كان هذا الفهم للطبيعة العُرفية للنحو في مقابل الطبيعة العقلية للمنطق استباقًا
مبكرًا
من التوحيدي والسجستاني للفهم الحديث الذي نجد بداياته في حركة
Vaugelas في فرنسا الذي قال عبارته المشهورة «إن الفيصل
هو الاستعمال، وليس للعقل في اللغة مجال»، وكانت الأكاديمية الفرنسية من أنصار هذا الرأي،
إذ كانت تجعل مهمتها عرض «القواعد التي وضعها الاستعمال» و«استخلاص هذه القواعد من ملاحظة
اللغة الحية»،
٣ فالشهادة في النحو مأخوذة من العرف وعادة أصحاب اللغة، فما تعوَّدوه من أساليب
التعبير وما جرت به ألسنتهم وما ألفوه في كلامهم من طرقٍ معينة في التعبير بالألفاظ؛
هذا هو
المصدر الوحيد لنحو كل لغة، والمقياس الوحيد للحكم على الصواب أو الخطأ في الحديث بتلك
اللغة.
(١) منطق اللغة
للغة منطقها الخاص الذي يختلف عن المنطق العقلي والفلسفي، فاللغة في نهاية التحليل
هي
نتاج أفراد الجماعة اللغوية جميعًا على اختلاف تكوينهم ومقتضى أحوالهم، وأفراد الجماعة
اللغوية ليسوا أجيالًا من الفلاسفة مُتَشَرِّبين بمنطق أرسطو. واللغة لا تستلزم من
مستخدميها أحكامًا عقليةً عميقة، وحسبها أن تكون تعبيرًا واضحًا مفهومًا ومتفقًا عليه
بين الجماعة، والسلطة اللغوية الحاكمة هي «الجماعة اللغوية»، وهي تحكم بموجب «عُرف
لغوي»، ومحك الصواب والخطأ في اللغة هو السماع والاستعمال، والقواعد في اللغة قابعةٌ
في
هذا الاستعمال ومطمورة فيه، وينبغي أن تستخرج أو تستخلص منه ولا تفرض عليه من خارج.
اللغة عرفٌ ومجاز ولا تسلك دائمًا مسلكًا منطقيًّا.
سئل الكسائي عن شذوذ «أيُّ» الموصولة في استعمالها عن سائر أخواتها الموصولات، فأجاب:
«أيٌّ … هكذا خلقتْ.» وقد صارت عبارته هذه قولًا مأثورًا يدل على كل ما يتعين اتباعه
كما هو دون سؤال عن العلة العقلية، أو يدل على كل ما ليس له تعليل عقلي؛ لأنه، ببساطة،
عُرف واتفاقٌ وسماع، ومن ذلك: الظواهر اللغوية، فالظاهرة اللغوية بنت العرف والعادة
وليست بنت العقل والمنطق.
اللغة لغة والمنطق منطق، ومن يُعمل مقولات المنطق في الظواهر اللغوية أو يقيس اللغة
بمعايير المنطق فإنه يغترب عن الظاهرة اللغوية، ويقع فيما يسمى «الخطأ المقولي» Category mistake، شأنه شأن من يقول: الأعداد
الحمراء، الفضائل البدينة، القضايا غير القابلة للأكل. إنه، باستعارة تعبير كلايف بل،
«يقطع جلاميد صخر بموسى حلاقة، أو يستخدم تلسكوبًا لقراءة جريدة!»
يقول ابن جني: «… هذه اللغة أكثرها جارٍ على المجاز، وقلما يخرج الشيء منها على
الحقيقة، وقد قدمنا ذكر ذلك في كتابنا هذا وفي غيره. فلما كانت كذلك، وكان القوم الذين
خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها، وانتشار أنحائها، جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه،
ويعتادونه منها، وفهموا أغراض المخاطب لهم بها على حسب عرفهم، وعادتهم في استعمالها.»
٤
في كتاب «من أسرار اللغة» يعرض د. إبراهيم أنيس لظواهر لغوية لا تخضع للمنطق، منها
«الإفراد والجمع»، فمن اللغات ما يميز الصيغة بين المفرد وغير المفرد (الجمع)، ويتفق
في
هذا مع التقسيم المنطقي عند الحديث عن الكم ومنها (اللغات السامية) ما يتخذ في الكم
ثلاث صيغ: المفرد والمثنى والجمع، بل يذهب البعض إلى أن العربية أمعنت في التمييز فعرفت
جمع الكثرة وجمع القلة وجمع الجمع (وهو أمر غامض غير مطرد). وهناك لغات أفريقية تتخذ
صيغة للمفرد، وأخرى للمثنى، وثالثة للمثلث، ورابعة للجمع! وما قد يُعدُّ مفردًا في لغة
قد يستعمل جمعًا في لغة أخرى (مثل
Shoes حذاء،
Trousers بنطال،
Moustaches شارب،
Scissors مقص). وفي العربية لا نجمع امرأة ولا نفرد
نساء، وقد نستعمل «قدم» ونقصد المثنى (قدمين)، وقد نستعمل المثنى (قفا نبك) ونقصد
المفرد أو نقصد حتى الذات! وقد يُستعمل الجمع ويراد المثنى
فَقَدْ
صَغَتْ قُلُوبُكُمَا،
هَذَانِ خَصْمَانِ
اخْتَصَمُوا، وقد يستعمل المفرد ويراد الجمع
هَؤُلَاءِ
ضَيْفِي،
فإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي،
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. يقول د. أنيس: «ومهما أجهد
اللغويون أنفسهم في تبرير مثل تلك الاستعمالات، فلن يستطيعوا إنكار أنها لا تمتُّ
للمنطق العام بصلة؛ وذلك لأن للغات منطقها الخاص.»
٥
ومن الظواهر اللغوية التي لا تخضع للمنطق «التذكير والتأنيث»: من اللغات ما يقسم
الكيانات إلى مؤنث ومذكر، ومنها ما يقسمها إلى مؤنث ومذكر ومحايد، ومنها ما قصر الأمر
على الحي والجماد! وقد يصيب التغير بعض الأسماء المؤنثة فتصبح مذكرًا أو العكس، وقد
فقدت الفروع الحديثة للاتينية (الفرنسية والإسبانية والإيطالية، والبرتغالية
والرومانية) الصيغة المحايدة، وأصبحت الأسماء المحايدة في اللاتينية مؤنثة أو مذكرة في
اللغات الجديدة، وروي أن أهل الحجاز يؤنثون الطريق والصراط والسبيل والسوق والزقاق …
وأن بني تميم يذكِّرون كل ذلك. وقيل إن جمع الجنس كالبقر والتمر والشعير، يُذكَّر
ويؤنث، وإن هنا أيضًا بعض التفاوت بين القبائل في التذكير والتأنيث. ومعروف أن من
الكلمات ما هو مذكر في لغة ومؤنث في غيرها (الشمس مذكر في الفرنسية، مؤنثة في العربية،
جائزة الأمرين في العبرية والآرامية)، ويقسِّم النحاة العرب التأنيث إلى مؤنث حقيقي
ومؤنث مجازي، ولكل منهما أحكامه اللغوية، وقد تستعمل الصفة المذكرة للمؤنث (امرأة كاعب،
ناهد، عانس، طالق، عجوز، طروب، حامل، مرضع، أيم، عاقر، وبقرة فارض، وناقة شافع … إلخ)
وتستعمل الصفة المؤنثة للمذكر (رجل داهية، علامة، باقعة، نابغة …)، وتقبل العربية صيغًا
مثل: «قَالَتِ الأَعْرابُ»، «قَالَتِ اليَهُودُ»، «بَلْدَةً مَيْتًا»، «السَّمَاءُ
مُنفَطِرٌ بِهِ»، «سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ»، «هَذِهِ سَبِيلِي»،
٦ وفي مسألة التذكير والتأنيث بصفةٍ خاصة تتجلى بوضوح عرفية الظاهرة اللغوية
وخصوصيتها وتأبِّيها على المنطق الصوري والرياضي.
و«الأزمنة» في اللغة وطريقة رصدها والتعبير عنها؛ تتفاوت بين اللغات ولا تخضع لمنطق
عام يشملها جميعًا، ثمة تقسيمٌ سباعي للزمن عند المحدثين: قبل الماضي – الماضي – بعد
الماضي – الحاضر – قبل المستقبل – المستقبل – بعد المستقبل. وكثير من اللغات
الهندوأوروبية تحرص على التعبير عن معظم تلك الأزمنة. وفي الإنجليزية على سبيل المثال
نجد صيغًا محددة لهذه الأزمنة السبعة جميعًا، أما في الفصيلة السامية فنرى أن معظم
لغاتها قد اتخذت صيغًا قليلة العدد للتعبير عن تلك الأزمنة السبعة في صورة غامضة بعيدة
عن التحديد المنطقي. ويقسم النحاة العرب الأزمان إلى ثلاثة: الماضي والحالي والمستقبل،
مكتفين بتلك الأزمنة الأساسية، ولما رأوا للفعل ثلاث صيغ فقد اختصوا كلًّا منها بزمن
من
تلك الأزمنة الثلاثة، وجعلوا الفعل المسمى بالماضي لكل حدث مضى وانتهى أمره، إلا أن
دخول «قد» على هذا الفعل يقرِّبه من زمن الحال، وجعلوا الأمر للزمن الحالي، وخصصوا
المضارع بالمستقبل ولا سيما حين يتصل بالسين أو سوف، وفي قليل من الأحيان جعلوه للحال
أيضًا، وحين رأوا الخلل يتسرب إلى تقسيمهم من نواحٍ عدة، بدءوا كعادتهم يُحمِّلون
الكلام العربي ما ليس منه، ويتأوَّلون من النصوص الصحيحة ما ليس بحاجة إلى تأويل أو
تخريج، فإذا استُعمِل الماضي مكان المضارع قالوا لحكمةٍ أرادها المتكلم أو الكاتب، وإذا
استُعمِل المضارع مكان الماضي التمسوا في هذا نكتةً بلاغية هللوا لها وكبروا، وما كان
أغناهم عن كل هذا التعسف لو أنهم نظروا إلى صيغ الفعل وأساليبها بعيدًا عن الفكرة
الزمنية، من ذلك ما جاء في الأثر من أن المضارع قد يُستعمَل مكان الماضي، والعكس أيضًا،
مثل قوله تعالى:
أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ
أي سيأتي، وقوله:
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
أي تلت، ومثل:
وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا أي ولا يزال
… إلخ، ولا شك أن ربط الصيغة بزمن معين يحملنا في العربية على كثير من التكلف والتعسف
في فهم أساليبها، ومن الواجب أن نفصل بينهما، وأن ندرس أساليب الصيغ مستقلة عن الزمن،
دراسةً لغوية لا منطقية؛ لندرك ما فيها من جمال وحسن … وفعل الشرط وجوابه قد يكونان
مضارعين، وقد يكونان ماضيين، وقد يكون الأول ماضيًا والثاني مضارعًا! واستعمالات أخرى
مثل «بعتك الدار» أي أبيعك، و«رحمك الله» أي يرحمك، وغير ذلك من أساليب العربية، وفي
العبرية أسلوب شائع يستعمل الماضي مكان الأمر مثل: «اذهب وقلت لهذا الشعب»! وصفوة القول
أن اللغات بوجه عام قد سلكت طرقًا متباينة في ربطها بين الزمن والصيغ، وأن سلوكها وإن
كان واضحًا كل الوضوح من الناحية اللغوية، لا يمت للمنطق العام بصِلةٍ وثيقة.
٧
وأخيرًا يعرض د. أنيس ﻟ «النفي اللغوي»، فيقول: إن للغات منطقها الخاص، والنفي في
اللغات رغم أنه معنًى عقلي مشترك بين جميع العقول، عبرت عنه اللغات بسبل وأساليب لا
تطابق دائمًا الأساليب المنطقية أو الرياضية، من ذلك أن قانون عدم التناقض لا يسري على
التعبير اللغوي، فاللغة لا تمنع المتحدث من أن يقول إن فلانًا غني وغير غني في آن واحد،
أو وطني وغير وطني، وفقًا لمعنًى معين أو تفسير ما، وفي الذكر الحكيم:
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، لم
يجد المفسرون أي صعوبة في فهم ذلك؛ فالله هو الظاهر لأن آثاره بادية للعيان، وهو الباطن
لأنه سبحانه لا تدركه الأبصار، وربما كان من أوضح الفروق بين النفي اللغوي والنفي
المنطقي أن نفي النفي ينتج الإثبات في المنطق، ولكنه من الناحية اللغوية ليس إلا
تأكيدًا للنفي! فاللغات حين تكرر الأداة في موضع ما من الجملة إنما تهدف بهذا إلى توكيد
فكرة النفي، لا إلى الإثبات، مثال ذلك قول العامة من الإنجليز:
I
haven’t done nothing، ومثله كثير في جميع اللغات قديمها وحديثها،
ذلك أن للغات منطقها الخاص، ولأساليبها طرقها الخاصة التي يجب عرضها وتفسيرها لا في ضوء
المنطق العام، بل في ضوء المنطق اللغوي والاستعمال اللغوي، وفي ضوء العوامل النفسية
التي قد يتأثر بها المتكلم والسامع حين التعبير عما يدور بخلد كل منهما، بأسلوب لغوي
خاص.
٨
(٢) منهج البحث اللغوي
اللغة ظاهرة اجتماعية، شأنها شأن العادات والتقاليد والطقوس والملابس وطرائق المعيشة،
ومن ثم فإن المنهج المناسب لدراستها هو المنهج الاستقرائي الوصفي: ملاحظة الوقائع
الجزئية، ثم استخلاص المبادئ العامة التي تنتظمها، وليس المنهج الاستنباطي المعياري
الذي يتجه من العام إلى الخاص، ويفرض المبادئ العامة، من فوق؛ ليضمن صواب الفكر واتساقه
مع نفسه. يقول د. تمام حسان: «اللغة موضوع من موضوعات الوصف، كالتشريح، لا مجموعة من
القواعد كالقانون. والباحث في تشريح الجسم الإنساني لا يُتوقع منه أن يعبر عن أفكاره
بقوله يجب أن تكون العضلة الفلانية بهذا الوضع، أو يجب أن يكون العظم الفلاني بهذا
الحجم أو الصورة، وكذلك الباحث في تشريح اللغة لا ينبغي أن يعبر عن موقفه من موضوعه
بالنص على ما يجوز وما لا يجوز، و«هَمُّ اللغوي لهذا السبب هو أن يصف الحقائق لا أن
يفرض القواعد»، وإن الدراسة الوصفية لتختار مرحلة بعينها، من لغة بعينها، لتصفها وصفًا
استقرائيًّا، وتتخذ النواحي المشتركة بين المفردات الداخلة في هذا الاستقراء وتسميها
قواعد، فالقاعدة في الدراسة الوصفية ليست معيارًا، وإنما هي جهة اشتراك بين حالات
الاستعمال الفعلية.»
٩
وإذا كان النحاة الأوائل قد اتخذوا منهجًا استقرائيًّا وصفيًّا يبدأ من جمع النصوص
اللغوية وملاحظتها، ويمضي إلى استخلاص القواعد العامة التي تنتظمها، فإن النحاة
المتأخرين قد اتخذوا «طريقًا عكسيًّا»
Via negative:
فبدءوا من القواعد العامة وفرضوها على النصوص، والحق أنه لم تكن القواعد في الحالتين
تعكس لغة العرب كما هي قائمة بالفعل، وإنما تعكس أفكار النحاة وعقولهم التي شكلها
المنطق الأرسطي وأثَّر فيها بالغ الأثر، يقول د. إبراهيم بيومي مدكور في بحثه الشهير
«منطق أرسطو والنحو العربي» (المجمع ١٤٨): «ولا شك في أن المنطق الأرسطي قد صادف في
القرون الوسطى المسيحية والإسلامية نجاحًا لم يصادفه أي جزء آخر من فلسفة المعلم الأول:
فعُرِف أرسطو المنطقي قبل أن يعرَف أرسطو الميتافيزيقي، وتُرجم الأرجانون قبل أن يترجم
كتاب الطبيعة أو كتاب الحيوان. وللأرجانون
١٠ في العالم العربي منزلةٌ خاصة، فكانت أجزاؤه الأولى أول ما ترجم من الكتب
الفلسفية إلى اللغة العربية، ثم ألحقت الأجزاء الأخرى فتُرجمت وشُرحت واختصرت، وتوالى
البحث في المنطق لدى المدارس الإسلامية المختلفة عند الفلاسفة والمتكلمين، بل وعند
الفقهاء … ولم يقف الأمر فيما نعتقد عند الفقه والكلام والفلسفة، بل امتد إلى دراسات
أخرى من بينها النحو، وقد أثر فيه المنطق الأرسطي من جانبين: أحدهما موضوعي، والآخر
منهجي، فتأثر النحو العربي عن قرب أو بعد بما ورد على لسان أرسطو في كتبه المنطقية من
قواعد نحوية، وأريد بالقياس النحوي أن يحدد ويوضع على نحو ما حدده القياس
المنطقي.»
وقد أشار اللغوي الإنجليزي روبرت هنري روبنز في كتابه «موجز تاريخ علم اللغة» إلى
تأثر النحو العربي بالمنطق الأرسطي، إذ يقول: «نشأ تنافس مهم بين مدارس فقه اللغة
المختلفة في العالم العربي، ونلمس التأثير الأرسطي — خاصة في مدرسة البصرة — بوصفه
جزءًا من التأثير الأوسع للفلسفة اليونانية والعلم اليوناني على المعرفة العربية، وقد
شددت مدرسة البصرة على الاطراد الصارم وعلى الطبيعة النظامية للغة بوصفها وسيلة الحديث
المنطقي عن عالم الظواهر، وهنا يمكن القول إن أفكار أرسطو عن القياس قد تركت أثرها، وقد
أوْلت مجموعةٌ من العلماء اللغويين في الكوفة أهميةً أكبر للاختلاف في اللغة كما هو
موجود بالفعل (السماع) بما في ذلك الاختلافات اللهجية وما هو واقع في النصوص كما أقرت،
وهذه المدرسة تعتنق إلى حد ما وجهات نظر «شذوذية»
Anomalist … على أنه من المؤكد أن اللغويين العرب قد طوروا وجهات نظر
خاصة بهم في دراستهم النظامية للغتهم، ولم يفرضوا عليها بأي حال النماذج اليونانية
مثلما فعل النحاة اللاتين.»
١١
ومن الحق أن «مذهب» المرء في منشأ اللغة يملي عليه «منهجه» في دراستها: فأنت إذا
قنعت
بأن اللغة عرفٌ اجتماعي اتفاقي فسوف تقنع في دراستها بالوصف المحايد والاستقراء السمح،
أما إذا امتلأت بأنها «توقيف» إلهي
١٢ أو اصطلاح حكماء أو سليقةٌ عربية سحرية فسوف يتملكك وسواس البحث عن الحكمة
أو «العلة»، وسوف تصطنع في دراستها القياس والتعليل والتأويل.
ليست العربية توقيفًا إلهيًّا، لقد اختُرعت اللغة كما يقول هيردر «بوسائل الإنسان
الخاصة، ولم تُبتكر بصورةٍ آلية بطريق التعليمات الإلهية، لم يكن الله هو الذي اخترع
اللغة للإنسان، ولكن الإنسان نفسه هو الذي اضطر إلى اختراعها بطريق ممارسته قدراته
الخاصة.» وليست اللغة اصطلاحًا بين حكماء، من البشر أو غير البشر، كما بينا ذلك في
موضعه، وليست اللغة سليقةً عربية سحرية تتلبس بالأعراب وتسري منهم مسرى الدم وتجعلهم
المفوضين في اللغة وتكسبهم معرفةً بمواقع الكلام وعللًا تقوم في العقول، وإنما اللغة
اكتسابٌ وتعلمٌ اجتماعي بالممارسة والاعتياد.
فإذا ما تخلى الباحث عن المنهج الوصفي الاستقرائي ولجأ إلى التفكير القياسي المعياري
يكون قد نأى بنفس القدر عن مجال عمله وجعل دراسته مؤسسة على المنطق. وفي مستهل كتابه
«علم اللغة العام» يقول دي سوسير: «لقد اهتم الدارسون في بادئ الأمر بفرع من فروع
المعرفة سمي بالنحو. إن هذه الدراسة التي بدأها الإغريق وأخذها عنهم الفرنسيون اعتمدت
على علم المنطق، وهي تفتقر إلى النظرة العلمية ولا ترتبط باللغة نفسها، وليس لها من هدف
سوى وضع القواعد التي تميز الصيغ الصحيحة وغير الصحيحة، فهي دراسة معيارية تبتعد كثيرًا
عن الملاحظة الخالصة للوقائع، ومجالها محدود ضيق.»
١٣
لقد كانت دراسة اللغة تدور في مبدأ الأمر على تلقي النصوص من أفواه الرواة، ومشافهة
الأعراب وفصحاء الحاضرة، فكان ثمة مجال للاستقراء واستخلاص القاعدة من تقصي سلوك
المفردات والأمثلة، ومن ثم رأينا الدراسات العربية الأولى تتسم بالوصف، وتنأى إلى حد
كبير عن المعيار، ثم وضع حدٌّ فاصل انتهى عنده عصر الاحتجاج، وجاء وقتٌ كان الرواة عنده
قد أفرغوا ما في جعبتهم، وبذا جفت روافد الرواية، وانحسر المد الذي كان يفيض على
الحواضر، فوجد النحاة أنفسهم وجهًا لوجه مع تجربةٍ جديدة، هي أن يتكلموا في النحو دون
اعتماد على روايات جديدة، وبذا أصبحت الروايات القديمة مقاييس متحجرة كان من الواجب في
رأي النحاة على طلاب الفصاحة أن يحتذوها، وبدأ الكلام عند هذا الحد فيما يجوز وفيما لا
يجوز من التراكيب، بل بدأ الكلام فيما يجب منها أيضًا.
١٤
وثمة ما يشير من الوجهة التاريخية إلى أن المنطق الأرسطي نشأ متأثرًا بالنحو
الإغريقي، وأن النحو العربي نشأ متأثرًا بالفكر الأرسطي، فقد استعان أرسطو في وضعه
للوحة «المقولات» Categories بالتقسيمات اللغوية، ثم
جاء النحو العربي فورث عن أرسطو خلطه بين النحو والمنطق، وعمل على تطبيق المقولات
الأرسطية العشر على اللغة، كما أخذ عن أرسطو أقيسته المنطقية وعلله الأربع، وسعى إلى
تطبيقها في المسائل النحوية، وكانت النتيجة كارثية كشأن أي محاولةٍ لفرض قوالب شيءٍ على
شيءٍ آخر من غير جنسه.
(٣) المقولات الأرسطية
كلمة «قاطيغورياس» عند أرسطو تعني الإضافة أو الإسناد، ومن ثم فالمقولات
Categories هي أمور مضافة أو مسندة أو «مقولة»، أي
«محمولات»
Predicates، أو بتعريف أدق: المقولة معنى كلي
يمكن أن يدخل محمولًا في قضية. والمقولات الأرسطية العشر تقابل جميع الأجوبة التي تقال
عن جملة الأسئلة التي يمكن أن تثار بصدد شيءٍ ما. وهذه الأسئلة عشرة يجاب عنها بعشرة
محمولات، فإذا اتخذنا من الإنسان مثلًا كانت الأسئلة والأجوبة كما يأتي:
١٥
سؤال |
جواب |
ما هو؟ |
جوهر |
ما كميته؟ بدين أم نحيف؟ طويل أم قصير؟ |
كم |
أهو طيبٌ أم رديء؟ عالم أم جاهل؟ |
كيف |
أهو أبٌ أم ابن؟ سيد أم خادم؟ |
إضافة |
ماذا يفعل؟ |
فعل |
ماذا يقبل؟ ماذا يصيبه؟ |
انفعال |
ما مقره؟ أين هو؟ |
مكان |
في أي وقت؟ |
زمان |
ما هيئته؟ أهو جالس أم نائم أم قائم؟ |
وضع |
ماذا يلبس؟ |
ملك |
-
مقولة الجوهر: نظر النحاة إلى اللغة نظرتهم إلى الأشياء فجعلوا للكلمة «جوهرًا» Substance، ورأوا أن جوهر الكلمة لا
يتغير إلا بإعلال أو إبدال، بل إن للجملة جوهرًا، ومن ثم فإذا غاب شيء
من هذا الجوهر تعين علينا تقديره، خذ مثلًا عبارة «زيدٌ قام»، فإن
«قام» هنا فيها ضميرٌ فاعلٌ تقديره «هو»، ولا يصلح «زيدٌ» أن يكون فاعل
«قام» لأن الفاعل لا يتقدم على فعله (وفقًا لمقولة المكان التي ستأتي)،
وإذ لا بد للفعل من فاعل فنحن «نقدره» هنا على أنه الضمير «هو».
-
مقولة الكم: يقول د. تمام حسان إن النحاة «ربما عرفوا أن المدة Duration التي يستغرقها نطق صوت من
الأصوات لا تتناسب طردًا ولا عكسًا مع كميته الطولية Quantity، ومع هذا أصروا على خلق وحدات طولية
فكرية في دراسة الأصوات العربية، فالحرف المشدد بحرفين وإن قصرت مدته
عن مدة الحرف المفرد في بعض النطق، والفتحة نصف الألف اللينة في نظرهم
إذا كانت كتلك القصيرة المدة التي في آخر «مُنى» من قولنا «منى النفس»،
والتفكير المنطقي هنا واضح كل الوضوح، وعلى الأخص إذا عرفنا أن بعض
التجارب الآلية التي قمت بها على لهجة عدن قد برهنت إلى درجة تعزز
ملاحظتي الخاصة تعزيزًا كاملًا على أن الصوت المفرد الأخير الساكن في
الكلام أطول من نظيره المشدد في الوسط من جهة المدة وإن كان أقصر منه
من جهة الكم.»١٦
-
مقولة الكيف: يتضح تطبيقها من نسبة كيفيات استعدادية لبعض الأفعال الثلاثية (مثل
المقصور والأجوف والناقص) ولبعض الأسماء (المقصور، المنقوص …) وبعض
الحروف (الألف اللينة)، ومن ذلك أيضًا التقسيم إلى مفرد ومثنًّى وجمع
واتصاله بفكرة الكيفيات الكمية.
-
مقولة الزمان: أما تطبيق مقولة الزمان على دراسة اللغة بلا تفريق بين الزمان
الفلسفي والزمن النحوي فواضح في تقسيم الفعل دون نظر إلى استعمالاته،
فالفعل إما ماضٍ أو مضارع أو أمر، والماضي ما دل على حدث مضى قبل زمن
التكلم، والمضارع ما دل على حدث في الحال أو الاستقبال … إلخ. ويضطر
النحاة بعد هذا التقسيم المنطقي أن يعتذروا كلما خذلهم الاستعمال
النحوي، فهم يعتذرون عن الفعل المضارع الدال على المضي حين يقترن بلم،
ويعتذرون عنه في تعبير مثل «إن تكن عادٌ قد بادت فما بادت خصالها»،
وعنه في قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ، وعن الماضي في قوله تعالى:
وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا، وفي
قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ
وَالْفَتْحُ إلخ، كل ذلك لخلطهم في التفكير بين الزمان
الفلسفي والزمن النحوي، ولو أعطوا للزمن النحوي وظيفة التفريق بين
الصيغ لا الدلالة على المضي والحضور والاستقبال لكان ذلك أشبه بالدراسة
النحوية.
-
مقولة المكان: لهذه المقولة نفوذٌ كبير على تفكير النحاة يتجلى في:
- تقدير الحركات على أواخر الكلمات سواء منع من ظهورها
الثقل أو التعذر.
- فكرتي الإعلال (تغيير شكل في مكان معين) والإبدال (بوضع
شيء مكان شيء آخر).
- ضرورة أن يكون الفاعل بعد الفعل، وقد سبق أن قلنا في
مقولة الجوهر: إنه في عبارة «زيدٌ قام» لا بد للفعل «قام»
من فاعل، ولا بد أن يكون هذا الفاعل بعد الفعل، ومن الواضح
أن هذه قواعد ذهنية مفروضة على الصيغ، والصيغ في غنًى عنها
ودالة بذاتها.
-
مقولة الإضافة: فهم النحاة العرب كل فعل بالإضافة إلى فاعله، فإذا لم يكن للفعل فاعل
مذكور في الجملة فلا أقل من أن يقدره النحاة ليكون تفكيرهم متمشيًا مع
منطق المقولات، وهنا نعود مرة أخرى إلى مثال ابن مضاء (زيدٌ قام)
لنقول: إن زيدًا برغم كونه موجودًا في الجملة لم يصلح فاعلًا لتحكم
فكرة المكان، فالفاعل يأتي بعد الفعل لا قبله، وإذا لم يصلح فاعلًا فلا بد إذن أن نقدر
فاعلًا في الجملة، برغم أن صيغة الفعل الماضي تدل هنا
بشكلها ودون الحاجة إلى تقدير على أن الفاعل مذكر غائب، ولو كان غير
ذلك لغيرت صيغة الفعل، ومقولة الإضافة أيضًا مسئولة عن فكرة الإمالة
فالاسم المُمال إنما اعتبر ممالًا بالإضافة إلى اسم آخر ألفه صريحة
بقطع النظر عن أن كلًّا منهما أصل في لهجته الخاصة به، ولو درسنا
اللهجة التي فيها الإمالة بمفردها ما احتجنا إلى التفكير في هذا الباب
على الإطلاق، ولكن النحاة العرب أبوا إلا أن يدرسوا مجموعة من اللهجات
في نحوٍ واحد، ومن هنا جاءت شدة الاضطرار إلى التقسيم إلى شاذ
ومطرد.
-
مقولة الوضع: مسئولة عن فكرة الوضع الإعرابي الذي يفرض على الجملة برغم امتناع
ظهور حركة إعرابية عليها، فتكون في محل رفع خبرًا (مثل «قام» في زيدٌ
قام)، أو في محل نصب حالًا، أو في محل جر صفة، أو في محل نصب مقول
القول … إلخ.
-
مقولة الملك: مسئولة عن تهميش الحركات (الفتحة، الكسرة، الضمة، السكون …) في اللغة
العربية، وتحولها إلى مجرد «علامات» على الحروف الصحيحة، رغم أنها حروف
في كل لغات العالم، فالحرف الصحيح في اللغة العربية يكون مضمومًا (بُ)
أو مفتوحًا (بَ) أو مكسورًا (بِ) … إلخ وكأن الحركة مجرد وصف للحرف
الصحيح و«ملك» يمين له! غير أن العروضيين قد قلبوا الأوضاع فأعلوا شأن
الحركات وألغوا الحرف إلغاءً، فرمزوا بالشرطة إلى الحرف ذي الحركة
(متحرك –)، وبالدائرة إلى الحرف الساكن أو المد (ساكن °).
-
مقولة القابلية والفاعلية: المقولة التاسعة مقولة «ينفعل» والانفعال هو قبول أثر المؤثر،
والمقولة العاشرة هي مقولة «يفعل» وهو التأثير في الشيء الذي يقبل
الأثر، مثل التسخين والتسخن، والقطع والانقطاع،١٧ وهاتان المقولتان هما من وراء نظرية العامل في النحو،
«فإذا كان الشيء إما فاعلًا وإما قابلًا فلماذا لا تكون الكلمات كذلك؟
ولماذا لا يكون بعض الكلمات عاملًا في بعضها الآخر؟ مثال ذلك «حضر
زيدٌ» فإن كلمة «زيدٌ» قبلت تأثير الفعل «حضر» وهو الرفع على الفاعلية
وحركته (الضمة) هي ملك الحرف الأخير، الدال (مقولة الملك)، ومثال آخر:
«عليك نفسك» فإن كلمة «نفس» قبلت تأثير اسم الفعل «عليك» وهو النصب على
المفعولية، وحركته (الفتحة) تخص الحرف الأخير (السين) وتتبعه.»
لقد رأى النحاة الإعراب بالحركات وغيرها عوارض للكلام تتبدل بتبدل التركيب، على نظام
فيه شيء من الاطراد، فقالوا: عرضٌ حادثٌ لا بد له من محدث، وأثرٌ لا بد له من مؤثر، ولم
يقبلوا أن يكون المتكلم محدث هذا الأثر؛ لأنه ليس حرًّا فيه يحدثه متى شاء، وطلبوا لهذا
الأثر عاملًا مقتضيًا، وعلةً موجِبة، وبحثوا عنها في الكلام، فعددوا هذه العوامل،
ورسموا قوانينها … لقد تصوروا «عوامل» الإعراب كأنما هي موجوداتٌ فاعلة مؤثرة، قال
الإمام الرضي: «والنحاة يجرون عوامل الإعراب كالمؤثرات الحقيقية.»
١٨
وقد عدَّد الجرجاني العوامل المائة وقسَّمها إلى فئات، فبدت شديدة السهولة والوضوح،
غير أنها تعرضت في مطولات النحو للاضطراب والتعقيد من نواحٍ عديدة: ناحية العامل الواحد
في إعماله أو إهماله، وناحية توجيه المعمول الواحد حسب عوامل مختلفة، وغير ذلك مما يشق
على الحبر المتخصص بَلْهَ القارئ العادي، ومما جعل باحثًا مثل د. تمام حسان يقول في
ختام تناوله لنظرية العامل في كتابه «اللغة بين المعيارية والوصفية»: «ما العامل إذن؟
الحقيقة أنه لا عامل. إن وضع اللغة يجعلها منظمة من الأجهزة، وكل جهاز منها متكامل مع
الأجهزة الأخرى، ويتكون من عدد من الطرق التركيبية العرفية المرتبطة بالمعاني اللغوية،
فكل طريقة تركيبية منها تتجه إلى بيان معنًى من المعاني الوظيفية في اللغة، فإذا كان
الفاعل مرفوعًا في النحو فلأن العرف ربط بين فكرتي الفاعلية والرفع دون ما سببٍ منطقي
واضح، وكان من الجائز جدًّا أن يكون الفاعل منصوبًا، والمفعول مرفوعًا، لو أن المصادفة
العرفية لم تجرِ على النحو الذي جرت عليه. المقصود من أية حركة إعرابية إذن هو الربط
بينها وبين معنًى وظيفيٍّ خاص، وقد جاءت هذه الحركة في نمطية اللغة على هذه الصورة لأن
العرف ارتضاها كذلك، والشرط الوحيد في كل ذلك أن يكون هناك ارتباط تام بين اختلاف
الحركات واختلاف الأبواب النحوية التي ترمز إليها، أي أن يراعى في الفرق بين باب الفاعل
وباب المفعول مثلًا أن يعبر عنه بفرق شكلي يظهر بين الحركة الإعرابية الدالة على الفاعل
وبين الحركة الإعرابية الدالة على المفعول … وذلك هو المقصود بقول ابن جني: ولو تكلف
متكلِّفٌ نقضها لكان ذلك ممكنًا.»
١٩
(٤) العِلَّة
مرتْ بنا هيفاءُ مقدودةٌ
تركيةٌ تنمى لتركيِّ
ترنُو بطرفٍ ساحرٍ فاترٍ
أضعفَ من حُجَّة نحويِّ
«العلة» هي ما يؤثر في غيره ويقابل «المعلول». والعلل عند أرسطو أربع: فاعلة كالنجار
الذي يصنع الكرسي، ومادية وهي الخشب الذي يُصنع منه، وصورية وهي الهيئة التي يتم عليها
شكله، وغائية وهي الجلوس عليه. وقد تسرب التعليل من المنطق الأرسطي إلى النحو العربي،
ثم نما وتضخم وتحوَّل إلى صناعة فكرية تجهد الذهن ولا تعود بفائدة على النطق.
فقد قسم النحاة العلل النحوية إلى نوعين: نوع يؤدي إلى معرفة كلام العرب، كقولنا:
كل
فاعل مرفوع. ونوع آخر يسمى «علة العلة» مثل أن يقولوا: لمَ صار الفاعل مرفوعًا والمفعول
به منصوبًا؟ ولم إذا تحركت الياء والواو وكان ما قبلهما مفتوحًا قلبتا ألفًا؟ وهذا ليس
يكسبنا أن نتكلم كما تكلمت العرب، وإنما تستخرج منه حكمتها في الأصول التي وضعتها،
وتبين بها فضل هذه اللغة على غيرها من اللغات.»
٢٠ يطلق الزجاجي على النوع الأول «العلل التعليمية»، وعلى الثاني «العلل
القياسية» و«العلل الجدلية والنظرية»، ويطلق ابن مضاء على النوع الأول «العلل الأُوَل»
(بمعرفتها تحصل لنا المعرفة بالنطق بكلام العرب) في مقابل «العلل الثواني والثوالث» وهي
«لا تفيدنا إلا أن العرب أمة حكيمة»، ويقسم العلل أيضًا إلى «علل كسب» تكسبنا أن نتكلم
كما تكلمت العرب، و«علل حكمة» تظهر لنا حكمتها في الأصول التي وضعتها.
ومنذ البداية يطالعنا خلطٌ في استخدام النحاة لمصطلح «التعليل» نفسه! فهم تارة
يستخدمونه للإشارة إلى طريقة عمل النظام اللغوي، وهو ما نسميه اليوم ﺑ «الوصف»، وتارة
يستخدمونه بمعنى «السبب الذي يجعل النظام اللغوي يعمل بالطريقة التي يعمل بها»، وهو
المعنى الصحيح والقويم لكلمة «التعليل». وإن هذا الخلط المبدئي ليعكس خلطًا في الفهم
نفسه، ولقد كان ينبغي أن يقيض مصطلحٌ خاص لكل من العمليتين المختلفتين اختلافًا
نوعيًّا.
من المسلَّم به اليوم أن العلم لا يخوض في العلل الغائية للظواهر، وأن المنهج العلمي
لا يعنيه إلا وصف الظواهر واستخلاص القوانين التي تطرد عليها، وباختصار: لا يعنيه إلا
الإجابة عن «كيف»، أما إذا تخطى هذا النطاق إلى السؤال عن «لماذا» (لماذا تجري الظواهر
على هذا النحو) فإنه يكون قد تخطَّى مجاله وتنكر لطبيعته ولم يعد منهجًا علميًّا،
«فالعلل الغائية غير معترف بها علميًّا لأنها تتكلم أكثر عن أمورٍ غيبية لا سبيل إلى
اختبار صدقها أو كذبها … ومن قبيل العلل الغائية علل النحاة التي يوردونها لرفع الفاعل،
والمبتدأ والخبر، ونائب الفاعل، واسم كان، وخبر إن، وفي نصب المنصوبات، وفي منع بعض
الأسماء من الصرف، وفي بناء المبنيات، وإعراب المعربات، وهلم جرًّا.»
٢١
ولكن ما احتيالك فيمن شَرَع في بحثه اللغوي وقد وقر في قلبه أن اللغة توقيفٌ إلهي
أو
وضع حكماء أو سليقةٌ سحرية؟ إنه مدفوعٌ إلى البحث عن «الحكمة» القابعة في هذه الظواهر
اللغوية التي لم تأتِ عبثًا ولم تنشأ اعتباطًا. يقول السيوطي في «الاقتراح»: «إن العرب
لم تبتدع اللغة العربية، وإنما هي من صنع الله سبحانه، وعلى النحاة أن تبحث عن حكمة
الله فيما صنعه» (التوقيف). ويقول سيبويه: «وليس شيءٌ يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به
وجهًا» (حكمة العرب). ويقول الزجاجي في «الإيضاح في علل النحو»: «سئل الخليل بن أحمد
رحمه الله عن العلل التي يعتل بها في النحو، فقيل له: عن العرب أخذتَها أم اخترعتَها
من
نفسك؟ فقال: إن العرب نطقت على سجيتها وطباعها، وعرفت مواقع كلامها، وقام في عقولها
علله وإن لم يُنقَل ذلك عنها، واعتللت أنا بما عندي أنه علة لما عللته منه، فإن أصبت
العلة فهو الذي التمستُ، وإن تكن هناك علة له فمثلي في ذلك مثل رجل حكيم دخل دارًا
محكمة البناء عجيبة النظم والأقسام، وقد صحت عنده حكمة بانيها بالخبر الصادق أو
بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة، فكلما وقف هذا الرجل في الدار على شيء منها قال:
«إنما فعل هذا هكذا لعلة كذا وكذا، ولسبب كذا وكذا سنحت له وخطرت بباله محتملة لذلك،
فجائز أن يكون الحكيم الباني للدار فعل ذلك للعلة التي ذكرها هذا الذي دخل الدار، وجائز
أن يكون فعله لغير تلك العلة، إلا أن ذلك مما ذكره هذا الرجل محتمل أن يكون علة لذلك،
فإن سنح لغيري علة لما عللته من النحو هو أليق مما ذكرته بالمعلولات فليأتِ بها»، وهذا
مستقيم وإنصاف من الخليل رحمة الله عليه.»
٢٢
(٤-١) تفصيل العلل
يشير السيوطي في «الاقتراح» إلى أن أبا عبد الله الحسين بن موسى الدينوري الجليس
قد ذكر أن «اعتلالات النحويين صنفان: علة تطرد على كلام العرب وتنساق إلى قانون
لغتهم، وعلى تظهر حكمتهم وتكشف صحة أغراضهم ومقاصدهم في موضوعاتهم، وهم للأُولى
أكثر استعمالًا وأشد تداولًا، وهي واسعة الشعب إلا أن مدار المشهورة منها على أربعة
وعشرين نوعًا … وشرح ذلك التاج بن مكتوم في «تذكرته» فقال: قوله «علة سماع» مثل
قوله «امرأة ثدياء» ولا يقال «رجل أثدى»، وليس لذلك علة سوى السماع. و«علة تشبيه»
مثل إعراب المضارع لمشابهته الاسم، وبناء بعض الأسماء لمشابهتها الحروف. و«علة
استغناء» كاستغنائهم ﺑ «تَرَكَ» عن «وَدَعَ». و«علة استثقال» كاستثقالهم الواو في
«يَعِدُ» لوقوعها بين ياء وكسرة. و«علة فرق» وذلك فيما ذهبوا إليه من رفع الفاعل
ونصب المفعول وفتح نون الجمع وكسر نون المثنى. و«علة توكيد» مثل تعويضهم الميم في
«اللهم» من حرف النداء. و«علة نظير» مثل كسرهم أحد الساكنين إذا التقيا في الجزم
حملًا على الجر؛ إذ هو نظيره. و«علة نقيض» مثل نصبهم النكرة ﺑ «لا» حملًا على
نقيضها «إن». و«علة حمل على المعنى» مثل «فمن جاءه موعظةٌ» ذكر فعل الموعظة وهي
مؤنثة حملًا لها على المعنى وهي الوعظ. و«علة مشاكلة» مثل قوله: «سلاسلًا وأغلالًا».
و«علة معادلة» مثل جَرِّهم ما لا ينصرف بالفتح حملًا على النصب ثم عدلوا بينهما
فحملوا النصب على الجر في جمع المؤنث السالم. و«علة مجاورة» مثل الجر بالمجاورة في
قولهم «جحر ضبٍّ خربٍ»، وضم لام «لله» في «الحمد لله» لمجاورتها الدال. و«علة وجوب»
وذلك تعليلهم برفع الفاعل ونحوه. و«علة جواز» وذلك ما ذكروه في تعليل الإمالة من
الأسباب المعروفة فإن ذلك علة لجواز الإمالة فيما أُميل لا لوجوبها. و«علة تغليب»
مثل
وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ. و«علة اختصار» مثل
باب الترخيم
وَلَمْ يَكُ. و«علة تخفيف» كالإدغام.
و«علة أصل» ﮐ «استحوذ» و«يؤكرم» وصرف ما لا ينصرف. و«علة أولى» كقولهم إن الفاعل
أولى برتبة التقديم من المفعول. و«علة دلالة حال» كقول المستهل: «الهلال»، أي «هذا
الهلال» فحذف لدلالة الحال عليه. و«علة إشعار» كقولهم في جمع موسى: موسَون بفتح ما
قبل الواو إشعارًا بأن المحذوف ألف. و«علة تضاد» مثل قولهم في الأفعال التي يجوز
إلغاؤها متى تقدمت وأكدت بالمصدر أو بضميره: لم تلغ؛ لما بين التأكيد والإلغاء من
التضاد، قال ابن مكتوم: وأما «علة التحليل» فقد اعتاص عليَّ شرحها وفكرت فيها
أيامًا فلم يظهر لي فيه شيء. وقال الشيخ شمس الدين بن الصائغ: قد رأيتها مذكورة في
كتب المحققين كابن الخشاب البغدادي حاكيًا له عن السلف، في نحو الاستدلال على اسمية
«كيف» ينفي حرفيتها لأنها مع الاسم كلام، ونفي فعليتها لمجاورتها الفعل بلا فاصل،
فتحلل عقد شبه خلاف المدعي، انتهى. وأما الصنف الثاني فلم يتعرض له الجليس ولا بينه.»
٢٣ قال السيوطي: وبيَّنه ابن السراج في «الأصول» أنه هو المسمى «علة
العلة»، مثل أن يقولوا: لمَ صار الفاعل مرفوعًا والمفعول منصوبًا؟ وهذا ليس يكسبنا
أن نتكلم كما تكلمت العرب، وإنما يستخرج منه حكمتها في الأصول التي وضعتها.
ويتساءل د. محمد عيد في «أصول النحو العربي»: «لكن … أحقًّا كان النحاة للأولى
أكثر استعمالًا وأشد تداولًا — كما يقول الدينوري — أم أنها، بفعل الصنعة، قد فقدت
سماتها، ووسمت بالصفة الثانية، فغلب عليها الجدل والنظر؟ إن كتب النحو المتأخرة
اختفت فيها العلل التي عُرف بها كلام العرب تحت ركامٍ هائل من المجادلات والمساجلات
في العلل.»
٢٤
(٤-٢) اعتراضات ابن مضاء
كان ابن مضاء هو أول (وآخر!) من صرح بوضوحٍ تام بضرورة سقوط هذا النوع من العلل
من النحو. يقول ابن مضاء في «الرد على النحاة»: «ومما يجب أن يسقط من النحو العلل
الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن «زيد» من قولنا «قام زيدٌ» لم رفع؟
فيقال لأنه فاعل، وكل فاعل مرفوع، فيقول ولم رفع الفاعل؟ فالصواب أن يقال له: كذا
نطقت به العرب، ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر، ولا فرق بين ذلك وبين من
عرف أن شيئًا ما حرام بالنص، ولا يحتاج فيه إلى استنباط علة، لينقل حكمه على غيره،
فسأل لم حرم؟ فالجواب على ذلك غير واجب على الفقيه، ولو أجبت السائل عن سؤاله بأن
تقول له: للفرق بين الفاعل والمفعول فلم يقنعه، وقال: فلم لم تعكس القضية بنصب
الفاعل ورفع المفعول؟ قلنا له: لأن الفاعل قليل لأنه لا يكون للفعل إلا فاعل واحد،
والمفعولات كثيرة، فأعطي الأثقل، الذي هو الرفع، للفاعل، وأعطي الأخف، الذي هو
النصب، للمفعول؛ لأن الفاعل واحد والمفعولات كثيرة، ليقلَّ في كلامهم ما يستثقلون،
ويكثر في كلامهم ما يستخفون، فلا يزيدنا ذلك علمًا بأن الفاعل مرفوع، ولو جهلنا ذلك
لم يضرنا جهله، إذ قد صح عندنا رفع الفاعل الذي هو مطلوبنا، باستقراء المتواتر،
الذي يوقع العلم.»
٢٥
(٤-٣) اعتراضات المحدثين
يقول الأستاذ عباس حسن: «إنَّ علوم العربية على اختلاف فروعها وتعدد أنواعها
مستقاة من الكلام العربي الأصيل، ومردُّها جميعًا إلى ما نطق به الفصحاء من أهل
الضاد الذين يستشهد بكلامهم ويُحتجُّ بلسانهم. فإذا نطقنا باللفظ المفرد أو المركب،
وصغنا الأسلوب صياغة خاصة، وجرينا في تأليفه على نظام معين؛ فلا تعليل لذلك إلا
محاكاة العرب والنسج على منوالهم، ولا شيء غير هذا، ولو أن سائلًا سألني: لم بنيت
الكلمة على ثلاث أو أكثر؟ ولم ضبطتَ حروفها بضبطٍ خاص؟ ولم جريتَ في تركيب الأسلوب
على نظامٍ معين؟ ولم … ولم … ولم؟ ما كان الجواب إلا واحدًا: هو أني في هذا المقام
أحاكي ما فعله العرب في مثله، وأنقل عنهم طريقتهم، وآخذ من مادتهم ووسائل استخدامها
مثل ما كانوا يأخذون. وكذلك جواب كل فرد؛ فالكلمات التي ننطق بها اليوم من حيث مادة
تكوينها ومن حيث مظاهر هيئاتها المتعلقة بوضعها في الجملة وبضبط حروفها، إنما نخضع
في شأنها للمأثور عن العرب وحده وليس ثمة ما نخضع له طائعين أو مرغمين إلا ذلك
المأثور، وكل إجابة غير هذه فضول وهزل لا صواب فيه ولا جد ولا أمانة.»
٢٦
والأستاذ عباس حسن، كما هو معروف، حجة في علم النحو، وكتابه «النحو الوافي» هو
المرجع الأكبر في هذا العلم، ومن ثم كان لرأيه ثقلٌ خاص في هذا الشأن. يقول الأستاذ
عباس حسن: «لمَ رفعتْ أواخر الكلمات؟ لم نصبت أو جُرَّتْ أو جزمت؟ لم كانت على وزن
فعل، أو فاعل، أو … أو …؟ لم تقدمت في أسلوبها أو تأخرت؟ لم ذكرت أو حذفت؟ لم كان
هذا التعبير أبلغ وأقوى من ذاك؟ لم كان هذا أرقَّ وأعذب؟ لم … لم …؟ لا شيء إلا
مجاراة العرب الفصحاء، والأخذ بمنهاجهم فيما نحن بصدده، مع التصرف المحمود في حدود
ذلك المنهاج، والتزام أصوله العامة بحيث نوائم بينه وبين حرية التصرف
المأمونة.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فما هذه العلل والتعليلات المرهقة التي تطفح بها
المراجع النحوية، وتضيق بها صدور المعلمين وأوقاتهم ممن كتب الله عليهم الرجوع إلى
تلك المطولات لاستخلاص بعض القواعد النحوية؟ إن النظرة العجلى الصائبة لتحكم من غير
تردد بأن جميع هذه العلل والتعليلات زائفة لا تمتُّ للعقل بصِلةٍ ولو كانت واهية.
وإن احترام ذلك العقل يفرض علينا نبذها وتطهير النحو منها، اللهم إلا من ذلك النوع،
الصحيح والصادق الذي يسمونه: «علل التنظير» يريدون به ما أشرنا إليه قبلًا حين ترفع
آخر كلمة أو تنصبه أو تجره، وحين تجعل الكلمة على وزنٍ معين، وتسلك به في التركيب
مسلكًا خاصًّا، لم رفعتها؟ لأنها نظير زميلتها في كلام العرب، ولم نصبتَها أو
جررتَها أو جزمتَها؟ للسبب السالف، ولم جعلتها على وزن كذا؟ ولم قدمتها أو أخرتها؟
لم استخدمتَها أداة استفهام، أو حصر، أو نفي، أو مدح، أو …؟ …؟ لأن نظيرتها في كلام
العرب كذلك.»
٢٧
ويرى د. تمام حسان أن استحواذ الفكر الغائي على عقول النحاة هو ما دفعهم إلى
انتحال العلل وانتفاخ كتب النحو بلا مبرر، «ولو لجأ النحاة إلى العرف فاعتبروه
مصدرًا وحيدًا للغة لما اضطروا إلى انتحال العلل ثم الدفاع عن ذلك الانتحال فيما بعد.»
٢٨
وفي كتابه «أصول النحو العربي» يرصد د. محمد عيد تعليلات النحاة ويردها إلى: حكمة
الله، ونية العرب، والطبيعة والإحساس، وما نُقل عن العرب: أما حكمة الله في الصيغ
وأوضاع الكلام، ونية العرب في النطق، فمما لا يدخل في طوق الباحث؛ لأنها أمور غيبية
لا شأن لها باللغة، وأما الطبيعة والإحساس (بالخفة أو الثقل، والأنس بالشيء أو
الاستيحاش منه) فمما لا يمكن ضبطه، بل ذلك مما يخضع فحساس النحوي وطبيعته، وأما ما
نقل عن العرب (من تعليلات لنطقهم) فهو تعليل ساذج لا يقاس بما صنعه النحاة من غرائب
العلل، والحقيقة أن ذلك كله تسويغ لما حدث، وليس حقيقة ما حدث. أما الحقيقة فهي
وقوع النحاة في تعليلهم تحت نفوذ التعليل الأرسطي.
٢٩
(٥) صراعٌ بين ثقافتين
ويلك يا عمرو؛ إنك أَلْكَنُ الفهم.
أبو عمرو بن العلاء
يقول د. لطفي عبد البديع في كتابه «عبقرية العربية»: «والدلالة اللغوية إنما تُغاير
الدلالة العقلية في أنها دلالة ذاتية على معنى أن اللغة تختضن دلالتها في كيانها …
والدلالة بعد ذلك لا تتم إلا بمخاطَبٍ ومتكلمٍ يتواضعان على قدرٍ مشترك من الفهم المبني
على مسلَّماتٍ بعينها، والمتكلم مهما أوتي من بيانٍ عاجزٌ عن أن ينقل إلى سامعيه ما
يريد نقله إذا لم يكونوا على بينةٍ مما يقول … فكل لغة تئول إلى مسلماتٍ تنزل منزلة
القيم التي تضفي على الدلالات حجيةً يتعاطاها أبناء اللغة فيما بينهم وربما عزبت
٣٠ عن سواهم.»
٣١
بدأ النحو على أيدي العرب، وانتهى في أيدي الموالي، كان النحو في بدايته الأولى
عربيًّا خالصًا، وكان النحاة الأوائل عربًا، ومؤسس النحو أبو الأسود الدؤلي عربيًّا
خالصًا، وكان الغرض من النحو في الأصل، وهو ما كان ينبغي ألا يخرج عنه فهم النحو، وضع
أسسٍ للأعاجم ليتعلموا العربية، عساهم أن ينحوا «نحو» العرب في كلامها، ولم يقصد به أن
يكون سلطانًا على أهل العربية فيما ينطقون به، فهم في غنًى عنه لأنهم يتلقَّون اللغة
تلقيًا أول (
First hand) بحكم عيشهم فيها ومعاشرتهم
لها. يروى أن رجلًا من الموالي الفرس، هو سعد من أهل زندخال، سأله أبو الأسود: «ما لك
يا سعد؟ لم لا تركب؟»، فقال له الرجل: «إن فرسي ضالع»، أراد ظالعًا، فضحك بعض من حضره،
فقال أبو الأسود: هؤلاء الموالي قد رغبوا في الإسلام ودخلوا فيه فصاروا لنا إخوة، فلو
عملنا لهم الكلام، فوضع باب الفاعل والمفعول.
٣٢
لم يكن الغرض من النحو وضع قواعد لتقييد اللغة؛ فقد كان واضعو النحو الأوائل على بينة
من أن اللغة لا تقيد، اللغة في حياة مستمرة ونمو متصل ولا يمكن فرض قواعد جامدة على شيء
حيٍّ متغير كاللغة، اللغة لا تقيد بل تواكب أو تلاحق وصْفيًّا واستقرائيًّا فيما تتخذه
هي من اطراداتٍ خاصة بها.
ومنذ البداية ظهر لعلماء العربية إفلاس النحو، وشعروا بالبون الواسع بين اللغة والنحو
لصعوبة السيطرة على اللغة بقوانين جامعة لأطرافها، أما أبو الأسود فوضع باب الفاعل
والمفعول ولم يزد عليه، ثم جاء رجل من بني ليث فزاد في ذلك الكتاب ثم نظر فإذا في كلام
العرب ما لا يدخل فيه فأقصر عنه. وأما أبو عمرو بن العلاء فحين سئل أيدخل كلام العرب
كله فيما وضعت مما سميته عربية؟ قال: لا، فلما سئل كيف تصنع فيما خالفتك فيه العرب وهم
حجة؟ قال: أعمل على الأكثر وأسمي ما خالفني لغات. هذه الحيلة المنهجية ذاتها … هذا
التمييز بين النحو وما يخالفه هو بعينه ما يجعل المفارقة ظاهرة بين النحو واللغة؛
فاللغة باعتبارها ظاهرة متكاملة لا تقبل التمييز بين أطرافها.
٣٣
«إلا أن النحو الذي ابتدأ عربيًّا خالصًا من جهة المقولات الفكرية التي سيطرت عليه،
انقلب به الأمر فانتصرت فيه ثقافة الأعاجم على ما عداها بما سيطر عليه من مقولات فكرية
غريبة على طبيعة التفكير اللغوي العربي نفسه، وأريد به أن يكون سلطانًا قائمًا على
العربية والشعراء.»
٣٤ وبعبارة أخرى فإن النحو لم يلبث أن انفصل عن اللغة وجعل يدرسها بفكرٍ غريبٍ
عنها، واغترب عن مصدر الظاهرة اللغوية، وجعل يمتح من بئرٍ أخرى!
كان اللقاء بين النحو واللغة بعد طبقة النحويين العرب الأوائل لقاءً بين ثقافتين
مختلفتين: الثقافة العربية التي تشربها العرب بالاتصال المباشر، وثقافة الأعاجم التي
أخلص لها النحويون بطبيعة انتمائهم وكان أكثرهم من الموالي. وتؤرخ الخصومة بين موالي
النحويين وبين الشعراء العرب للصراع بين هاتين الثقافتين. والخصومة بين الفرزدق الشاعر
وعبد الله بن أبي إسحاق النحوي معروفة، فقد كان هذا النحوي يُخطِّئ الفرزدق ويلحنه في
أبياته، والفرزدق يهجوه ويعنِّفه بشعرٍ وأقوال شهيرة، نجتزئ منها ما يلي لدلالته على
جوهر الخصومة:
-
على ما يسوءُك وينوءُك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأوَّلوا.
-
أما وجد هذا لبيتي مخرجًا في العربية؟
-
أما إني لو أشاء لقلت … ولكني لا أقوله.
تترجم هذه الأقوال للفرزدق جوهر الصراع واختلاف الوجهة. لم تكن قوالب النحو وقضبانه
مما يعني الفرزدق، بل كان يتخذ مستوًى صوابيًّا آخر، الفرزدق من الشعراء (أمراء الكلام،
الذين يحتج بهم ولا يُحتج عليهم)، وقد كان يحس بعمق الأزمة وهول الخطر الذي يحدق
بالعربية في تلك الحقبة: ثمة مقولاتٌ غريبة تريد أن تلتف على العربية؛ كي تؤدبها
وتسلكها على اطراد واحد، ثمة لواء للفصاحة يوشك أن يُنتزع، لكأنه يدفع عن اللغة غازيًا
أجنبيًّا يريد أن يأسرها لا أن يفهمها!
وقد كان أحرى بالنحوي أن يقف من الفرزدق موقفًا آخر، كموقف أبي عمرو بن العلاء فيما
سبق، وهو أن يأخذ أبيات الفرزدق على أنها مادة لغوية يضيفها إلى ما لديه؛ لكي يصف
ويستقرئ ويستخلص منها ما يكمن فيها من اتجاهات وميول لغوية، لا أن يقف هذا الموقف
المعكوس فيعايرها بما لديه من قواعد «مقيسة على الأكثر وتسمى ما خالفها» خطأ (لا لغات
كما كان أبو عمرو يسمي).
كان عيسى بن عمر النحوي يخطِّئ النابغة في قوله:
فبتُّ كأني ساورتني ضئيلةٌ
من الرقش في أنيابها السم ناقع
٣٥
ويقول: موضعها ناقعًا، وللأستاذ العقاد رد بليغ على هذه التخطئة وعلى الأساس الذي
تقوم عليه التخطئة، يقول العقاد: «وإن هذه الموسيقية لتعلم النحاة أحيانًا كيف ينبغي
أن
يفهموا الشعر في هذه اللغة الشاعرة؛ لأن المزية الشعرية في قواعد إعرابها أسبق من
المصطلحات التي يتقيد بها النحاة والصرفيون … فينسى النحاة أن علامة الرفع في القافية
تدل على الصفة وتعطي الكلمة معناها الذي يلائم الوزن ويلائم الإعراب، وما أخطأ النابغة
حين قال «ضئيلةٌ ناقعٌ في أنيابها السم» … ولا هو بمخطئ في تأخير الصفة إلى مكان
القافية؛ لأنها — وهي مرفوعة — لا تكون إلا صفة موافقة لموصوفاتها أينما انتقل بها
ترتيب الكلم المنظوم.»
٣٦
الخطأ هنا خطا فهم قبل أن يكون خطأ لغة، والاختلاف هنا اختلاف ثقافة واختلاف منطق،
فالنحويون الموالي كانوا يقيسون اللغة بمقياسٍ آخر غير لغوي، ويعايرون العربية بمعيارٍ
غير عربي، وصدق فيهم قول أبي عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد: «ويلك يا عمرو، إنك ألْكن
الفهم …»، لاحظ أنه يصف عقله (أي منطقه) باللكنة، أي بالافتقار إلى الصبغة العربية؛
لأنه حفظ المنطق الأرسطي وغاب عنه المنطق العربي.
وهناك أبيات مشهورة للشاعر عمار الكلبي تترجم هذه الخصومة وتعبر عن جوهر هذا الصراع
بقوة وبراعةٍ منقطعة النظير. يقول عمار الكلبي وقد عاب أحد النحاة بيتًا من
شعره.
ماذا لقِينا من المستعربين ومن
قياس نحوِهم هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافيةً بِكرًا يكون بها
بيتٌ خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قالوا لحنتَ وهذا ليس منتصبًا
وذاك خَفْضٌ وهذا ليس يرتفعُ
وحرضوا بين عبد الله من حمقٍ
وبين زيدٍ فطال الضربُ والوجعُ
كم بين قومٍ قد احتالوا لمنطقهم
وبين قومٍ على إعرابهم طُبعوا
ما كل قولي مشروحًا لكم فخذوا
ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
لأن أرضي أرضٌ لا تُشَبُّ بها
نارُ المجوس ولا تُبْنَى بها البيعُ
تُصوِّر هذه الأبيات، ببراعة، عمق الخلاف بين الطرفين: الشعراء قومٌ مطبوعون على
فصاحتهم، والنحاة قوم متطبعون يحتالون لمنطقهم، الشاعر عربي الدم نشأ في أرض عربية غير
أعجمية لا تشب بها نار المجوس ولا تبنى البيع (إشارة إلى صراع الثقافتين)، «الشاعر
يتكفل بحياة اللغة وديمومتها، والنحوي يريد السيطرة على اللغة ولا يستطيع ملاحقتها في
تدفقها المستمر، فيسعى إلى تجميدها وإمساكها على وضعٍ لا يتغير، الشاعر يبحث عن مطالبه
والنحوي يبحث عن مطالبه، وهي مطالب لا يتم بينها اللقاء.»
٣٧ وهذه هي المغالطة النحوية المتأصلة منذ البداية، والتي جمدت اللغة وشلَّت
حركتها: قَلْبُ الأوضاع، وضع العربة أمام الحصان، رفع المعيارية على الوصفية.
وفي مقاله «النحو والمنطق الأرسططاليسي» يقول د. علي الوردي: «وبهذا صارت القواعد
النحوية في وضعها النهائي معقَّدة أو متشعبة جدًّا، فابتعدت عما تقتضيه السليقة الفطرية
من بساطة ووضوح. والذي يدرس القواعد النحوية الموجودة بين أيدينا دراسةً موضوعية يشعر
بأنها قواعد اصطناعية غير طبيعية، وليس من المعقول أن يتكلم بها بشر على هذه الأرض.»
أما د. تمام حسان فيقول في نهايات كتابه «اللغة بين المعيارية والوصفية»: «كانت دراسة
النحو في مبدئها وسيلة إلى غاية، ولكنها سرعان ما أصبحت غاية في ذاتها متعددة الوسائل
والطرق، كانت في مبدئها تقوم على الاستقراء والتقعيد، فأصبحت بعد زمن تقوم على القاعدة
والتطبيق، وخلف من بعد الرعيل الأول من رجالها خَلْفٌ وقفوا من النحو موقف المتكلمين
من
الدين: كان الدين سمحًا فطريًّا فجعله المتكلمون فلسفةً وقضايا منطقية، وكان النحو
سهلًا هينًا وصفيًّا فجعله النحاة فلسفةً وقضايا معيارية منطقية أيضًا.»
٣٨ بذلك يصدق قول الخليل بن أحمد، عن رواية الجاحظ في «الحيوان»: «لا يصل أحدٌ
من علم النحو إلى ما يحتاج إليه حتى يتعلم ما لا يحتاج إليه»، وكذلك قول ابن خالويه حين
طلب رجل أن يتعلم من العربية ما يقوِّم لسانه: «أنا منذ خمسين سنةً أتعلم النحو وما
تعلمت ما أقيم به لساني!»