، الساعة كذا بإذن الله. وفي كل عبارةٍ ينطقها يبدؤُها بعبارة «إن شاء الله»، وينهيها بعبارة «بإذن الله». وفي يومٍ سأله أحد الزملاء: كم الساعة يا صابر؟ فرد عليه قائلًا: إن شاء الله الساعة عشرة. ومنذ ذلك اليوم أطلق عليه الزملاء اسم «صابر إن شاء الله».
ثم ضبطوه يومًا متلبسًا بجريمة الجلوس في المقاعد الخلفية بالمدرج، ولأول مرة لا يرون إلى جواره حقيبته، وإنما زميلة من الزميلات، جالسة إلى جواره دون أي مسافة أو فاصل. وبدأت الكلية تتحدث عن قصة حبه الغريبة، وتلك الزميلة التي جعلته يتخلَّى عن مقعده في الصف الأول، بل عن دينه المسيحي أيضًا، أعلن إسلامه وتزوجها.
قلت بدهشة، وذلك الفرح حين ألتقي بزميلٍ من زملاء الدراسة: أنت صابر برسوم؟ ورأيت ملامحه تتقلَّص كملامح رجل البوليس، وقال بكبرياءٍ وغطرسة: أنا الدكتور صابر برسوم.
ذلك اليوم كانت إحدى المنقبات مريضة، وأصرت على أن يفحصها دون أن تخلع العباءة أو النقاب. حاول أن يقنعها بأنه لا يستطيع أن يفحصها إلا إذا كشفت عن صدرها وبطنها، لكنها رفضت بإصرار، فالتفت نحوي، وقال: حاولي أن تقنعيها يا نوال.
وقلت: اسمي الدكتورة نوال، وليس نوال.
كنت أشفق عليه، وهو طالب، أما الآن فأنا أرثي لحاله، سمعت عنه من المسجونات قصصًا كثيرة، ومن الشاويشة أيضًا. كيف يصبح طبيب السجن أداة بوليسية للقهر والإيلام والتشويه؟ حين يستخدم الطب والجراحة للانتقام أو للعقوبة، حين يقبل المال من أجل منح إجازة مرضية أو عدم منحها، حين يكون طبيب السجن أشد خطورة من الجلاد، فالجلاد يضرب ويعذب فحسب، لكن الطبيب يمكن أن يبتر الذراع أو الساق، يمكن أن يستأصل العين، يمكن أن يشوه العقل بأقراصٍ سامة، يمكن أن يفعل أي شيء في المسجون أو المسجونة، دون أن يكتشفه أحد.
سمعنا عنه حكايات كثيرة من هذا النوع، كنا نراه وهو يسير في فناء السجن يغازل بنات الدعارة بكلماتٍ نابية. اتفقت كل الزميلات في العنبر على طرده لو دخل إلينا، وقالت الزميلات للمأمور: معنا طبيبة في العنبر، لماذا لا تعطونها الأدوات اللازمة بدلًا من أن يأتي إلينا مثل هذا الطبيب؟!
وقلت للمأمور: أنا مستعدة أنا أمارس عملي كطبيبة وسط زميلاتي في العنبر، ووسط السجينات الأخريات في العنابر الأخرى، خاصةً في الليل حين ينام الطبيب، لكن إدارة السجن رفضت، فأنا في السجن مسجونة، ولست طبيبة. والمسجون داخل السجن يفقد مهنته ضمن ما يفقد، يفقد إنسانيته وآدميته وحريته واسمه فما بال مهنته؟!
وفي يوم أُصيبت اثنتان من الزميلات بالجرب، عرفت المرض على الفور، وطلبتُ لهما العلاج والعزل عن بقية الزميلات، حتى لا ينتشر المرض. وجاء إلينا طبيب شاب لم نرَه من قبل، وأيد التشخيص وكتب لهما علاج الجرب، لكن العزل لم يحدث، وبدأت جميع الزميلات يهرشن.
ولم نعرف ما الذي حدث، سمعنا إشاعات عجيبة، تقول إن بعض المسئولين في السجن وجَّهوا اللوم إلى الطبيب الشاب، كيف يعلن لنا أن المرض هو الجرب؟! كان المفروض أن ينفي التشخيص أو يكذب علينا، ويقول إنه مجرد هرش جلدي عادي، أو لدغات ناموس أو بق، أو أي شيء إلا الجرب! ماذا يحدث حين تتسرب الأخبار إلى الخارج، ويعرف الجميع أن السجن موبوء بالجرب والأمراض المعدية؟! التقارير الطبية التي يكتبها الدكتور صابر برسوم تقول إن السجن نظيف، وليس به أي أمراض أو أوبئة.
واختفى الطبيب الشاب، وسمعنا أنه نقل من السجن إلى مكانٍ آخر. جاءنا الدكتور صابر برسوم غاضبًا، نظر إلى أصابع الزميلتين المريضتين، قال بصوتٍ حانق: من قال إن هذا جرب؟! هذا ليس جربًا، هذا مجرد التهاب جلدي عادي.
واقتربت منه، ونظرت في عينيه الجاحظتين، ثبتُّ عيني في عينيه، وقلت: أنا طبيبة وأعرف أن هذا جرب، وليس إلا الجرب. وقد أيد تشخيصي طبيبٌ شاب اختفى، ولم نعرف ماذا حدث له، إذا كنت أنت تخاف من وزارة الداخلية أو من إدارة السجن، فنحن لا نخاف. ونحن لن نسكت على الوضع، إن صحتنا مهددة، وأنت طبيب السجن. المفروض أن ترعى صحتنا لا أن تخدعنا، إن تصرفك هذا يتعارض مع القسم الذي أقسمته على نفسك أمام نقابة الأطباء.
أنت تخرق قانون نقابة الأطباء وقانون مهنة الطب وقانون الإنسانية.
وصاحت واحدة من المنقبات: أنت لست طبيبًا! أنت جلاد!
وهتفت أخرى: ألا تعرف ماذا تقول عنك المسجونات؟ ألا تعرف اسمك الحقيقي في هذا السجن؟!
كانوا يسمونه صابر برسوم بسيجارة، ولم نفهم أول الأمر ماذا يعني هذا الاسم، لكن الشاويشة نبوية شرحت لنا قائلة: يمكن أن يكتب أي تقرير طبي، ليس عنده ذمة أو ضمير، ربنا يكفينا شره، مقابل رشوة صغيرة أو «سيجارة» يوقِّع على إجازة مرضية.
وأصبح صابر برسوم يخشى الاقتراب من عنبرنا، وإذا بلغت إحدى الزميلات أنها مريضة أرسل إلينا طبيبًا آخر، وفي يومٍ رأيناه يدخل العنبر فطردناه جميعًا في نفسٍ واحد. رأيته وهو يجري خارج العنبر يلوذ بذراع الممرضة، وقدَّم صابر برسوم شكوى ضدها لإدارة السجن، وتكلمت جميع الزميلات ضده، وسألني ضابط المباحث عن رأيي فقلت: نحن لا نثق فيه، والأفضل أن ترسلوا إلينا طبيبًا آخر، أو لا ترسلوا أطباء على الإطلاق.
ولم نعد نرى صابر برسوم، قابلته صدفة بعد أن خرجت من السجن، فأطرق برأسه واختفى. تذكرته حين كان طالبًا بالكلية، يدوس على أقدام الطلبة والطالبات وهو يجري ليحجز المقعد الأول في الصف الأول بجوار الباب، رأسه ينكفئ فوق الكشكول، والقلم في يده يتحرك بسرعة، أسرع من حركة شفتي الأستاذ، فإذا ما فاتته كلمة مما يقوله الأستاذ رفع رأسه من فوق الورقة، عيناه جاحظتان حائرتان، وشفتاه تتهدلان، ويتلفت حوله كغريقٍ يطلب الإنقاذ.
•••
أجلس على أرض الحوش الترابي، أصابعي حول قطعة من الطوب لها بوز مدبب، أكتب بها على الأرض حروف اسمي، أتأمل شكل الحروف، أتأمل نفسي، من أنا؟ السجينة رقم «١٥٣٦»، جردوني من كل شيء حتى اسمي، لكني أفضل نفسي، أفضل أن أكون «السجينة» داخل هذا السجن عن أن أكون «طبيبة السجن»، عن أن أكون الدكتور صابر برسوم، أو أي دكتور آخر.
منذ دخلت كلية الطب، وأنا أشعر بالاغتراب وسط هؤلاء الرجال ذوي العيون الجاحظة والحقائب المنتفخة والجفون المتورِّمة والعيون الحمراء، يحفظون المحاضرات طول الليل عن ظهر قلب، ويدوسون على أقدام غيرهم؛ ليحجزوا الصفوف الأولى، يلهثون جريًا من المدرج إلى المشرحة، ويمسكون المشرط في يد، وفي اليد الأخرى يمسكون «ساندوتش». يختصرون وقت الطعام ووقت النوم، ولا هم لهم إلا الحفظ، وليس أمامهم إلا شبح الامتحان. وما إن ينتهي الامتحان حتى تتسرب المعلومات المحفوظة من الذاكرة، ويصبحون أطباء، في الجامعة وفي وزارة الصحة وفي وزارة الداخلية وفي السجون، وفي العيادات الخاصة. ينظرون إلى جيب المريض قبل أن يشخصوا المرض، يضعون الجنيه فوق الجنيه في درج المكتب داخل العيادة، ثم يموتون بالسكتة القلبية، ولا أحد يذكرهم، لا يتركون وراءهم شيئًا ثمينًا، ويرث عنهم أولادهم أو زوجاتهم بعض العمارات أو بعض الدكاكين، أو مساحات كبيرة من الأرض والطين، لكن لا أحد يذكرهم، حتى أولادهم أو زوجاتهم ينشغلون بالميراث الكبير أو بمشروع الزواج الجديد.
منذ أصبحت طبيبة، وأنا أشعر بالاغتراب وسط هذا النوع من الأطباء كأصحاب الدكاكين، يبيعون الصحة والعلاج لمرضى لا يملكون ثمن الطعام، يرشق الواحد منهم السيجار الأسود الضخم بين شفتيه ويتكلم من طرف أنفه كإله، مع أن تشخيصه في بعض الأحيان خطأ، قد يموت المريض وقد ينقذ حسب الحالة، وسواء مات أو عاش، فالثمن لا بد أن يُدفع مقدمًا أو مؤخرًا.
أي مهنةٍ هذه؟ وهل يمكن أن تكون هذه المهمة هي مهنتي؟! هل يمكن أن أضع الجنيه فوق الجنيه في درج مكتبي داخل العيادة، ثم أموت بالسكتة القلبية، ولا أخلف ورائي شيئًا ثمينًا؟! هل أعيش وأموت ولا أترك لأولادي والناس من بعدي إلا رقعة كبيرة من الطين يتنازعون ملكيتها؟!
منذ الطفولة وأنا أريد أن أعيش، ثم أموت، وأخلف ورائي شيئًا ثمينًا، ما هو؟!
•••
سؤال أقلبه في رأسي، أصابعي تنخل التراب، ملمس التراب فوق يدي يذكرني بطفولتي في قريتنا، كنت أحب اللعب في التراب، أصبُّ الماء على الأرض، وأحول التراب إلى عجينة طرية، أحول العجينة إلى رأس إنسان، أصنع فيها بإصبعي ثقبين يشبهان عيني جدتي، أنظر داخل العينين وأضحك مع الأطفال، ندفن الرأس في التراب ونسقيها بالماء، ثم نعود إليها في الصباح، فإذا بعودٍ أخضر يخرج من كل عين.
عينا جدتي كانتا بلون الزرع، ورثت لون عينيها من أبيها الغزاوي، نزح من غزة إلى كفر طلحة، وزوجها لصبيٍّ فلاح اسمه «حبش»، اسم أبيه الذي نزح من الحبشة إلى مصر وهو في بطن أمه.
كانت طويلة فارعة القامة، لها شمخة وارتفاعة رأس تنم عن كبرياءٍ ريفي بدائي، لم يكن يعجبها رجل ولا امرأة في الكفر، ولا حتى زوجها. كان ضعيفًا مريضًا، يبول الدم مع البول ومات وهو شاب. لم تبكِ عليه، ربطت رأسها بمنديل أسود وأقسمت ألا يكون ابنها فلاحًا. باعت خلخالها الفضي، مهر زواجها، وربطت بطنها بالحزام، حرمت نفسها من الأكل ووضعت القرش فوق القرش، وتجمع في يدها تذكرة القطار ومصاريف المدرسة، وأرسلت ابنها الوحيد إلى القاهرة ليتعلم. بناتها الست بقين معها في الكفر، وتزوجن رجالًا فلاحين فقراء يزرعون بأيديهم، ويبولون الدم مع البول.
وحين يعود ابنها في الإجازة الصيفية ومعه شهادة النجاح والتفوق تسأله: كم ترتيبك في الفصل؟ ويقول لها: الثاني. تهتف وهي تضرب بكف يدها: ولماذا لا تكون الأول؟ هل الأول أفضل منك؟ ألم تلده بطن مثل بطني هذه؟!
تحكي لي جدتي، وهي تخبط بطنها بكفها وتضحك، قائلة: هي مرة واحدة، ومن بعدها أصبح أبوك الأول دائمًا.
رفعت أصابعي من فوق التراب، ونظرت إلى أعلى. رأس تشبه رأس جدتي مربوطة بمنديلٍ أسود، لكن الملامح مختلفة، والصوت مختلف، الزمن أيضًا مختلف.
يختلط عليَّ الزمن، فلا أعرف هل أنا الطفلة التي تلعب في التراب أم المرأة المحبوسة داخل السجن؟! طفولتي وشبابي وجميع مراحل عمري كأنما التحمت في زمنٍ واحد، كأنما ليس هناك زمن.
أتأمل أصابعي، أبسطها أمامي في الفضاء، تشبه أصابعي وأنا طفلة. والتراب يشبه التراب الذي كنت ألعبُ فيه، الرائحة نفسها، واللون، والملمس فوق يدي. والماء أصبه فيصبح التراب عجينة من الطين، أملأ كفي بماء القناة الصغيرة أو الترعة.
في يومٍ خلعت ملابسي، ونزلت إلى الترعة لأسبح مع الأطفال، ثم بدأت مثلهم أنزف الدم من البول.
رأت أمي البول الأحمر، فصاحتْ في ذعر: مرض البلهارسيا!
ضحكت جدتي قائلة: لا «هارسا» ولا حاجة، البول الأحمر دليل الصحة والعافية، كل الفلاحين بولهم أحمر.
ذهبت إلى الطبيب، وأعطاني اثنتي عشرة حقنة في الوريد، اختفى اللون الأحمر، وعاد البول إلى لونه القديم الأصفر الباهت.
•••
رفعت رأسي من فوق التراب، رأيت وجه جمال عبد الناصر، بشرته سمراء برونزية، عيناه نافذتان لامعتان، جالس على المنصة الكبيرة في المؤتمر الوطني للقُوى الشعبية سنة ١٩٦٢م، وعن يساره وجوه صارمة مشدودة كأنما بالأسلاك، ورنَّ صوت في الجو يسأل: من هو الفلاح؟
ساد الوجوم، طال التفكير والتأمل والتحليل، هرشوا رءوسهم، أحضروا المراجع والقواميس، تصبَّب العرق من وجههم كأنهم في امتحانٍ صعب، ثم تسابقوا في الإجابة كالتلاميذ، يتكلمون في صوتٍ واحد. يقاطعون بعضهم البعض، يهاجمون بعضهم البعض بعدم معرفة الإجابة الصحيحة، أو عدم فهم السؤال.
ما هو السؤال؟
ويتكرر السؤال: من هو الفلاح؟ وتعود المباراة من جديد، يتسابقون للوصول إلى التعريف الصحيح أو التعريف المطلوب، يتخبطون يتدافعون بالأيدي والأذرع، يدوس بعضهم على أقدام البعض ليصلوا إلى المقاعد الأمامية، يرفعون أصواتهم بكل حِدَّة، ويضغطون على مخارج الألفاظ، يضعون النظارات، ويفحصون الكتب والمراجع، ويطوفون بالمكتبات ودار الكتب في باب الخلق، يتسابقون في تشكيل لجان البحث والدراسة، يجلسون ويدخنون ويضعون ساقًا فوق ساق يتساءلون: ما المطلوب؟
ويتكرر السؤال: من هو الفلاح؟ وتبدأ المسابقة وتعود الدائرة المفرغة لتدور.
كنت جالسة في القاعة الفسيحة أرقبهم، بعضهم خلع البدلة وارتدى جلباب الفلاحين، أصابعهم ناعمة لا تشبه أصابع من يمسكون الفُئوس، شفاههم متوردة، تهتز بينها أنواع فاخرة من السجائر، وكلماتهم العربية تتخللها أحيانًا اصطلاحات أجنبية.
وجاء دوري للكلام، وجهوا إليَّ السؤال: من هو الفلاح؟
قلت: الفلاح هو الذي بوله أحمر.
دبَّ الصمت والوجوم، تعكرت الوجوه لحظة، ثم تحركت الرءوس واستداروا نحوي، كنت أجلس في الصفوف الخلفية، شابة صغيرة مجهولة بلا منصب ولا لقَب ولا عائلة ولا شلة.
رمقوا حذائي القديم، وكعبه المتآكل. أدركوا أنني لا أملك سيارة، ولا أجرة التاكسي، ولا ثمن حذاء جديد.
على قصاصة ورق، وبالقلم «الباركر» استقرت ثلاث كلمات إلى جوار اسمي الثلاثي: تجرؤ غير مطلوب.
ومنذ ذلك الحين أصبح الاسم في القائمة السوداء، ودخل في ملف أصفر بوزارة الداخلية.
•••
رفعت الشاويشة عينيها الصغيرتين، رأيت فوقها سحابة بيضاء، شفافة كالدموع، جالسة في الحوش الترابي فوق البطانية كعادتها، لكنها صامتة على غير العادة. وجهها أشد شحوبًا وذبولًا عن كل يوم، وحين دخلت فتحية القتالة بالصينية لم تمد يدها إلى الطعام.
صاحت فتحية: مالك يا شاويشة؟
كأنما كانت تنتظر السؤال، فانهمرت الدموع الحبيسة، مسحتها بكُمِّ معطفها الرمادي الأجرب، ثم قالت: طول الليل ساهرة إلى جوار ابني المريض، جاء الدكتور، وقال لا بد من عملية جراحية لاستئصال «الكلية» اليمين، طلب خمسين جنيهًا قبل العملية وخمسين بعدها.
ردت فتحية: خمسين خمسين وماله، الفلوس في داهية.
وقالت ذوبة: الغالي يرخص من أجل الولد.
ردت الشاويشة: الفلوس موجودة والحمد لله، لكن المشكلة ليست الفلوس، المشكلة العملية، أنا خائفة من العملية، العملية صعبة.
والتفتت نحوي الشاويشة وقالت: ما رأيك يا دكتورة؟
قلت: العملية ليست صعبة، لكن هل فحص الدكتور الكلية الأخرى؟
زاد وجهها شحوبًا كأنما اختفى منه الدم، وقالت بصوتٍ خائر: الكلية الثانية ليست سليمة، هذه هي المصيبة، ومسحت دموعها بكفِّها، وقالت: الدكتور قال إننا تأخرنا في العلاج، لكن الولد كان كويس. طول عمره بوله أحمر، لم أكن أعرف أنه الدم، أتظنين أنه سيموت يا دكتورة؟ أليس هناك أي أمل؟
قلت: الأمل دائمًا موجود؛ لأن أي جزء صغير من الكلية يمكن أن يشتغل ويعوض الأجزاء الأخرى.
قلت: ربنا يطمنك يا دكتورة، أنا طول الليل والنهار أفكر، إنه ابني، ابني البكري الوحيد، وكان يساعدني منذ موت أبيه في الجري وراء رزق إخواته.
قالت فتحية: اتركي أمرك إلى الله، ولا تفكري يا نبوية، الفكر يقتل القلب.
تنهدت ذوبة: الواحدة منا لازم تنسى أن لها قلبًا.
قالت فتحية: لكن «الضنا» غالي.
شوَّحت ذوبة بيديها: الغالي يرخص في السجن.
صاحت فتحية في غضَب: اسكتي يا بنت يا ذوبة اسكتي، الغالي يفضل غالي، والرخيص يفضل رخيص. والأم ضناها غالي، أغلى من حياتها. أنا قتلت من أجل بنتي هنية، أنا دخلت السجن مؤبد من أجل عيونها، رميت نفسي في الهلاك من أجل خاطرها، أنا أعيش لها، وأنام وأصحو بأمل أن أخرج وأراها وأضمها في صدري. لولا هي أنا كنت مت من أول يوم دخلت فيه السجن.
وقالت ذوبة: وماذا استفادت هي؟ أبوها قُتل وأنت أمها دخلت السجن، وهي بقيت وحدها بدون أحد يرعاها.
أطرقت فتحية رأسها إلى الأرض، وظلت صامتة واجمة، عيناها شاردتان حزينتان، ثم همست بصوتٍ خافت كأنما تكلم نفسها: صحيح، ماذا استفادت هي؟ لا شيء، خسرت أمها وأباها في يومٍ واحد، لكني لم أكن أفكر فيها حين قتلته، كنت أفكر، كنت أفكر في ماذا؟ لا أعرف! ربما لم أكن أفكر، توقف عقلي من الصدمة، حين رأيته فوقها.
كانت «فوقية» قد خرجت من العنبر إلى الحوش، وجلست إلى جوار فتحية، فقالت بصوتها القوي ضاغطةً على مخارج الألفاظ، وكأنها تلقي خطبة أو تصرح بحقيقة علمية لا يتسرب إليها شك: إنها صدمة نفسية لا شك، وسببها طبيعة المرأة العاطفية، وغيرة الزوجة على زوجها حين تراه في هذا الموقف، كنت تغارين على زوجك لا شك، وصاحت فتحية القتالة: أنا لست مثلكم يا نساء البندر، ولم أعرف هذه الغيرة على زوجي. أنا التي بحثت له عن زوجةٍ أخرى لتلد له ولدًا، ولتساعدني في أعمال الحقل والدار، لو رأيته مع أي امرأة ما كنت قتلته، لكن مع ابنتي، ابنتي حبة عيني، كبدي، قلبي، لكن زوجي، الزوج مهما كان راجل غريب.
هتفت واحدة من المحجبات في دهشة: زوجك رجل غريب عنك؟!
شوحت فتحية القتَّالة بيدها قائلة: طبعًا غريب، لا من لحمي ولا من دمي.
لكن ابنتي من لحمي ومن دمي.
وضحكت ذوبة في سعادة: والنبي كلامك صحيح يا ماما فتحية، أنا طول عمري أحس أن زوجي رجل غريب عني، لولا ورقة الزواج، لكن ماذا تفعل؟ ربنا أراد لنا الزواج، وربنا أراد لنا السجن.
وردت فتحية القتالة: كله بإرادة ربنا حتى القتل.
هتفت واحدة من المحجبات: أستغفر الله العظيم، ربنا لم يقُلْ لك أن تقتلي، استغفري ربنا وقولي توبة يا رب، واندمي على جريمتك.
شوحت فتحية بيديها بغضب: أندم؟! أبدًا، لا يمكن أندم، والله لو رأيته أمامي الآن لقتلته مرةً أخرى.
وضحكت الشاويشة: أصلها قتالة بنت قتالة.
وقالت «فوقية» بصوتٍ يشبه الوعاظ: لو لم تقتلي لكنت الآن خارج السجن مع ابنتك الصغيرة التي تحتاج إلى رعايتك وتربيتك، أليس الأفضل أن تربي ابنتك بدل دخول السجن.
وانتفضت فتحية واقفة وصاحت: وأنت يا ست فوقية أليس الأفضل أن تربي أطفالك بدل دخول السجن؟! على الأقل أنا دخلت السجن من أجل ابنتي، وأنت لماذا دخلت السجن؟
وصعد الدم إلى وجه «فوقية»، وقالت بغضب: أنت دخلت السجن لسببٍ خاص بك، لسببٍ أناني، فردي، ولكني دخلت السجن من أجل الوطن والفقراء من الشعب.
وقالت ذوبة: وأولادك من يُربيهم ويرعاهم؟!
وصاحت فوقية: ربنا يرعاهم، ربنا موجود، ثم تداركت: ربنا موجود، لكن الأطفال مشكلة لأي أم تريد أن تخدم الوطن، إنها تتمزق بين واجبها نحو أطفالها وواجبها نحو وطنها. وفي رأيي أن الواجب الوطني قبل أي واجب آخر.
وصاحت «بدور» من داخل العنبر: الواجب الديني نحو الله والرسول قبل أي واجبٍ آخر، الله قبل الوطن.
وهتفت فتحية القتالة: افتحي لي الباب يا نبوية، أنا عندي شغل، أنا امرأة فلاحة، ولا أعرف في هذا الكلام. أنا قتلت ومعترفة أني قتلت، قتلت زوجي لأجل نفسي، لأجل أنقذ نفسي من العيشة مع رجل ظالم. ظلمني طول عمري، خدمته خدمة العبد للسيد، ولا عمره قال لي كلمة حلوة، حياتي معاه كانت سوداء من أول يومٍ لآخر يوم. وكل يوم أفكر أني أقتله، لغاية ما رأيته مع بنتي هنية، الإنسان لا يمكن يقتل بسهولة أو في يومٍ وليلة، أنا عشت طول عمري معه أفكر في قتله، افتحي لي الباب يا نبوية، أنا عندي شغل.
قذفت لها الشاويشة بالمفتاحين، وهي تقول: قتالة بنت قتالة، كل من دخل السجن عرف الندم إلا أنت يا فتحية! وضحكت فتحية، وهي تتلقف المفتاحين في حجرها: ولماذا أندم؟ حياتي في السجن أفضل من حياتي مع ذلك الرجل، ماله السجن؟! السجن للجدعان، ولأجدع النسوان.
وأطلقت ضحكة عالية رنانة وهي تفتح الباب، وتنطلق إلى فناء السجن الواسع.
•••
خطواتها ثابتة قوية، شمختها وارتفاعة رأسها وهي تمشي تدق الأرض بكبرياء، ملامحها وحركتها التي تشبه ابنة عمتي.
طبيعية وبدائية كالأرض، صلبة كالأرض، صوتها واضح قوي، صريح قاطع كالسكين، عيناها تلمعان، ضحكتها تجلجل في الحوش الترابي.
أنظر إلى أصابعها السمراء القوية، ويخيل إليَّ أنها تشبه أصابعي، وقلبي يخفق كأنما بالقوة نفسها التي يخفق بها قلبها، وعيناي تلمعان بالبريق نفسه، ويدي وهي تمسك القلم كأنما تشبه يدها حين أمسكت الفأس وضربت.
كأنما كنت أضرب بالقلم رأسًا أسود فاسدًا، أراد أن يغتصب حريتي وحياتي، أن يشوه نفسي الحقيقية، أن يفرض عليَّ أن أبيع عقلي، وأقول: نعم، حين أريد أن أقول لا.
•••
أصابعي ترسم فوق التراب حروفًا ودوائر متداخلة. يدي ترتعش بالغضب، دقات قلبي تسرع، لو لم تعرف أصابعي القلم ربما عرفت الفأس، القلم أثمن شيء في حياتي، كلماتي فوق الورق أثمن من حياتي، أثمن من أولادي، أثمن من زوجي، أثمن من حريتي.
أفضل مكاني في السجن عن أن أكتب شيئًا لا ينبع من عقلي. الكلمة الصادقة تتطلب شجاعة مثل شجاعة القتل وربما أكثر.
أصابعي تنقش الحروف على التراب، أتأمل الكلمات التي تدور في رأسي، ما بدا لي يقينًا منذ لحظة أراه الآن محاطًا بضباب الشك. لا أعرف حتى الآن لماذا أنا داخل السجن؟ لم أر محققًا ولا وكيل نيابة ولا محاميًا. سمعت الشاويشة تقول إنها سمعت أنهم يقولون أنني دخلت السجن بسبب كتاباتي، جريمتي إذن تدخل ضمن جرائم الرأي.
هل الرأي الحر جريمة؟ إذن فليكن السجن هو ملاذي الوحيد ومصيري الأخير.
لكن هل يستحق الرأي الحر عناء السجن؟! التعب والجوع والمرض والحياة القاسية في ذلك العنبر كالقبر؟! أبي وأمي وأهلي ومعارفي كلهم تصوروا أنني سأكون أنبغ طبيبة وأعظم أديبة، أنني خُلقت للنجاح والوصول إلى القمة، وكان يمكن أن أكون كذلك، أن أحصل على أكبر منصب وأكبر لقب، وأعيش في قصر، وأملك يختًا، وأتزوج أميرًا، أو حاكمًا كبيرًا.
لكني منذ الطفولة أكره الحكام والسلطة، منذ رأيت أمي تثور على أبي، حين رفع صوته عليها، ومنذ سمعت أبي يلعن الملك والحكومة والإنجليز.
كنت طفلة وتصورَتْ أمي أنني لا أرى ثورتها، وظن أبي أنني لا أفهم ما يقول، أو أنني سأنساه حين أكبر، لكن لم أنسَ.
•••
علمتني أمي الكتابة وأنا طفلة، أمسكت يدي في يدها وكتبت الحرف وراء الحرف. حروف اسمي مرسومة أمامي على أرض الحوش الترابي، كخطي وأنا طفلة. اسمي ثم اسم جدي والد أبي الاسم الثلاثي الرسمي، كتبته لأول مرة في حياتي على كراسة المدرسة. كنت طفلة، وبدا لي الاسم غريبًا، وخاصةً اسم جدي والد أبي، هذا الرجل الغريب الذي مات قبل أن أولد، لماذا يكون اسمه جزءًا من اسمي؟!
شطبت على اسمه بالقلم وكتبت اسم أمي إلى جوار اسمي، ثم اسم أبي، ثم اسم أختي وأخي، جاءت المدرسة وشطبت كل الأسماء من جوار اسمي، لم تترك إلا اسم أبي واسم ذلك الرجل الغريب الذي لم أرَه في حياتي.
منذ الطفولة، وأنا أكره اسم جدي الملتصق باسمي دائمًا، لكن أمي كنت أحبها اسمها «زينب»، وما إن تستدير المدرسة وتعطيني ظهرها، حتى أشطب اسم جدي، وأكتب اسم أمي.
حركت أصابعي فوق التراب، ومسحت الاسم، في حلقي لعاب مر، لم آكل شيئًا منذ الأمس. رأيت الصرصار ممدودًا في الصحن، أشعر بظمأ وجوع شديد. في خيالي شيء يلوح في الضوء، صحن نظيف وقطعة من اللحم المشوي وطماطم حمراء، إلى جواره كوب من الماء المثلج الرقراق.
أحرك لساني الجاف في حلقي وأبتلع العلقم. أحرك رأسي ناحية باب العنبر ألمح سريري. اللوح الخشبي معلق بين عمودي السرير، كيف أنام طول الليل على هذا اللوح دون أن أقع؟!
في مؤخرة رأسي شيء أبيض كالضباب، ملاءة بيضاء نظيفة مشدودة فوق سريري في غرفة نومي، وجه زوجي، وجه ابنتي، وجه ابني.
وبسرعة انقطع الضوء واختفت الصورة، قلبي ثقيل، يتراكم فيه اللعاب المر، معدتي خالية خاوية، أحسها تحت يدي كالدمل، يدي تكاد تنفذ إلى عظام ظهري، وألم عميق كالجرح القديم ينبض تحت كفي.
والآن أتشكك من كل شيء، ما جدوى الكتابة؟ حروف ميتة فوق الورق، ولمن أكتب؟ ومن يقرأ؟ هل ارتفع صوت واحد حين دخلت السجن؟!
رنَّت ضحكة ساخرة، وصوت خشن ساخر يأتي من بعيد: نحن في بلادٍ متخلفة يحكمها فرد واحد كالإله الواحد، إذا أطعتَه وصلتَ القمة، وإذا عصيتَه دُفنت في بطن الأرض.
تعرفت على صوته، أحد زملائي الأدباء وصل إلى القمة وجلس عليها.
قلت له يومًا: كيف تقول لي رأيًا وتكتب رأيًا آخر؟ ضحك بسخريةٍ وقال: أتصدقين ما يُقال عن الديمقراطية؟!
قلت له: أصدق أو لا أصدق، فأنا أكتب رأيي ولا تهمني النتائج.
قال: أنا تهمني النتائج، إني لا أريد أن أفقد موقعي، وأريد أن أربي أولادي وأنفق عليهم في أحسن المدارس.
صوته ما زال في أذني، ومعه صوت آخر، صوت خالتي، لم تعلم ابنتَها، زوَّجَتْها لرجل من ذوي الأملاك، صوتها حاد يرن في أذني بمثل ما كان يرن وأنا طفلة: المرأة حياتها البيت والزوج والأولاد، لماذا تكابرين؟ هل أنت رجل؟! أصوات أخرى كثيرة ترن في أذني، كأنما تأتي من قاع الدنيا، وجسدي بارد ثقيل كأنه جثة مدفونة في بطن الأرض. عيناي غائمتان فوقهما سحابة، الظلمة من حولي كثيفة، لا أكاد أرى، لكني ألمح من البعد ضوءًا خافتًا، نورًا يلمع كالبريق الخاطف، عينان تلمعان كالنجمين، وصوت يشبه صوت أمي، بل إنه صوت أمي، وعيناها تنظران في عيني: لو لم يزوجني أبي لأكملت تعليمي! كنت أحب القراءة والكتابة، كنت أريد أن أفعل شيئًا هامًّا في حياتي، وليس مجرد ولادة الأطفال كالقطط.
عيناها تلمعان كالشعلة، جسمها خفيف نشيط، ترن ضحكاتها المرحة في البيت، طويلة متقطعة كشهقة طفل، عذبة كصوت الكروان، تغرد في الصباح حين تصحو، وفي المساء قبل أن تنام. تزوجت أبي وهي في السابعة عشرة، وأنجبتني أنا وأخوتي التسعة على مدى ثلاثين عامًا، ثم ماتت وهي في الخامسة والأربعين. ماتت وهي تمسك يدي في يدها وعيناها في عيني تملؤها دهشة، كدهشة طفل.
•••
ألم كالسكين في المثلث الصغير تحت القلب، فوق المعدة. ألم مزمن قديم منذ أمسكت أمي يدي، واتسعت عيناها في دهشة، ثم ماتت دون أن تمنحني اسمها، منحتني الحياة والثورة منذ الطفولة، لكن رجلًا غريبًا تزوج جدتي، ومات قبل أن أولد وضع اسمه على كياني.
أرادت أن تقرأ وتكتب وتغيِّر العالم، لكن نهارها كان يضيع في المطبخ، تطعم تسعة أطفال وأباهم، ثم تنام لتصحو حاملًا في الطفل العاشر.
قفزت من سور الشرفة لتقتله في بطنها، ومات مخلفًا في جوفها طعم المرارة، وألمًا في صدرها، في الثدي الأيمن.
وضعت أصبعها فوق الألم، وقالت لي: هنا الألم ينخس كالإبرة.
تجمدت الأيدي فوق ثديها، أصاب الشلل يدي لحظة، اتسعت عيناها بدهشة الطفل وهتفت: ماذا وجدت؟!
حلقي جاف، عيناي تبتعدان عن عينيها.
قلت: لا شيء، مجرد كيس دهني.
وصدقتني على الفور، كانت تصدقني دائمًا، عودتني الصدق منذ الطفولة، ولأول مرة أكذب عليها، وعلى أبي، وعلى كل إخوتي وأخواتي.
كتمت السر في أعماقي، في طيات قلبي العميقة، يؤرقني الليل والنهار، يمزق أحشائي كسكين.
ولكن ليظل السكين في قلبي أنا، ولن أشده من قلبي وأغرسه في قلبها أو قلوبهم.
أراها تضحك ضحكتها المرحة كضحكة طفلٍ، وفي الصباح تغني.
لا تعرف أن الموت قابع في صدرها، يأكل خلايا ثديها، وينتقل من خلايا الثدي إلى خلايا الرئة بسرعة دوران الدم من صدرها إلى قلبها.
ولم يكن في الطب علاج، فشل الطب وفشل العلم وعجز أساتذة الطب، حتى عن تخفيف الألم.
لا بد أن تموت مغموسة في الألم.
لكن ما إن يختفي الألم لحظة، حتى يشرق وجهها وتبتسم كطفل. تظن بسذاجة طفل أن الألم ذهب إلى غير عودة، وأنها ستنهض من الفراش، وتسير إلى الحمام، وتغني كل صباح.
لحظة واحدة أو ابتسامة واحدة تضيء وجهها بالأمل، ثم يعود الألم يأكل جسدها الليل والنهار، تمسك يدي في يدها وتضغط، أو تمسك يدي أبي، أو يد أخت من أخواتي أو أخ من إخوتي، أو تمسك عمود السرير وتضغط، تئن بصوتٍ مكتوم، تتحمل الألم في انتظار لحظة الأمل.
لم تعرف أنه الموت وأنه لا حياة لها ولا أمل، لم أشأ أن أحرمها من بارقة الأمل، من الابتسامة الواحدة تضيء وجهها في لحظة خاطفة.
ولم أشأ أن أحرم أبي ولا إخوتي ولا أخواتي من نعمة الأمل وتوقُّع الشفاء.
حملت الحقيقة كالجبل، ثقيلة كالجبل، أحملها وحدي، أرى عيونهم المليئة بالأمل فأهرب بعيدًا، وحين لا يراني أحد منهم أخفي عيني وأبكي دون صوت، حتى لا يسمع نشيجي أحد.
ظلت تئن بصوتها الضعيف الخائر: الموت أرحم من هذا الألم، عيناها واسعتان تتشبثان بعيني، تستنجدان بي الأيام والليالي والشهور، عشرين شهرًا.
ملأت الحقنة بالمخدر، بكمية أكبر من كل مرة، قربت الإبرة من ذراعها، عيناها في عيني، أصابعي ترتجف، حركت عيني بعيدًا عن عينيها، وغرست الإبرة في الوريد، ضغطت السائل في دمها.
وخطرت لي فكرة جديدة ربما هناك أمل، من يدري؟ ربما تُشفى، ربما أخطأ كل هؤلاء الأطباء، ثقتي بالطب والأطباء قليلة، ثقتي بأمي أكثر، ربما تنتصر إرادتها على المرض وتُشفى.
وفجأة تجمدت أصابعي، شلت يدي، وسقطت الحقنة على الأرض قبل أن يدخل السائل كله في جسدها.
حركت رأسي ناحيتها، لم أر عينيها، لم أسمع صوتها، لا شيء فيها يتحرك.
تهاويت إلى جوارها أهمس في أذنها: ماما، ظللت أهمس وهي لا ترد. تلفت حولي في ذعر، خشيت أن أترك الغرفة، خشيت أن يدخل أبي أو أحد أخواتي، ربما يرون الجريمة في عيني، ضربات قلبي مسموعة، وصوتي وأنا أناديها مريب، استعطفتها أن تصحو، ألا تموت، أن تنقذني.
دخل أبي الغرفة، دخل إخوتي وأخواتي.
وصاحوا في ذعر: ماذا حدث؟!
قبل أن أعترف لهم بالجريمة، فتحت أمي عينيها فجأة، كما كانت تفتحهما حين تسمع صوت ندائي وأنا طفلة، بل قبل أن تسمع صوتي وتدرك أنني أناديها، ومن أعمق نومٍ تصحو، وتنهض من فراشها إلى سريري، تطمئن عليَّ أو تغطيني.
عاشت بعد ذلك اليوم ثلاثين يومًا، خيل إليَّ أنها عاشتها لمجرد أن تحميني، أن تنفي التهمة؛ لتؤكد لي أنها ماتت وحدها، وترفع عن قلبي عبئًا أو ندمًا قد يقتلني.
•••
رفعت عيني من فوق التراب، عينا ضابط المباحث ترمقانني في ريبة: ماذا تكتبين؟ حملق في الأرض طويلًا، لم يفهم شيئًا، حروف ودوائر متداخلة.
ظل واقفًا أمامي طويلًا يفحص بعينيه أرض الحوش الترابي، رأى الأعواد الخضراء الرفيعة تنبُت من بطن الأرض. وفي الركن البعيد بجوار الجدار العالي لمح الفأس.
صاح بذعر: من أين جاء هذا الفأس؟
وأصدر الأوامر على الفور للشاويشة، واختفى الفأس في لمح البصر.
قلت له: الزراعة ليست ممنوعة، كل المسجونات يزرعن.
قال: الفأس ممنوع، جميع الأدوات الحادة ممنوعة.
ظل واقفًا على عتبة الباب بين العنبر والحوش. كنت جالسة على الأرض، داخل العنبر جلست الزميلات، بعضهن على الأرض، وبعضهن على الأسرَّة، الجميع ينظُرن إليه بعيونٍ صامتةٍ غاضبةٍ متحدية. بياض العين تشوبه صفرة التسمم بثاني أكسيد الكربون، ودخان الجاز المحروق. زوايا العين حمراء التهبت بالأرق والقلق والذباب، الشفاه جافة والبشرة شاحبة تعلوها خطوط حمراء وزرقاء؛ بسبب الهرش الجلدي المستمر، والملابس معفرة بالتراب وياقة الجلاليب مسودة.
ظل واقفًا يحملق فينا بعينَيْن لا نراهما من خلف النظارة، وجه أبيض، وبشرة صافية مشربة بحمرة الدم، والنضارة. شرب اللبن وعصير الفاكهة قبل أن يأتي، وأخذ حمامًا دافئًا، ياقته حول عنقه بيضاء نظيفة بغير عفار وبغير تراب. عضلاته مستريحة، نام ملء جفونه حتى الصباح فوق سريرٍ ناعم، صرخت واحدة من الزميلات: هذا العنبر لا يمكن أن تعيش فيه إلا الحيوانات.
قالت أخرى: لا، الحيوانات ترفض أن تعيش هنا، تغضب، تثور، وترفس.
ابتسم ضابط المباحث، وقال بصوتٍ هادئ: متأسف يا جماعة إن كنت أسبب لكنَّ أي إزعاج، لكني لست الذي أصدر القرار بحبسكم هنا، لست إلا موظفًا ينفذ الأوامر.
تذكرت صوت زميلي الأديب الكبير: «لست إلا موظفًا، الأديب موظف، المفكر موظف، الفيلسوف موظف، لذلك ليس عندنا أدباء أو مفكرون أو فلاسفة.» ما الفرق بين ضابط المباحث الموظف والأديب الموظف؟ كلاهما ينفذ الأوامر، كلاهما لا يريد أن يفقد راتبه الشهري، أو وظيفته.
مددت عنقي ورفعت رأسي، عيناي نحو السماء، عقلي حر ينطلق إلى أعلى، أفكر كما أشاء، وأكتب بأصابعي على الأرض ما أشاء، لا أحد يهددني بالسجن؛ لأنني داخل السجن ذاته، ولا أحد يمكن أن يهددني بالموت؛ لأن الحياة التي نعيشها هنا هي كالموت سواءٌ بسواء.
امتلأ صدري بالهواء وقلبي بالدم، وسمعت بأذني ضربات قلبي قوية حرة، أفضل مكاني هنا فوق الأرض والتراب عن مكان ضابط المباحث على العتبة العالية مقيدًا بأغلال الوظيفة، وعن مكان زميلي الأديب الكبير الجالس على قمة الأدب، وفي صدره قلب مذعور، وفي جيبه راتب، مهما كبر فهو ضئيل إلى جانب فقدان رأيه الحر.
ضابط المباحث ما زال واقفًا على العتبة بين الحوش والعنبر. العيون حمراء غاضبة تتطلع إليه وهو يردد: لست إلا منفذًا للأوامر، وأنا في انتظار الأوامر الجديدة لتأتي إليَّ من فوق.
هتفت اعتدال: من فوق من أين؟
ابتسم وقال: من عند ربنا.
صاحت: لا، ليس من عند ربنا، ربنا لا يحبس الناس الأبرياء.
قال: ومن قال إنك بريئة؟
هتفت: أنا لا أعرف أي شيء، لا أعرف حتى القراءة والكتابة.
قال: ولماذا تغطين وجهك بالنقاب؟
قالت: لأن الله أمرني بذلك في كتابه الكريم.
قالك وكيف عرفت ذلك؟ هل قرأت كتاب الله؟
سكتت لحظة، ثم قالت: أنا لا أقرأ، ولكني سمعت الراديو عند الجيران، وسمعت الشيخ يقول إن الله أمر النساء بتغطية وجوههن.
كانت اعتدال قد حكت قصتها من قبل، لم تصدقها «بدور»، «فوقية» أيضًا تشككت في أمرها.
كنت جالسة أمامها، أرقب عينيها وهي تحكي. عينا طفلة في السادسة عشرة، وصوت طفلة.
لا أعرف القراءة ولا الكتابة؛ لأني لم أدخل مدرسة في حياتي، أبي طلَّق أمي وأنا طفلة، لا أذكر شكل أبي، أسمع عنه من الناس. قالوا لي: إنه تزوج عشر مرات، كان أكبر من أمي بأربعين سنة، طلق أمي وتزوج فتاة أصغر مني، أمي عندها ثلاثين سنة، تزوجت وسافرت مع زوجها إلى الصعيد. بقيت وحدي في القاهرة أعيش مع جدتي أم أمي، عندها خمسين سنة، لكنها عمياء ولا تخرج من الدار، منذ شهرين لم أكن أرتدي النقاب، كنت أخرج إلى الشارع بجلبابٍ عادي وشعري عارٍ. وفي يومٍ وأنا جالسة عند الجيران أنصتُّ إلى الراديو، سمعت شيخًا يقول: إن المرأة المسلمة يجب أن ترتدي الحجاب، وإلا فسوف يكون عقابها النار في الآخرة. وأكد ابن خالتي كلام الشيخ، وقال لي: النقاب يا اعتدال يحميك من النار، وارتديت النقاب. وفي يوم الجمعة خرجت أزور خالتي، بينما أنا سائرة أمام أحد الجوامع رأيت أربعة رجال معهم بنادق. أحاطوا بي وقالوا لي: ادخلي إلى السيارة، قلت لهم: إلى أين تأخذونني؟ ورأيت معهم ضابط بوليس سألني: إلى أين كنت ذاهبة؟ قلت له: كنت ذاهبة إلى خالتي، قال لي: سنأخذك إلى خالتك، وركبت السيارة وجاءوا بي إلى هنا.
وصاحت بدور في تشكك: وهل صدقته حين قال لك إنهم سيأخذونك إلى خالتك؟!
وهتفت اعتدال: والله العظيم صدقته، والله العظيم أنا أقول الحق، لماذا لا تصدقينني؟
لم تكن «بدور» تصدقها، ولا «فوقية» أيضًا، كانت عيناها السوداوان تمتلئان بالدموع، وتقترب مني قائلة: هل تصدقينني؟
أنظر في عينيها وأقول: نعم.
ظلت بجلبابٍ واحدٍ طوال فترة السجن، لا أحد من أهلها سأل عنها، أو أرسل إليها ملابس. تمسك قضبان الباب الحديدي، وتبكي وحدها وهي جالسة.
وفي ليلة صحوت من النوم على صوت أنينٍ خافت، كانت نائمةً ودموعها على وجهها، وجه طفلة كملامح ابنتي وهي نائمةٌ، وشعرها الطويل يتهدل على حافة السرير، والغطاء سقط من فوقها.
نهضت من سريري وغطيتها، فتحت عينيها وهمست: والله العظيم أنا لا أكذب.
ربتُّ بيدي على رأسها وقلت لها: كلنا نصدقك، لا تبكي وحاولي أن تنامي. أشارت بأصبعها الرفيع ناحية «بدور»، وقالت: لماذا تشك فيَّ؟ رأيت وجه بدور وهي نائمة في سريرها، على جبهتها ذلك الخط الرأسي العميق، تكشيرة تلازمها دائمًا، حتى وهي نائمة. وفي السرير المقابل رأيت «فوقية» نائمة أيضًا، وعلى جبهتها تقطيبة اتخذت شكل الخط الأفقي العميق.
دائمًا هذه التقطيبة في الليل والنهار، تزداد في الصباح، حين نفتح عيوننا على اليوم الجديد، نتبادل الابتسامات، وتحية الصباح المألوفة: صباح الخير، إلا «بدور» و«فوقية» دائمًا التكشيرة، دائمًا الشفاه المزمومة الممطوطة، وإذا ما رنت ضحكة مرحة في العنبر اتسعت التكشيرة، وزادت التقطيبة.
عرفنا أن «الضحك» عند «بدور» عيب، وحرام. أما «فوقية» فهي تزم شفتيها في جدية مصطنعة، وتضغط على مخارج الألفاظ قائلة: ما فائدة الضحك؟
وأقول لها: الضحك مثل الألعاب الرياضية، مثل الرقص يقوي عضلات القلب والصدر، وينشط خلايا العقل. الضحك له مركز في الجزء الأيمن من المخ، إذا مرضت خلايا هذا المركز أو تكاسلت عجز الإنسان عن الضحك. الضحك هو دليل التفكير ونشاط العقل، الضحك يساعد على تدفق «الأدرينالين» في الدم، وسرعة دوران الدم في خلايا المخ والقلب. الضحك لا يعني الاستهتار، كما أن التكشيرة لا تعني الجدية.
لكن «فوقية» كانت عاجزة عن الضحك، و«بدور» كانت رافضة أن تضحك، وإذا ضحكت رغم أنفها استعاذت بالله من الشيطان الرجيم، وأخفت فمها بكفها قائلة: اللهم اجعله خيرًا يا رب.
رغم التشابه بينهما كان كالقطبين المتنافرين، يتجاذبان ويتنافران، ويتنافسان على زعامة العنبر.
يختلفان في رؤيتهما للحياة وحركة التاريخ. «بدور» ترى أن الله محرك كل شيء، وترى «فوقية» أن الاقتصاد هو الله.
وصرخت «بدور»: كافرة، ملحدة، لا تركعين ركعة واحدة لله.
ويدب النزاع بينهما والتنافر، لكن سرعان ما يتجاذبان.
تقترب الواحدة من الأخرى في الملامح والصفات، والرغبة في السيطرة، والهروب من المسئوليات. تسعى الاثنتان للسيطرة على العنبر، وتهرب الاثنتان من المسئولية والعمل.
كانا يفصلان بين السيطرة والمسئولية. «بدور» ترى أن الله هو المسيطر على كل شيء، والمهيمن على كل ما في الحياة من خيرٍ وشر، لكن الله غير مسئول إلا عن الخير، والشيطان هو المسئول عن الشر والظلم في العالم.
و«فوقية» كانت ترى أن الزعيم غير مسئول عن الأعمال الصغيرة مثل غسل الصحون بعد الأكل، لا بدَّ أن يكون هناك الخدم حتى يأكل الزعيم، ويستريح بعد الأكل، ثم يخطب في الجماهير. كانت تقدِّس الزعامة كإله، والإله لا يخطئ وهو مسئول عن النصر فحسب، أما الهزيمة فترجع إلى عدم الوعي لدى الجماهير.
كانت كل واحدة فينا تغسل صحنها بعد الأكل، وتنفض سريرها بعد النوم، إلا «فوقية» و«بدور» تنتظران حتى تأتي «ذوبة» لتقوم عنهما بالعمل، وإذا لم تأتِ «ذوبة» ظل الصحن مُلقًى في الحوض قذرًا إلى أن تغسله واحدة أخرى، وظل السرير منكوشًا يغطيه الذباب والتراب إلى أن تنفضه إحدى المسجونات.
لم يكن عندنا ماء ساخن، ونضطر للاستحمام بالماء البارد تحت الدش، إلا «بدور» و«فوقية» لا بد لهما من الماء الساخن، ولا بد أن تحمل «ذوبة» الجردل على رأسها، وتأتي بالماء الساخن من الماسورة تحت المدخنة، وإذا لم يوجد الماء الساخن أسبوعًا أو أكثر بقِيَتا بدون استحمام.
وملابسهما أيضًا تظل بدون غسيل، حتى تأتي ذوبة.
وما إن تظهر ذوبة حتى تهتف بها «بدور» قائلة: أين الماء الساخن؟ منذ أسبوع وأنا أطلب ماء ساخنًا لأستحم، هل أبقى أسبوعين بدون استحمام في هذا الجو الهباب؟! أما «فوقية» فتناولها كومًا من الملابس المتسخة، وتقول بلهجة مَن تعود أن يعطي أوامر للخدم: اغسلي ملابسي بسرعة، وانشريها في الحوش في الشمس؛ لتجف قبل أن تغلق الشاويشة الباب.
•••
ذات يوم صرخت «بدور»: إنها جاسوسة.
ردت عليها واحدة من المنقبات: كيف عرفت أنها جاسوسة، هل عندك دليل؟!
قالت بدور وهي تحرك السبحة في يدها: دليلي وهو الله.
قالت: هل «الله» هو الذي قال لك إنها جاسوسة؟!
قالت «بدور»: نعم. ردت: لكن الله قال لي إنها ليست جاسوسة. ردت بدور بغضب: لكن «الله» لا يخاطب إلا ذوي القلب النقي.
وصرخت المرأة المنقبة: قلبي أنقى من قلبك.
وصاحت «بدور»: اسكتي يا فرماوية.
وردت المرأة المنقبة: أنا فرماوية يا خومينية، يا علوية.
وأخذتا تتبادلان التهم العجيبة التي لم نسمعها أبدًا، والأسماء التي لم تطرق آذاننا، سمعت واحدة منهما تقول للأخرى: يا سماوية، ظننت أنها تتهمها بوضع السم في الطعام، لكن اتضح لي فيما بعد أن السماوي اسم أحد القيادات الدينية مثل الفرماوي.
وقالت «فوقية»: المباحث تضع دائمًا في كل عنبر جاسوسة لتنقل إليهم الأخبار.
قلت: ولماذا تكون اعتدال هي الجاسوسة، وليس واحدة أخرى غيرها؟
وقالت زميلة أخرى: إنها فتاة صغيرة مسكينة فقيرة، وليس لها أحد.
ردت «فوقية»: هذا هو النوع الذي يستخدمونه دائمًا، يختارون واحدة فقيرة ليغروها بالمال. إن الفقر يضعف مقاومة الإنسان أمام إغراء المال.
قلت: ليس دائمًا، والعكس أيضًا صحيح، فالثراء قد يجعل الإنسان أكثر رغبةً في المال، لا يمكن أن نتهمها دون دليل.
وقالت إحدى الزميلات: هذا ظل مثل الظلم الواقع علينا. نحن هنا في السجن حكموا علينا بالتآمر على الوطن والفتنة الطائفية دون أي دليل. فهل نفعل معها ما نرفضه ونلعنه كل يوم؟ وكيف يكون فقرها هو المبرر الوحيد لشكوكك فيها، أنت التي تدافعين عن الفقراء؟
وقالت إحدى المنقبات: اعتدال فتاة ترتدي النقاب، وليست جاسوسة.
وصاحت بدور: ليس كل من ارتدت النقاب تكون مؤمنة.
وبدأ العراك من جديد، والاتهامات، والتشنُّجات الهستيرية.
ولم يكن من مكان أهرب إليه، لا ليل ولا نهار.
•••
كان السجن في خيالي هو الوحدة، هو الصمت. الزنزانة المنفردة، يعيش فيها الإنسان وحده، يكلم نفسه، يدق الجدار ليسمع دقة جاره على الجدار.
لكني لم أكن أستمتع بالوحدة أو الصمت إلا بعد منتصف الليل وقبل أذان الفجر، لم أكن أستطيع أن أغلق بابًا بيني وبين الأخريات، حتى وأنا في دورة المياه.
إذا توقفت «بدور» عن الشجار مع زميلاتها بدأت في تلاوة القرآن بصوتٍ عال. وإذا نامت «بدور» استيقظت «فوقية»، وبدأت تتناقش وتخطب، وإذا نامت «فوقية» نهضت «بدور» لتؤذن للصلاة وقيام الليل.
في ليلة امتد الشجار بين «بدور» وزميلة لها حتى الفجر، لم ينتهِ إلا بإغماء «بدور» بعد إصابتها بتشنجات عصبية عنيفة، مزقت شعرها، ومزقت وجهها بأظافرها وهي تصرخ إلى أن فقدت الوعي.
في الصباح ما إن فتحت الشاويشة باب العنبر حتى هتفت بها: أريد أن أنتقل إلى زنزانةٍ منفردة، لا أريد أن أبقَى في هذا العنبر.
لكن إرادة السجن رفضت طلبي، وأدركت أن التعذيب في السجن لا يكون بالوحدة والصمت، ولكن التعذيب بالضجيج والأصوات أشَد.
وظلت الزنزانة المنفردة تلوح لي كحلم بعيد المنال.
منذ الطفولة وأنا أعشق الوحدة، لم تكن لي غرفة أغلقها على نفسي. عدد الأشخاص في كل مراحل عمري كان يزيد عن الغُرف في البيت، لكني كنت أنتزع لنفسي مكانًا أخلو فيه لأكتب.
ارتبطت القدرة على الكتابة بالخلوة الكاملة مع نفسي، وأعجز عن الكتابة حين أعجز عن إعطاء نفسي للوحدة عطاءً كاملًا.
بعد منتصف الليل، وحين يهدأ الجو، ولا أسمع إلا صوت الأنفاس النائمة المنتظمة أنهض من سريري، وأسير على أطراف أصابعي إلى الركن المجاور لدورة المياه، أَقْلِب الصفيحة الفارغة، وأجلس على قعرها، أضع الصحن الألومونيوم فوق ركبتي وأسند عليه ورقة التواليت الطويلة كالشريط، وأبدأ الكتابة.
•••
في السجن تظهر حقيقة الإنسان، يقف عاريًا أمام نفسه وأما غيره. تسقط الأقنعة والشعارات، في السجن ينكشف المعدن الحقيقي للشخصية، خاصةً في الأزمات.
فتشت الضابطة زميلةً لنا تفتيشًا جسديًّا، فعثرت على ورقة صغيرة، لم تكن إلا رسالة قصيرة من الزميلة إلى أسرتها، تسألهم عن صحتهم، وتطمئنهم على صحتها.
لكن إدارة السجن هاجت وثارت، لا بد أن في عنبر السياسة قلمًا وورقًا، وهجمت علينا فرقة التفتيش، تفتح الحقائب وتقلب المراتب، وتنزع الحجاب والنقاب والعباءات.
وصرخت زميلة من المنقبات جين كشفوا شعرها أمام الرجال من إدارة السجن قائلة: يا كفرة!
أخذوها إلى زنزانة التأديب، سمعنا صراخها من بعيد، وعرفنا أنهم ضربوها.
هددنا جميعًا بالإضراب عن الطعام، حتى تعود الزميلة إلينا، وكنوع من الاحتجاج على ضربها، إلا «بدور» و«فوقية».
قالت «بدور»: الإضراب نوع من الاحتجاج، وأنا لا أشترك في أي احتجاجٍ ضد السلطة، أنا لا أخاطب الطاغوت، لا أخاطب إلا الله، ولا أشكو لأحد، الشكوى لغير الله مذلة.
وقالت «فوقية»: سوف يقابلون الإضراب بمزيدٍ من القهر لنا، وربما يضعوننا جميعًا في زنازين التأديب ويضربوننا.
لكن الزميلات رفضن منطق «بدور»، ومنطق «فوقية». قانون السجن لا يبيح الضرب ولا التفتيش الجسدي، لا بد أن نعلن عن رفضنا وعن احتجاجنا. لو سكتنا هذه المرة فسوف يشجعهم سكوتنا على تكرار الإهانة، وتكرار الضرب، لنستخدم أي سلاح في أيدينا، وإن كان مجرد الامتناع عن الطعام.
عجزنا عن إقناع «بدور»، قالت بحسم: لا فائدة من أي احتجاج، إنهم طواغيت سوف يسحقهم الله إذا شاء.
لكن «فوقية» كانت أكثر وضوحًا، وحين حاصرَتْها الزميلات بالأسئلة، وكيف لا تخضع لرأي الأغلبية وهي التي كانت ترفع شعار العمل الجماعي والتضحية من أجل الآخرين؟! قالت بصوتٍ ضعيفٍ لم يكن هو صوتها في أي وقتٍ آخر: أنا مريضة ولا أحتمل الإضراب، ورقدت في سريرها تئن وتشكو ألمًا في صدرها، إلا أن باب العنبر فتح فجأة، ورأينا الشاويشة ومن خلفها الزميلة تدخل إلينا، قفزنا جميعًا نعانُقها فرحاتٍ بعودتها إلينا.
قفزت «فوقية» من سريرها أيضًا وعانقتها.
وفي قفزتها نسيت أنها كانت مريضة.
•••
قبل الفجر صحوت على صوت «بدور» يقول: انهضي للصلاة، الصلاة خير من النوم.
قالت بصوتٍ خائر: لست نائمة، أنا مريضة، ضربوني هنا على رأسي، رجال ونساء يجملون العِصي الغليظة، لم أر وجوههم، لكني سمعت أصواتهم، شدوا النقاب من فوق رأسي، تهدل شعري أمامهم، خبأت شعري بيدي وذراعي، ليضربوني حتى الموت، لكن شعري لن يراه الرجال. شدوني من شعري على الأرض، حوطوا عنقي بأيديهم، وكدت أختنق، داسوا بأقدامهم على نظارتي، لا أرى بدون نظارة، عندي صداع شديد، ومرض في كل جسمي، في رأسي وعنقي وعمودي الفقري.
عاد صوت «بدور» يقول: انهضي وتوضئي لتصلي، لا تقولي إنك مريضة. الصلاة تشفيك من المرض، الله هو الذي يشفي، لا تكتبي أي شكوى لأي أحد، الله موجود، إذا كنت بريئة فسوف ينصرك الله، لا تقولي إنك لم تفعلي أي ذنب، لا بد أنك فعلت ذنبًا في حياتك ونسيت. لا يمكن أن يعرضك الله للألم أو العذاب أو السجن أو الضرب دون ذنب، الإنسان مذنب دائمًا، ولا بد أن تطلبي المغفرة من الله؛ فالتوبة واجبة سواء عملت ذنبًا أم لم تعملي ذنبًا، ما دام الله قد طلب منا أن نستغفره؛ فلا بد أننا عملنا ذنوبًا. الإنسان آثم بالطبيعة؛ وإلا لما كان هناك توبة أو مغفرة. قولي: أستغفر الله ثلاث مرات، وقومي لتصلي. لا بد أن تقومي الليل للصلاة، ولا يكفي الصلوات الخمس. إذا وجدت الماء مقطوعًا تيممي، الدين يسر وليس عسرًا، والوضوء بماء ليس ضروريًّا. فالماء لا يهم، ولكن المهم أن تذكري الله بالليل وبالنهار، وقيام الليل خير وأبقى من النوم، وأنت ذهبت إلى زنزانة التأديب؛ لأنك لا تقومين الليل ولا تحفظين القرآن. قلت لك أكثر من مرة لا بد أن تحفظي من القرآن سورتين كل أسبوع، هذا واجب مقدس. من لا تفعله لا بدَّ أن تضرب على قدميها خمسين ضربة. من يدري لعل الله أراد لك الضرب بيد آخرين لتكفري عن ذنبك، لا يكفي أن تغطي وجهك بالنقاب، لا بد أن تُطهِّري قلبك من وسوسة الشيطان. المرأة أقرب إلى الشيطان من الرجل، وعن طريق حواء استطاع إبليس أن يصل إلى آدم، المرأة خُلقت من ضلعٍ أعوج، ولا تستقيم إلا بالضرب الموجع. واجبها السمع والطاعة دون اعتراض ولو بطرفة عين، أو بتكشيرة غضب. التكشيرة توجب الضرب عشرين ضربة على القدمين.
ورأيت الفتاة تنهض من سريرها، تمشي وظهرها محني ناحية دورة المياه، تتحسس الطريق بيديها، وقد فقدت نظارة بصرها، ارتدت العباءة والنقاب، ووقفت خلف «بدور» تصلي وتستغفر الله على ذنوبها.
•••
الشاويشة نبوية كانت تدهشني أحيانًا بمواقف شجاعة، تقف فيها إلى جانب الحق، ولا تخشى سطوة إدارة السجن، لم تكن كغيرها من الشاويشات الأخريات تقبل أي رشوة. ولم تكن تقبل أن تضرب مسجونة، وإن أمرها المسئول بذلك.
قالت: مرة واحدة سمعت الأمر، وضربت مسجونة في زنزانة التأديب، ثم عدت إلى بيتي وقلبي فيه وجع، ومرضت بالبيت أسبوعًا، ومن بعدها لم أضرب أي مسجونة، حتى ولو هددوني بالرفد لا أضرب أبدًا، أنا أتشاجر مع ابني حين يضرب قطًّا أو كلبًا، فما بال الإنسان؟!
كانت «بدور» جالسة إلى جوارها تسمع كلامها، فقالت لها: «قلبك طيب يا شاويشة نبوية، وسوف يجازيك الله خيرًا، طلب الله منا الرفق بالحيوان والإنسان وجميع مخلوقات الله.»
قلت: إلا مخلوقًا واحدًا المرأة.
وهتفت الشاويشة: لماذا المرأة؟
قلت: لأنها خلقت من ضلع أعوج، ولا تستقيم إلا بالضرب.
وضحكت، وضحكت الشاويشة والزميلات إلا «بدور»، ظهرت التكشيرة بسرعة على جبهتها على شكل خط رأسي عميق. وقالت: المرأة ناقصة عقل ودين.
قالت لها الشاويشة: وأنت، ألست امرأة؟!
صاحت: لا.