(١) الشفاهية والشواهد الشعرية
أن تصوغ الخبرةَ في شكلٍ يمكن تَذَكُّرُه، ذلك مفتاح الثقافة الشفاهية.
تتألف الكلمات في الثقافة الشفاهية (أي التي لم تعرف الكتابة والتدوين) من أصوات،
ومن
أصوات فقط، ومن شأن ذلك أن يفرض ضوابط على أنماط التعبير والتفكير؛ ذلك أن «حالة
المعرفة» تعني الاحتفاظ بمادة المعرفة وإمكان استعادتها، الأمر الذي يمنح الذاكرة
وآلياتها سطوةً كبرى في «عملية المعرفة». في الثقافة الشفاهية يجد المرء نفسه مدفوعًا
إلى أن يصوغ تفكيره بطريقة يمكن تذكرها، إن كان له أن يظفر بمعرفةٍ على الإطلاق، لا
مناص للمرء في الثقافة الشفاهية من أن يصب مادته الذهنية داخل أنماطٍ حافزةٍ للتذكر
وقابلة للتكرار الشفاهي، هنالك يتعين عليه أن يجبل مادته في أنماطٍ ثقيلة الإيقاع،
متوازنة، أو في جمل متكررة أو متعارضة أو مسجوعة، أو في ثيماتٍ ثابتة، أو في أمثالٍ
رنانة سهلة الترديد. تهيب الشفاهية بالمرء أن يعتصم بالأوزان والقوافي والأسجاع إن شاء
أن يحتفظ بأي مادةٍ ذهنية؛ إن الحاجة التذكرية هنا هي التي تملي تركيب العبارة وتحدد
مجال الفكر الذي يمكن للمرء أن يروده.
لا غرو كان الشعر ديوان العرب، فالوزن «معين
للتذكر» Mnemonic Device لا يشق له غبار، ومن ثم كان الشعر أهم مادة ثقافية وعلمية في
المجتمع العربي الشفاهي؛ فالشعر هو الباقي في ذاكرة الفرد والقبيلة بعد أن يزول كل نثرٍ
ويذهب أدراج الرياح.
يقول ابن قتيبة إن الذي لا يقيد مناقبه وأفعاله بالشعر «شذَّت مساعيه وإن كانت
مشهورة، ودرست على مرور الأيام وإن كانت جسامًا، ومن قيَّدها بقوافي الشعر وأوثقها
بأوزانه وأشهرها بالبيت النادر والمثل السائر والمعنى اللطيف؛ أخلدها على الدهر،
وأخلصها من الجحد، ورفع عنها كيد العدو، وغض عين الحسود». فليس الشعر معيارًا للحياة
وحسب، وإنما هو كذلك معيارٌ لتجاوز الموت؛ ذلك أنه يضمن الخلود. (عيون الأخبار: ٢ / ١٨٥).
١٠
والحق أن النحاة اعتمدوا على الشواهد الشعرية بالدرجة الأساس في تقعيد القواعد، وكان
رائدهم في ذلك سيبويه نفسه؛ فقد ذهب سيبويه إلى أن رواية الشعر أدق من رواية النثر،
وتذكُّر المنظوم أيسر من تذكُّر المنثور، وأن احتمال التغيير والتبديل في الشعر أقل من
احتماله في المروي من النثر؛ لحرصهم على تصوير الأساليب العربية في أدق صورها.
إن النحاة لمعذورون في اعتقادهم بأن الشعر هو المادة اللغوية التي يمكن الاطمئنان
إلى
صحتها وصحة روايتها، ما دام الوزن والقافية يعينان الذاكرة ويضبطان الرواية ضبطًا
تلقائيًّا، غير أن هذا لا يعفيهم من مسئولية الخطأ الجسيم في استخلاص قواعد «اللغة
العامة» من شواهد «لغةٍ خاصة»! يُطْبِق علماء اللغة المحدثين على أن لغة الشعر، على دقة
روايتها، لا يصح أن تكون المصدر الذي تُستخْلَص منه قواعد لغةٍ من اللغات، لكأن النحاة
في ذلك يعملون بمنطق جحا إذ وقع منه درهمٌ على رصيفٍ معتم فذهب يبحث عنه على الرصيف
الآخر لأنه جليٌّ مضاءٌ بنور المصابيح! فالصبغة الشعرية في النحو العربي مسئولة
مسئوليةً مباشرة عما تعانيه قواعد النحو من اضطراب، وعن ذلك العنت في توجيه القواعد
والآراء والتخريجات الذهنية.
لم يكن لدى أحدٍ من النحاة أي شك في أن الشعر هو المادة اللغوية الصالحة للاستشهاد؛
لأن صورة المنظوم، كما جاء في «الإمتاع والمؤانسة»، محفوظةٌ وصورة المنثور ضائعة، ولأن
الشواهد لا توجد إلا في الشعر، والحجج لا تؤخذ إلا منه. أعني أن العلماء والحكماء
والفقهاء والنحويين واللغويين يقولون: «قال الشاعر» و«هذا كثير في الشعر» و«الشعر قد
أتى به»؛ فالشاعر على هذا هو صاحب الحجة، والشعر هو الحجة،
١١ وفي «المقدمة» يقول ابن خلدون «واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفًا
عند العرب؛ ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلًا يرجعون إليه
في الكثير من علوهم وحكمهم.»
١٢
لكن هذا الإعذار لهم، كما يقول د. محمد عيد، لا يمنع من ذكر المآخذ التي توجه إلى
صبغ
النحو بالصبغة الشعرية، والصحيح في الدراسة الاعتماد على النثر أساسًا باعتباره الممثل
الصحيح لاستعمال اللغة. لقد فرض النحاة نتائجهم التي استقرءوها من لغة الشعر على كل
استعمالٍ للغة الفصحى، «وترتب على ذلك كثرة القواعد وتعددها وتعدد الآراء حولها، وتفرع
عليه الحكم بالضرورة والندرة والشذوذ؛ إذ تذكر القاعدة العامة مما يشمل الشعر والنثر،
ثم تدل نصوص الشعر على ما لا يتفق معها؛ فتذكر قاعدة أخرى بجوارها، أو تنفرد بعض نصوص
الشعر بما يخالف القاعدة، ولا تتوافر النصوص التي تؤيد اطرادها؛ فيتفرع على القاعدة
العامة آراء أو استعمالات في شكل تنبيهات أو استدراكات، أو يحكم على تلك المظاهر
المنفردة في لغة الشعر بالندرة أو الشذوذ، أو يحدث الطعن في هذه النصوص نفسها بعدم
الثقة في روايتها أو متنها.»
١٣
(٢) خرافة الضرورة الشعرية
ليست الضرائر في الشعر رُخصًا بل عزائم!
وجد النحاة بعض الشواهد الشعرية لا تخضع لقواعدهم التي أسسوها، ففسروا ذلك بأن الشاعر
قد اضطر، غير باغٍ ولا عادٍ، إلى مخالفة الاطراد النحوي السائد حتى يسلم له الوزن،
وأسموا هذا المسلك ﺑ «الضرورة»، مستعيرين اللفظة من الفقه، وقسموا هذه الخروجات الشاذة
بحسب درجة تواترها إلى ضروراتٍ مباحة لا بأس بها (مثل صرف الممنوع وقصر الممدود ومد
المقصور)، وأخرى قبيحة يجمل بالشاعر اجتنابها ما استطاع (مثل منع المنصرف والعدول
بالكلمة عن أصل وضعها)،
١٤ وما كان أغناهم عن مثل هذا، كما يقول د. إبراهيم أنيس لو أنهم بحثوا الشعر
وحده وخصُّوه ببعض الأحكام التي تُترك للشعراء وحدهم، باعتبارها من خصائص لغة الشعر،
بدلًا من أن يصموا الشعر العربي بهذه الوصمة التي عطلت الفهم الأسلوبي للشعر قرونًا
عديدة.
ولعل ابن جني (ت ٣٩٢ﻫ) هو أول من التفت إلى أن ما يسمى بالضرورة الشعرية قد تكون
اختيارًا لا اضطرار فيه البتة، يقول ابن جني: «فإن العرب تفعل ذلك تأنيسًا لك بإجازة
الوجه الأضعف؛ لتصح به طريقُك، ويرحُب به خناقك إذا لم تجد وجهًا غيره، فتقول: إذا
أجازوا نحو هذا ومنه بدٌّ وعنه مندوحةٌ، فما ظنك بهم إذا لم يجدوا منه بدلًا ولا عنه
مَعدِلًا، ألا تراهم كيف يدخلون تحت قبح الضرورة مع قدرتهم على تركها، ليُعِدَّوها لوقت
الحاجة إليها، فمن ذلك قوله:
قد أصبحتْ أمُّ الخيارِ تدَّعي
عَلَيَّ ذنبًا كلُّه لم أصنعِ
أفلا تراه كيف دخل تحت ضرورة الرفع، ولو نصب لحفظ الوزن وحمى جانب الإعراب من الضعف!
وكذلك قوله:
لم تتلَفَّع بفضل مئزرها
دَعدٌ ولم تُغْذَ دعدُ في العُلَب
كذا الرواية بصرف «دعد» الأولى، ولو لم يصرفها لما كسر وزنًا، وأمن الضرورة أو ضعف
إحدى اللغتين.»
١٥
وجاء في «الأشباه والنظائر»: «قال أبو حيان: يعْنُون بالضرورة أن ذلك من تراكيبهم
الواقعة في الشعر، المختصة به، ولا يقع في كلامهم النثري، وإنما يستعملون ذلك في الشعر
خاصة دون الكلام، ولا يعني النحويون بالضرورة أنه لا مندوحة عن النطق بهذا اللفظ، وإنما
يعنون ما ذكرناه، وإلا كان لا توجد ضرورة؛ لأنه ما من لفظ إلا ويمكن الشاعر أن يغيِّره.»
١٦
ثم جاء ابن مالك في القرن السابع الهجري، فلمس فكرة التفريق بين ما هو «خاص بالشعر»
وما هو «ضرورة»؛ فجعل الضرورة ما ليس للشاعر عنه مندوحة، وناقش الكثير من ظواهر الشعر
التي حكم النحاة عليها بالضرورة فرفض أن يكون الشاعر مضطرًّا إليها، وبيَّن ما كان يمكن
للشاعر أن يقوله بدل الضرورة المزعومة، وأنه مختار ولا ضرورة تُلجِئه إلى ذلك، مثال ذلك
دخول «أل» على المضارع في قول الشاعر:
ما أنت بالحكم التُّرضى حكومتُه
ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
وقال إن مثل هذا غير مخصوص بالضرورة؛ لتمكن الشاعر أن يقول: ما أنت بالحكم المرضي
حكومته؛ هذا إذن شيء «خاص بالشعر» وليس «ضرورة»، ولو أن من جاءوا بعد ابن مالك توسعوا
في تطبيق هذه الفكرة لأمكنهم عزل الكثير مما سُمِّي «ضرورة» على أنه «خاص بالشعر»،
ولأمكن لدراسة الشعر أن تستقل بخصائصها كليًّا عن دراسة النثر، لكن شيئًا من هذا لم
يحدث، وظل النحاة على مذهبهم في الضرورة؛ ذلك أن تمييز لغة الشعر عن لغة النثر يفتح
بابًا لإعادة النظر في الطريقة التي تمت بها دراسة نصوص الكلام العربي جملة، وما كان
تقليد المتأخرين للمتقدمين يسمح بهذه المراجعة.
١٧
وفي شرح التلخيص للسبكي نجد التفاتًا ذكيًّا إلى طبيعة «الضرورة» وطبيعة الاختلاف
بين
لغة النثر ولغة الشعر. كان شراح التلخيص يَعدُّون مخالفة القاعدة النحوية المطردة ضعفًا
في التأليف وبُعدًا عن الفصاحة، ومن أمثلة ذلك «الإضمار قبل الذكر» لفظًا ومعنى، كما
في
قول الشاعر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبرٍ
وحُسن فعلٍ كما يُجزى سنِمَّار
يرى السبكي أن هذا قد يكون ضعفًا في النثر، أما في لغة الشعر فالأمر يختلف: «لأن
ضرورة الشعر كما تجيز ما ليس بجائز فقد تقوِّي ما هو ضعيف، فعلى البياني أن يعتبر ذلك،
فربما كان الشيء فصيحًا في الشعر غير فصيح في النثر.»
ومن يتأمل البيت المذكور يدرك صواب السبكي فيما ارتآه، فحين انصهرت مثل هذه
«المجاوزة» في سبيكة الشعر لم نكد نُحسُّ أي نشوز أو اختلال، وربما أطربتنا المجاوزة
ذاتها ووجدنا لها وقعًا جماليًّا معينًا. وجدير بالذكر أن الإضمار قبل الذكر لم يعد
مستنكرًا حتى في لغة النثر بعد أن وفد علينا بكثرةٍ في الأساليب الأجنبية هذه الأيام.
١٨
لا لم تكن فكرة «الضرورة» إلا ضرورة النحاة أنفسهم في دراستهم وقد جبهتهم لغة الشعر
بما لا يتفق مع قواعدهم. انظر إلى سيبويه نفسه كيف اغترب عن بيت عمر بين أبي
ربيعة:
صددْتِ فأطولتِ الصدود وقلَّما
وِصالٌ على طول الصدود يدوم
فقال: يحتمل الشعراء قبح الكلام حتى يضعوه في غير موضعه، وإنما الكلام «قلما يدوم
وصال».
لم يوفق سيبويه في هذا المثال إلى تمييز الفرق الجوهري بين لغة النثر ولغة الشعر،
فهذا الحيود في لغة البيت ليس قبحًا وليس اضطرارًا، وإنما هو طريقةٌ للشعر في الصوغ
والتركيب، أو هو «خاص بالشعر»، ولو أن البيت صيغ على غير ذلك لذهب ماؤه وزال موضع
التعجب منه.
لم يحتمل العلماء فكرة وجود لغتين أو مستويين لغويين للفصحى: لغة النثر ولغة الشعر،
بحيث يكون أغلب ما أسموه «ضرورة» هو، ببساطة، «خاص بالشعر». ولعل ابن فارس خير ممثل
لاتجاه عامة النحاة إلى تخطئة الشعراء في خروجهم على المطرد والقياسي من القواعد. في
رسالته «ذم الخطأ في الشعر» يذهب ابن فارس إلى أن الضرورة ضربٌ من الخطأ ومجانبة
الصواب، فالشعراء عنده يخطئون كما يخطئ الناس ويغلطون كما يغلطون، وما جعل الله الشعراء
معصومين يوَقَّوْن الخطأ والغلط، فما صح من شعرهم فمقبول، وما أبتْه العربية وأصولها
فمردود، ورأى ابن فارس أن كلام النحويين في هذا الباب إنما هو ضرب من التوجيه لخطأ
الشعراء وتكلف التأويلات لأغلاطهم،
١٩ وذهب ابن رشيق إلى أن «الضرورة لا خير فيها»،
٢٠ وقال أبو هلال العسكري في كتابه «الصناعتين»: «وينبغي أن تجتنب ارتكاب
الضرورات، وإن جاءت فيه رخصة من أهل العربية؛ فإنها قبيحة تشين الكلام وتذهب بمائه،
وإنما استعملها القدماء في أشعارهم لعدم علمهم — كان — بقباحتها، ولأن بعضهم كان صاحب
بداية، والبداية مَزَلَّة، وما كان أيضًا تُنقَد عليهم أشعارهم، ولو قد نقدت وبُهرِج
منها المعيب، كما تنقد على شعراء هذه الأزمنة ويُبهرَج من كلامهم ما فيه أدنى عيب لتجنبوها.»
٢١ ونقل الدمنهوري عن السيوطي في الأشباه والنظائر النحوية ما نصه:
قاعدة: ما جاز للضرورة يُقَدَّر بقدرها، ومن فروعه: إذا دعت الضرورة إلى منع
المنصرف المجرور فإنه يقتصر فيه على حذف التنوين وتبقى الكسرة؛ لأن الضرورة دعت
إلى حذف التنوين فلا يتجاوز محل الضرورة. قاعدة: ما لا يؤدي إلى الضرورة أولى
مما يؤدي إليها. وخلاصة هذه الأحكام أن للشعر خصائص منها الضرورات، وأن هذه
الضرورات ينبغي أن تجتنب، ويجب أن يقتصر فيها على الحاجة فيُقَدَّر بقدرها، وأن
يعلم الشاعر أن ما لا يؤدي إلى الضرورة أولى مما يؤدي إليها.
٢٢
قلنا: إنَّ النحاة لم يحتملوا فكرة وجود مستويين للفصحى، وظنوا أن الشعر لا يعدو
أن
يكون فنًّا من الكتابة التزم بما لا يلزم في النثر، طموحًا إلى قيمٍ تأثيرية كبرى،
فآدَهُ حملُه الثقيل من وزنٍ وقافية، وأَعذَرَه فيما اضطر إليه من ضروب التعثر والظلع
اللغوي. وحتى ابن جني في تمجيده للشاعر لم يعْدُ أن مهَّد له عذرًا ونوَّه ببسالته،
ولكنه لم يبلغ عمق الظاهرة الشعرية،
٢٣ لم يفهم ابن جني أنَّ الشاعر ليس بهلوانًا يُوَفَّقُ فيُكْبَر أو يسقط
فيُعذَر! «فالشاعر لا يتلقى اللغة تلقيًا سلبيًّا، بل له عليها أثرٌ إيجابي، بطبيعة ما
بينهما من علاقةٍ جدلية يتأثر فيها الشاعر باللغة ويؤثر هو كذلك فيها. والضرورة الشعرية
يتجلى فيها عمل الشاعر الخلاق من جهة تناوله للغة تناولًا مختلفًا (وإن كان يتم في
أحضان اللغة نفسها)؛ فالشاعر يغير في اللغة بحكم ما له عليها من أثرٍ إيجابي تتحقق به
المحافظة على روح اللغة ونموها معًا (فاللغة ثبات وتغير وبهما يتحقق للغة شخصيتها
وحياتها معًا).»
٢٤
من آليات الدراسة الأسلوبية للعمل الأدبي «ملاحظة مواطن الخروج ومناهضة الاستعمال
الجاري عليه الكلام، ثم محاولة الكشف عن العلل الاستطيقية (الجمالية/الفنية) الباعثة
على ذلك، ويعد الألماني ليو سبتزر رائدًا في هذا الباب، فهو يبحث عن روح الكاتب أو
الشاعر في لغته على ما تظهر في الخصائص التي يخرج فيها عن المعايير اللغوية الشائعة
ويتجاوزها، بحيث يلوح منها الطريق التاريخي الذي يختطه والتغير الطارئ عليه من روح
العصر والثقافة في الصورة اللغوية الجديدة. لقد اعتُبرت المخالفات النحوية على أيدي
النقاد جميعًا هفوات، ولكن الضرورة الشعرية باعتبارها خروجًا على الاستعمال المألوف
للغة وما تقتضيه المعايير المقررة في النظام اللغوي؛ تكشف عن الخصائص الفردية التي بها
يظهر روح الشاعر أو الأديب، فمغالبة القوة التي يصنعها اطراد العادة اللغوية لا يمكن
تفسيره إلا بالتسليم بأن قوةً مناهضةً بعثت على النشاط الجديد الذي به خالف التعبير ما
استقر عليه الاستعمال. إن اطراد الاستعمال اللغوي من شأنه أن يصبح قوة تتسلط على كل
تعبير ناهض؛ إذ تتكون العادة اللغوية التي عليها يطَّرد التعبير، وتستقر في عقل الجماعة
اللغوية، فلا ينفك عنها أي تعبير جديد؛ ولهذا يلزم في بحث الظاهرة اللغوية الكشف عن
العلل الداخلية التي تستبطنها. فأي دراسة لا تنطلق في بحث الظاهرة من داخلها تقع في
الأوهام التي تقع فيها أي دراسة لا تقوم على الموضوعية؛ لأنها لا تظهر على شيء من حقيقة
الموضوع المبحوث»،
٢٥ «وإذا كان الشاعر يناهض الأعراف اللغوية المستقرة؛ فلأن هذه الأعرف لم تعد
في خدمة الأغراض التي يسعى إليها الشاعر، فالواقع في الوهم أن الشعراء يتجنون على
اللغة، والصحيح أن الضرورة الشعرية إنما هي ضرورة تحتِّمها القوانين الداخلية للظاهرة
اللغوية، وهي في خدمة هذه القوانين وحدها؛ لأنها إنما تستمد وجودها منها، وأي قوانين
أخرى تسبق ميلاد الظاهرة نفسها مردودة لأنها أجنبية، والظاهرة إنما تحمل في باطنها
المبدأ الخالق لها.»
٢٦
للشعر مناخه اللغوي الخاص، الشعر حيود عن جادة اللغة السوية — لغة النثر؛ لأن للنثر
مطلبًا وللشعر مطلبٌ آخر، الشعر يقدم المتأخر (أقيسَ أرى؟ – بالحسن أَعْدى …)، ويؤخر
المتقدم (بادٍ هواك – من الموجَعاتِ النجوم)، ويفصل المتصل (وما للسيف إلا القطعَ
فعلٌ – تبزغُ سائلها لماذا الشمس)، ويصل المنفصل (ما أنت بالحكم الترضى حكومته – الدَّرَجُ
الرنا إليَّ عهدا)، ويكرر (لا يبصر الخطب الجليل جليلا – حتى خطاياه ما عادت خطاياه –
كان
يا مَبسَمَها كان أن – أخبرتها أخبرتها النجوم)، ويُنكِّر (عزيز أسًى مَن داؤه الحَدَقُ
النُّجْلُ – مررت كصحوٍ ببال) … إلخ.
يبحث الشاعر في مادة اللغة عما يحقق له الشكل الجمالي (الاستطيقي) الدال، وإذا كان
للغة سلطانٌ على الناس فللشاعر سلطانٌ على اللغة، وهو في سعيه إلى الأثر الجمالي لا
يخرج عن اللغة بل يطورها وينمِّيها ممتدًّا بها ومنها. وينبغي أن نفهم مواطن خروجه عن
المألوف المطَّرد على أنها كشوفٌ لغوية: منافذ انعتاق، رءوس تبرعم، نقاط شطء، طلائع
نمو؛ فهمها النحاة فهمًا «ألْكَن» على أنها مواطن قصورٍ وضعفٍ وخطأ، سمَلَها النحاة
فأوقفوا نمو اللغة.
في كتابه «بناء لغة الشعر» يَخْلُص جون كوين إلى أن الشعر «انحراف»
Ecart بالقياس إلى النثر، أو «مجاوزة» كما فضل د. أحمد درويش
ترجمتها: «الشعر خروج منظم على قواعد اللغة، والشعر ليس هو النثر مضافًا إليه شيءٌ ما،
ولكنه هو «المضاد للنثر»، ومن هذه الزاوية فإنه يبدو شيئًا سلبيًّا تمامًا كأنه شكل
«معتل» للغة، لكن هذا العنصر الأول يتضمن عنصرًا ثانيًا إيجابيًّا هو أن الشعر لا يهدم
اللغة العادية إلا لكي يعيد بناءها وفقًا لتخطيطٍ أسمَى».
٢٧
وبالرغم من أن الشعر يستخدم الكلمات، ويحمل دائمًا مضمونًا ذهنيًّا، وينطوي على معانٍ
عقلية، فإن الكلمات في الشعر الرفيع تفقد ثقلها السابق، وتتخفف من ماضيها، ولا تعود
«أداةً» تخدم الفكر وتحيل إلى معانٍ. إنها تنصهر وتكتسب «الشكل»
Form وتتحول إلى «غاية»، وتفارق صفة «العلامة» وتأخذ صفة «الرمز»
الملتحم بمعناه. وكأنما الشعر عودة باللغة إلى بدائيتها الأولى، وهو يصطنع من أجل هذه
العودة طرائق كثيرة، منها الوزن. فالوزن، كما أشار كرورانسوم،
٢٨ هو طريقة لفرض الصورة صوتيًّا على الانتباه الذي قد ينهمك بدون الوزن في
معاني الألفاظ نفسها؛ وبذلك يخلق الوزن نوعًا محببًا من التشتيت يجعل من التلقي تجربةً
جمالية، كما أن للوزن تأثيرًا سيمانطيقيًّا (دلاليًّا) هائلًا: فهو يضطر الشاعر إلى أن
يضحي بدقة الألفاظ الفكرية حتى يسلم له النغم، ويلوي بالتركيب النحوي ليسلم له العروض،
وفي هذه العملية يسترخي المعنى ويتفكك ويحقق الشعر ذاته؛ فيكون لغةً بدائية صورية شيئية
غامضة، أفضل تسجيلًا لكثافة الدنيا وروعتها وحيويتها الوهاجة. ولعل هذا هو السبب في أن
القصيدة تعني دائمًا أكثر مما تعنيه ترجمتها النثرية في لغة أخرى، من حيث إن بناءها
الشكلي والموسيقي قد جعل منها «رمزًا» لا انفصام فيه بين الشكل ودلالته.
٢٩
صفوة القول أن الضرورة الشعرية ليست معلولًا مباشرًا للوزن ولا تتحدد به، «وإنما
تتحدد بماهية الشعر نفسه من حيث هو مستوًى من التعبير مختلف عما عليه سائر الكلام،
فللشعر تركيبات لغوية تختص به، وهذه هي محل الضرورة.»
٣٠
ومما سبق يتبين لنا حجم الخطأ الذي وقع فيه النحاة حين اعتمدوا في جمع اللغة وتقعيدها
على الشعر بالدرجة الأساس، حيث كان ينبغي الاعتماد على النثر بوصفه اللغة السوية
القياسية، ويبقى الشعر مستوًى آخر من اللغة جديرًا بالدراسة بحقه الشخصي، وقد أدى هذا
الخلط الأساسي إلى تضخم القواعد واضطرابها وتناقضها، وإلى ضروبٍ أخرى من الخلط ما زالت
الفصحى تعاني من آثارها وجرائرها إلى يومنا هذا.