الفصل السادس
نزل من القطار وراح يسأل الناس أن يدلُّوه على المواصلات الذاهبة إلى روض الفرج، فلم يستطع أحد أن يدله. فاحتسب الله وركب سيارة أجرة … والنزول من سيارة يعطيني قيمة غير الذهاب للمعلم متولي ماشيًا.
لم يكن عسيرًا عليه أن يجد الوكالة التي يبحث عنها. وعاجله المعلم متولي: يا مرحبًا يا أهلًا وسهلًا. ماذا تشرب؟
– ما تشاء.
– يا سعيد قل لهم أن يأتوا بكوب عصير قصب لعمك توفيق بك.
ونزل لقب بك على قلب توفيق بردًا وسلامًا، فهم هنا لا يعرفون بعد أنه مُرابٍ كما كان أهل بلدته يعرفون. ولهذا لم يكونوا ينادونه إلا بتوفيق أفندي. وانتبه من سرحته ليقول في سرعة: تشكر.
ووجد متولي يقول: أولًا أعرفك بابني البكري سعيد. أخرجته من المدارس ليكون معي في الوكالة.
– خيرًا فعلت. باسم الله ما شاء الله! أهلًا يا عم سعيد.
– عمك توفيق بك صبحي سيصبح كما قلت شريكًا لنا.
ويقول سعيد: يا أهلًا يا مرحبًا! ربنا يجعل قدومه علينا أخضر إن شاء الله.
ويقول متولي: من أجل هذا طلبت عصير قصب، فالذي أوَّله سكر سيكون كله سكر.
ويقول توفيق: إن شاء الله. ما الأخبار؟
– كلها خير إن شاء الله.
– يا ترى هل تذكرت موضوع الشقة؟
– طبعًا تذكرته.
– خيرًا إن شاء الله.
– خلو الرِّجْل مرتفع جدًّا.
– وما العمل؟
– أنا عندي فكرة.
– الحقني بها.
– لماذا لا تشتري شقة وتكون ملكك، وفي نفس الوقت لا تخسر خلو الرِّجْل الذي سترميه بدون مناسبة؟
وصمت توفيق بعض الوقت. وانتظر متولي عليه ليأخذ فرصته في التفكير. خلو الرِّجْل فلوس سيبتلعها المؤجر ولن تعود عليَّ بأي فائدة، ثم إن الإيجار بعد ذلك سيكون مرتفعًا. أما شراء شقة تصبح ملكًا خالصًا لي فهي رأس مال. وأنا نويت أن أقيم في مصر دائمًا فلا عمل لي في البلد إلا تسليف الخلق. وهذا أمر أستطيع أن أمارسه في مصر بشكل أوسع وبعائد أكبر. التفت إلى متولي وقال له: والسعر؟
– معقول.
– هل وجدت شيئًا؟
– واتفقت مع صاحب المِلْك وأمهلته حتى تأتي.
– كم حجرة؟
– ثلاث حجرات وفسحة كبيرة.
– العمارة كم دور؟
– خمسة وبها مصعد، وفي كل دور أربع شقق.
– والشقة في أي دور؟
– في الرابع.
– المصعد هو الذي جعل الشقة غالية.
– يا توفيق نحن الآن عندنا صحة ونستطيع أن نصعد أربعة أدوار. ولكن السكن للعمر كله فالمصعد سنحتاجه.
– هل يمكن أن أراها؟
– الآن، وهي قريبة من هنا وعلى النيل.
– سيارتك معك؟
– تحت أمرك.
– هلم بنا.
– توكلنا على الله.
•••
واصطحب متولي ابنه سعيدًا وذهب ثلاثتهم إلى الشقة. وكان الحاج خيري الوزَّان المالك الذي كان في انتظارهم في العمارة ورافقهم في الصعود إلى الشقة التي بهرت توفيقًا إبهارًا شديدًا. ولكنه استطاع في مقدرة التاجر المُرابي أن يخفي إعجابه حتى لا يطمع المالك في الثمن. وأحضر المالك خيري الوزَّان بعض الكراسي وقعدوا. وقال خيري التاجر المتمرس لتوفيق: واضح أن الشقة دخلت مزاجك.
وانتاب توفيقًا الأسف أنه لم يستطع أن يخفي إعجابه إخفاءً تامًّا، وقال: لا بأس بها. ولو أن الحجرات ضيقة بعض الشيء.
– المهندس الذي رسمها من أكبر المهندسين في مصر، واتساع الحجرات هو القاعدة التي تسير عليها كل العمارات.
– النهاية هل أنت مصمم على السعر الذي قلته للمعلم متولي؟
– هذا موضوع لا جدال فيه.
– هل تنوي أن تبيع الشقق كلها بنفس السعر؟
– لا. أنا أبيع هذه الشقة فقط، أما الشقق فقد أجرتها كلها. ولكن الفلوس قصرت معي بعض الشيء فقلت أبيع هذه الشقة.
– صلِّ على النبي. أنا سأترك بلدتي وآتي لأعيش هنا. وأحب أن تكرمني، فأنا أبدأ حياة جديدة عليَّ.
– والله هذا شأنك، أما أنا فلا أستطيع أن أخفض شيئًا من السعر، فهذا سيجعل الأمر بخسارة.
واستمرت المحاكاة بين خيري الوزَّان وتوفيق صبحي مدة تجاوزت الساعتين، ولم يستطع توفيق أن ينزل السعر إلا بمقدار ألفي جنيه واشترى الشقة.
وكان متولي وسعيد صامتين تقريبًا طوال الجدال الذي دار بين توفيق وخيري، حتى إذا تمت الصفقة تنفسا الصعداء. ولكن بعد أن وقر في نفس متولي أن الشركة مع توفيق لن تكون سهلة أو يسيرة. وقال متولي لتوفيق: موعدنا مع المحامي فات، فما رأيك؟
– نذهب إليه بعد الظهر، وبالمرة يكتب عقد الشقة.
– كلام معقول … إذن تتغديان عندي أنت والحاج خيري ونذهب ثلاثتنا إلى المحامي بعد الظهر.
ودار جدال شديد بين ثلاثتهم فيمن يدعو الآخرين على الغداء. وكان صوت توفيق أكثرهم ضعفًا وهمسًا. وحسم المعلم خيري النقاش بقوله: أنا الوحيد الذي قبضت فلوسًا، فأنا الذي أدعوكم وأمري إلى الله.
وضحك ثلاثتهم وتم الغداء في مطعم الكباب على حساب خيري.
وتمشى أربعتهم بعض الوقت وجلسوا إلى مقهى، ودفع متولي ثمن الطلبات حتى إذا أصبح الموعد مناسبًا ذهبوا إلى محامي متولي الأستاذ حسان المهدي.
وبدأ خيري الحديث بأن طلب من حسان المهدي كتابة عقد الشقة. وأخذ المحامي البيانات المطلوبة وانصرف خيري إلى طيته وبقيَ متولي وتوفيق وسعيد.
وقال متولي لحسان: نريد أن تكتب لنا عقد شركة بيني وبين توفيق بك.
– على بركة الله.
والعجيب أن شروط العقد بين متولي وتوفيق لم تستغرق وقتًا يذكر، مما جعل بعض الطمأنينة تراود متولي بعد ما رآه من توفيق عند شرائه للشقة.
والواقع أن لكل من الشريكين أسبابًا قوية في الحرص على هذه الشركة، فقد كان لمتولي جار في الوكالة يضيق عليه الخناق، فقد كان يبيع نفس ما يتاجر فيه متولي من أقطان وحبوب. وكان هذا الجار مدبولي وهبة يرخِص أثمان بضاعته، الأمر الذي كان يضيق به متولي غاية الضيق. وقد كانت مشاركة توفيق له تمكنه من إرخاص الأسعار حتى لا يستطيع مدبولي أن ينافسه.
أما توفيق فقد كان توَّاقًا إلى الحياة في القاهرة ليتوسع في الإقراض بالربا. وكانت هذه المشاركة تتيح له الأموال الضخام التي يهفو إليها.
•••