الفصل العاشر
ضرورة الإصلاح
نحن بين اثنتين: إما أن نُيسِّر علوم اللغة العربية لتحيا، وإما أن نحتفظ بها كما هي
لتموت.
طه حسين
مستقبل الثقافة في مصر
في كتابه الذي صدر عام ١٩٥٤ يقول الأستاذ سعيد عقل: «معضلة اللغة عرضت وستعرض لكل
الشعوب
المتمدنة؛ لأن اللغة بطبيعتها تخلق لنفسها هذه المعضلة كل نحوٍ من ألف عام، أما مبدأ
الحل
فقد استخرج من الحياة: اللغة هي ما في الفم لا ما في الكتاب، ولو أن رقعة العالم الغربي،
على سعتها، من اسكتلندا إلى صقلية، مضافًا إليها رومانيا، بقيت مسايِرةً عاطفيةَ الشعب
وما
تتوهمه من وحدةٍ لغويةٍ تربط بين أجزائه، لما كانت إيطاليا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا
اليوم
زعيمات العقل الغربي، ولما أطلعْنَ عباقرة الشعر والفلسفة.»
١ … «معضلتان (اللغة والتدوين) على حلهما في الشرق يتوقف إيجاد اللغة التي هي حق
كل المؤسسات، وما بقي الحُقُّ خرِبًا فعبثًا نفكر باقتناء العطور، لا نهضة لنا في الشرق
ما
لم نحل معضلتي اللغة والتدوين.»
٢
وإذا كنا لا نتفق مع الأستاذ سعيد عقل في الحل الذي خلص إليه، فنحن نذكر له التفاته
المبكر للمشكلة وإدراكه العميق لخطرها.
موت اللغات هو ألا تعود تستعمل.
وما تعانيه العربية اليوم ليس محلًّا للجدل بل للملاحظة.
ما تعانيه العربية اليوم أشبه بالموت السريري: لكأنها ماتت ونحن نتكتم الخبر ونحفظ
حياتها
اصطناعيًّا بمضخات التنفس والتقطير الوريدي.
وما أوصلنا لهذه الحال سوى سلفٍ أغلق باب الاجتهاد، وخلفٍ لجَّ في التزمُّت، ومجمعٍ
تردد
في العلاج، وأساتذة ترددوا في التعريب، ومرفقٍ تعليمي باع التعليم وأكل من خبز الهيكل،
وشعراء اغتربوا وأغربوا وآثروا أن يكتبوا لأنفسهم لا للناس، وعقلٍ عربيٍّ عَقِم عن الإبداع
وهو مشطورٌ بين فصحى لا يجيدها وعاميةٍ لا تجيده!
(١) تشبيه دورة الحياة
هذا جاثومٌ ما قصصته إلا لكي أنذر بحجم الخطر الذي يتهددنا، وحرج الموقف الذي نعيشه؛
فاللغة وسيط التفكير والحس والشعور والإبداع، وموت اللغة يعني موت هذه الأشياء جميعًا.
على أن الأمر لا يعدو أن يكون «تشبيهًا» أو «مماثلة» (أنالوجي): فالحق أن اللغة
«تُشبِه» الكائن الحي ولكنها ليست كائنًا حيًّا، وقد سبق لفلاسفة التاريخ أن شبهوا
الحضارات بالكائن الحي وأخذوا ﺑ «مماثلة دورة
الحياة»
Life Cycle Analogy، فارتكبوا مغالطة، وبلغ الغلو بالبعض أن يمتد بالتشبيه إلى
تبرير الاستعمار!
٣ وفاته أن الشبه غير الهوية، وأن التشبيه وسيلة إيضاح لا برهان، وأن التشبيه
قد ينطبق في جوانب ولا ينطبق في أخرى؛ وعليه فإذا كانت اللغة مثل الكائن الحي تنشأ
وتنمو وتشيخ وتموت، فإنها بعكس الكائن الحي قد تحتفظ بالحياة بل قد تعاد إلى الحياة إذا
شاء أهلها ذلك: فقد اختار اليابانيون الاحتفاظ بلغتهم في أحلك الظروف كأداة للعلم
وعنوان للهوية، وقد بعث جيرانُنا الألدَّاءُ العبرية من مرقدها لتكون لغة حياة وأدب
وعلم، وإن مهمتنا تجاه العربية لأيسر بكثير من مهمتهم التي بدأوها وأكملوها! وإن لدينا
من الدواعي القومية والروحية مثل ما لديهم وزيادة.
(٢) بين الحتمية الاجتماعية والمذهب العملي
تخضع اللغة في سيرها، كما يقول د. علي عبد الواحد وافي، لقوانين مطردة ثابتة، لا
يد
لأحدٍ على وقف عملها أو تغيير ما تؤدي إليه، ولا نقصد بذلك أن نقرر مبدأ الجبرية
المطلقة في حياة اللغة، ولا أن ننكر إمكان التدخل في شئونها، ولكننا نقصد بذلك أن نبين
أن كل تدخل يتنافر مع القوانين الطبيعية التي تسير عليها اللغة في حياتها لن يغير شيئًا
مما تقضي به هذه القوانين، وأن التدخل المنتج هو الذي يساير هذه القوانين، ويهيئ الظروف
المواتية لتحققها في الناحية المقصودة.»
٤ «فما ذهب إليه فرنسيس بيكون بصدد التدخل في الظواهر الطبيعية إذ يقرر أنها
«لا تمكن السيطرة على ظواهر الطبيعة إلا بطاعتها ومسايرتها» يصدق كذلك على ظواهر اللغة
وما إليها من الظواهر الاجتماعية الأخرى.»
٥
وفي المجال الاجتماعي والتاريخي يقول ماركس في «رأس المال»: «حتى إذا اهتدى مجتمعٌ
ما
إلى الطريق الصحيح لاكتشاف القوانين الطبيعية لحركته، فما هو بمستطيع، لا بقفزات جريئة
ولا بتشريعات قانونية، أن يزيل العقبات التي تفرضها المراحل المتعاقبة لنموه الطبيعي
…
فذلك أمر يتوقف على هذه القوانين نفسها، وعلى هذه الميول وهي تمضي بضرورة لا تلين إلى
نتائج محتومة» … وبعبارة أخرى فإن معرفة المجتمع لقانونه الطبيعي الذي يعين حركته لن
تمكِّنه من تخطي المراحل الطبيعية لتطوره أو حذفها من الوجود بجرة قلم، وليس باستطاعته
أن يفعل إلا شيئًا واحدًا: هو التقليل من آلام الوضع والتقصير من مدتها، غير أن
الماركسية، وكل نزعة تاريخية حقيقية، لا تستلزم القول بالقدرية ولا تؤدي إلى التكاسل
عن
العمل، بل الصحيح خلاف ذلك تمامًا، فكثير من التاريخانيين تظهر عندهم ميول واضحة نحو
«النزعة العملية»
Activism، والمذهب التاريخاني
يعلم تمام العلم أن رغباتنا وأفكارنا وأحلامنا واستدلالاتنا، ومخاوفنا ومعارفنا،
ومصالحنا وأعمالنا، هي كلها قوًى مؤثرة في تطور المجتمع. ولا يقول المذهب بعجزنا عن
إحداث أي شيء كان، وإنما يتنبأ بأنك لن تستطيع أن تحقق شيئًا بأحلامك أو بما يركبه عقلك
طبقًا لخطة مرسومة، فلا تأثير إلا للخطط التي تتمشى مع تيار التاريخ الرئيسي. ونرى الآن
على وجه الدقة أي نوع من العمل يعتبره التاريخانيون معقولًا؛ فالأعمال المعقولة ليست
إلا ما يتلاءم مع التغيرات الوشيكة الوقوع ويساعد على تحقيقها؛ إذن فالتوليد الاجتماعي
هو العمل الوحيد الذي يمكن أن يُعتمد عليه على أساس من بُعد النظر العلمي. إن المجتمع
متغير بالضرورة، ولكنه يسير في طريقٍ مرسوم لا يمكن أن يتغير، ويمر بمراحل عينتها من
قبل ضرورةٌ لا تلين، ومن ثم فالنزعة العملية لا يمكن تبريرها إلا إذا سايرت التغيرات
الوشيكة الوقوع وساعدت على تحقيقها. إن خضوعنا لقوانين التطور القائمة هو كخضوعنا
لقانون الجاذبية أمر لا مفر منه، وإن أكثر المواقف مطابقة للعقل هو أن يعدل المرء مجموع
القيم التي يأخذ بها بحيث تصير موافقة للتغيرات الموشكة على الوقوع.
٦
هذا إسهاب مقصودٌ حتى يعلم كل من يحاول إصلاحًا لغويًّا أن عليه «أن يعمد قبل كل
شيء
إلى دراسة حياة اللغة، ومناهج تطورها، وما تخضع له في حياتها من قوانين؛ حتى يتميز له
الممكن من المستحيل، ويستبين له ما يتفق مع السنن الكونية وما يتنافر مع طبيعة الأشياء،
وحتى تأتي إصلاحاته مسايرة لهذه الطبيعة، فتؤتي أكلها وتكلل بالنجاح.»
٧
من هنا يأتي إلحاح المجددين في اللغة على معرفة السنن الخاصة بتطور العربية من أجل
تطويرها على نحوٍ صحيح ناجح، يقول الأستاذ أمين الخولي: «هذا التطور يقتضينا عملًا
جليلًا جبارًا في الدرس اللغوي للعربية، كشفًا لمسارب سيره ومسالك تنقله، ليكون حديثنا
عن هذه العربية حديثًا صحيح الأصل سديد الخطوات، وليكون عملنا في خدمتها أو إصلاح شيء
من أمرها صحيح الأساس، موفق الاتجاه، محققًا لغاية … حين يأخذ الوجهة التي يدل التطور
على اتجاهها إليها.»
٨
وفي كتابه «مقدمة لدرس لغة العرب» يقول الأستاذ عبد الله العلايلي: «إن اللغة العربية
أخذت طريقها التطوري في الحياة، تمر من دور إلى دور، وتتغير تغيرًا شاملًا في أصولها
وكلماتها ودلالاتها وأسلوبها ومنهجها البياني، وحتى ظهور الإسلام لم تكن قد استقرت على
وجه التمام، بل ظلت غير خالصة من علائق الفوضى في غير ناحية، كالموازين وصيغ الجموع
وأبواب الأفعال … إلخ، وذلك النقص لأسباب انقلابية مفاجئة، وقفت بها عند حد ما نراها
مسطورة في الكتب العجمية … وقفت اللغة، ولم تنته، فكان لها انجذار مفاجئ أوقف ما فيها
من عناصر فعالة … وقد بقي فيها شيء من مظاهر الطفولية، اجتهدت العربية بالتخلص منه،
ولكن بقي على بعض صوره، والمسافات الواسعة التي بقيت واضحة في منطق القبائل الشتى،
ومنطق القبيلة الواحدة، حتى ذهل من كثرتها علماء اللغة جميعًا، وراحوا في تعليلها على
مذاهب متباينة، وابتدعوا لها وجوهًا من الاختلاف القبلي وتداخل اللغات والضرائر والشذوذ
والغلط، وهي في حقيقة الأمر ليست غير أثر من آثار التطور العامة، الذي تخضع له كل لغة
في سيرها الارتقائي، وتبقى هذه البواقي والمتخلفات؛ لأسباب مكانية وظرفية، أو لأن
التطور لم يتم دورته، والذي لا شك فيه أن العربية لم تستقر لعهد القرآن على وجهٍ نهائي
… وكانت تصل إلى مستوًى بعد ذلك لو ظلت في محيطها بجزيرتها دون خروج، لكن خروج العرب
من
الجزيرة في الحركة الإسلامية منع ذلك.»
٩ لقد مضت العربية في تطورها على مذهب خاص ومعقول عربي لو أدركناه لاستطعنا
أن نجعل العربية تتابع نماءها، وتحقق ما اتجه إليه ارتقاؤها، ولكنه توقف بخروج العرب
من
الجزيرة عند الفتح الإسلامي وتوزعهم في الأنحاء، ثم تناول اللغويون للعربية تناولًا
طابعه الجمع فقط، وفقدان النظرة العامة إلى اللغة، والوقوف في وجه كل اجتهاد.
١٠
يشيد الشيخ أمين الخولي بمحاولة العلايلي النظرية (مقدمة لدرس لغة العرب) والتطبيقية
(المعجم)، ويرى أن العلايلي لا يقف عند بيان هذا التطور، بل يمضي إلى ما وراء ذلك من
اهتداء بهذا التطور في دفع العربية اليوم إلى السير استئنافًا لتطورها الذي أوقفه
خروجها من الجزيرة عند الفتح الإسلامي، فهو يهتدي بهذا التطور إلى معرفة «معقول» العربي
ووجهته في السير بلغته، أو سير الحياة بها، وما كان ينتظر أن ينتهي إليه الأمر في رقيها
واستقرار أمرها، والتخلص من ظواهر الفوضى أو الاضطراب في مادتها وصورتها، وبهذا الهدي
التطوري يرى أننا نستطيع رد الحياة إلى العربية، ودفعها إلى استكمال ما عوقتها الظروف
عن استكماله فتقرر اليوم النتائج التي دلنا التطور على أنها كانت تتجه إلى تقريرها،
وتبسط رقعة الوضع أمام الواضع الجديد اليوم، وبهذا تستبدل العربية بضمورها نماءً،
وزيادة، على أنها ستنمو نموًا داخليًّا ذاتيًّا بمواد من كيانها لا بمعربات من غيرها،
ولا منحوتات مصطنعة من كلمها.
١١
من النتائج التي رتبها العلايلي على ما قال إنه معقول العربي ووجهته في السير بلغته،
والتي يرى أن علينا نحن أن نتابع تحقيقها لنصل بالعربية إلى الاستقرار والاستكمال
والتخلص من ظواهر الفوضى والاضطراب:
-
اختلاف أبواب الفعل الثلاثي مثل من عدم الاستقرار، ويظن العلايلي أن
العربي قصد طرد الأفعال المضارعة على الكسر دون تخلف، فالماضي يكون على وزن
«فعل» — بفتح العين مطلقًا، إلا لحاجة معنوية فينقل قياسًا إلى بابي «طرب»
و«كرم»، وهذا في غير الحلقي فيكون من باب «فتح» مطلقًا؛ وعليه فكل ماض
بالفتح مطلقًا، وكل مضارع بالكسر مطلقًا، وكل حلقي بفتحتها مطلقًا، وكل
اشتقاق مستقبل يلزم هذا السبيل وينطرد عليه، على أنه لا يخرق بهذا حرمة
النص، بل يتقيد بما مضت به المعاجم إذا كان محل وفاق، فإن اختلفت فيه
فالراجح الكسر (مقدمة لدرس لغة العرب).
-
المصادر من الثلاثي بقيت قلقة كذلك، وكذلك الجموع لم تستقر إلا في قلة من
الكلمات، غير أن العربي أخذ بصورة جدية لإقرارها.
-
لم تتحدد للصيغة دلالة على اطراد، فتحمل الكلمة معنيين أو معنًى مؤلفًا
مما تقيده الصيغة والمادة التي منها الاشتقاق، على أن العربية مع كل ما ترى
فيها من فوضى هذه الناحية لا ينكر أنها أخذت في سيطرة الاشتقاق وغلبته بهذا
النحو، وبقاء الموازين على فوضاها لا يتناسب مع المفاهيم العلمية الدقيقة،
التي تضطرنا لأن نجعل دلالة لازمة أبدًا للهيئة الميزانية، ومن ثم لا يكون
عناء الوضع كبيرًا، كما ترتسم للميزان أيضًا صورة عند السامع، تكون على
مقدار من المعنى. فعلى الواضع الجديد أن يتوفر على تخصيص الموازين بما
يقارب أن يكون جامعًا لشتى المشتقات عليها.
١٢
تلك مجرد شواهد على أن محاولة فهم التطور اللغوي للعربية تنتهي بالباحثين إلى نتائج
بعيدة وهامة، وأنه لا سبيل إلى رد الحياة على العربية وتيسير النماء الحي لها إلا إذا
عُرف كيف دبت الحياة في هذه العربية، وكيف سارت الحياة بها لنعرف من ذلك كيف تتابع
سيرها في هذه الحياة.
(٣) التزمُّت يخلق الثورة
مات الكسائي شيخ الكوفيين وهو لا يحسن «نِعْمَ» و«بِئس»، وفارق تلميذه الفراء
الدنيا وفي نفسه شيءٌ من «حتى».
الضغط يُولَّد الانفجار، والتصلب الانكسار، والتزمُّت الثورة. ويوشك المحافظون
الغيورون أن يقتلوا العربية اختناقًا، وفيما يلي أورد قطوفًا من أقوالٍ حقيقية لمجمعيين
حقيقيين، ثقاتٍ أئمة، في مناقشاتهم في دورات المجمع:
-
«… ولنقف عند هذا خشية أن ينتهي الأمر إلى اعترافٍ كامل بها (العامية) له
أخطاره ومغبته.» (د. بيومي مدكور)
-
«ومجمع اللغة العربية لا يؤخذ بأخطاء الناس، ولكنه يؤخذ إذا هو وضع خاتمه
الشرعي على أخطاء الناس، ولا يجوز لنا أن نجيز أخطاء الناس وإن كنا أحيانًا
نسكت عنها. لعل إخواننا في مصر لا يدركون مدى الحملة على اللغة العربية في
أقطارٍ أخرى، ولم يحسوا بالخطر الكامن وراء الدعوة إلى التمهيل والتبديل في
اللغة العربية، فرجاؤنا أن يشعروا معنا بذلك، وأن يظلوا السور الذي يحمي
لغتنا فلا يفتحوا فيه ثغرةً جديدة.» (د. عمر فروخ)
-
«… يجب ألا نفتح ثغرة مهما كانت صغيرة ينفذ منها من يريدون القضاء على
العربية.» (أ. زكي المهندس)
-
«… فأما حملة د. محمد كامل حسين على اللغة العربية وأنها يجب أن تساير
العصر ويُتساهل فيها فهذا غير ما بُني عليه المجمع من المحافظة على سلامة
اللغة العربية، وحملته على الأشموني والألفية فيها تجنٍّ كثير، فهذه الكتب
حفظت لنا اللغة بدقائقها وتفاصيلها، وإذا كان فيها شيءٌ من الصعوبة فلها من
يستسيغها ويفهمها.» (الشيخ محمد علي النجار)
-
«يجب أن تُقوَّم الألسنة المعوجة لتستقيم على منهاجها الواضح المبين، لا
أن تعوج هي لتطاوع الألسنة المعوجة بحجة التيسير عليها لتبقي على
اعوجاجها.» (أ. عبد الفتاح الصعيدي)
-
«لا أرى أن نتخذ من القواعد ما نقر به المخطئ على خطئه، ومن الخير أن
نلتزم اللغة الفصحى، وننبه على أن المستعمل بخلافها في الصحف أو غيرها غير
مقبول، وليس من الخير أن نضع خاتم الشرع على أخطاء الكاتب أو المتحدث، ولو
أجزنا لكل مخطئ أن يخطئ فسينتهي بنا الأمر إلى تسويد لغة العامة.» (د. عمر
فروخ)
تلك أقوالٌ محافظة اجتزأتُها اجتزاءً وانتقاءً لكي تمثل المنطق المحافظ، مع كل
الإجلال للقائلين ونياتهم الطيبة. إنهم يتحدثون كأن المعيار هو التراث لا العرف، أو كأن
السلطة هي المجمع لا الحياة، ويصدرون الأحكام من غير سُدة الحكم! ولقد تركتهم اللغة
يحافظون عليها في عالمهم الافتراضي ومضت في سبيلها لا تلوي على شيء.
لقد أتت جهودكم بعكس الذي توسموه، وها هي شواهد احتضار العربية تكاد تفقأ عين أوديب.
التطور لا يغالَب بل يوجه ويضبط، وقديمًا قال ماكيافيللي للأمير «إذا أردت أن تتفادى
ثورةً فاصنعها بنفسك!»، وقريب من ذلك قول د. محمد كامل حسين في مؤتمر المجمع، الدورة
٢٨، ١٩٦١: «فيما يتعلق بالثورة على اللغة في لبنان أرى أن الطريقة إلى منع الثورة في
كل
العالم هو التطور التدريجي، فلو تطور الروس ما قامت الثورة الروسية، والمحافظة الشديدة
على تفاصيل اللغة العربية الفصحى على صعوبتها ستؤدي إلى الثورة عليها وانتصار العامية،
والطريقة الوحيدة لتلافي ذلك هو التطور بالفصحى، وأؤكد أن التطور يكون إلى التقدم،
والتقدم أميل إلى التبسيط» (مجلة المجمع، ج١٥، ص٨٠).
نعم، التبسيط يُماشي سُنن التطور ويساير اتجاهاته وميوله، وقد سبق أن قلنا: إن مبدأ
«الاقتصاد» من أهم السنن المسيرة للتطور اللغوي، وكذلك مبدأ «القياس» بمعنى الاطراد
والتجانس، ينبغي أن نعترف أن الفصحى على حالها الراهن صعبةٌ عسيرة الدراسة والتمثل.
وهذا طه حسين، وهو سيد من سادة الفصحى، يقول في «مستقبل الثقافة في مصر»: «معنى ذلك أن
تيسيره (أي تعليم العربية) قد أصبح فرضًا لا محيد عنه، وضرورةً لا خلاص منها، فليس كل
الناس قادرًا على أن يتعلم اللغة العربية قراءةً وكتابةً وفهمًا مع ما تمتاز به قراءتها
وكتابتها وعلومها من الصعوبة والتعقيد، وليس كل الناس مستعدًّا لأن ينفق من حياته
الأعوام الطوال ليدرس أبواب النحو والصرف كما يريد هؤلاء السادة أن يحتفظوا بها، حتى
إذا أنفق من وقته ما أنفق، وبذل من جهده ما بذل.»
١٣ … «وأنا من أجل هذا أدعو إلى أن تتولى الدولة بواسطة العلماء القادرين
إصلاح علومها وتيسيرها والملاءمة بينها وبين الحياة الحديثة والعقل الحديث، وأنا نذيرٌ
للذين يقاومون هذا الإصلاح بخطرٍ منكر ما أرى أنهم يحبونه أو يطيقونه أو يسعون إليه أو
يرغبون فيه، وهو أن اللغة العربية الفصحى إذا لم ننل علومها بالإصلاح صائرةٌ، سواء
أردنا أم لم نرد، إلى أن تصبح لغةً دينية ليس غير، يحسنها أو لا يحسنها رجال الدين
وحدهم ويعجز عن فهمها وذوقها فضلًا عن اصطناعها واستعمالها غير هؤلاء السادة من الناس
…
فاللغة العربية في مصر لغة إن لم تكن أجنبية فهي قريبة من الأجنبية، لا يتكلمها الناس
في البيوت، ولا يتكلمها الناس في الشوارع، ولا يتكلمها الناس في الأندية، ولا يتكلمها
الناس في المدارس، ولا يتكلمونها في الأزهر نفسه أيضًا … فالخطر الذي أنذر به إذا لم
نتدارك اللغة وعلومها بالإصلاح والتيسير؛ إن لم يكن واقعًا فهو قريب الوقوع، وتبعة هذا
كله إنما تقع على الذين يمانعون في الإصلاح والتيسير … وينسون أن الذين أنشئوا هذه
العلوم (علوم اللغة) إنما أنشئوها لأسباب منها حماية اللغة من أن تفسد أو تضيع، كما
أننا نريد أن نصلحها ونيسرها لنحميها من أن تفسد أو تضيع … أريد كما يقول بهي الدين
باشا بركات في هذه الأيام، وكما قال غيره من قبله، أن يقرأ الناس ليفهموا لا أن يفهموا
ليقرءوا … والخير كل الخير أن نقبل على هذا الإصلاح عن رغبة ورضا، لا أن نعرض عنه حتى
تفرضه علينا الظروف إن انتصر، أو تموت اللغة العربية إن كتبت لها الهزيمة لا قدر الله.»
١٤
وها هو الأستاذ محمود تيمور، وهو أديب كبير وعضو مجمع، يقول: «لا خلاف على أن قراءة
الكلام غير المضبوط قراءةً صحيحة أمرٌ يتعذر على المثقفين عامة، بل إن المختصين في
اللغة الواقفين حياتهم على دراستها لا يستطيعون ذلك إلا باطراد اليقظة ومتابعة
الملاحظة، وإن أحدًا منهم إذا حرص على ألا يخطئ لا يتسنى له ذلك إلا بمزيد من التأني
وإرهاف الذاكرة وإجهاد الأعصاب.»
١٥ ويقول حسام الخطيب: «ولا نعرف أناسًا في الدنيا يستخدمون لغتهم بمثل ما
يصاحب استخدام اللغة العربية لدى أبنائها من تهيُّب وتحفُّز وتردد وتوتر نفسي ورهق.»
١٦
وها هو الدكتور محمد كامل حسين، وهو ضليع في اللغة وعضو مجمع، يقول في واحدة من
مداولات المجمع عام ١٩٦١: «أما فيما يتعلق بالإبقاء على اللغة العربية، فإننا نعمل جهد
الطاقة للحفاظ عليها، غير أننا لا نريد أن نبقيها متحجرة حتى لا يبعد عنها المثقفون،
وهذا لا يتأتى إلا بأن نغير منها بحيث تصبح مقبولة عند المحدثين، أما التمسك بجميع
تفاصيل قواعد النحو والصرف فهذا يتطلب أمة متفرغة للغة وقواعد اللغة، وهذا زمن انتهى
فلم يعد في الإمكان أن تكون جميع الحركات الفكرية العربية متعلقة باللغة وحدها، فوقتنا
لا يسمح مطلقًا بأن تكون الثقافة العربية محصورة في اللغة وإلا احتاج الأمر إلى أن
نتفرغ لها مدى الحياة لكي نعرف ما هو الصحيح وما هو الخطأ، وحتى علماء اللغة دائمو
الرجوع إلى معاجمها، ونحن نفعل ذلك هنا (في المجمع) دائمًا وبيننا صفوة من علماء اللغة،
فمن يريد المحافظة على اللغة العربية لا يرضى لها أن تبقى متحجرة أو محنطة، بل يجعلها
مسايرة للحياة، ولمطالب المحدثين الذين يريدون لغةً عربية مقبولة … هذا النوع من
التفكير أصبح لا يطيقه العصر الحاضر، نريد أن نسهل هذه القواعد بحيث تصبح في متناول
المتكلمين؛ حتى لا يشعروا بالعجز وبأنهم دائمًا مخطئون، فكل منا مهما كان علمه سيجد من
يخطِّئه.»
١٧
يقول أدونيس: «إن ما ينبغي أن نتمسك به ونحاكيه هو، بالأحرى، ذلك اللهب الذي حرك
أسلافنا، لهب السؤال، والبحث والمعرفة، من أجل أن ننتج ما يكمل نتاجهم، برؤيةٍ جديدة
للإنسان والكون، وبمقارباتٍ معرفية جديدة، وهذا يقتضي تفكيك معارفهم ونظراتهم وتمثلها
نقديًّا، بحيث يبدو الجديد كأنه طالعٌ من القديم، لكنه في الوقت نفسه، شيءٌ آخر، مختلفٌ
كليًّا، وفي هذا سر التواصل العميق الخلاق بين القديم والحديث.»
١٨
(٤) الإصلاح لا يكون إلا جزئيًّا
هناك اعتبارٌ آخر ينبغي أن يراعيه كل مصلح، لغوي أو غير لغوي، يريد لعمله أن يبلغ
غايته ولا يذهب أدراج الرياح، ذلك أنك لا تبدأ إصلاحك من «نقطة أرشيميدية» تقع خارج
العالم! ولا تبدأ من «رسم» Blueprint يوتوبي مثالي
كامل تريد أن تطبقه على واقع عنيد صلب له تعاريجه وتضارسه، وله ميوله واتجاهاته، وله
مقتضياته وإملاءاته، ثمة معطيات قائمة عليك أن تبدأ منها وبها، ومن ثم فإن الإصلاح
الحقيقي لا يكون إلا جزئيًّا متدرجًا. إن البشر، كما يصفهم أوتو نويرات في تشبيهٍ شهير،
«أشبه ببحارة سفينة في عرض البحر: يمكنهم أن يصلحوا أي جزء من السفينة التي يعيشون
فيها، ويمكنهم أن يصلحوا السفينة كلها جزءًا جزءًا، ولكن لا يمكنهم أن يصلحوها كلها
دفعةً واحدة».
أول خطوة إصلاحية هي إعادة اختراع «الدولة»! وهي، إن شئت الدقة، ليست خطوةً بل هي
شرط
كل خطوةٍ وأرضيتها: ثمة «أمرٌ» لا بد له من «ولاة»!
ثمة علوم يجب أن تُعرَّب، فلنبدأ بالتعريب أولًا ثم نتناقش في أمر النتوءات العابرة
التي ستصادفنا والتي يذللها السير نفسه: لنبدأ، «اختباريًّا» Tentatively بقسمٍ من الطلاب يدرسون بعض المواد بالعربية، مع كتابة
المصطلح الأجنبي إجباريًّا والإلمام به والسؤال فيه، لا معنى لتسويف هذه التجربة
البسيطة التي نوقن بنجاحها: بمنطق العقل، ومنطق الأشياء، وخبرة الأمم الأخرى، ثم نتدرج
في التعريب، وأول الغيث قطرة.
ثمة قنوات فضائية للأطفال، فلندبلج، وننتج، لهم أجود الرسوم والأفلام بعربية شائقة
ميسرة، ولنجند لذلك أقدر الممثلين والمخرجين، بإشراف المجمع، ورعاية الدولة
وإغداقها.
ثمة قنوات فضائية مرموقة وسابقة، كالجزيرة، تعمل بالعربية بنجاحٍ تام وجاذبية مشهودة،
فلنعمم التجربة عندنا ونفرد قنواتٍ تنطق بفصحى ميسرة، ترفرف كالعرب على الإعراب ولا
تتفيهق فيه وننتدب لها أكفأ الإعلاميين ونُغدِق.
ثمة ندوبٌ وبثور في وجه القاهرة والمدن الأخرى: لافتات وإعلانات وواجهات بالإنجليزية
والعامية، لها أن تمهل للإزالة؛ حفاظًا على الهوية القومية والذوق العام، ولسنا في ذلك
بدعًا بين الأمم.
لنشجع حفظ القرآن، بغض النظر عن الديانة وبمعزلٍ عن المسألة الدينية، ونجعل لحفظته
مزيةً كالتي لأبطال الرياضة في الشهادات العامة، وإن سلامة اللغة لمزيةٌ علمية كبيرة
يحق لصاحبها، من أي ديانة، أن يتميز على أقرانه.
لنتوقف عن السخرية من العربية ومن أستاذ العربية في أفلامنا وإعلامنا، ماذا يضحكنا
في
ذلك؟ إنما يضحكنا جهلنا واغترابنا عن ذاتنا وخزينا في أنفسنا! إننا لفي غنًى عن ضحكةٍ
تباع لنا بثمنٍ باهظ، وإن مجال الضحك من بعد ذلك لممدودٌ ذو سعة.
(٥) الاستعمال
وصفةٌ شاملةٌ للإصلاح اللغوي:
نريد لغةً نستعملها لا لغةً تستعملنا.
اللغة استعمال.
وهناك وجه شبهٍ كبير بين اللغة والعملة التي يستعملها الناس في البيع والشراء
(النقد/النقود)، فالنقود، كما لاحظ ماريوباي، لا تعدو أن تكون «رمزًا» لقوةٍ شرائية
تواضع عليها الناس، ليس لورق النقود (أو معدنها) بحد ذاته قيمة تذكر بجانب قوتهما
الشرائية، ومن ثم فالقيمة الحقيقية للنقود هي خاصة يسبغها عليها المجتمع الذي يتعامل
بهذه العملة. وكذلك الأمر في اللغة: «فقيمة اللغة في التزام أهلها بها وبطريقتها في
التعبير، ورواجها بينهم، وتداولها على ألسنتهم، واحترامهم لها، وثقتهم بها في حمل
أفكارهم ومعتقداتهم والتعبير عن انفعالاتهم وعواطفهم.» وبالتالي فما من لغة إلا وهي
قادرة على التعبير عن أية فكرة متى قامت في نفوس أصحابها، وليس هناك معنًى لأن تكون
لغةٌ ما عاجزة عن التعبير عن أي معنًى من المعاني متى قام هذا المعنى في نفوس المتكلمين
بها، «فالفكرة متى قامت في ذهن الإنسان استطاع التعبير عنها بلغته إن كان متمكنًا من
هذه اللغة، وعاملًا على رفعة شأنها.»
١٩
حياة اللغة أن تستعمل وموت اللغة ألا تستعمل … الاستعمال يحيي ويميت.
مفتاحٌ بسيط لمشكلة العربية، ولكنه عمومي شامل يسعفنا في مجال تقعيدها، وتعليمها،
والتعلم بها.
(٥-١) في مجال التقعيد
التضخم علامةٌ مرضية، هي دائمًا نتاج شيخوخةٍ ونذير موت.
تضخم القوانين في التشريع،
وتضخم الطقوس في الديانة،
وتضخم القواعد في اللغة،
كلها تعبر عن ضمور الجوهر واللباب، وغلبة اللحاء والقشور،
وكلها دليلٌ على الترهل والضعف،
وعبءٌ على الحيوية،
وأذانٌ بالزوال.
أسرف النحاة الأوائل في تضخيم قواعد اللغة وإثقالها بكل ما لا يفيد الاستعمال
الحقيقي للغة: من حذف وتأويل وقياس واستتار وتقدير، فلا يخلص المرء إلى تعلم ما
يفيده إلا وقد تعلم ما لا يفيده! يحكي الجاحظ أنه قال لأبي حسن الأخفش: أنت أعلم
الناس بالنحو، فلم لا تجعل كتبك مفهومة كلها؟ وما بالنا نفهم بعضها ولا نفهم
أكثرها؟ وما بالك تقدم بعض العويص وتؤخر بعض المفهوم؟ قال الأخفش: أنا رجل لم أضع
كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه قلت
حاجاتهم إليَّ فيها … وإنما قد كسبت في هذا التدبير إذ كنت إلى التكسب ذهبت،
٢٠ وقد تفطَّن ابنُ مضاء القرطبي لهذه المأساة منذ ثمانية قرون، ودعا إلى
دراسة اللغة كما ينطقها العرب، لا كما تخيَّلها النحاة.
لسنا نتنازل عن درهمٍ من زبدة اللغة، وإنما نريد إزالة هذا اللحاء اليابس
المتراكم الذي يخنقها ويثقل على حاملها فيصرفه عن قشرها ولُبابها معًا، ليبقى
جاهلًا بها أبد الدهر.
ليكن مبدؤنا في استخلاص القواعد: كيف نستعمل اللغة كما استعملها العرب وكيف نربي
السليقة ونكوِّنها، لا كيف نحفظ ألاعيب النحاة ونخبُّ في كل لونٍ من التعليل
والتأويل والتشذيذ … إلخ مما لم يعرفه الأوائل سادة اللغة أنفسهم ولا خطر لهم في
بال! نريد قواعد تعيد إلينا سليقة هؤلاء، أو سليقة قريبة من سليقتهم، نريد لغةً
نستعملها لا لغةً تستعملنا!
وسأضرب مثالَيْن على هذا اللحاء الثقيل الذي يمكن للطالب المبتدئ أن يستغني عنه
دون أن يفوته شيءٌ من زبدة العربية أو من منطق العرب:
-
أسلوب التعجب: من قبيل «ما أجمل السماء».
٢١
الإعراب القياسي الحالي:
ما: نكرةٌ تامة بمعنى شيء عظيم.
أجمل: فعلٌ ماضٍ/جامد/مبني على الفتح/فاعله مستتر/وجوبًا/تقديره
هو/يعود على «ما».
السماء: مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة.
يكفي هنا، كما يقول د. أحمد مختار عمر، أن يعرف الطالب
شيئين:
-
أسلوب لا سيما: مثل: «أكثروا من الضحك لا سيما خالد.»
في «تجديد النحو» يقول د. شوقي ضيف: «تكلَّف النحاة في إعراب صيغة لا
سيما صورًا كثيرة من التكلف البعيد، فقد ذهب أبو علي الفارسي إلى أن
«سيَّ» حال، وذهب ابن هشام في كتابه المغني إلى أن «لا» نافية للجنس،
و«سي» اسمها، و«ما» زائدة، و«خالد» بعدها مضاف إلى سي مجرور، أو مرفوع
على أنه خبر لمضمر محذوف أي «لا سيما هو خالد»، و«ما» حينئذٍ — إما
موصولة وإما نكرة موصوفة بالجملة بعدها، وذهب بعض النحاة إلى أن «لا
سيما» أداة استثناء وما بعدها منصوب. ويستخلص من هذه الآراء أن ما بعد
«لا سيما» يمكن أن يكون مجرورًا أو منصوبًا أو مرفوعًا، وإذن ففيم كل
هذا العناء في الإعراب وما بعدها يجوز فيه الرفع والنصب والجر؟ طبيعي
لذلك أن يلغى إعراب لا سيما من الكتاب».
٢٣
وهكذا نختصر قاعدة لا سيما في كلمات أربع:
«ما/بعد/لا سيما/مثلثة»
فلا يفوتنا شيء مما يتصل بالنطق العربي السليم،
٢٤ وهكذا يتبين لنا أي نزيف للجهد يحيق بالطالب فيما لا طائل منه إلا
النهج والدوار، وثأرٌ لا شعوريٌّ من هذا العلم الثقيل وهذا الكتاب المضجِر.
(٥-٢) في مجال التعليم
توجز الدكتورة بنت الشاطئ أزمة تعليم العربية في فقرة مأثورة:
ليست عقدة الأزمة في اللغة ذاتها، العقدة فيما أتصور هي أن أبناءنا لا
يتعلمون أن اللغة لسان أمةٍ ولغة حياة، وإنما يتعلمونها بمعزلٍ عن سليقتهم
اللغوية، قواعد صنعةٍ وقوالب صماء، تجهد المعلم تلقينًا والتلميذ حفظًا،
دون أن تكسبه ذوق العربية ومنطقها وبيانها.
ويقول أ. إبراهيم اللبان عضو المجمع اللغوي: «… ويهمني أن أشير إلى حلٍّ خاص كرجل
اشتغل بالتعليم في مصر وخارجها، وفي الشرق وفي إنجلترا: ذلك أن اللغة عادة؛ عادة
لسانية، وعلماء النفس يقولون إن العادة تتكون بالتكرار؛ لذلك يجب أن يعاد النظر في
أمر تعليم اللغة العربية، فهذا التعليم إذا اتجه إلى تكوين العادات المثالية بكل
عناية أمكن تذليل الكثير من العقبات.» (مجلة المجمع، ج١٥، ص٨٠)
وفي كتابه «مشكلة اللغة العربية» يقترح الأستاذ محمد عرفة إلغاء تعليم القواعد في
المدارس الابتدائية، والتشديد على تعلم اللغة بالتكرار، والحفظ، والإكثار من
المطالعة، وحفظ الكثير من أدب العرب.
٢٥
وللأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني حديثٌ شائق عن قصته مع النحو، يخلص منها إلى
ضرورة تعليم اللغة كسليقة لا كعلمٍ منفصل. والمازني من أساتذة النثر العربي في كل
العصور، وهو شاعر أيضًا ومؤسس مدرسة شعرية (مدرسة الديوان مع رفيقيه العقاد وشكري).
يقول المازني: «كنت أقرأ ورقة الأسئلة (في الامتحان) وأترك النحو إلى آخر الوقت ثم
أتناوله وأروح أجمع طائفة من الأمثلة أستخلص منها القاعدة فأجعل هذا جوابي. هذه
كانت طريقتي، وقد استغنيت بها عن حفظ ما في كتب النحو، وأراني الآن أصبحت كاتبًا،
وكنت في زماني شاعرًا كذلك، وقد وسعني هذا وذاك بغير معونة النحو!»
٢٦ ويحدثنا المازني عن الأسئلة التي كانت توجه إليه في الامتحانات الشفهية
فيقول: «وشرع يسألني عن كلمة (العدوان) ما فعلها الثلاثي؟ ولماذا يقال اعتدَيا بفتح
الدال للماضي واعتديا بكسرها للأمر؟ فلم أعرف لهذا جوابًا؛ فقلت هكذا نطق العرب
وعنهم أخذنا. فألحَّ في طلب الجواب المُرضي؛ فقلت إن اللغة نشأت قبل القواعد، وأنا
أنطق وأكتب وأقرأ كما كان العرب يفعلون من غير أن يعرفوا قاعدةً أو حُكمًا، فساءه
جوابي ونهرني …» ويقترح المازني أن تحل قراءة الأدب العربي محل النحو، وأن يتم وضع
مختارات صالحة لكل سن، وإذا كان لا بد من النحو فليكن ذلك عرضًا وأثناء القراءة
وعلى سبيل الشرح وللاستعانة به على الفهم، وعلى ألا يكون ذلك درسًا مستقلًّا يؤدَّى
فيه امتحان. وينتقل المازني إلى نقد طريقة تدريس العربية فيقول: «أما الطريقة التي
يتعلم بها أبناؤنا العربية فإني أراها مقلوبةً لأنها تبدأ بما يجب الانتهاء إليه.»
ويعلق على طريقته المقترحة فيقول: «والطريقة التي أشير بها تجعل العربية سليقة على
خلاف ما هو حاصل الآن، فإن أبناءنا يتعلمون العربية كما يتعلمون الإنجليزية أو أية
لغة أجنبية أخرى لا يشعرون بصلة بينها وبين نفوسهم، وكثيرًا ما يتفق أن يخرج
التلميذ وهو أعرف باللغة الأجنبية منه بالعربية، وليس بعد هذا فشلٌ والعياذ بالله.»
٢٧
تعليم اللغة باستعمالها. تمامًا مثلما يتعلم الطفل لغة الحياة، وهي تطرق سمعه
آناء الليل وأطراف النهار فيقلِّدها ويحاكيها، وكم ذا يقع في التعثر و«القياس
الخاطئ» فيقوم بإعادة الصواب على سمعه وليس بتلقينه قاعدةً صماء، وهكذا ينبغي أن
يكون تعليم العربية بالمدارس: أن يقرأ التلميذ ويقرأ، ويسمع ويستمع، ويجول مستطلعًا
دهشًا في النصوص الشائقة الممتعة. أن يبدأ بكل ما هو وظيفي تطبيقي عملي، ثم تأتي
القواعد والأصول في المحل الثاني، ويأتي التنظير والحكمة في المرحلة الآخرة (مثل
بومة منرفا لا تشرع في التحليق إلا عندما يحل الغسق)، هكذا تواتيه القاعدة وتسقط في
يده كتفاحةٍ ناضجة، فيراها بعينيه بعد أن كان يراها بأشواقه.
«معرفة أن» و«معرفة كيف»
ثمة تمييز شهير في نظرية المعرفة بين «معرفة
أن»
Knowing that و«معرفة
كيف»
Knowing
how، «فأن نعرف كيف نقود سيارة أو كيف نخبز كعكة الأناناس
المقلوبة، أو كيف نقف على أيدينا؛ تلك معرفة كيف، أو المعرفة كمهارةٍ أو مقدرة،
ونحن عادة ما نعجز عن أن نعبر عنها بالألفاظ، فمثل تلك المعرفة تُعلَّم
بالتمثيل لا بالكلام، ويطلق على المعرفة حين نعني بها «معرفة أن» اسم
«معرفة قَضَوية»
Propositional Knowledge،
ومن المفترض عامة أن المعرفة القضوية يمكن أن يعبر عنها لفظيًّا تعبيرًا
تامًّا، بعكس «معرفة كيف».»
٢٨
وفي ضوء هذا التمييز الإبستمولوجي بين «معرفة أن» و«معرفة كيف»، يمكننا أن
نقول بحسم: إنَّ معرفة اللغة تنتمي إلى مقولة «معرفة كيف» أكثر مما تنتمي إلى
«معرفة أن»: فتعليم اللغة ليس عرْضًا لكمٍّ من المعلومات أو القضايا
Propositions، ولكنه بالدرجة الأولى
«مهارة». وإن تعليم النحو، كما يقول د. أحمد مختار عمر، لا يتحقق إلا إذا حول
القاعدة إلى مهارة، ومكَّن الدارس من استعمال العبارات استعمالًا سليمًا دون
تفكير أو وعي بالقاعدة. وقد جاء عن ابن خلدون في «المقدمة» ما يُشير إلى
الْتفاته لهذه المسألة، وسبقه في كل ما هو تحليلي علمي. يقول ابن خلدون في
الفصل الخمسين المُعنون «في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربي ومستغنية عنها
في التعليم»: «والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة
ومقاييسها خاصةً، فهو علمٌ بكيفيةٍ لا نفس كيفية (أي هو معلومات عن الطريقة
وليس الطريقة نفسها)، فليست نفس الملكة وإنما هي بمثابة من يعرف صناعة من
الصنائع عِلمًا ولا يُحكِمها عَمَلًا مثل أن يقول بصيرٌ بالخياطة غير محكم
لملكتها: الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب
مجتمعين ويخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها
قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين، ثم يتمادى على ذلك إلى آخر
العمل ويعطي صورة الحبك والتثبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها، وهو
إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئًا، وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن
تفصيل الخشب، فيقول هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه وآخر قبالتك
ممسكٌ بطرفه الآخر، وتتعاقبانه بينكما وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت
عليه ذاهبةً وجائيةً إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة، وهو لو طولب بهذا العمل أو
شيءٍ منه لم يحكمه، وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن
العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل؛ ولذلك نجد كثيرًا من جهابذة
النحاة والمهرة في صناعة العربية المحيطين علمًا بتلك القوانين إذا سئل في
كتابة سطرين إلى أخيه أو ذي مودته أو شكوى ظلامة أو قصدٍ من قصوده؛ أخطأ فيها
عن الصواب وأكثر من اللحن.»
٢٩
(٥-٣) في مجال التعليم باللغة
«لا توجد لغة يمكن أن تُتهَم — في ذاتها — بالقصور أو العجز؛ لأن أي لغة، على حد
تعبير هلمسليف، «تملك القوة الكامنة للتعبير عن الحاجات الضرورية لأي حضارة … بمعنى
أنه لا توجد لغة يمكن أن يقال عنها إنها بدائية، أو إنها ناقصة التكوين.»
٣٠
وليس هناك معنًى لأن نقول: إن العربية عاجزة عن نقل العلوم بينما نحن لا نستخدمها
في نقل العلوم! فاللغة لا تنمو في فراغ، وإنما تنمو نتيجة نمو أصحابها، وتزداد
ثروتها اللغوية بازدياد خبرات أهلها وتجاربهم، والدراسة النظرية وحدها لا تخلق لغة،
وإنما يخلقها الاستخدام والممارسة، وربطها باحتياجات أهلها وخبراتهم وحياتهم
العلمية واليومية.»
٣١
وقد أثبتت العربية قديمًا، وهي قريبة عهد بالبداوة وحياة الصحراء، قدرتها الهائلة
على نقل العلوم والفلسفات وهضمها والإضافة إليها، وكم بالحري أن تكون قادرة اليوم
على نقل العلوم بعد كل ما اكتسبته واختزنته، والعود أحمد.
(٦) الفرصة السانحة
مما يدعو للاستبشار ويجعل الإصلاح المنشود أمرًا ممكنًا أننا في كدحنا الإصلاحي
المقترح إنما تُظاهرُنا قوةٌ عارمة لم تكن تخطر ببال أحد من السلف: العولمة، وقوى
العولمة وبخاصة وسائط الاتصال. من شأن هذا الاندماج الجديد أن يعكس السنن القديمة
للتطور اللغوي! فلم تعد هناك «عزلة» تسبب انشعاب اللغة إلى لهجات ثم تبلور اللهجات إلى
لغات منفصلة. تؤدي قوى العولمة على العكس إلى تقريب اللهجات ثم توحيدها في النهاية،
ويبقى أن نُسخِّر ذلك لخدمة فصحى جديدة تنشرها الفضائيات وتلقيها على سمع الناس بكرةً
وعشيًّا، فصحى قريبة من عقول الناس وقلوبهم، ومعايشة لعصرهم وجيلهم، ومترجمة لشئونهم
وشجونهم، فصحى تسترفد العامية والأجنبية ولا تنفصل عنهما تمام الانفصال، فصحى يستعرب
فيها كل جديدٍ ابتلعته وهضمته وأحالته إلى كيانها وبنيتها، فصحى جديدة نتآزر جميعًا
على
تأسيسها كما أسس دانتي الإيطالية، غير أنها لا تعزب عن فصحى التراث لأنها امتدادٌ
لعربيةٍ أصيلة تتطور من داخلها ولا تفقد جذرها الثلاثي أبدًا، فصحى تفهمنا وتفهم حياتنا
الجديدة العجيبة، ولا نزال نفهم بها حياة الأعشى والشنفري وتأبط شرًّا!