رأس قيصر
في مكانٍ ما في برومبتون أو كينسينجتون، ثمة طريقٌ طويلٌ لا ينتهي من المنازل العالية الفخمة، لكنَّ أغلبها خاوٍ؛ فيبدو أشبهَ بصف من المقابر. خطواتُ الدرج التي تُؤدِّي إلى الأبواب الأمامية القاتمة تتَّخِذ شكلًا منحدرًا وكأنها جانبُ أحد الأهرامات، حتى إنَّ المرء ليخاف أن يطرق البابَ؛ خشيةَ أن تفتحه إحدى المومياوات. غير أنَّ السمة الأكثر كآبة في هذه الواجهة الرمادية هي طولها ذو المدى المترامي، وتتابُعها اللامتناهي. يتراءى للسائر في هذا الطريق أنه لن يصل إلى أي تقاطع أو زاوية، غير أنَّ هناك استثناءً واحدًا، وهو استثناءٌ صغير للغاية، ولكنَّ السائر يكاد أن يلقاه بالتهليل؛ فثمة زقاقٌ خفيٌّ بين منزلَين من المنازل العالية؛ مجرد شقٍّ صغير يبدو كصَدْع الباب إذا ما قُورِن بالشارع، غير أنه يكفي لأن تقف فيه حانةُ شراب صغيرة أو حانة طعام، سمَح الأغنياءُ بوجودها في الزاوية من أجل خادمي الإسطبلات العاملين لديهم. وثمة شيءٌ مبهج في هيئتها الكئيبة، شيءٌ ساحرٌ لم يتأثر بما تتسم به من ضآلة. لقد بدَت وهي عند سفح تلك المنازل الحجَرية الرمادية العملاقة وكأنها منزلُ أقزام مُضاء.
إنَّ أي فرد كان يَعبر المكان في أمسية محدَّدة من أمسيات الخريف، التي كانت تبدو هي ذاتُها وكأنها ضربٌ من الخيال، ربما قد رأى يدًا تُنحِّي نصف الستار الأحمر جانبًا، ووجهًا لا يختلف كثيرًا عن وجه غول بريء يُحدِّق منه. لقد كان في الواقع وجهَ شخص يحمل ذلك الاسم البشري ذا الوَقع المُسالِم: براون، الذي كان من قبلُ كاهنَ كوبهول في إسيكس، وهو يعمل الآن في لندن. كان صديقه فلامبو، الذي يعمل محققًا بصفة شبه رسمية، يجلس على الجهة المقابلة منه مُدوِّنًا آخر ملحوظاته عن قضية وقعَت في حيِّه وكان قد حلَّ لغزها. كانا يجلسان إلى طاولة صغيرة قريبة من النافذة، وحين سحب الكاهنُ الستارَ ونظر منه إلى الخارج، انتظر إلى أن مرَّ شخصٌ غريب أمام النافذة قبل أن يترك الستار يَنسدِل مرةً أخرى. وبعد ذلك، اتجهَت عيناه المستديرتان إلى الكتابة البيضاء الكبيرة الموجودة على النافذة أعلى رأسه، ثم سرحَ ببصره إلى الطاولة المجاورة التي لم يكن يجلس عليها سوى عامل أمامه جِعَةٌ وجُبن، وفتاة صهباء الشعر أمامها كوبٌ من اللبن. ولمَّا رأى صديقه بعد ذلك قد تركَ مُفكِّرة الجيب، تحدَّث إليه بهدوء قائلًا: «هلَّا تبعتَ ذلك الرجل ذا الأنف المُزيَّف إذا كان وقتك يسمح بعشر دقائق؟»
رفعَ فلامبو بصره في دهشة، ولكنَّ الفتاة ذات الشعر الأصهب قد رفعَت رأسها أيضًا وقد كان التعبيرُ الذي بدا على وجهها أقوى من الدهشة؛ كانت ترتدي ملابسَ بسيطة وواسعة باللون البُني الفاتح، لكنها كانت سيدةً أرستقراطية، بل بدا من النظرة الثانية أنها مُختالة أيضًا دونما داعٍ. تحدَّث فلامبو مردِّدًا: «الرجل ذو الأنف المُزيَّف! مَن هو؟»
أجابَ الأبُ براون: «ليست لديَّ أي فكرة. إنني أريدك أن تعرف، وأنا أطلب منك هذا كمعروفٍ تسديه لي. لقد سار إلى هناك.» رفع إبهامه إلى أعلى كتفه في واحدة من إيماءاته العادية، ثم أردفَ قائلًا: «لا يمكن أن يكون قد تجاوز ثلاثة من أعمدة الإنارة بعد. إنني أرغب في معرفة اتجاهه فقط.»
حدَّق فلامبو في صديقه لبعض الوقت، وعلى وجهه تعبيرٌ يجمع بين الحيرة والاستمتاع، ثم قامَ عن الطاولة، وأخرج جسده الضخم بعناءٍ من الباب الصغير لحانة الأقزام، وذابَ في الغسَق.
أخرج الأبُ براون من جيبه مفكرة صغيرة وراحَ يقرأ بتركيز؛ فلم يُولِ انتباهًا لحقيقة أنَّ السيدة ذات الشعر الأصهب قد غادرت طاولتها وجلسَت أمامه. وأخيرًا، مالت إلى الأمام وتحدَّثَت في صوتٍ خفيضٍ قوي: «لماذا تقول ذلك؟ ما يُدريك أنَّ أنفه مُزيَّف؟»
رفعَ جفنَيه الثقيلَين بعضَ الشيء اللَّذين اختلَجا في حرجٍ كبير، ثم راحت عيناه المتشككتان تَجولان مرة أخرى في الكتابة البيضاء الموجودة على الواجهة الزجاجية للحانة. تبِعَت عينا السيدة الشابة عينَيه واستقرَّتا هناك أيضًا في حيرةٍ خالصة.
تحدَّث الأبُ براون مُجيبًا عمَّا جالَ في خاطرها: «كلَّا، إنها ليست «سيلا» مثل الكلمة الواردة في المزامير. لقد قرأتُها أنا نفسي على هذا النحو حين كنت شاردَ الذهن الآن، لكنها «أليس».»
تساءلَت الشابة: «حسنًا! وما أهمية هذه الكلمة؟»
تحوَّلت عينه التي أطالت التأمل إلى كُم الفتاة المصنوع من القماش الخفيف، والذي دار على مِعصمه خيطٌ في نقشٍ فني يَكفي بالضبط لتمييز الثوب عن ثياب عمل امرأة من العامة، ويجعله أشبهَ بثياب عمل سيدة أرستقراطية تدرس الفن. بدا أنه قد وجدَ في هذا الأمر مادةً دسِمة للتفكير، غير أنَّ إجابته جاءت بطيئة للغاية ومترددة. تحدَّث إليها قائلًا: «مثلما ترَين يا سيدتي، إنَّ هذا المكان يبدو من الخارج … حسنًا، إنه مكانٌ لائق للغاية … لكن السيدات من أمثالكِ لا يرَينَ هذا عادةً؛ إنهنَّ لا يَدخلن مثل هذه الأماكن طوعًا، إلا …»
أعادت كلمتَها ثانيةً: «حسنًا!»
«إلا قلة ممَّن لم يحالفهن الحظ، وهن لا يَدخلن كي يشرَبْن الحليب.»
تحدَّثت الشابة قائلة: «إنك لرجل فريد حقًّا، ماذا تبغي من كل هذا؟»
أجابها بلطفٍ شديد: «لستُ أبغي إزعاجك، وإنما أن أتسلَّح بالمعرفة التي تكفي لمساعدتِك، إذا طلَبتِ مساعدتي، بأريحيَّة في أي وقت.»
«لكن لماذا قد أحتاج إلى المساعدة؟»
تابع مناجاته الحالمة: «لا يمكن أن تكوني قد دخلتِ إلى هنا لرؤية شخصٍ تحت الوصاية أو بعض الأصدقاء المتواضعين، وإلا لكنتِ قد دخَلتِ إلى قاعة الاستقبال، ولا يمكن أن تكوني قد دخلتِ لأنكِ تشعرين بالإعياء، وإلا لكنتِ قد تحدَّثتِ إلى سيدة المكان، التي تبدو سيدةً جليلة بالتأكيد … ثم إنكِ لا تَبدين متعبة بهذه الطريقة، بل تعيسة فقط … إنَّ هذا الشارع هو الطريق الوحيد الذي لا يوجد به أيُّ منعطفاتٍ، والمنازلُ مغلقة على الجانبين … لا يسَعُني سوى أن أفترض أنكِ قد رأيتِ شخصًا يقترب وأنتِ لا ترغبين في لقائه، ولم تجدي سوى هذه الحانة ملجأً في هذه الناحية المقفرَّة التي لا حَراكَ فيها … لا أظنُّ أنني قد تجاوزتُ صِفتي كغريبٍ حين نظرتُ إلى الرجل الوحيد الذي مرَّ في أثركِ على الفور … ولأنني قد خمَّنتُ أنه يبدو من النوع الطالح، وأنتِ تبدين من النوع الصالح؛ فإنني على أتم الاستعداد للمساعدة إذا كان قد أزعجكِ، وهذا كلُّ ما في الأمر. وأما عن صديقي، فسوف يأتي سريعًا؛ فلن يستطيع بالطبع أن يتوصل إلى أي شيءٍ من تقفِّي الأثر في طريق كهذا … كنت أعرف أنه لا يستطيع.»
صاحت وهي تميل إلى الأمام في فضول أشدَّ حرارة: «لماذا أرسلتَه إذن؟» كانت تتمتع بوجه أبيٍّ جامح تشوبه الحُمرة، وأنفٍ روماني، مثلما كان وجه ماري أنطوانيت.
ثبَّت نظرَه عليها للمرة الأولى وتحدَّث إليها قائلًا: «لأنني كنتُ آمُل أن تتحدثي إليَّ.»
نظرَت إليه بدورها لبعض الوقت بوجه متَّقدٍ قد عَلَاه ظلٌّ أحمرُ من الغضب، وبالرغم من مخاوفها، كانت الدُّعابة تشعُّ من عينَيها وجانِبَي ثَغرِها، وأجابت بوجه هو أقربُ إلى التجهُّم: «حسنًا، إذا كنت حريصًا على محادثتي كلَّ هذا الحرص، فلعلك تُجيب عن سؤالي.» وبعد فترةِ توقُّف قصيرة أضافت: «لقد كان لي الشرف في أن أسألك عن السبب الذي دفعَك إلى أن تعتقد أنَّ أنف الرجل مُزيَّف.»
أجاب الأبُ براون ببساطة تامة: «إنَّ الشمعَ دائمًا ما يتسبَّب في ظهور بعضٍ من هذه البقع في هذا الطقس.»
تحدَّثَت الفتاةُ ذات الشعر الأصهب في احتجاجٍ قائلة: «لكنه أنف معقوف.»
ابتسمَ الكاهن بدوره وصدَّق على كلامها قائلًا: «إنني لا أقول إنه الأنف الذي يَرتديه المرءُ لغرض التأنُّق فحسب، بل إنني أعتقد أنَّ هذا الرجل يرتديه؛ لأنَّ أنفه الحقيقي أجملُ منه كثيرًا.»
أصرَّت الفتاةُ على سؤالها فتابعت: «لكن لماذا؟»
راحَ براون ينظر وهو شارد الذهن وقال: «ماذا تقول أغنية الأطفال؟ «رجلٌ ملتوٍ مشى مسافة ميل ملتويًا» … وأنا أعتقد أنَّ هذا الرجل قد سار في طريق ملتوٍ للغاية مُتبِعًا أنفه.»
تساءلت بارتجاف: «لماذا؟ ماذا فعل؟»
تحدَّث إليها الأبُ براون بهدوءٍ شديد قائلًا: «إنني لا أريد أن أفرض عليكِ أن تثقي بي ولو بقيدِ أنمُلة، لكنني أعتقد أنكِ تستطيعين أن تُخبريني عن ذلك أكثر مما أستطيع أن أخبرك.»
نهضَت الفتاة على قدمَيها ووقفت ببعض الهدوء، غير أنها كانت تقبض يدَيها كمَن يهم بأن يخطو بعيدًا، ثم بدأت يداها في التراخي وجلسَت مجددًا. تحدَّثت إليه بيأسٍ قائلة: «إنك أكثرُ غموضًا من الآخرين جميعًا، لكنني أشعر بأنه قد يكون ثمَّة قلبٌ في غموضك.»
تحدَّث الكاهنُ بصوتٍ خفيض قائلًا: «إنَّ أكثر ما نَخشاه جميعًا هو متاهة بلا مَركز وبلا دليل؛ وذلك هو السبب في أنَّ الإلحاد ليس سِوى كابوس فحَسْب.» قالت الفتاة الصهباء الشعر بإصرار: «سأخبرك بكل شيء، فيما عدا السبب في إخباري إياك، وهو ما لا أعرفه.»
راحت تنقر على مفرش الطاولة المُرتَّق وتابعَت: «إنك تبدو كمَن يعرف الفرق بين الاختيال وبين ما هو ليس اختيالًا، وحين أقول إنَّ أُسرتنا أسرة نبيلة عتيقة، سوف تَفهم أنَّ ذلك جزءٌ ضروري من القصة؛ إنَّ أكبر خطر يَحيق بي بالفعل هو مفاهيمُ أخي العليا عن مقتضيات النَّبالة وما إلى ذلك. حسنًا، إنَّ اسمي هو كريستابل كارستيرز، ووالدي هو ذلك الكولونيل كارستيرز الذي سمعتَ به على الأرجح، والذي كوَّن مجموعة كارستيرز الشهيرة من العملات المعدنية الرومانية. لا يُمكنني أبدًا أن أصفَ لك والدي؛ فأدَقُّ ما يمكنني قوله عنه أنه كان هو نفسُه يُشبِه عملة معدنية رومانية. لقد كان مثلها وسيمًا وأصيلًا وثمينًا ولامعًا وعتيقًا. لقد كان فخورًا بمجموعته أكثرَ من فخره بشعار النبالة خاصته، لا أحدَ يمكن أن يقول أكثر من ذلك. ولقد برَزَت شخصيته الاستثنائية بالقدر الأكبر في وصيته. كان لديه ابنان وابنة واحدة. تشاجر مع أحد الوَلدَين، وهو أخي جيلز، وأرسله إلى أستراليا بمصروفٍ صغير، ثم تركَ وصيته بإعطاء مجموعة كارستيرز، مع مصروفٍ أصغر، إلى أخي آرثر. لقد كان يبغي بها مكافأته، باعتبار أنها أقصى ما يَستطيع أن يُقدِّمه من تكريمٍ لولاء آرثر واستقامته، وكذلك ما حازه من تفوق في الرياضيات والاقتصاد في كامبريدج. وقد ترَك لي ثروته الضخمة بأكملها تقريبًا، وأنا أثق بأنه كان يبغي بذلك احتقاري.
ربما تقول إنَّ آرثر قد يشكو من ذلك، لكنَّ آرثر هو نسخةٌ مكرَّرة من أبي. صحيحٌ أنه قد واجه بعض اختلافات الرأي مع أبي في طليعة شبابه، غير أنه سرعان ما استحوَذ على المجموعة حتى أصبح مثل كاهنٍ وثني مخلِص لمعبده. لقد جمع بين هذه العملات المعدنية الرومانية وبين شرف عائلة كارستيرز بتلك الطريقة الصارمة العمياء نفسِها، مثلما كان يفعل أبوه من قبله. لقد كان يتصرف كما لو أنَّ هذه النقود الرومانية يجب أن تُحرَس بجميع المناقب الرومانية. لم يعرف أيًّا من اللذات؛ إذ لم يُنفِق شيئًا على نفسه، بل عاشَ في سبيل المجموعة. لم يكن يَعبأ في معظم الأحيان أن يرتديَ ملابسه كي يتناول وجباته البسيطة، وإنما كان يتجول بين عبواته الورقية البُنية المتراكمة (والتي لم يكن يُسمَح لأحد أن يلمسها سواه) وهو يرتدي رِداءَ نوم بُنيًّا قديمًا. ومع ما للرداءِ من حبل وشُرَّابة، ووجهه النحيل النقي، كان أشبهَ براهِب زاهِد عجوز. وبالرغم من ذلك، فقد كان يبدو أحيانًا كنبيل عصريٍّ متأنِّق تمامًا، لكنَّ ذلك لم يكن يحدث إلا عند ذَهابه إلى متاجرِ لندن ومَعارضها لكي يُضيف جديدًا إلى مجموعة كارستيرز.»
وأضافت الفتاة: «والآن، إذا كنتَ تعرف أيَّ شبابٍ آخرين، فلن تُصدَم حين أُخبرك أنَّ مِزاجي قد أصبح سيئًا مع كل هذا، إنه ذلك المزاج الذي يَبدأ فيه المرءُ بالقول: إنَّ قُدماء الرومان ليسوا بهذا القدر من البراعة في رأيي. لست كأخي آرثر، أنا لا يسَعني إلا أن أستمتع بالملذَّات. لقد اكتسبتُ قدرًا كبيرًا من الرومانسية والمَثَالِب حيث اكتسبتُ شَعري الأصهب من الفرع الآخَر من العائلة. لقد كان جيلز المسكين يُشبِهني في ذلك، وأعتقدُ أنَّ أمر العملات قد يُعَد عذرًا له، غير أنه قد أخطأ بالفعل وكادَ أن يَدخل السجن، بَيْد أن تصرفاته لم تكن أسوأَ من تصرفاتي مثلما ستسمع.»
استأنفت حديثها قائلة: «سأصلُ الآن إلى الجزءِ السخيف من القصة؛ أعتقدُ أنَّ رجلًا في براعتك يستطيع أن يُخمِّن طبيعة الأمور التي قد تبدأ في تخفيف الرَّتابة عن فتاة صعبة المِراس في السابعة عشرة من عمرها قد وُضِعت في مثل ذلك الموقف. غير أنَّ هناك الكثيرَ من الأشياء المريعة التي تُربِكني للغاية، حتى إنني لا أستطيع أن أعرف شعوري؛ فأنا لا أعرفُ ما إذا كنت أحتقر الأمر الآن باعتباره ملاطفةً عابرة، أم أنه كان حُبًّا حقيقيًّا حطَّم قلبي؛ لقد كنا نعيش في ذلك الوقت في منتجَع ساحلي صغير في ساوث ويلز، وعلى بُعد بِضعة منازل منا يعيش قبطانٌ بحري متقاعد، كان له ابنٌ يَكْبرني بخمسة أعوام، وكان صديقًا لجيلز قبل أن يذهب إلى المستعمَرات. إنَّ اسمه لا يُؤثِّر في حكايتي، لكنني أخبرك أنه فيليب هُوكَر؛ لأنني أخبرك بكل شيء. كنا نذهب معًا لاصطياد الروبيان، وقد قال كلٌّ منا إنه مُغرَمٌ بالآخر، قد كنا نظن ذلك، لقد قال هو ذلك على الأقل، وكنت أنا أظن ذلك بكلِّ تأكيد. وحين أخبرك أنَّ شعره كان مجعَّدًا برونزي اللون، ووجهه يُشبِه وجه الصقر قد صبَغه البحرُ باللون البرونزي أيضًا؛ فليس ذلك من أجله وأنا أؤكِّد لك هذا، وإنما هو من أجل القصة؛ إذ كان ذلك سببَ حادثة عجيبة.
في عصر أحد أيام الصيف حين كنتُ قد وعدتُ بالذهاب مع فيليب لاصطياد الروبيان على طول الشاطئ، انتظرتُ بصبر نافد في حُجرة الاستقبال الأمامية بينما أشاهدُ آرثر وهو يتحسَّس بعضَ عُلب العملات المعدِنية التي كان قد ابتاعها للتو وكان ينقلها ببطءٍ، علبةً واحدةً أو عُلبتَين في المرة، إلى حجرة مكتبه المظلِمة ومُتحَفه، وكانت هذه الحجرة تقع في الجزء الخلفي من المنزل. وفور أن سمعتُ البابَ الثقيل يُغلَق خلفه أخيرًا، أسرعتُ إلى شبكة صيد الروبيان وقَلَنْسُوتي الصوفية التامية، وكنت سأَهمُّ بالخروج فحَسْب حين رأيتُ أنَّ أخي قد ترك عملة مَعدِنية كانت تلمع على المقعد الطويل الموجود بجوار النافذة. كانت عملة برونزية، وكان ذلك اللون مع انحناء الأنف الروماني ورِفْعة العنق الطويل القوي، قد جعل من صورة رأس القيصر المنقوشة على العملة، صورةً شخصية دقيقة لفيليب هُوكَر. تذكرتُ فجأة بعد ذلك أنَّ جيلز كان يخبر فيليب عن عملة تُشبِهه تمامًا، وأنَّ فيليب كان يتمنَّى لو حصل عليها. ربما تستطيع أن تتخيَّل الأفكار الحمقاء الجامحةَ التي كانت تدور في رأسي. لقد شعرتُ كما لو أنني قد حصَلتُ على هدية من الجنِّيات. وبدا لي أنني إذا تمكَّنتُ فقط من أن أهرب بالعملة وأُقدِّمها لفيليب على أنها خاتَمُ زفافٍ من نوع غريب، فسوف تكون رابطةً بيننا إلى الأبد. لقد انتابني ألفُ شعورٍ من هذا النوع في الوقتِ ذاته، ثم انفرَجَت من تحتي كالحفرة تلك الفكرةُ الهائلة المريعة بما كنت أفعله، وفوق هذا كلِّه، تلك الفكرةُ التي لا تُطاق، التي هي أشبهُ بمُلامسة حديدٍ ساخن، عما سيَظنه آرثر ويراه؛ لصٌّ من عائلة كارستيرز، ويَسرق كنز عائلة كارستيرز! إنني أوقنُ أنَّ أخي كان سيوافق على رؤيتي وأنا أُحرَق كالساحرات عقابًا على مثل هذا الفعل، غير أنَّ تفكيري في تلك القسوة المحمومة قد عزَّز من كراهيتي القديمة لإفراطه السخيف في الاهتمام بهذه العملات الأثرية، وتَوقي إلى الشباب والحرية اللَّذَين كانا يدعُوانني من البحر. في الخارج كان ضوءُ الشمس قويًّا مع الرياح، وكانت قمةُ نبات الجولق أو الرَّتَم في الحديقة تَطرُق زجاج النافذة. فكَّرتُ في هذا الذهبِ الحي الذي ينمو ويُناديني من جميع مُروج العالم، ثم فكرتُ في هذا الذهب والبرونز والنُّحاس الميت الكَدِر الذي يَملكه أخي، والذي يَزيد كدَرًا على كدر مع مرور الأيام. كانت الطبيعة ومجموعة كارستيرز تشتبكان أخيرًا.» ثم قالت: «إنَّ الطبيعة أقدمُ من مجموعة كارستيرز. وبينما كنتُ أجري في الشوارع متوجهةً إلى البحر، شعرتُ بأنَّ الإمبراطورية الرومانية بأكملها تجري خلفي، وكذلك سلالةُ كارستيرز. لم يكن الأسدُ الفِضِّي العتيق هو الذي يزأر في أذني فحسب، بل بدا أنَّ جميع نسور القياصرة ترفرفُ بأجنحتها وتَصرخ في طلبي. بالرغم من ذلك، فقد راح قلبي يُحلِّق إلى أعلى فأعلى، كطائرةِ طفلٍ ورقية، إلى أنْ وصلتُ إلى التلال الرملية الجافة الرِّخْوة، ثم إلى الرمال الرَّطْبة المنبسِطة حيث كان فيليب يقف بالفعل على بُعد ما يَقربُ من مائة ياردة من البحر في المياه الضحلة البرَّاقة التي وصلَت حتى كاحِلَيه. كان الغروبُ أحمرَ رائعًا، وبدَت تلك المساحة المترامية من المياه الضحلة التي لم تكن ترتفع عن الكاحل على مسافة نصف ميل، كبُحيرة من وهجِ الياقوت. لم ألتفَّ وأنظر حولي إلا بعد أن خلعتُ حذائي وجوربي، ودخلتُ إلى حيث كان يقف، وقد كان ذلك بعيدًا عن الرمال الجافة. لم يكن هناك من أحدٍ سوانا في دائرة من مياه البحر والرمال الرطبة، وقدَّمتُ له رأسَ قيصر.
وفي تلك اللحظة نفسِها، اعترَتْني نوبةٌ من الخيال أنَّ رجلًا يقف بعيدًا على تلال الرمال كان يَنظر إليَّ باهتمامٍ شديد. لا بد أنني قد شعرتُ بعدها على الفور أنَّ ذلك لم يكن سوى اهتياجٍ وتواثُب غيرِ مبرَّر لأعصابي؛ إذ لم يكن الرجلُ سوى نقطة سوداء تُرى من بعيد، ولم أكن أستطيع أن أرى سوى أنه كان واقفًا بهدوءٍ يُحدِّق، وقد كان رأسه يميل قليلًا إلى الجانب. لم يكن هناك من دليلٍ منطقي ممكِن على أنه كان ينظر إليَّ؛ فمن المحتمل أنه كان ينظر إلى سفينة أو إلى الغروب أو إلى النوارس، أو إلى أيٍّ من الأشخاص الذين كانوا ما يزالون يتجولون هنا وهناك على الشاطئ فيما بيننا وبينه. وبالرغم من ذلك، فقد كان فزعي نذيرًا لي أيًّا ما كان مصدره؛ إذ إنني لما دقَّقتُ النظر، بدأ هو في السير في خطٍّ مستقيم على الرمال الرطبة الشاسعة. وبينما راحَ يقتربُ أكثرَ فأكثر، رأيتُ أنه ملتحٍ أسمرُ البشرة وتُغطِّي عينَيْه نظارة. كان يرتدي ثيابًا سوداءَ متواضعة، غير أنه بدا مَهيبًا في هذا السواد الذي انسدل عليه من قبعته السوداء القديمة التي كان يرتديها على رأسه حتى الحذاء الأسود المصمت في قدمَيه. وبالرغم من ارتدائه الحذاءَ، فقد سار مباشرةً إلى البحر دون لحظة من التردد، وواصلَ طريقه إليَّ بثباتٍ وكأنه رصاصة تقطع الطريق.
لا أستطيعُ أنْ أصِف لك شعوري بالهول، وأنَّ ثمة شيئًا خارقًا قد حدثَ حين هشَّم الحاجز بين اليابسة والماء بصمتٍ. بدا الأمر كما لو أنه كان يهبط باستقامة من على منحدر وظلَّ يسير بثبات شاقًّا الهواء. كان الأمر كما لو أنَّ منزلًا قد طار إلى السماء أو أنَّ رأسَ رجل قد سقط عنه. لم يفعل شيئًا سوى أنه كان يُبلِّل حذاءه، غير أنه قد بدا كشيطان يهزأ بأحد قوانين الطبيعة. لو أنه تردد لِلحظةٍ عند حافة الماء، لم يكن شيءٌ ليحدث. وبالرغم من ذلك، فقد بدا أنه يُحدِّق إليَّ وحدي وكأنه لا يرى المحيط. كان فيليب على بُعد يارداتٍ موجهًا ظهره إليَّ ومنحنِيًا على شبكته. استمر الغريبُ في السير إلى أن أصبح على بُعد ياردَتَين مني، وقد وصلَت المياه إلى منتصف المسافة من رُكبتَيه. بعد ذلك، تحدَّث بصوتٍ من الواضح أنه يَختلف عن صوته الأصلي، وبنبرة مختالة بعض الشيء تساءل قائلًا: «هل تُمانعين في أن تهَبي تلك العملةَ المعدنية ذات النقش المختلف بعضَ الشيء لغرضٍ آخر؟»»
واصلت الفتاة حكايتها قائلة: «لم يكن هناك شيءٌ غير عادي بشأنه على وجه التحديد، اللَّهم إلا استثناءً واحدًا؛ لم تكن نظارته الملونة مُعتِمةً للغاية، بل كانت من ذلك النوع الأزرق الشائع إلى حدٍّ ما، ولم تكن العينان اللتان تُخفيهما تتهربان مني، بل كانتا تنظران إليَّ بثبات. ولم تكن لحيته الداكنة بالطويلة ولا بالكثيفة للغاية، لكنَّ الشعر بدا في وجهه كثيفًا؛ إذ كان مَنْبَتُ لحيته يبدأ من مكانٍ عالٍ في وجهه أسفلَ عظْمتَي الصُّدغ مباشرةً. ولم تكن بشرته بالشاحبة ولا بالمتوردة، بل كانت صافيةً مُفعَمة بالشباب، غير أنَّ ذلك قد أضفى عليه مظهرًا شمعيًّا ممتزجًا باللونَين الأبيض والوردي، مما زادَ من هلعي لسببٍ لا أعرفه. لقد كان الشيءُ الغريب الذي يَستطيع أن يراه المرءُ في شكله هو أنفَه، الذي كان سيبدو حسَن الشكل لولا أنَّ أرنبته كانت تتجه قليلًا إلى الجانب، لم يكن الأمرُ بالعاهة على الإطلاق، غير أنني أعجز عن وصف ما كانت تُمثِّله لي من كابوسٍ مريع. وإذ وقفَ هناك في المياه المُخضَّبة بلون الغروب، كان تأثيره عليَّ كأنه وحشٌ بحريٌّ مخيف قد خرج يزأر من بحرٍ كالدم. لستُ أدري لمَ يؤثر تغييرٌ طفيفٌ في الأنف في خيالي بكل هذا القدر. أعتقد أنَّ ذلك لأنه قد بدا كما لو أنه يستطيع تحريك أنفه كإصبع، وكما لو أنه قد حرَّكه للتو في تلك اللحظة.»
استأنفت الفتاة حديثها: «تابعَ حديثه بتلك اللهجة المتزمتة الغريبة ذاتها قائلًا: «إنَّ أيَّ مساعدة صغيرة قد تُغني عن الحاجة إلى تواصلي مع العائلة».»
ثم قالت: «اعتراني ذلك الشعور بأنه يَبتزُّني لسرقة العملة البرونزية، واختفَت جميعُ مخاوفي وشكوكي الخرافية لِيَحلَّ محلَّها سؤالٌ عمليٌّ طاغٍ. كيف عرَفَ ذلك؟ لقد سرَقتُها فجأة وبدافعٍ لَحظي دون نيَّة مُبيَّتة، وقد كنتُ وحدي بالتأكيد؛ إذ إنني كنتُ أحرص دائمًا على ألا يراني أحدٌ حين كنت أتسلل لرؤية فيليب بهذه الطريقة. وقد كانت الدلائلُ كلُّها تشير إلى أنه لم يكن أحدٌ يتبعني في الشارع. حتى وإنْ كان هناك مَن يتبعني، فلا يمكن أن يكون قد تسنَّى له رؤية العملة الموجودة في يدي المغلقة ولو حتى بالأشعة السينية. لا يمكن أن يكون احتمال رؤية الرجل الواقف على التِّلال الرملية لما أعطيتُه لفيليب أكبر من احتمال إصابة ذُبابة في عين واحدة فقط، مثلما يفعل الرجل في الحكاية الخرافية.»
وقالت: «ناديتُ على فيليب في عجز: «فيليب، تعالَ وسَل هذا الرجل عما يريده».»
واصلَت: «حين رفعَ فيليب رأسه أخيرًا من إصلاح شبكته، بدَت على وجهه حُمرةٌ كما لو كان متجهِّمًا أو خجِلًا، لكن ربما كان ذلك إجهاد الانحناء وشفَق الغروب الأحمر، أو ربما لم يكن ذلك شيئًا سوى أحد خيالاتي المريعة التي يَبدو أنها كانت تتراقص من حولي. لم يَفعل شيئًا سوى أنه قال للرجل بخُشونة: «اغرب مِن هنا.» وبعد أن أشار لي بأن أتبعه، راحَ يَخوض المياه متجهًا إلى الشاطئ دون أن يُعيره مزيدًا من الانتباه. راحَ يخطو على حاجز أمواجٍ من الصخور كان يمتد بين سفوح التلال الرملية، واتخذ طريقه متجهًا إلى المنزل؛ إذ ربما كان يعتقد أنَّ هذا الكابوس الذي يتبعنا سيجد أنَّ السير على مثل هذه الصخور الوَعْرة الزلقة لما يُغطِّيها من طحالب البحر الخضراء ليس بالأمر الهين، على العكس منا نحن الشابَّين اللذَين اعتدنا عليها. غير أنَّ مُتعقِّبَ أثري قد سار بالرشاقة ذاتِها التي كان يتحدَّث بها وظلَّ يتبعني منتقيًا طريقه ومنتقيًا عباراته. سمعتُ صوته الرقيق البغيض، وهو يَستحثُّني من فوق كتفي، إلى أن وصَلْنا إلى ذروة التلال الرملية أخيرًا، وعندها بدا أن صبر فيليب (الذي لم يكن يَظهر على أية حال في معظم المناسبات) قد نَفِد. استدار فجأة وتحدَّث إلى الرجل قائلًا: «عُدْ أدراجك. لا أستطيع أن أتحدَّث إليك الآن.» وإذ تلكَّأ الرجل وفتح فمه، ضربه فيليب بلَكْمة أرسلَتْه طائرًا من قمَّة أعلى التلال الرملية إلى سفحها. وقد رأيتُه بالأسفل يزحف إلى الخارج وهو مُغطًّى بالرمال.»
استدركت قائلة: «طمأنَتْني هذه الضربة نوعًا ما، بالرغم من أنها كان يمكن أن تَزيد من مخاوفي، غير أنَّ فيليب لم يُبدِ أيًّا من تِيهه المعتاد ببَسالته. وبالرغم من أنه كان حنونًا للغاية كعادته، فقد بدا مُغتمًّا، وقبل أن أتمكن من سؤاله عن أي شيء بالتفصيل، ودَّعني عند باب بيته وبدَر منه أمران كانا غريبَين بالنسبة إلي؛ لقد قال إنه بالنظر إلى كل شيء، يجب أن أُعيدَ العملة إلى المجموعة، لكنه هو نفسُه سيحتفظ بها «في الوقت الراهن». وقد أضاف بعد ذلك فجأةً ودونما أيِّ صلة بالموضوع: «هل تعرفين أنَّ جيلز قد عاد من أستراليا؟»»
فُتِح باب الحانة وسقط الظل الضخم للمحقق فلامبو على الطاولة. قدَّمه الأبُ براون إلى السيدة الشابة بطريقته الهادئة المقنِعة في الحديث، مشيرًا إلى معرفته بمثل هذه الحالات وخبرته بها. ودون وعيٍ منها تقريبًا، سرعان ما كانت الفتاة تُعيد قصتها إلى مُستمِعَيْن. غير أنَّ فلامبو قد أعطى الكاهن قُصاصةً صغيرة من الورق بينما كان يَنحني ويجلس. قَبِلها الكاهن بقدر من الدهشة وقد قرأ عليها: «سيارة أجرة إلى واجا واجا، ٣٧٩، شارع مافكينج، باتني.» وكانت الفتاة تتابع سردَ قصتها.
«سِرتُ في الشارع المنحدر المؤدي إلى منزلي ورأسي يَمور بالأفكار، ولم يَشْرع في الهدوء حين وصَلتُ إلى عتبة المنزل التي وجَدتُ عندها عُلبةً من اللبن، والرجلَ ذا الأنف الملتوي. عرَفتُ من علبة اللبن أنَّ الخدم جميعًا كانوا خارج المنزل؛ إذ إنَّ آرثر، الذي يستعرض الأغراض مرتديًا رِداءه البُني في مكتبه البُني، لن يَسمع جرسًا ولن يُجيب عليه. وبهذا، لم يكن من أحدٍ في المنزل يُساعدني سوى أخي، الذي سيكون في مساعدته هَلاكٌ لي. وإذ انتابني اليأسُ، دفَعتُ في يد ذلك الشيء المريع شلنَين، وأخبرتُه أن يتصل بي مرةً أخرى بعد بضعة أيام فأكونَ قد فكرتُ في الأمر. مضى متجهمًا، غير أنه مضى بوداعة أكثرَ مما توقعت، ربما كان مصدومًا من أثر السقوط، ورُحتُ أُشاهِد بسرورٍ انتقاميٍّ بغيض بقعةَ الرمال التي ارتسمَتْ على ظهره في شكل نجمة. وقد غابَ في منعطفٍ بعد قرابة ستة منازل.»
استأنفت حديثها: «دَلفتُ إلى المنزل بعد ذلك، وأعددتُ لنفسي بعضًا من الشاي وحاولتُ أن أفكر في الأمر. جلستُ عند نافذة حجرة الاستقبال أُطل منها على الحديقة التي كانت ما تزال تتوهج بآخر شعاع من ضوء المساءِ المكتمل. غير أنني كنت مشتَّتةً شاردةَ الذهن؛ فلم أكن لأستطيع النظرَ إلى مُروج العشب ولا إلى أصُص الأزهار أو أحواضها بأي تركيز. واعتراني شعورٌ أكثر حدَّةً بالصدمة حين رأيتُه بتمعن.»
واستطردت: «الرجلُ الذي أبعدته عني، أو الوحش، كان يقف بهدوءٍ في منتصف الحديقة. أوه! لقد قرأنا جميعًا الكثيرَ عن الأشباح الشاحبة الوجه التي تأتي في الظلام، لكنَّ هذا كان مفزعًا أكثرَ من أي شيء آخر من ذلك النوع؛ ذلك أنه كان ما يزال يقف في بُقعةٍ من ضوء الشمس الدافئ بالرغم من أنه كان يُلْقي ظلًّا مسائيًّا طويلًا. ولأنَّ وجهه لم يكن شاحبًا، وإنما كان يَصطبِغ بتلك النضارة الشمعية التي تجدها في دُميةِ مصفِّف الشعر؛ كان يقف ساكنًا ووجهه نحوي. لا أستطيع أن أصفَ كم بدا مُفزِعًا وسط كل زهور التيوليب وكل تلك الزهور الطويلة الزاهية، التي تُشبِه أزهار المستنبتات الدفيئة. لقد بدا كما لو أننا قد وضعنا عملًا شمعيًّا في وسط الحديقة بدلًا من تمثال.»
استدركت قائلة: «بالرغم من ذلك، ففورَ أن رآني أتحرك في النافذة، استدار وركضَ إلى خارج الحديقة عبر البوابة الخلفية التي كانت مفتوحة، والتي كان قد دخل منها بلا شك. إنَّ هذا الجُبن الذي تكرَّر من جانبه مجددًا كان غريبًا للغاية عن تلك الجُرأة التي كان يسير بها إلى البحر، وهو ما هدَّأ من رَوعي بطريقة غير مفهومة. ربما تخيَّلتُ أنه يخشى مواجهة آرثر أكثر مما كنت أُقدِّر. على أية حال، شعَرتُ بالهدوء أخيرًا وتناولتُ العَشاء وحدي في هدوء؛ (إذ كان من المخالف للقواعد مقاطعةُ آرثر في أثناء عمله بإعادة ترتيب متحفه) ولمَّا هدأَت أفكاري بعض الشيء؛ فقد طارت إلى فيليب وضاعت هناك على ما أعتقد. على أية حال، رُحتُ أُحدِّق بذهنٍ شارد، ولكن بطِيب نفسٍ وليس شيئًا آخر، إلى نافذة أخرى لم يَكُن عليها ستار وقد كانت بحلول ذلك الوقت سوداءَ كلَوح الكتابة بعد أن أسدَل عليها الليلُ الأخيرُ سُدولَه. بدا لي أنَّ ثمة شيئًا كالحلزون يوجد على إفريز النافذة من الخارج، غير أنني حين دقَّقتُ النظر، بدا أنه كإبهام رجل يَضغط على إفريز النافذة؛ فقد كان له ما للإبهام من مظهر متجعِّد. استيقظ الخوفُ والشجاعةُ داخلي مجدَّدًا، فاندفعتُ إلى النافذة ثم تراجعتُ عنها بصرخة مختنِقة كان أيُّ رجل سوى آرثر سيَسمعُها لا محالة.»
واصلت قائلة: «ذلك أنها لم تكن إصبعَ إبهام، ولم تكن حلزونًا أيضًا، بل كانت أرنبةَ أنف معقوفةً ملتصقة بالزجاج. بدَت بيضاءَ من أثر الضغط، ولم يكن الوجه من خلفها ظاهرًا في البداية ولا العينان أيضًا، ثم بدت هي رماديةً كشَبَح. أغلقتُ المِصْراعَين معًا بطريقة ما، ثم اندفعتُ إلى غرفتي وأغلقتُها عليَّ، لكنني كنتُ أستطيع أن أقسم برؤية نافذة سوداء أخرى وعليها شيءٌ يشبه الحلزون عند مروري.»
ثم قالت: «ربما كان من الأفضل أن أذهب إلى آرثر بالرغم من كل شيء. إذا كان ذلك الشيء يتسلَّل ببطءٍ كالقِطَّة ويَحوم حول المنزل من كل جانب، فربما كانت له أغراضٌ أسوأ من الابتزاز. ربما كان أخي سيَطردني ويَلعنني إلى الأبد، لكنه رجلٌ نبيلٌ وسيُدافع عني في ذلك الموقف. وبعد عشر دقائق من التفكير الفضولي، نزَلتُ إلى الأسفل، طرَقتُ على الباب ودخلت، وعندها رأيتُ المنظر الأخير والأسوأ.»
أوضحت قائلة: «كان مقعدُ أخي خاليًا، وكان من الواضح أنه بالخارج، غير أنَّ الرجل ذا الأنف المعقوف كان يَجلس منتظرًا عودته وهو يرتدي قُبَّعته بوقاحة ويقرأ أحدَ كتب أخي على ضوء مصباح أخي. كان وجهه هادئًا ومنشغِلًا، لكنَّ أرنبة أنفه كانت ما تزال تُعطي الانطباع بأنها الجزء الأكثر تحرُّكًا في وجهه، كما لو أنها قد تحرَّكَت للتو من اليسار إلى اليمين كخرطوم الفيل. لقد كنتُ أشعر أنَّ وجوده سُمٌّ يَسْري في أوصالي حين كان يتبعني ويُراقبني، غير أنَّ عدم إدراكه لوجودي كان مخيفًا بدرجة أكبر بالنسبة إلي.»
ثم قالت: «أعتقد أنني قد صرَختُ صرخةً طويلة ومُدوِّية، لكنَّ ذلك لا يهم. ما فعلته بعد ذلك هو ما يهم؛ لقد أعطيتُه كلَّ ما لديَّ من نقود، ومنها قدرٌ كبير من العملات الورقية، ويمكنني القول إنه لم يكن لي الحقُّ في أن ألمسه حتى وإنْ كان مِلكي. وقد انصرفَ أخيرًا، مع اعتذاراتٍ بغيضة لبِقة، كلُّها في كلماتٍ طويلة، وجلستُ وأنا أشعر أنني مُحطَّمة بكل المعاني. بالرغم من ذلك، فقد نجوت في تلك الليلة نفسِها بالصدفة المحضة. كان آرثر قد ذهب فجأةً إلى لندن، مثلما كان يَفعل كثيرًا من أجل إبرام الصفقات، وعاد في وقتٍ متأخر لكنه كان مبتهجًا؛ إذ كان على وشك الحصول على كنز كان بمثابة إضافة عظيمة حتى لمجموعة العائلة. لقد كان مشرِقًا للغاية، حتى إنني كنتُ على وشك أن أتشجَّع وأعترف له باختلاس القطعة الأقل أهمية، لكنه أطاحَ بجميع الموضوعات الأخرى بمشروعاته الطاغية. ولأنَّ الصفقة كان يمكن أن تُخفِق في أية لحظة، فقد أصَرَّ على أن أحزم أغراضي وأذهب معه على الفور إلى نُزُل قد استأجره بالفعل في فولهام؛ لكي يكون قريبًا من مَتجر التحف المعني. وبهذا، رغمًا عني، فرَرتُ من خَصْمي في جوف الليل، لكنني فررتُ من فيليب أيضًا … كان أخي يقضي معظم وقته في متحف ساوث كينسينجتون، ولكي أخلق حياةً ثانويةً لنفسي نوعًا ما؛ التحقتُ ببعض الدروس في مدارس الفن. لقد كنت عائدةً منها هذا المساءَ حين رأيتُ الهلاكَ الشنيع يَسير حيًّا في الشارع الطويل المستقيم، وأما الباقي فهو مثلما قال هذا السيد الفاضل.»
ثم قالت: «ثمة شيءٌ أخير أودُّ أن أقوله، وهو أنني لا أستحق المساعدة، وأنا لا أشك في عقابي أو أشكو منه؛ فقد كان لا بد لذلك أن يَحدث. غير أنَّ ما أتساءل عنه بعقل يكاد أن ينفجر، هو كيفية حدوثه؛ هل أُعاقَب بشيءٍ خارق للعادة؟ وإلا فكيف لأي شخص سواي أنا وفيليب أن يَعرف أنني قد أعطيته عملة معدنية صغيرة في وسط البحر؟»
صدَّق فلامبو على حديثها قائلًا: «إنها مسألةٌ غريبة للغاية.»
علَّق الأبُ براون ببعض التجهُّم: «غير أنها أقلُّ غرابة من الإجابة. آنسة كارستيرز، هل ستكونين في منزل فولهام إذا زُرناه بعد ساعة ونصف الساعة من الآن؟»
نظرَت الفتاة إليه ثم نهضت وارتدَت قُفازَيها وأجابت: «أجل، سأكون هناك.» وغادرَت المكان في الحال تقريبًا.
في تلك الليلة، كان المحقق والكاهن ما يزالان يتحدثان عن الأمر، بينما كانا يقتربان من منزل فولهام، وهو مسكنٌ حقير بالنسبة إلى عائلة كارستيرز، حتى وإنْ كان لإقامةٍ مؤقتة.
تحدَّث فلامبو قائلًا: «لا شكَّ أنه عند التفكير في الأمر على مستوًى سطحي قد يُفكِّر المرءُ أولًا في هذا الأخ الأسترالي الذي تورط في المشكلات من قبل، والذي قد عاد فجأة، وهو مَن له أصدقاء لا يتمتعون بالنزاهة. غير أنني لا أرى كيف يمكن أن يتورط في الأمر مهما حاولتُ أن أُجِيلَه في رأسي بأي طريقة ممكنة، إلا …»
تساءلَ رفيقه بصبر: «حسنًا؟»
خفضَ فلامبو من صوته وتحدَّث قائلًا: «إلا أن يكون حبيبُ الفتاة متورطًا في الأمر، وسيكون هو الأكثر شرًّا. لقد كان الشابُّ الأسترالي يعرف أن هُوكَر يريد العملة، غير أنني لا أستطيع أن أرى كيف تمكَّن بحق السماء من معرفة أنَّ هُوكَر قد حصل عليها، إلا أن يكون هُوكَر قد أشار إليه بذلك، هو أو مُوفَدُه الواقف أمام الشاطئ.»
أكَّد الكاهن على كلامه باحترام قائلًا: «هذا صحيح.»
تابع فلامبو بحماس: «هل لاحظت شيئًا آخر؟ إنَّ هُوكَر هذا يرى حبيبته تتعرض للإهانة، لكنه لا يضرب ذلك الرجل إلا بعد أن يصل إلى التلال الرملية الناعمة لكي يكون المنتصِرَ في محض اشتباكٍ مُزيَّف؛ إذ كان من الممكن أن يُؤذِيَ حليفه إذا كان قد ضربه وسط البحر والصخور.»
أومأ الأبُ براون برأسه وقال: «هذا أيضًا صحيح.»
«والآن، لنتناول الأمر من البداية؛ إنَّ الأمر بأكمله يقع بين بِضْعة أفراد، لكنَّهم ثلاثة على الأقل؛ إنَّ الانتحار يقتضي وجود شخص واحد، ويقتضي القتلُ وجود شخصَين، أما الابتزاز، فهو يقتضي وجود ثلاثة أشخاص على الأقل.»
سأل الكاهن بهدوء: «لماذا؟»
صاح صديقه: «حسنًا، من البديهي أن يكون هناك شخصٌ يمكن أن يتعرَّض للفضيحة، وشخصٌ يُهدِّد بتعريضه للفضيحة، وشخصٌ أخير سترعبه الفضيحة.»
بعد فترة صمتٍ تأمُّليٍّ طويلة تحدَّث الكاهن قائلًا: «إنك تُغفِل جزئية منطقية؛ إنَّ الأشخاص الثلاثة أمرٌ يستوجبه التفكير، أمَّا الفِعل فلا يَستوجب سوى اثنَين فقط.»
سأله الآخر: «ماذا تَعني؟»
تحدَّث براون بصوتٍ خفيض وبنبرة متسائلة قائلًا: «لماذا لا يُهدِّد المبتَزُّ ضحيتَه بنفسه؟ تخيَّل أنَّ زوجةً قد امتنعت عن شرب الخمور بشكل متزمِّت كي تُخيف زوجها بشأن تردده على الحانات، وعلى الجانب الآخر، أرسلَت له خطاباتِ ابتزاز تُهدِّده فيها بإخبار زوجته! ما المانع في أن ينجح الأمر؟ تخيَّلْ أنَّ أبًا قد منع ابنه من المقامرة، ثم تبع الصبيَّ متخفيًا مُهدِّدًا إياه بصرامته الأبوية الزائفة! تخيَّل … لكن ها نحن قد وصلنا يا صديقي.»
صاحَ فلامبو: «يا إلهي! إنك لا تَعني …»
ظهر شخصٌ يتحرَّك هابطًا درَج المنزل بسرعة، وظهر منه على ضوء المصباح الذهبي ذلك الرأس الروماني الذي لا تُخطِئه العين والذي كان يُشبِه العملة الرومانية. تحدَّث هُوكَر دون حفاوة: «إنَّ الآنسة كارستيرز قد أبَت الدخول إلى أن تَصِلا.»
راحَ براون ينظر إليه بثقة وقال: «حسنًا، ألا تعتقد أنَّ أفضلَ ما تستطيع فعله هو أن تنتظر بالخارج معك كي تَعتنيَ بها؟ حسنًا، أعتقد أنك قد خمَّنت ذلك كلَّه بنفسك.»
تحدَّث الشابُّ بنبرة خفيضة: «أجل، أعرفُ أنني قد خمَّنت حين كنا على الرمال والآن أيضًا؛ ولهذا فقد ترَكتُه يسقط بهوادة.»
بعد أن تناول فلامبو مِفتاحَ الباب الخارجي من الفتاة والعملة من هُوكَر، دخلَ هو وصديقُه إلى المنزل الخالي وعبَرا إلى البَهْو الخارجي. وقد كان خاليًا من كل فردٍ خلا واحدًا. لقد كان الرجل الذي رآه الأبُ براون يمر بالحانة واقفًا يَستنِد إلى الجدار كما لو كان مُحاصِرًا، ولم يكن شيءٌ قد تغيَّر في مظهره سوى أنه كان قد خلع المعطف الأسود وارتدى رداءَ نومٍ بُنيًّا.
تحدَّث الأبُ براون بأدب: «لقد جئنا لكي نَرُد هذه العملة لصاحبها.» وناولها إلى الرجل ذي الأنف.
دارَت عينا فلامبو وتساءل: «أهذا الرجلُ جامعُ عملاتٍ؟»
قال الكاهن بيقين: «إنَّ هذا الرجل هو السيد آرثر كارستيرز، وهو جامعُ عملاتٍ من طراز فريد بعضَ الشيء.»
تغيَّر لون الرجل تغيرًا مُروِّعًا حتى إنَّ أنفه المعقوف قد برز في وجهه وكأنه شيءٌ منفصِل يدعو إلى السخرية. بالرغم من ذلك، فقد تحدَّث بنبرةِ كِبرياء يائسة وقال: «سوف ترون إذن أنني لم أفقد جميع صفات العائلة.» واستدار فجأة وخطَا إلى غرفة داخلية، وأغلق البابَ بعنف.
صاحَ الأبُ براون وهو يقفز حتى كاد أن يسقط على أحد المقاعد: «أوقِفه!» وبعد أن أدار فلامبو مِقبَض الباب بعنف مرة أو اثنتَين، تمكَّن من فتحه. غير أنَّ الأوان كان قد فات! تقدم فلامبو إلى الأمام في صمتٍ تام، وهاتَف الطبيبَ والشرطة.
استقرت على الأرض زجاجةُ دواءٍ فارغة. وأمام الطاولة، استلقى جسدُ رجل يرتدي رداء نوم بُنيًّا وسط عبواته الورقية المنتفخة المفتوحة ذات اللون البُني، التي انسكبَت منها عملاتٌ معدنية، لكنها لم تكن رومانية، بل عملاتٌ إنجليزية حديثة للغاية.
رفعَ الكاهنُ رأسَ قيصر البرونزي وقال: «هذا هو كلُّ ما تبقى من مجموعة كارستيرز.»
بعد فترة من الصمت، وبنبرة فيها قدرٌ لا يُستهان به من الرقة، تحدَّث قائلًا: «لقد كانت وصيةً قاسية تلك التي تركها والده وقد كرهها بعض الشيء. لقد كره النقود الرومانية التي كان يمتلكها، وصار أكثر ولعًا بالنقود الحقيقية التي حُرِمَ منها. لم يقف الأمر عند بيعه المجموعة قطعةً تِلْو القطعة، وإنما غاصَ شيئًا فشيئًا في أحقر طرق جمع المال، حتى إنَّ الأمر قد وصل به إلى ابتزاز عائلته في هيئةِ شخصيةٍ تنكُّرية. لقد ابتزَّ أخاه الذي يعيش في أستراليا بشأن جريمته الصغيرة المنسيَّة؛ ولهذا أخذ سيارة الأجرة إلى واجا واجا في باتني، وابتز أخته بشأن السرقة التي لم يكن من الممكن لسواه أن يراها. وقد كان هذا بالمناسبة هو السببَ في التخمين الغيبي الذي ورَد لها حين كان بعيدًا على الكثبان الرملية. إنَّ مجرد الشكل وهيئة المشي، حتى وإن كانت تبدو لنا من بعيد، أجدر بأن يذكِّرانا بشخص ما أكثر مما يُذكِّرنا به وجه مُزيَّف ببراعة نراه من قريب.»
سادت فترةٌ أخرى من الصمت ثم تمتَم المحقق: «حسنًا، إذن فجامعُ العملات والمسكوكاتِ العظيمُ هذا لم يكن سوى بخيلٍ فاحش.»
تساءل الأبُ براون بالنبرة الغريبة المترفِّقة ذاتِها: «وهل هناك من فرقٍ كبير؟ هل هناك من رذيلة توجد في البخيل ولا توجد في جامع المال في معظم الأحيان؟ ما الرذيلة سوى … «لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورةً، لا تسجد لهنَّ ولا تعبدهنَّ؛ لأنني أنا …» غير أننا يجب أن نذهب ونرى كيف حال الشابَّيْن المِسكينَين معًا.»
قال فلامبو: «أعتقد أنهما بحال جيدة للغاية، بالرغم من كل شيء.»