ما هي العلاقة بين الكلمات والأشياء؟ بين الدالِّ والمدلول؟ بين الألفاظ وما تشير
إليه
الألفاظ؟
ثمة جوابان ممكنان على هذا السؤال: الأول يقول إن العلاقة بين الكلمة ومدلولها علاقةٌ
طبيعية ضرورية تجعل هذه الكلمة بعينها هي المقيَّضة للتعبير عن هذا الشيء بعينه، وهي
المناسبة، دون غيرها من الأصوات الممكنة، للإشارة إلى هذا المعنى المحدد؛ وبالتالي فإن
أمر
الدلالة (أو التدليل Signification) غير متروكٍ للمصادفة
أو الاعتساف، ذلك هو «المذهب الطبيعي» Naturalism في
اللغة.
والجواب الثاني يقول إن العلاقة القائمة بين العلامات اللغوية، كالكلمات، وبين معانيها
هي
في عامة الأحوال مسألة «عُرف» أو «اصطلاح» أو «تواطؤ» أو «مواضعة»
Convention. «إن الرموز اللغوية لا تحمل قيمة ذاتية طبيعية تربطها بمدلولها
في الواقع الخارجي؛ فليس هناك أي علاقة بين كلمة «حصان» ومكونات جسم الحصان، والعلاقة
كامنة
فقط عند الجماعة الإنسانية التي اصطلحت على استخدام هذه الكلمة اسمًا لذلك الحيوان، ومعنى
هذا أن قيمة هذه الرموز اللغوية تقوم على العرف، أي على ذلك الاتفاق الكائن بين الأطراف
التي تستخدمها في التعامل، وهذا معناه أن المؤثر والمتلقي متفقان على استخدام هذه الرموز
اللغوية المركبة بقيمتها المعرفية.»
١ وليس هناك ما يحتم على كلمة
Dog أن تعني ذلك
الصنف المستأنس من الكلبيات، إنما يجعل هذه الكلمة تعني ما تعنيه هو أن الناطقين
بالإنجليزية يرقب بعضهم بعضًا ويتوقعون فيما بينهم أن يلتزم كل منهم بالعرف المتفق عليه
والذي يربط كلمة
Dog بالكلب،
٢ ذلك هو «المذهب الاصطلاحي، أو التواضعي»
Conventionalism في اللغة.
شغلت هذه المسألة عقول المفكرين اللغويين منذ أقدم العصور، وفي زمن الإغريق طُرح هذا
السؤال طرحًا ناضجًا، وانقسم الفلاسفة فيه بين قائل بالمذهب الطبيعي، مثل هيراقليطس
وكراتيلوس، وقائل بالمذهب الاصطلاحي، مثل ديمقريطس وهيرموجينيس.
(١) أفلاطون
وقد أفرد أفلاطون لهذه المسألة محاورةً كاملة، تنتمي إلى المرحلة الوسيطة من
محاوراته، هي محاورة «كراتيلوس» (أقراطيلوس). في هذه المحاور يجري نقاش طويل بين سقراط
ومحاوريه: هيرموجينيس وكراتيلوس، يمثل هيرموجينيس الموقف الاصطلاحي القائل بأن منشأ
اللغة هو عملية تواطؤ (اصطلاح/اتفاق/تواضع) بين أفراد المجتمع اللغوي على أن يطلق لفظٌ
ما لتسمية شيءٍ معين، والاسم الذي نتفق عليه يغدو، بموجب هذا الاتفاق، هو الاسم الصحيح،
فإذا اتفقنا على تغييره والاستعاضة عنه باسمٍ آخر؛ فإن الاسم الجديد يصبح هو الاسم
الصحيح. ونحن نغير أسماء عبيدنا فلا يكون الاسم الجديد أقل صوابًا من القديم، الطبيعة
ليست موكلة بأن تطلق لنا أسماء على الأشياء، بل هذه مهمتنا نحن، التسمية صناعة بشرية
ومناط التسمية التكرار والاعتقاد والتواطؤ بين من يقومون بفعل التسمية، وليس ثمة
استحالة في أن تطلَق نفس الأسماء على أشياء مختلفة تمام الاختلاف، أو أن تعطَى نفس
الأشياء أسماء متباينةً كل التباين، ما دام مستخدمو اللغة قائمين على اتفاقهم بهذا
الشأن.
أما كراتيلوس، نصير المذهب الطبيعي في اللغة، فيرى أن الأسماء لا يمكن أن تسبغ على
الأشياء كيفما اتفق كما يتصور أصحاب المذهب الاصطلاحي؛ لأن الأسماء تنتمي إلى مسمياتها
المحددة انتماءً «طبيعيًّا» «ضروريًّا»، فإذا ما حاولت أن تتحدث عن شيءٍ ما بأي اسم غير
اسمه الطبيعي فإنك ببساطة تفشل في الإشارة إليه فشلًا ذريعًا. ثمة بالطبيعة طريقةٌ
صحيحةٌ للتدليل على الأشياء، واسم صحيح لكل كائن في الوجود، عند الناس جميعًا على
السواء. وقد كان هيراقليطس مهتمًّا بتحليل الأسماء لأنها تعبر عنده عن ماهية الأشياء،
وتأتي بمشيئة إلهية، إنها «توقيف»، وحي، إلهام.
أما رأي أفلاطون، الذي يضعه — كعادته في محاوراته — على لسان سقراط، فهو محير حقًّا،
ويشبه أن يكون وسطًا بين الاصطلاحية والطبيعية: طبيعية معدلة، وربما اصطلاحية معدلة!
فالأسماء في نظره لا يمكن أن تعطَى للأشياء على نحوٍ عشوائي كما يتصور الاصطلاحيون، بل
ينبغي أن تُسكَّ بمهارةٍ وحذقٍ لكي تؤدي الغرض منها،
٣ والغرض منها هو فصل أو عزل الشيء الذي تسميه عن بقية الأشياء وإفراده في
عملية الإشارة بشكل دقيق، وذلك بأن يطابق الاسم طبيعة هذا الشيء على نحوٍ ما … أن
يحاكيه بطريقةٍ ما،
٤ غير أن واضعي الأسماء الأوائل ليسوا سلطة مطلقة، و«التأثيل» (البحث في أصل
الكلمات)
Etymology ليس طريقًا مأمونًا لتأسيس الحقيقة؛
فواضعو الأسماء قد يخطئون، ورغم أنهم كانوا موفَّقين في المجال الكوزمولوجي إلى حدٍّ
كبير، فقد أخطئوا في مجال الأخلاق أخطاءً فادحة، تلك هي الشوكة المقيمة في صلب المذهب
الطبيعي، وفي صلب نظرية التوقيف: وجود الخطأ. كيف نفسر وجود الخطأ؟ إذا كانت هناك قوة
إلهية هي التي تطلق الأسماء على الأشياء، فمن أين يأتي الخطأ؟! من هنا رأى أفلاطون أن
الأسماء والألفاظ هي الجالبة للفساد ومنها ينشأ الضلال؛
٥ لذا وجب أن ننطلق من الأشياء عينها لا من الكلمات التي تشير إليها؛
فالكلمات كالزئبق لا تستقر على حال، بينما الحقيقة ثابتة لا تقبل تغييرًا ولا تبديلًا.
٦
(٢) أرسطو
رأينا أن أفلاطون لم يتخذ في مسألة طبيعة اللغة مذهبًا محددًا، أما العلماء الذين
جاءوا بعده فاتخذوا مواقف أكثر حسمًا؛ فقد أفاد أرسطو من افتراضات أستاذه أفلاطون
وطورها، وذهب إلى أن اللغة ظاهرةٌ اجتماعية وأصواتها رموز اصطلاحية ليس لها بالمعاني
علاقة طبيعية أو مباشرة أو ضرورية. يقول ابن سينا في تلخيص كتاب أرسطو في العبارة:
«فإنها إنما تدل بالتواطؤ، أعني أنه ليس يلزم أحدًا من الناس أن يجعل لفظًا من الألفاظ
موقوفًا على معنًى من المعاني، ولا طبيعة الناس تحملهم عليه، بل قد واطأ تاليهم أولهم
على ذلك وسالمه عليه …»،
٧ غير أن أرسطو يميز بين مستويين أساسيين: مستوى الكلمات والألفاظ والكتابة:
وهي تقوم على العرف والاتفاق والتواطؤ والاصطلاح وتختلف باختلاف الأمم والشعوب، ومستوى
الأفكار والمعاني والموجودات: وهي واحدة عند جميع الأمم والأجناس. موقف أرسطو إذن هو
موقف الاصطلاح على مستوى اللفظ، والضرورة على مستوى المعنى،
٨ وللفارابي نصٌّ يلخص موقف أرسطو من جميع جوانبه، وربما الموقف الفلسفي
برمَّته من أصل اللغة وعلاقة الأسماء بمسمياتها، يقول فيه: «هذا رأي أرسطوطاليس في
القول وفي الألفاظ المفردة جميعًا، فإن قومًا يرون في الألفاظ المفردة الدالة أنها ليست
على طريق المواطأة، فبعضهم يرى أنها بالطبع، وبعضهم يرى أنها آلة استخرجت بالإرادة على
ما تُستخرج آلات الصنائع، وذلك أنهم يقولون إن كل لفظة دالة فينبغي أن تكون محاكية
للمعنى المدلول عليه ومعرفة بطبعها لذات ذلك الشيء، أو لغرض يكون ملاءمة للمدلول عليه
خاصة وتكون اللفظة بطبعها محاكية، مثل قولنا: هدهد، للطائر الذي يحاكي هذه اللفظةَ
صوتُه الخاص به … وربما لم تكن بأسرها محاكية، ولكن بعض أجزائها مثل «طنبور» الذي يحاكي
الجزءُ الأولُ من هذه اللفظة صوتَ الآلة … وآخرون رأوا أن الألفاظ المفردة الأولى
باصطلاح وتواطؤ، وأما المشتق عن الأول والأسماء المركبة عن الأول فليست باصطلاح، وإنما
ألزمت طبيعة الأمر المدلول عليه باسمٍ مركب، أو باسمٍ مشتق من الألفاظ المفردة الأُوَل،
وقوم آخرون رأوا هذا في الأقاويل عن الألفاظ التي تدل على أجزاء الأمر المركب الذي يدل
عليه القول، وأرسطوطاليس يرى أن جميع ذلك باصطلاح وتواطؤ.»
٩
اتخذ أرسطو إذن وجهة نظر عرفية بشكل حازم «فاللغة نتاج العرف، ما دامت الأسماء لا
تنشأ بشكل طبيعي، والمحاكاة الصوتية لا تحتم نقض هذا الرأي؛ نظرًا لأن صيغ المحاكاة
الصوتية تختلف من لغة إلى أخرى، وهي قليلة في فونولوجيا كل لغة على حدة، ورأي أرسطو في
اللغة ملخصٌ في بداية
De Interpretatione كالتالي:
الكلام تمثيل للخبرات العقلية، والكتابة تمثيل للكلام.»
١٠
أما أبيقور (٣٤١–٢٧٠ق.م) فقد اتخذ موقفًا وسطًا معتقدًا أن صيغ الكلمات قد نشأت بشكلٍ
طبيعي، ولكنها تغيرت عن طريق العرف. وبشكلٍ أكثر أهمية في تاريخ علم اللغة فإن
الرواقيين قد تحيزوا للأساس الطبيعي للغة، معولين إلى حدٍّ كبير على المحاكاة الصوتية
والرمزية الصوتية: فالأسماء في رأيهم قد صيغت بشكلٍ طبيعي، أي من الأصوات الأولى التي
تبدو مثل الأشياء التي تطلق عليها، وهذا الموقف يتفق في الواقع مع تأكيدهم الأعم على
الطبيعة بوصفها مرشدًا للحياة الإنسانية اللائقة،
١١ وفي بحثهم عن أصول الكلمات فقد أوْلوا أهميةً كبيرة ﻟ «الصيغ الأصلية للكلمات»
Protai phonai التي زعم أنها كانت
محاكاةً صوتية، ولكنها فيما بعد خضعت لتغيرات من أنواع مختلفة.
١٢
هذان الرأيان المتعارضان لكل من أرسطو والرواقيين رأيان مهمان؛ لأنهما قادا إلى
الخلاف اللغوي الثاني للعصور القديمة، وهو القياس مقابل الشذوذ، وهذا الخلاف لم يظهر
بشكلٍ جوهري قبل المعالجة الموسعة التي قدمها للمسألة الكاتب اللاتيني فارو
Varro في القرن الأول قبل الميلاد … ويبدو واضحًا أن
أرسطو قد انحاز للقياس، وأن الرواقيين قد انحازوا إلى الشذوذ بوصفه السمة المسيطرة في
اللغة،
١٣ فأرسطو في ذلك أشبه بعلماء البصرة (فيما سيأتي بعد أكثر من ألف عام!)
والرواقيون أشبه بالكوفيين.
(٣) دي سوسير: اعتباطية العلامة اللغوية
ثمة شقٌّ آخر من العرف أو التواطؤ ينبغي أن نلتفت إليه: وهو أن هناك أكثر من طريقة
لتجزئة العالم وتقطيعه، وكل لغة من اللغات الطبيعية تقوم بذلك على نحوٍ مختلفٍ بعض
الشيء، هذه العرفية المزدوجة لكل العلامات اللغوية هي ما يعرف حاليًّا ﺑ «اعتباطية العلامة»
Arbitrariness of sign، وهو مصطلح مأثور عن
فرديناند دي سوسير (١٨٠٧–١٩١٣)، يقول سوسير: إن العلاقة التي تربط «الدال»
Signifier ﺑ «المدلول»
Signified علاقة اعتباطية. ولما كنت أعني بالعلامة اللغوية النتيجة
الإجمالية للربط بين الدال والمدلول، فإن بوسعي القول بإيجاز وبساطة: العلامة اللغوية
علامة اعتباطية، ففكرة «الأخت»
Sister لا ترتبط بأية
علاقة داخلية مع السلسلة المتتابعة من الأصوات
s-o-r
التي تستعمل كدالٍّ بالنسبة لهذه الفكرة في اللغة الفرنسية، إذ يمكن تمثيل هذه الفكرة
باستخدام أي سلسلة أخرى من الأصوات، وأكبر دليل على ذلك هو الفروق القائمة بين اللغات،
بل وجود لغات مختلفة: فللمدلول «ثور» الدال
b-o-f على
طرف من الحدود (الفرنسية-الألمانية)، و
(Ochs) o-k-s على
الطرف الآخر،
١٤ لقد استُخدم لفظ «رمز»
Symbol للدلالة على
العلامة اللغوية، أو على وجه الدقة للدلالة على ما نسميه «الدال». ولكن هناك بعض
المصاعب التي تمنعنا من اتخاذه؛ وذلك بسبب مبدئنا الأول نفسه: فللرمز خاصية أنه لا
يُدرك دومًا اعتباطيًّا، فهو ليس فارغًا، بل فيه بقية من رابطة «طبيعية» بين الدال
والمدلول، فرمز العدالة مثلًا، أي الميزان، لا يمكن أن يُستبدل به أي شيء آخر: دبابة
مثلًا أو عربة!
١٥
يستدعي لفظ «اعتباطية» الملاحظة التالية: فهذه الكلمة لا ينبغي أن تعطي انطباعًا
بأن
أمر اختيار الدال متروك تمامًا للمتكلم (وسنرى أنه ليس بمُكنة أي أحد أن يغير شيئًا في
علامة لغوية استتبت في مجتمعٍ لغويٍّ ما)، إنما أعني بالاعتباطية أن العلامة اللغوية
ليس لها من سبب، أي أن العلاقة بين الدال والمدلول بها لا تقوم على أية رابطة طبيعية.
١٦
والاستثناء الوحيد الممكن لهذه الطبيعة الاعتباطية للعلامة اللغوية هو ما عرف
بالأونوماتوبيا
Onomatopoeia أي التسمية بالمحاكاة
الصوتية، حيث تقوم بعض الكلمات بمحاكاة الأصوات التي تسميها (مثل كلمة
Boom بمعنى هدير أو أزيز، وكلمة
Bow-wow بمعنى نباح).
١٧
غير أن دي سوسير سرعان ما يهون من شأن الأونوماتوبيا ويضعها في حجمها: «قد تتخذ
الكلمات الأونوماتوبية كدليلٍ على أن اختيار الدال ليس اعتباطيًّا دائمًا، غير أن
الكلمات الأونوماتوبية ليست عناصر حيوية (عضوية) في بناء النظام اللغوي، ثم إن عددها
أقل بكثير مما يُعتقد … كما أن أونوماتوبيتها إنما جاءت نتيجةً تصادفية للتطور الصوتي
فيها.
أما الكلمات التي هي أمثلة حقيقية للعلاقة بين الصوت والمعنى، مثل
Tuik-Tick، Glug-Glug، فهي قليلة العدد، فضلًا عن
أن اختيارها يكون عادةً بصورة اعتباطية؛ لأنها محاولات تقريبية تعتمد أيضًا على العُرف،
في محاكاة بعض الأصوات (مثال ذلك Bow-Wow في الإنجليزية
يقابله Ouaoua في الفرنسية (نباح الكلب))، ثم إن هذه
الكلمات ما إن تدخل اللغة حتى تصبح إلى حدٍّ ما خاضعةً للتطور اللغوي — الصوتي والصرفي
إلخ — الذي تخضع له الكلمات الأخرى (مثال ذلك كلمة
Pigeon (حمام) مشتقة من اللاتينية العامية
Pipio وهذه الكلمة بدورها مشتقة من الصوت الذي يوحي
به صوت الطائر)، وهذا دليل واضح على أن هذه الكلمات تفقد شيئًا من صفتها الأولى لكي
تكسب الصفة العامة للعلامة اللغوية وهي صفة الاعتباطية (انعدام الصلة الطبيعية).
وأما ألفاظ التعجب، وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالكلمات الأونوماتوبية (التي توحي
أصواتها بمعانيها)، ويصح عليها أيضًا النقد السابق، فهي ليست دليلًا على بطلان حجة
الاعتباطية في العلامة اللغوية. وقد ينظر المرء إلى ألفاظ التعجب على أنها تعابير
تلقائية للحقيقة تمليها على المتكلم القوى اللغوية الطبيعية، ولكننا نستطيع أن نبين عدم
وجود علاقة ثابتة بين المدلول والدال في معظم ألفاظ التعجب، فما علينا إلا أن نقارن بين
هذه الألفاظ في لغتين حتى نرى اختلافها من لغة إلى أخرى (فلفظة
Aie! الفرنسية يقابلها
Ouch! في الإنجليزية)،
١٨ ثم إننا نعلم أن كثيرًا من ألفاظ التعجب كانت في وقت ما كلمات لها معانٍ
محددة، لاحظ: الكلمة الفرنسية
Diable (اللعنة)،
Mordieu (الله) من
Mort
Dicu (في الإنجليزية
Zounds
Goodness)، إذن فالألفاظ التي توحي بمعناها وألفاظ التعجب ذات
أهمية ثانوية، وأصلها الرمزي موضع خلاف.»
١٩
وقع كثير من النحاة العرب في الغلو في خصائص اللغة، وذهب بهم إعجابهم باللغة العربية
بعيدًا بحيث تصوروا فيها ما لا وجود له إلا في خيالهم، وأضفوا عليها من مظاهر السحر ما
لا يصح في الأذهان ولا تتصف به لغة من لغات البشر،
٢٠ من ذلك أنهم كانوا يؤمنون إيمانًا قويًّا بوجود «مناسبة» بين اللفظ
والمعنى، أو رابطة عقلية منطقية بين الأصوات ومدلولاتها، ولا يتصورون أن الأمر يمكن أن
يكون اعتباطيًّا مرده إلى التكرار والعادة، وأن يكون وهمًا ناتجًا عن التداعي وميل
العقل إلى الربط والتعميم. يقول ابن جني في كتابه «التمام في تفسير أشعار هذيل مما
أغفله أبو سعيد السكري»: «وقد ذهب بعضهم إلى أن العبارات كلها إنما أوقعت على حكاية
الأصوات وقت وقوع الأفعال، ولا أبعد أن يكون الأمر كذلك، ثم إنها تداخلت وضورع ببعضها
بعض، ألا ترى أن الخضم لكل رطب والقضم لكل يابس، وبين الرطب واليابس ما بين الخاء
والقاف من الرخاوة والصلابة … وهذا باب إنما يصحب وينجذب لمتأمله إذا تفطن وتأتى له،
ولاطفه ولم يجفُ عليه، ومنه قولهم: «بحثت» التراب ونحوه، وهو على ترتيب الأصوات الحادثة
عنده، فالباء للخفقة بما يبحث به عن التراب، والحاء فيما بعد كصوت رسوب الحديدة ونحوها
إذا ساخت في الأرض، والثاء لحكاية صوت ما ينبث من التراب فتأمله، فإن فيه غموضًا. فأما
قولهم: بحثت عن حقيقة هذا الأمر، وبحثت عن حقيقة هذه المسألة فاستعارة للمبالغة في طلب
ذلك المعنى، ولا تترك الحقيقة إلى المجاز إلا لضرب من المبالغة، ولولا ذلك لكانت
الحقيقة أولى من المجاز.»
٢١
وفي «الخصائص»: «فإن كثيرًا من هذه اللغة وجدته مضاهيًا بأجراس حروفه أصوات الأفعال
التي عبر بها عنها، ألا تراهم قالوا قضم في اليابس، وخضم في الرطب؛ وذلك لقوة القاف
وضعف الخاء، فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى، والصوت الأضعف للفعل الأضعف. وكذلك
قالوا: صر الجندب، فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته، وقالوا: صرصر البازي،
فقطَّعوه؛ لما هناك من تقطيع صوته، وسموا الغراب غاق حكايةً لصوته، والبط بطًّا حكايةً
لأصواتها، وقالوا «قَطَّ الشيء» إذ قطعه عرضًا، و«قَدَّه» إذا قطعه طولًا؛ وذلك لأن
منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال. وقالوا «مدَّ الحبل» و«متَّ إليه بقرابة» فجعلوا
الدال — لأنها مجهورة — لما فيه علاج، وجعلوا التاء — لأنها مهموسة — لما لا علاج فيه.»
٢٢ ثم يقول في الفقرة التالية عليها: «نعم، وقد يمكن أن تكون أسباب التسمية
تخفى علينا لبُعدها في الزمان عنا»، وهو شبيهٌ بقول أفلاطون في كراتيلوس: «إن العصور
القديمة قد ألقت عليه حجابًا.»
وقد ابتدع بعض النحاة، مثل ابن جني وابن فارس، فكرة «الاشتقاق الكبير» زاعمين أن
تقلبات الفعل الثلاثي تشير جميعًا إلى معنًى معين كيفما اختلف ترتيب أصواتها. وفي
الخصائص: «وأما الاشتقاق الأكبر فهو أن تأخذ أصلًا من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى
تقاليبه الستة معنًى واحدًا، تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه، وإن
تباعد شيءٌ من ذلك (عنه) رُد بلطف الصنعة والتأويل إليه.»
٢٣ وهكذا رد ابن جني أصل «الكلام» (مادة «كَلَمَ» وتقاليبها) إلى معنى القوة
والشدة، وأصل «القول» (مادة «قَوَلَ» وتقاليبها) إلى معنى الإسراع والخفة والحركة،
ومادة «جَبَرَ» إلى القوة والشدة، ومادة «قسو» إلى القوة والاجتماع، ومادة «سَلَمَ» إلى
الإصحاب والملاينة، وهو لا يدَّعي أن هذا مستمر في جميع اللغة، «بل لو صح من هذ النحو
وهذه الصنعة المادة الواحدة تتقلب على ضروب التقلب كان ذلك غريبًا معجبًا، فكيف به وهو
يكاد يساوق الاشتقاق الأصغر ويجاريه إلى المدى الأبعد؟»
٢٤
وفي «باب في تصاقب
٢٥ الألفاظ لتصاقب المعاني» يعرض ابن جني لأمثلة على تقارب الألفاظ لتقارب
معانيها: من ذلك: تَؤُزُّهم أزًّا، أي تزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى تهزهم هزًّا،
والهمزة أخت الهاء، فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين، وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة
لأنها أقوى من الهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز؛ لأنك قد تهز ما لا بال له،
كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك. ومنه العسف والأسف، والعين أخت الهمزة، كما أن الأسف يعسف
النفس وينال منها، والهمزة أقوى من العين، كما أن أسف النفس أغلظ من التردد بالعسف، فقد
ترى تقارب اللفظين لتقارب المعنيين، ومثله تركيب «ع ل م» في العلامة والعلم، ومنه تركيب
«ج ب ل» و«ج ب ن» و«ج ب ر» لتقاربها في موضع واحد، وهو الالتئام والتماسك، منه الجبل
لشدته وقوته، وجبن إذا استمسك وتوقف وتجمع، ومنه جبرت العظم ونحوه أي قويته، ومنه الغدر
والختل، والمعنيان متقاربان، واللفظان متراسلان، فذاك من «غ د ر» وهذا من «خ ت ل»
فالغين أخت الخاء، والدال أت التاء، والراء أخت اللام
٢٦ …
وفي «باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني» يقول ابن جني: «اعلم أن هذا موضعٌ شريف
لطيف، وقد نبه عليه الخليل وسيبويه، وتلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته. قال
الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدًّا فقالوا: صر، وتوهموا في صوت البازي
تقطيعًا فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفَعَلان: إنها تأتي
للاضطراب والحركة؛ نحو النقَزان، والغليان، والغثيان، فقابلوا بتوالي حركات المثال
توالي حركات الأفعال، ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة … وذلك أنك تجد المصادر
الرباعية المضعَّفة تأتي للتكرير، نحو الزعزعة، والقلقلة، والصلصلة، والقعقعة،
والجرجرة، والقرقرة … ومن ذلك أنهم جعلوا «استفعل» في أكثر الأمر للطلب، نحو استسقى،
واستطعم، واستوهب، واستمنح، واستقدم عمرًا، واستصرخ جعفرًا … ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير
العين في المثال دليلًا على تكرير الفعل، فقالوا: كَسَّر، وقطَّع، وفتَّح، وغلَّق …
فلما كانت الأفعال دليلة المعاني كرروا أقواها، وجعلوه دليلًا على قوة المعنى المحدَّث
به، وهو تكرير الفعل، كما جعلوا تقطيعه في نحو صرصر وحقحق دليلًا على تقطيعه … فأما
مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فبابٌ عظيم واسع … من ذلك قولهم خضم وقضم،
فالخصم لأكل الرطب، كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب
اليابس، قضمت الدابة شعيرها، ونحو ذلك، وفي الخبر «قد يدرك الخَضَمُ بالقَضم» أي قد
يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف؛ وعليه قول أبي الدرداء: «يخضمون ونقضم لليابس، حذوًا
لمسموع الأصوات على محسوس الأحدث. ومن ذلك قولهم: النضح للماء ونحوه، والنضخ أقوى من
النضح، قال الله سبحانه:
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ
فجعلوا الحاء (لرقتها) للماء الضعيف، والخاء (لغلظها) لما هو أقوى منه … ومن ذلك أيضًا
سد وصد، فالسد دون الصد؛ لأن السد للباب يسد، والمنظرة ونحوها، والصد جانب الجبل
والوادي والشِّعب، وهذا أقوى من السد، الذي قد يكون لثقب الكوز ورأس القارورة ونحو ذلك
(فجعلوا الصاد لقوتها للأقوى، والسين لضعفها للأضعف)، ومن ذلك القسم والقصم، فالقصم
أقوى فعلًا من القسم؛ لأن القصم يكون معه الدق، وقد يقسم بين الشيئين فلا ينكأ أحدهما؛
فلذلك خصت بالأقوى الصاد، وبالأضعف السين … وقولهم: بحث (عرضنا لها آنفًا)، ومن ذلك
قولهم: شد الحبل ونحوه، فالشين بما فيها من التفشي تشبه بالصوت أول انجذاب الحبل قبل
استحكام العَقْد، ثم يليه إحكام الشد والجذب، وتأريب العَقد، فيعبر عنه بالدال التي هي
أقوى من الشين، لا سيما وهي مدغمة؛ فهي أقوى لصنعتها وأدل على المعنى الذي أريد لها …
ومن ذلك أيضًا جر الشيء يجره، قدموا الجيم لأنها حرفٌ شديد، وأول الجر بمشقة على الجار
والمجرور جميعًا، ثم عقبوا ذلك بالراء، وهو حرف مكرر، وكرروها مع ذلك في نفسها؛ وذلك
لأن الشيء إذا جر على الأرض في غالب الأمر اهتز عليها، واضطرب صاعدًا عنها، ونازلًا
إليها، وتكرر ذلك منه على ما فيه من التعتعة والقلق، فكانت الراء — لما فيها من
التكرير، ولأنها أيضًا قد كررت في نفسها في «جر» و«جررت» — أوفق لهذا المعنى من جميع
الحروف غيرها. هذا محجة هذا ومذهبه … ومن طريف ما مر بي في هذه اللغة التي لا يكاد
يُعلَم بُعدُها، ولا يُحاط بقاصيها، ازدحام الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون،
إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير، فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن
والضعف ونحوهما، من ذلك «الدالف» للشيخ الضعيف، والشيء التالف … و«الدَّنف» المريض …
و«التُّرفة» لأنها إلى اللين والضعف … «والطرف» لأن طرف الشيء أضعف من قلبه وأوسطه،
و«الفرد» لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك ما هو … و«الفتور» للضعف، و«الطفل» للصبي لضعفه
…»
٢٧
ومع تقديرنا العميق لعبقرية ابن جني ونظره اللغوي الثاقب، فليس يخفى ما في بعض أمثلته
من التكلف والتعسف، وتمحُّل العلاقة حيث لا علاقة. يقول د. إبراهيم أنيس: «ألست ترى
فيما تقدَّم قدرًا كبيرًا من التكلف والتعسف؟ خذ مثلًا المادة «سمح» التي لم نعمد إليها
عمدًا، أو قصدنا إليها قصدًا، وإنما كانت أول ما صادفنا حين فتحنا الجزء الأول من قاموس
المحيط، أليس منها السماحة التي هي لين ودعةٌ وإشراق؟ ولكن منها أيضًا «المسح» وهو
إزالةٌ ومحو، ومنها «حمس» بمعنى اشتد وصلب في القتال، ومنها «السحم» الذي هو السواد ولا
إشراق في السواد، ثم منها «حسم» بمعنى قطع، والحسوم الشؤم، الليالي الحسوم التي تحسم
الخير عن أهلها! فإذا كان ابن جني قد استطاع، في مشقة وعَنَت، أن يسوق لنا للبرهنة على
ما يزعم بضع مواد من كل مواد اللغة التي يقال إنها في معجم صحاح اللغة تصل إلى أربعين
ألفًا، وفي معجم لسان العرب تكاد تصل إلى ثمانين ألفًا، فليس يكفي مثل هذا القدر الضئيل
المتكلَّف لإثبات ما يسمى بالاشتقاق الكبير.»
٢٨ «هكذا نرى أن ابن جني كان ممن يؤمنون إيمانًا قويًّا بوجود الرابطة العقلية
المنطقية بين الأصوات والمدلولات أو ما يسميه بعض المحْدَثين بالرمزية الصوتية، بل لقد
غالى ابن جني ومعه الثعالبي صاحب فقه اللغة، إذ جعلا مجرد الاشتراك في أصلين فقط من
الأصول الثلاثة دليلًا على الاشتراك في معنًى عام لبعض الكلمات، فيقرر أن المعنى العام
للتفرقة يكون بصوتي «الفاء والراء» والمعنى العام للقطاع يكون «بالقاف والطاء»، إلى غير
ذلك من تخيلاتٍ وتأملاتٍ تشبه أحلام اليقظة عند رجل اشتد ولعه وإعجابه باللغة العربية؛
فتصور فيها ما ليس فيها، وأضفى عليها من مظاهر السحر ما لا يصح في الأذهان ولا تتصف به
لغةٌ من لغات البشر.»
٢٩ ويرفض البحث اللغوي الحديث هذا كله وإلا فإنه يجب على هذا أن نتصور نوعًا
من الارتباط بين حروف الفعل «أدرك» وحروف الفعل «فهم» لأن لكل منهما نفس الدلالة؛ وعليه
من جهة أخرى أن ننكر من اللغة تلك المئات من الكلمات التي اشتركت لفظًا واختلفت معانيها
اختلافًا بيِّنًا (من قبيل: ضرب، فصل، عين …).
وفي كتابه «دلالة الألفاظ» يقول د. إبراهيم أنيس: «الأمر الذي لم يبدُ واضحًا في
علاج
كل هؤلاء الباحثين هو وجوب التفرقة بين الصلة الذاتية والصلة المكتسبة، ففي كثير من
ألفاظ كل لغة نلحظ تلك الصلة بينها وبين دلالتها، ولكن هذه الصلة لم تنشأ مع تلك
الألفاظ أو تولد بمولدها، وإنما اكتسبتها اكتسابًا بمرور الأيام وكثرة التداول
والاستعمال، وهي في بعض الألفاظ أوضح منها في البعض الآخر، ومرجع هذا إلى الظروف الخاصة
التي تحيط بكل كلمة في تاريخها، وإلى الحالات النفسية المتباينة التي تعرض للمتكلمين
والسامعين في أثناء استعمال الكلمات. فإذا تصادف أن عُني أحد المتكلمين بأصوات لفظٍ من
الألفاظ، واسترعى انتباهه أكثر من غيره، لا يلبث أن يعقد الصلة الوثيقة بينه وبين
دلالته، ويتصور نوعًا من المناسبة بين تلك الأصوات وما تدل عليه، ويحاول نقل شعوره إلى
غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، فإذا تصادف أيضًا أن أحس فريق من الناس نفس الإحساس،
بدأت عملية ذهنية أخرى هي الربط بين هذه الأصوات وأشباهها من الكلمات الأخرى؛ لأن الذهن
الإنساني يميل إلى التجميع والتعميم، وتلتقي تلك العملية بعمليةٍ نفسية أخرى هي التي
تسمى بتداعي المعاني، أي أن المعنى حين يخطر في الذهن يدعو ما يشبهه أو يقاربه، وهنا
قد
يخطر في الذهن فكرة الربط بين مجموعة من الألفاظ المتشابهة المتقاربة، بمجموعة من
المعاني المتشابهة أو المتقاربة، ويترتب على هذا أن يشيع بين أبناء اللغة نوعٌ من الوهم
يشعرون معه بوثوق الصلة بين الألفاظ والمدلولات.»
٣٠
وقد عرض الأستاذ العقاد لمسألة المحاكاة الصوتية في كتابه «أشتاتٌ مجتماتٌ في اللغة
والأدب»، تعقيبًا على رأي للأستاذ رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) في اختصاص بعض
الحروف بمعانٍ معينة؛ فالفاء للإبانة والوضوح، والضاد للشؤم، والحاء للمعاني الشريفة
القوية. يقول العقاد: «كان الأستاذ برادة يبحث عن أثر الحروف في السمع وعلاقة ذلك
بالفصاحة والإقناع، ويعتقد أن الحاء أظهر الحروف أثرًا في الإيحاء بمعاني السعة، حسية
كانت أو فكرية، ويعمم الحكم فيسوِّي بين موقع الحاء في أول الكلمة وموقعها في وسطها أو
آخرها، ويتمثل بكلمات الحرية والحياة والحكم والحكمة والحلاوة … ولقد كان زميله
الهلباوي على عادته في الفكاهة والدعابة يسخر من فلسفته «الحائية» كما يسميها، ويقول
إن
اسم «الحمار» مبدوء بالحاء، وإن أَشيَع اللفظات على ألسنة النادبات يتردد فيها حرف
«الحاء» … إلا أننا كنا نخالف الأستاذ برادة في تعميم الحكم على الحرف بغير تفرقة بين
مواقعه في الكلمات ومواقعه في السماع، وقد ضربنا له المثل بكلمات لا تغيب عن المحامين
على التخصيص وهي كلمات «الحبس والحجر والحرج والحد والحساب والحرس» وغيرها من الكلمات
التي تناقض معاني السعة بالحس والتفكير.»
٣١ على أن الأستاذ العقاد ينتهي من هذه المناقشة بقبول مبدأ المحاكاة الصوتية
في اللغة العربية بشروط، وبأن العبرة بموقع الحرف من الكلمة لا بمجرد دخوله في تركيبها،
وبأن الاستثناء في الدلالة قد يأتي من اختلاف الاعتبار والتقدير، ولا يلزم أن يكون
شذوذًا في طبيعة الدلالة الحرفية. وما كان العقاد ليفوِّت فرصةً يبين فيها تميز العربية
عن غيرها من اللغات دون أن يفيد منها أقصى فائدة ممكنة.
الحق أن ابن جني لا يدَّعي أن مقارباته المذكورة تشمل اللغة جميعًا (واعلم أنا لا
ندعي أن هذا مستمر في جميع اللغة)،
٣٢ غير أن هذا يعد تقويضًا لفكرة المناسبة بين اللفظ والمعنى، وفكرة العلاقة
الطبيعية أو الضرورية بين الدال والمدلول. وإذا كان دأب ابن جني التحرج من التعميم ومن
الاندفاع إلى وجهة واحدة من الرأي، فإن من تبعه في تأملاته، ومنهم بعض المحدثين من أهل
اللغة، لم يأتموا به في تأنيه وتروِّيه وحصافته العلمية، وأخذَهم التعميمُ المتسرع،
وفتَنتهم الأمثلة المؤيدة، فقالوا بمناسبة اللفظ لمعناه ولم يتحرَّزوا من الأمثلة
المضادة وهي الأعم والأغلب بما لا يقاس.
(٤) التعميم المتسرع
يقول جودور أولبورت: «ما نكاد نتلقى «حَبَّةً» من الوقائع، حتى نشيد منها «قبة» من
التعميمات.» ويقول شكسبير في مسرحية «عطيل»: «ولا تشيد صرحًا من الأوهام المزعجة على
أساسٍ غير متين من ملاحظاته الناقصة.»
لعل «التعميم المتسرع» Hasty Generalization من أكثر
الأغلاط المنطقية شيوعًا؛ فهو يتبطن الكثير من التحيزات العنصرية والنعرات القومية
والتعصب الطائفي والأيديولوجي، كذلك يتبطن التعميم المتسرع كثيرًا من الأوصاف النمطية
عن الشعوب المختلفة، وعن أهل الأقاليم المحلية، وربما يتبطن كثيرًا من اعتقاداتنا حول
أصناف المنتجات وماركات الأجهزة التي تقوم في الغالب على بضعة أمثلةٍ من واقع خبرتنا
الحياتية القصيرة المحدودة.
حين يسمح المرء لعقله أن يشيد تعميماتٍ عريضةً على أساس معلومات شحيحة أو أدلة هزيلة
أو أمثلة قليلة أو عيِّنة «غير ممثِّلة»، فلن يُعييه أن يقيض أدلةً لكل شيء ويجد بينةً
لأي دعوى مهما بلغت من السخف والبطلان، ولن يعجزه أن يؤيد أي شيء يميل إلى الاعتقاد به
ما دام يعنيه الاعتقاد ولا تعنيه الحقيقة.
ومن الحق أيضًا أننا مضطرون إلى التعميم في حياتنا العملية، ولا يسعنا إلا التعميم
إذا شئنا أن نفكر في أي شيء أو نتخذ أي قرار، ويبقى أن نتبع الأسلوب العلمي في استخلاص
التعميمات، وأن نتجنب التعميم المتسرع جهد استطاعتنا، وأن نملك تعميماتنا ولا تملكنا،
أي أن نجعل منها مجرد فروض عمل قابلة للمراجعة والتنقيح لا اعتقادًا دوجماطيقيًّا صلبًا
يأخذ علينا سبل التأمل ويسد علينا منافذ التفكير.
٣٣
(٥) انحياز التأييد (التأييد دون التفنيد)
يبدو أن لدينا ميلًا صميمًا إلى أن «نؤيد»
Confirm
فرضياتنا بدلًا من أن «نفنِّدنا»
Disconfirm، يفكر
الواحد منا هكذا: إذا عثرت على مثالٍ موجِب أو أمثلةٍ موجبة أكون قد أيدت فرضيتي، غير
أن العثور على مثالٍ يؤيد القاعدة لا يثبت أن القاعدة صادقة، بينما العثور على مثالٍ
واحد يكذب القاعدة هو أمر يكفي لأن يثبت كذبها على نحو نهائي حاسم ويقضي عليها قضاءً
مبرمًا، التكذيب إذن، وليس التأييد، هو معيار العلم.
٣٤
وفي مجال الاستدلال الإحصائي يعد «انحياز
التأييد» Confirmation Bias (أو انحياز
التحقيق Verification Bias) ضربًا من الانحياز المعرفي تجاه تأييد الفرضية محل الدراسة.
ومن أجل معادلة هذا الميل البشري الملاحظ يتم تشييد المنهج العلمي بطريقةٍ تلزمنا بأن
نحاول «تفنيد» أو «تكذيب» Falsification
فرضياتنا.
يذهب البعض إلى أن انحياز التأييد قد يكون هو السبب من وراء الاعتقادات الاجتماعية
«المخلِّدة لذاتها» أو «المحقِّقة لذاتها»، وقد يكون سبب هذا الانحياز هو أن الذهن
البشري بحكم تكوينه يجد صعوبةً في «معالجة»
Processing
الإشارات السالبة أكثر مما يجده في معالجة الإشارات الموجبة.
٣٥
(٨) سطوة اللغة
لو غيرنا أسماء الأشياء جميعًا ونمنا، لصحونا على عالمٍ جديد!
اللغة تشيِّد العقل وتصوغ الفكر، اللغة هي وسيلتنا لإدراك العالم والتعامل معه، لم
تعد اللغة مجرد نافذة شفافة تطل على الواقع الكائن هناك بمعزل عنها وعن الطريقة التي
تسمى بها الأشياء، يقول شكسبير: «إن ما نسميه (الوردة) سيظل ينشر عبيره ولو تسمى باسمٍ
آخر»، وهو قولٌ حق، وأحق منه إن ما نسميه الوردة سوف تختلف رائحته بعض الشيء لو تسمى
باسمٍ آخر؛ لأن العناصر الصوتية للاسم الجديد بجميع مصاحباتها وتداعياتها الممكنة سوف
تنفذ إلى جماع الوعي وتعيد تشكيل الوقع الحسي المباشر للوردة. إن معرفتنا بالأشياء
وتناولنا للأشياء يتأثران حتمًا بتسميتنا للأشياء، فالأسماء، الدلالة الإشارية، التغطية
الرمزية، هي أداتنا لإدراك الواقع، ومهما بلغ بنا وهم الحرية فإن اللغة التي نستخدمها
هي التي ترسم الحدود النهائية للعالم كما نعرفه، وإن الشطر الأكبر من هذه اللغة هو شيء
مفروض علينا في حقيقة الأمر، شيء يأتينا «جاهزًا» من ثقافتنا المحلية التي نعيش فيها
وتعيش فينا.
«وأمر اللغة ليس مقصورًا على ما بينها وبين الأشياء والكائنات من مغايرة بل هي تتجاوز
ذلك إلى التأثير في تصورات الإنسان لها، فالكلمات لا تنزل من الحقيقة منزلة الصور التي
تشير إليها وتحاكيها، بل تنزل منزلة القوى التي تخلق عالمها وتقرره، بحيث يظهر الروح
لذاته في هذا الديالكتيك الذي لا توجد بمقتضاه إلا «حقيقة واحدة» هي ظهور الموجود
المتسق ذي السمات.»
٣٩ «وكما قال همبولت بصدد مشكلة اللغة: يعيش الإنسان مع أشيائه كما تقدمها له
اللغة غالبًا (بل لك أن تقول حصرًا، في حقيقة الأمر، ما دام شعوره وفعله يتوقفان على
إدراكاته)، وبنفس العملية التي يغزل بها اللغة من قلب وجوده الخاص فإنه يوقع نفسه في
شركها، فكل لغة ترسم دائرة سحرية حول الشعب الذي تنتمي إليه، دائرة لا مفر منها إلا إذا
تخطاها إلى دائرة أخرى.»
٤٠