التَّغيُّر اللُّغوي
التغير يحفظ نظام الأشياء، ويبقي العالم صبيًّا على الدوام.
الإنسان يحيا بالتغير، الحياة لم تعط له لكي يحفظها، بل لكي يغيرها.
يسير الزمن فتتغير حاجات الناطقين باللغة، وتتبدل الأجيال والأحوال، وأشكال الحياة وأنماط التفكير وأدوات العمل ووسائط المعلومات، تتغير اللغة بتغير الحياة، تتغير الأشياء وغطاؤها الرمزي.
(١) أسباب التغير اللغوي
(١-١) مبدأ الاقتصاد
(١-٢) مبدأ القياس
ويؤثر القياس أيضًا في تراكيب الجمل، فالنمط «فاعل – فعل – مفعول» في اللغة الأنجلوسكسونية كان ينطبق على العبارات الرئيسية فحسب بينما كان المفعول يسبق الفاعل في العبارات الفرعية أو التابعة، أما في الإنجليزية الحديثة فكلا الصنفين من العبارة يتخذ نفس النظام (فاعل – فعل – مفعول).
(١-٣) الاتصال بلغةٍ أخرى
من أسباب التغير في اللغة اتصالها بلغة أخرى من خلال الغزو أو الهجرة أو التجارة، ومن أهم صور التغير في حالة احتكاك اللغات «الاقتراض». فقد اقترض العرب، على سبيل المثال، ألفاظًا أعجمية من لغات كثيرة، عن طريق الاشتقاق والنحت والمجاز، أو عن طريق تعريب اللفظة الأجنبية إذا كانت تدل على معنًى اصطلاحي دقيق يخشى ضياعه في ثنايا اللفظ العربي.
(١-٤) تغير أشكال الحياة
(١-٥) تأثير الكتاب والمترجمين والمجامع العلمية
(١-٦) عوامل داخلية في ذات اللغة
ضروب التغير الدلالي
ثم أصبحت كلمة «سيد» تعني «الهاشمي»، وهي عند الإخوة الشيعة لقب للمرجع الشيعي العلمي، وفي العصر الحديث، وبعد تقليص الفوارق بين الطبقات وإلغاء الألقاب أصبح الناس جميعًا يلقبون ﺑ «السيد»، وصارت الكلمة لقبًا يسبق الأسماء جميعًا على سبيل الاحترام والتأدب، وقد استجدَّت في الفترة الأخيرة كراهة معينة لاستعمال هذه الكلمة في بعض الأوساط العربية المتحفظة.
(أ) توسيع المعنى (التعميم) Widening/Extension
-
كلمة Salary التي تعني الراتب، وهي كلمة من أصل لاتيني كانت تعني في بدايتها القديمة حصة الجندي من الملح، ثم صارت بمرور الزمن تعني مرتب الجنود، وانتهت في زمننا الحديث إلى أن تعني أي مرتب لأي عمل.
-
كلمة Picture كانت تطلق على اللوحة المرسومة، واتسع معناها الآن ليشمل أي صورة بما فيها الصورة الفوتوغرافية.
-
كلمة Virtue (الفضيلة) كانت في اللاتينية صفة ذكورية، فاتسع معناها لتشمل كلا الجنسين.
-
كلمة Barn كانت تعني «مخزن الشعير»، ثم صارت تعني مخزن أي نوع من الحبوب، وربما على أي مخزن لأي شيء.
-
كلمة Manuscript (حرفيًّا أي مخطوط باليد) تتسع الآن لأي مخطوط مكتوب باليد أو مطبوع بالآلة الكاتبة.
-
كلمة Dog كانت قديمًا تعني سلالة معينة من الكلاب، وصارت الآن تشمل جميع السلالات.
-
كلمة Girl كانت تعني طفلة صغيرة، وقد اتسع معناها ليشمل أيضًا أي امرأة من أي عمر.
-
كلمة Arriver الفرنسية كانت تدل في الأصل، كما تشير بنيتها، على الوصول إلى الشاطئ، ثم صارت تستعمل في كل وصول.
-
القافلة: في الأصل هي الرفقة الراجعة من السفر، يقال «قفلت» أي رجعت فهي قافلة، وقفل الجند من مبعثهم، ولا يقال لمن خرج من مكة إلى العراق قافلة حتى يصدروا (أدب الكاتب). ويقول ابن الأنباري: «القافلة عند العرب الرفقة الراجعة من السفر، والعامة تظن أن القافلة في السفر ذاهبة كانت أو راجعة»، ويقول ابن الجوزي: «وتقول للرفقة الراجعة من السفر قافلة والعامة تقول لمن ابتدأ أو عاد»، ويقول البغدادي: «القافلة هي الراجعة، فأما الذاهبة فالسفر، ولا يقال قافلة إلا بطريق التفاؤل»، ويقول الجواليقي: «سميت قافلة تفاؤلًا بقفولها عن سفرها الذي ابتدأته، وما زالت العرب تسمي الناهضين في ابتداء الأسفار قافلة تفاؤلًا بأن ييسر الله لهم القفول وهو شائع في كلام فصحائهم» (اللسان، مادة قفل). وبذلك يكون الجواليقي مخالفًا لما أقره العلماء، غير أن رأيه صحيح على سبيل المجاز، وعلى سنة العرب في كلامها. وقد سارت اللغة في السبيل التي ارتآها، وكلنا يستعمل لفظة «القافلة» الآن لرفقة السفر ذاهبة كانت أو راجعة.٢٧
-
الوِرد: في الأصل إتيان الماء، ثم اتسع معناها ليشمل كل شيء.
-
الوَرد: تطلق على ذلك الصنف المعروف من الأزهار، وقد اتسع معناها وصارت تطلق أيضًا على كل زهر.
-
حمة: هي في الأصل سم العقرب وضرها، وقد صارت تستعمل لشوكتها وسمها وضرها معًا.
-
العربة: كانت مقصورة على العربة التي تدفع باليد أو تجرها الدواب، وصارت تشمل كل السيارات الآلية.
-
اللبن: كان يخص لبن الناقة والشاة وغيرهما من الدواب، (أما الذي ترضعه الأم ابنها فهو لِبان)، وقد تطور معنى اللبن ليشمل الناقة والشاة والمرأة المرضع التي كان يختص بها اللبان.
-
النجعة: أصلها طلب الغيث، ثم صار كل طلب انتجاعًا.
-
الرائد: في الأصل طالب الكلأ، ثم صار طالب كل حاجة رائدًا.
-
البأس: في الأصل الحرب، ثم كثر استخدامه في كل شدة.
(ب) التضييق (التخصيص) Narrowing
من أمثلة التضييق في الدلالة
-
كلمة Mete في الإنجليزية القديمة كانت تشير إلى الطعام أو الغذاء بصفةٍ عامة، وما زال أثر المعنى العام في كلمة Sweetmeat (مربى أو حلوى)، وقد ضاق معناها الآن ليخص صنفًا واحدًا من الطعام.
-
كلمة Hound الإنجليزية كانت في الأصل تشير إلى جميع الكلاب، وقد ضاق معناها الآن ليخص نوعًا بعينه منها.
-
كلمة Pill الإنجليزية تعني «قرص» من أي نوع، وقد صارت في الولايات المتحدة تعني أقراص منع الحمل بخاصة، واحتفظ للمعنى العام لفظ Tablet.
-
كلمة Poison (سُم) الإنجليزية كانت تعني «الجرعة من أي سائل».
-
كلمة Corpse الإنجليزية كانت تعني ما يعنيه أصلها اللاتينية Corpus أي «الجسم» البشري أو غير البشري، حيًّا أو ميتًا، وقد ضاق معناها ليخص جثة الإنسان الميت.
-
كلمة Shtraf الروسية، المأخوذة من الألمانية، كانت تعني «العقوبة» بصفةٍ عامة، ثم ضاق معناها لتدل على «الغرامة المالية» فحسب.
-
حريم: كانت في الأصل تدل على كل محرم لا يُمس، ثم أصبحت تدل على النساء.
-
العيش: ضاق معناها لتدل على «الخبز» (في مصر)، وعلى «الأرز» (في بعض البلاد العربية).
-
فاكهة: كان معناها في الأصل «الثمار كلها»، ثم تخصص معناها ليقتصر على ثمار معينة مثل العنب والموز والبرتقال والتفاح … إلخ.
-
مأتم: في الأصل تعني اجتماع الناس، نساءً ورجالًا، في الخير والشر، في الفرح والحزن، وقد ضاق معناها لتعني اجتماع النساء للموت، وهي الآن تعني اجتماع الناس في الأحزان.
-
طَرَب: كانت تعني خفة تعتري المرء في الفرح أو الحزن، يقول النابغة الجعدي:
وأراني طرِبًا في إثرهمْطربَ الوالهِ أو كالمختبلْويقول المتنبي:
لا يملك الطرِبُ المحزون منطقهودمعَه وهُما في قبضةِ الطرَبِوالطرب في البيتين يعني الحزن، وقد تطور معنى الطرب وسقط منه ملمح الحزن واستبقي ملمح الفرح، وصارت الكلمة تعني الفرح فحسب، أو اهتزاز النفس للجمال من نغم أو تعبير.
-
وعد: وكانت تستعمل في الخير والشر أيضًا (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (الحج: ٧٢))، وقد صارت الآن تستعمل في الخير فقط، واختصت كلمة «وعيد» بالشر.
-
حمام: كانت تطلق على ذوات الأطواق وما أشبهها كالفواخت والقَماريِّ واليمام والقَطا، ثم ضاق معناها ليدل على ذلك النوع بعينه من الطيور.
-
الرَّثُّ: هو الخسيس من كل شيء، ثم قصر مدلولها على الخسيس مما يفرش أو يُلبس.
-
المُدام: في الأصل كل ما سكن ودام، ثم شاع استعمالها في الخمر لدوامها في الدن، أو لأنه يُغلى عليها حتى تسكن.
(ﺟ) التحول (النقل) Shift
-
كانت كلمتا «ملاحة» Navigation و«ميناء» Port مقصورتين على مجال السفن أو المجال البحري والنهري، وقد انتقل معناهما الآن ليشمل المجال الجوي والبري، ويمكن أن يعد هذا أيضًا ضمن «التوسيع» الدلالي Widening.
-
كلمة Bead (خرزة) كانت في الإنجليزية القديمة Gebet وتعني التضرع والدعاء، إذ كان الكهنة الكاثوليك يعدون تسبيحاتهم وأدعيتهم على حبات منظومة في خيط، ثم صارت Bead أو Bede في الإنجليزية الوسيطة تدل على المعنيين: دعاء، وحبات عدِّ الأدعية.
-
شنب: كانت تعني جمال الثغر وصفاء الأسنان، يقول ذو الرمة:
لمياءُ في شفتيها حُوَّةٌ لَعَسٌوفي اللِّثاثِ وفي أنيابها شَنَبُوصارت الكلمة الآن تعني الشارب عند العامة.
-
السُّفرة: كانت تعني الطعام الذي يصنع للمسافر، وصارت تعني المائدة وما عليها من الطعام.
-
طول اليد: كان يكنى به عن السخاء، وصار يكنى به عن الميل إلى السرقة.
-
التنزُّه: كانت في الأصل تعني «التباعد» عن الأقذار، وأحيانًا عن المياه والريف! وقد تطورت الآن لتعني البعد عن الصخب والفلوات إلى البساتين والخضر.
-
القطار: هو في الأصل عدد من الإبل على نسقٍ واحد تستخدم في السفر وفي النقل، وقد تغيَّر الآن معناها لتطور وسائل النقل.
(د) الاستعمال المجازي Figurative use
وهو تحول في المعنى قائم على مماثلة أو مشابهة بين الأشياء.
-
كلمة Crane (كركي) وهو طائر طويل العنق، وتستعمل الآن لتعني الرافعة أيضًا.
-
كلمة Bureau (مكتب) كانت في الأصل تدل على نوع من نسج الصوف الغليظ، ثم أطلقت على قطعة الأثاث التي تغطى بهذا النسج، ثم على قطعة الأثاث التي تستعمل للكتابة أيًّا كانت، ثم على الغرفة التي تحتوي على هذه القطعة من الأثاث، ثم على الأعمال تعمل في هذه الغرفة، ثم على الأشخاص الذين يقومون بهذه الأعمال، ثم على أية مجموعة من الأشخاص تقوم بإدارة إحدى الإدارات أو الجمعيات.٣٠
- (١)
المجاز الحي: الذي يظل في عتبة الوعي، ويثير الغرابة والدهشة عند السامع.
- (٢) المجاز الميت، أو الحفري Fossil: وهو النوع الذي يفقد مجازيته ويكتسب الحقيقية من الأُلفة وكثرة التردد.
- (٣) المجاز النائم، أو الذاوي Faded: ويحتل مكانًا وسطًا بين النوعين السابقين، والفرق بين المجاز الميت والمجاز النائم هو — جزئيًّا — سؤال عن درجة الوعي اللغوي.»٣٢
أمثلة أخرى
-
المجد: معناه الأصلي امتلاء بطن الدابة من العلف، ثم كثر استخدامه مجازًا في الامتلاء بالكرم وطيب السمعة وبُعد الصيت، وانقرض معناه الأصلي، وأصبح حقيقة في هذا المعنى المجازي.
-
الأفَن: هو قلة لبن الناقة، وانتقل إلى نقص العقل.
-
الوغَى: هو اختلاط الأصوات في الحرب، وانتقل إلى الحرب نفسها.
-
بنى الرجل على امرأته: عبارة كانت كناية عن دخوله بها؛ لأن الشاب البدوي كان إذا تزوج يبني له ولأهله خباءً جديدًا، وقد فقدت الآن معناها الأصلي لانقراض هذا النظام، وإن كانت لا تزال تستخدم كنايةً عن الزفاف.
-
الراوية: تعني في الأصل الجمل الذي يحمل قربة الماء، وقد صارت تعني القربة نفسها (مجاز مرسل) لعلاقة المجاورة بين البعير الذي يحمل الماء في آنيته وبين الإناء المحمول.
-
البريد: في الأصل الدابة التي تحمل عليها الرسائل، ثم تطور مدلولها لتُطلَق على الرسائل المنقولة، وعلى النظم والوسائل المتخذة لهذه الغاية في العصر الحاضر.
-
الغفر، والغفران: من الستر، وانتقل إلى الصفح عن الذنوب.
-
ساق الرجل إلى المرأة مهرها: كان هذا التعبير يستخدم قديمًا حينما كان المهر عددًا من الأنعام، ولكن بعد أن تغير العُرف وصار المهر نقودًا أُعطي الفعلُ معنًى أوسع واحتفظ بحيويته.٣٣
-
لسان القوم (أو المتحدث باسم …): صار يستعمل بمعنى المتكلم عن قومه أو مؤسسته، على سبيل المجاز المرسل (إطلاق اسم الجزء على الكل).
(١-٧) الانحطاط الدلالي Deterioration/pejoration
-
كلمة Sir وLady: هي في الأصل ألقاب شرف رفيعة لا تحظى بها إلا الطبقة العليا أو من تمنحه الأمة هذا اللقب تقديرًا لمكانته الاستثنائية (مثل سير كارل بوبر)، غير أنه شاع إطلاقها اليوم على الأشخاص العاديين نتيجة التغيرات الكبيرة الاجتماعية والسياسية التي شهدتها أوروبا في العصر الحديث.
-
كلمة Constable كانت تعني «كونت الاصطبلات»، وهي شخصية سامية كانت توجد في البلاط الملكي في أوروبا في العصور الوسطى، هذه الكلمة ما تزال تحتفظ بمكانتها الراقية في مثل: Chief Constable (رئيس الشرطة)، ولكنها فقدت هذه المكانة في Police Constable (كونستابل شرطة).٣٤
-
كلمة Notorious كانت في الأصل تعني «مشهور»، ثم انحدرت دلالتها وصارت تعني «مُشَهَّر» أي مشهور بشيء قبيح.
-
كلمة Dogmatic في الأصل تعني «ذو اعتقاد راسخ»، وكانت كلمة Dogma تعني عقيدة أو مبدأ هاديًا ومرشدًا، وقد انحدرت دلالتهما واقتصرت على اليقين المتصلب الجازم اللاعقلاني.
-
كلمة Skeptic تأتي من الكلمة اليونانية القديمة Skeptikos التي تعني «متسائل» أو «مستعلم» Inquiring، أي الشخص الذي يسأل ويلتمس الإجابات ولم يصل بعد إلى اعتقاداتٍ راسخة، ثم تغير معناها وصارت تعني «الشاكَّ» أو «المرتاب».
-
حاجب: كانت تعني في الدولة الأندلسية «رئيس الوزراء»!
-
أفندي: تركية كانت تعني في الأصل مركزًا رفيعًا ومنصبًا مرموقًا.
(١-٨) «الارتقاء» أو «التحسُّن» الدلالي Melioration/Amelioration
-
كلمة Marshal الإنجليزية (مشير): كلمة من أصل جرماني معناه السايس أو خادم الإصطبل أو الغلام الذي يتعهد الأفراس (Mares).
-
كلمة Angel كانت تدل على «الرسول» الذي يشبه «موزع البريد» في أيامنا، ثم رفع الفقهاء هذا اللفظ باستعماله للدلالة على الكائن الوسيط بين العقل الإلهي والعقل الإنساني.٣٥
-
كلمة Knight التي تعني الآن لقب «فارس» أو «سير»، وكانت تعبر في فروسية القرون الوسطى عن مركزٍ مرموق، وقد انحدرت إلى اللغات الأوروبية من معنًى أصلي هو «ولد خادم».٣٦
-
كلمة Minister (وزير) كانت قديمًا تعني «خادم» (ولا تزال تستعمل كفعل بمعنى يسعف أو يعين أو يقدم خدمة).
-
كلمة Wicked بمعنى شرير أو خبيث، صارت في السياقات العامية تعني «ذكي» أو «متألق» أو كقولنا في عاميتنا «شاطر».
-
كلمة Mischievous (مؤذٍ) فقدت كثيرًا من حدتها وصارت تعني «مزعج بظُرف ومرح» أو كقولنا في عاميتنا «شقي».
-
كلمة Nice (لطيف) تنحدر من كلمة فرنسية قديمة بمعنى «غبي» أو «أحمق».
-
بيت: في الأصل هو المسكن المصنوع من الشَّعر، ثم صار يعني كل بيت حتى «البيت الأبيض»!
(٢) مغالطة التأثيل (الإتيمولوجيا)
وقد سبق أن عرضنا لمنطق التأثيليين في حديثنا عن محاورة كراتيلوس في فصل طبيعة اللغة، وتبينَّا أنهم يعتقدون بوجود علاقة طبيعية (غير اصطلاحية) وضرورية بين الدالِّ والمدلول، وأنهم بالتنقيب في الماضي عن أصل الكلمة والكشف عن معناها الحقيقي إنما يصلون إلى حقيقة من حقائق الطبيعة، أو يميطون اللثام عن «ماهية» الشيء الذي تدل عليه الكلمة!
والحق أن التأثيل منهج مستخدم اعتمد عليه الكثير من اللغويين اعتمادًا كبيرًا، وبخاصة في القرن التاسع عشر، حيث أقيم على أُسسٍ أمتن مما كان عليه قبل ذلك، وما زال مستخدَمًا حتى الآن، ويعد فرعًا معتبرًا من اللسانيات التاريخية (الدياكرونية)، وله دعائم منهجية خاصة تتوقف على كمية الشواهد المؤيدة ونوعها، إلا أنه بات واضحًا للتأثيليين في القرن التاسع عشر، وسلم به اللسانيون عامة في الوقت الحاضر، أن معظم كلمات المعجم في أي لغة لا يمكن أن تُعزَى إلى أصولها، وقد انتكس المنهج التاريخي بعد دعوة دي سوسير إلى الفصل بين الدراسات التزامنية (السينكرونية) والدراسات التاريخية (التعاقبية/الدياكرونية)، وكرَّس مبدأ «اعتباطية العلامة اللغوية» على نحوٍ نهائي حاسم، ومنح الصدارة للسينكروني على الدياكروني، ولفت الانتباه إلى أهمية الدراسة الوصفية التي تقتصر على النظر إلى «حالات» اللغة، وضرورة استبعاد العامل التاريخي عند دراسة «حالة» من حالات اللغة، فاللغة عند سوسير هي مجرد نسق أو نظام وتؤدي وظيفتها باعتبارها «بنية» لا تنطوي في ذاتها على أي بُعد تاريخي، من ذلك أن تاريخ كلمةٍ ما كثيرًا ما يكون بعيدًا كل البعد عن أن يفيدنا في فهم المعنى الراهن لهذه الكلمة.
وبعدُ، فحين يحاجُّ المرء بأن دعواه صائبة لا لشيءٍ إلا لأن الأصل اللغوي نفسه للكلمة يفيد ذلك — فإنه يقع في ضربٍ من الاستدلال الدائري. وفضلًا عن ذلك فإن افتراض أن الكلمات يجب أن تبقى لصيقةً بمعناها التاريخي الأول هو افتراض ينطوي على إغفالٍ عبثي للطبيعة الاصطلاحية للغة، وتقييد لا مبرر له لنموها وتطورها.
(٢-١) قُلْ وقُلْ وقُلْ
يوشك هواة قل ولا تقل أن يغادروا الناس وهي لا تقول ولا تقول.
ماذا يعني أن تقول في اللغة: «هذا خطأ»؟
اللحن
بعد أن اختلط العرب بالأعاجم بدأ اللحن يظهر على ألسنتهم؛ فكانت ردة الفعل الطبيعية من جانب العلماء استهجان هذه الحال والتنادي لوضع حد لها، من هنا نشأت حركة تصحيح لغوية كبيرة تنبه على الأخطار وتشير إلى وجه الصواب، وأثمرت عددًا كبيرًا من الكتب التي عرفت باسم «كتب اللحن»، وقد أشرنا إلى بعضها فيما سبق.
-
اختلاط الفصحى بغيرها من اللغات.
-
إقدام الكثير من الرواة على وضع الشعر واختلاقه؛ لإثبات قاعدة نحوية أو صرفية، أو لنصرة مذهبٍ سياسي أو كلامي أو لغوي.
-
وقوعه من ذوي الشأن كالخلفاء والوزراء والعلماء، والتماسهم من ينقذهم من وهدته.
-
تنازع النحاة في المسألة الواحدة. ومن شأن ذلك أن يشجع اللاحنين على ما هم فيه ما داموا يجدون من يلتمس الشاهد أيًّا كان ويصوِّب الفاسد ويقوِّي الضعيف.
-
اغتفار اللحن في مواقف خاصة.
-
الاضطراب الاجتماعي والسياسي.٤٩
- عدم السماع: أي عدم ورود اللفظة عند العرب الفصحاء في عصر الاحتجاج. ولهذا المعيار عيبان أساسيان: (١) فهو يقصر في كثير من الأحيان أمام حاجة العصر للألفاظ الجديدة، وقد أحسن مجمع اللغة العربية المصري صنعًا عندما حرر السماع من قيود الزمان والمكان، ليشمل ما يُسمع اليوم من طوائف المجتمع كالحدادين والنجارين وغيرهم من أصحاب الحرف والصناعات، وأجاز الاعتداد بالألفاظ المولدة وتسويتها بالألفاظ المأثورة عن القدماء.٥٠ (٢) وهو يقتضي من يتخذه أن يكون مطَّلعًا على كل ما ورد عن العرب، وهذا شبه مستحيل، وفيه كثير من المجازفة.
- عدم القياس: القياس هو رد الشيء إلى نظيره، وقد روي عن الخليل وسيبويه قولهما «ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم»، وقد أجاز مجمع اللغة العربية بالقاهرة الأخذ بمبدأ القياس، ثم أطلقه ليشمل ما قيس من قبلُ وما لم يُقَس، وقد قسم ابن جني كلام العرب من حيث الاطراد والشذوذ إلى: (١) مطرد في القياس والاستعمال جميعًا، مثل: قام زيد، ضربت زيد، مررت بسعيد. (٢) مطرد في القياس شاذ في الاستعمال: مثل الماضي من «يذر» و«يدع». (٣) مطرد في الاستعمال شاذ في القياس: مثل: استصوبت الأمر، ولا يقال استصبت، ومثل: استحوذ، واستنوق الجمل، واستفيل الجمل واستتيست الشاة. وهذا الضرب من الكلام لا بد من اتباع السمع الوارد به فيه نفسه، لكنه لا يتخذ أصلًا يقاس عليه غيره. (٤) شاذ في القياس والاستعمال جميعًا: كتتميم مفعول فيما عينه واو، مثل: ثوب مصوون، ومسك مدووف، وحكى البغداديون: فرس مقوود ورجل معوود من مرضه،٥١ وقد أحسن ابن جني إذ لم يخطِّئ إلا ما شذ في القياس والسماع معًا.
- عدم ورود اللفظة في المعاجم: وهو معيار فيه مجازفة أيضًا لأن المعاجم لم تحط بكل ما قالته العرب. يقول أمين ظاهر خير الله في كتابه «الرأي الحاسم في الكلام الذي خلت منه المعاجم» (المطبعة العلمية، بيروت، ١٩٣٢): «هذا جانب صغير مما أغفلت المعاجم ذكره، ولو اتسع لي المقام لجئت بمئات من الأفعال والأسماء وردتْ في كلام أمراء الشعر والنثر ولم يرد الجلاء عنها في المعاجم.»٥٢
- الاستناد إلى اللغة الأفصح: ويعنون بالأفصح دائمًا المأثور السائر الرائج بين الفصحاء، ولكن «الغريب» و«الشاذ» و«القليل» و«النادر» جزء من ثروة اللغة، ولا خلاف في كونه من أسلم كلام العرب، فقد ورد في القرآن والحديث وشعر العرب ونثرهم، وقد تكون ندرته منسوبة إلى زمانٍ معين أو مكان معين، كما أن الحكم بالشذوذ والندرة والقلة فيه مجازفة لأنه يستدعي قراءة التراث كله، وما نحكم عليه بالشذوذ قد لا يكون كذلك لو وصل إلينا كل ما قالته العرب. وقد كان البصريون يبنون قواعدهم على الغالب الأعم من اللغة ويئوِّلون ما يرونه شاذًّا أو نادرًا أو قليلًا، بينما كان الكوفيون يقيسون هذا الشاذ أو النادر، وقد ثبت في كثير من المسائل صحة ما ذهب إليه الكوفيون: مثل إجازة النسبة إلى الجمع، وإضافة مضافين إلى مضاف إليه واحد، وتقديم التمييز على عامله إذا كان فعلًا متصرفًا، وجواز تعريف العدد المضاف إضافة معنوية ﺑ «أل» … إلخ.٥٣
- الاستناد إلى قواعد النحو والصرف: ولكن هذه القواعد نفسها لا تخلو من الفساد في بعض الأحيان! وخاصة عندما منع النحاة اشتقاق وزن «فاعل» من «فَعُل»، أو جمع «فَعْل» على «أفعال»، ومجيء «كافة» إلا حالًا، ودخول «أل» على «بعض»، وإضافة مضافين إلى مضاف إليه واحد، واشتقاق أفعل التفضيل من اللون … إلخ، وغير ذلك مما أثبت الاستقراء اللغوي السليم صحته.٥٤
- رفض المولَّد: أي الذي استعمله الناس بعد عصر الرواية، وهو معيارٌ يفضي إلى تحنيط اللغة في ألفاظها ومعانيها، فكل لفظ قديم كان ذات يوم «مولَّدًا» إن جاز التعبير، وقبول المولَّد سنَّة طبيعية في اللغات جميعًا، ومظهر حيوي للغة يساعد على بقائها ونمائها وتطورها.
(٢-٢) المستوى الصوابي
والأفراد يكتسبون اللغة من بيئتهم وفي عصرهم الذي عاشوا فيه، ومن ثم فإنهم يراعون اللغة كما تُنطَق في عصرهم لا كما تُنطق في عصورٍ سبقت، ولا كما ينبغي أن تنطق وفق نموذجٍ مثالي لعصرٍ ذهبي غيَّبته الأيام، اللغة في تغير مستمر، وقد يكون هذا التغير بطيئًا لا يتضح إلا بمرور جيل أو أجيال، ولكنه يحدث، ولا ينفيه بطء حدوثه، ونحن إذ نفترض الثبات اللغوي فإنما نفعل ذلك لدواعي التشريح والدراسة، وبغية اقتناص «حالة لغوية» سينكرونية لضرورة الرصد والتقعيد، بينما اللغة في حركةٍ مستمرة والعرف اللغوي في تغيرٍ دائب، الثبات اللغوي إذن ليس أكثر من حيلةٍ إجرائية ووهمٍ عملي.
ليس هذا الحديث دعوةً إلى إلغاء القواعد والانصراف عن جهات الاختصاص اللغوي، بل دعوة إلى أن تراعي جهات الاختصاص طبيعة القواعد ومنشأها وحركتها، بحيث تأتي القواعد متفقة مع استعمال اللغة وتطورها وتبرأ من التعسف والجمود، وتأتي المقترحات الجديدة متوافقة مع طبيعة اللغة، بوصفها ظاهرةً اجتماعية تخضع للعرف الاجتماعي العام والعرف اللغوي الخاص، ولا تكون محاولات دونكيشوتية تحارب في غير ميدان، ومماحكات تكد الذهن في غير طائل.
لقد توقَّف النحاة في تقعيداتهم عند زمنٍ معين لا يتجاوزونه، بينما اللغة الحقيقية تمضي في سبيلها غير عابئةٍ بهم، توقفت القواعد بينما العرف اللغوي يتغير مع الزمن، فاتسعت الفجوة بينهما وصارت هوة، هذا ما أربك الفصحى وصعَّب قواعدها وجعلها أشبه بلغةٍ أجنبية في دراستها وفي استخدامها.
خطأ مشهور
تاريخ اللغة ليس سوى تاريخ الأخطاء اللغوية فيها!
شرعية اللغة الشيوع.
ومن ثم فإن عبارة «خطأ مشهور» شأنها شأن «مربع مستدير» … تناقض ذاتي! فإذا ما وجدتَ الخطأ المشهور أكثر جمالًا ووضوحًا وإبانة، فاعلم أن شهرته مشروعة مستحقة: الجمال، والوضوح، والإبانة. وماذا يكون «الصواب» أكثر من ذلك؟! «خطأ مشهور» هي ذاتها خطأ مشهور!
(٣) تصويب الفكر قبل الكلمات
(٣-١) أمثلة من تصحيح الصحيح
أما وجد هذا لبيتي مخرجًا في العربية؟!
أكثر اللغة مجازٌ لا حقيقة.
لماذا كان العربي القديم يتكلم بسجيةٍ تعنو لها القواعد وتأتي بعدها ووراءها وعلى قدِّها، حتى لقد شُرع السماع وأصبح الذوق قواعد، بينما قلبنا نحن الآية وبدأنا بالقواعد نَتحنَّثُ في محرابها ونطوِّع لها الذوق، حتى ضجر الناس من العربية، وانفضوا عن الخطأ والصواب، وفقدوا الذوق والقواعد؟!
متحف
يقولون: قل مُتحف بضم الميم ولا تقل متحف بفتحها؛ لأنه اسم مكان لموضع التحف الفنية، والأصل «أتحف» الرباعي وليس «تحف» الثلاثي الذي لم يرد، وعليه يكون اسم المكان هو «مُفعَل» بضم الميم وفتح العين.
والآن علينا أن نسجِّل أولًا أن كلمة «مُتحف» بضم الميم ثقيلة الظل تشارك بسهمٍ في كراهة اللغة العربية والازدراء بها والضحك عليها، وكلنا يحس بعد نطقها بوعكةٍ لا يدري كنهها، فاستفتِ قلبك فيها وإن أفتاك الناس. ثم علينا أن نتساءل: لماذا كان ذلك؟ والجواب، ببساطة؛ لأنها خطأ، ولأنها غير ما نعنيه جميعًا إذ ننطق بهذه الكلمة البسيطة ونعني بها المكان الذي تجمع فيه التحف لا المكان الذي تعطى فيه وتمنح (وهو ما لا يحدث في دور الآثار!)، إنها موضع «التحف» لا «الإتحاف». وللأستاذ الدكتور محمد كامل حسين، عضو المجمع اللغوي، وقفة عزٍّ مع هذه الكلمة وغيرها، يخلص منها إلى دروسٍ لغوية ثمينة. يقول سيادته في مجلة المجمع، ج٢٢، ١٩٦٧: «والمتحف» بضم الميم كلمةٌ سقيمة سيئة المبنى، وهي خطأ، وليس لها من العربية إلا انطباقها على قاعدةٍ صرفية، وقد سبق أن وصفت الكلمات المهجورة بأنها من ورق أهل الكهف، صحيحة ولكنها غير قابلة للتداول، أما كلمة «مُتحف» فهي من العملة المزيفة التي ليس لها من العربية إلا مظهرها، وقد جاء في «معجم الصواب اللغوي» أن مجمع اللغة العربية اعتمد على كثرة اشتقاق العرب من الأسماء الجامدة مثل «أثَّث» بمعنى وطَّأ، و«تبغدد» بمعنى انتسب إلى بغداد أو تشبه بأهلها، و«تفرعن» بمعنى تخلق بخلق الفراعنة، فأقرَّ الاشتقاق من أسماء الأعيان من غير تقييد بالضرورة لما في ذلك من إثراء للغة، وكان قد أقرَّ أيضًا جواز تكملة فروع مادة لغوية لم تُذكر بقيتها في المعاجم. وقد أقر المجمع استعمال كلمة متحف بضم الميم وفتحها: بالضم على أنها اسم مكان من «أتحف» وبالفتح على أنها اسم مكان مشتق من الفعل الثلاثي «تَحَف» المأخوذ من كلمة «تحفة».
تقييم
إنما هو للجنوح إلى خفة الياء مع أدنى سبب.
يقولون: لا تقل «تقييم» (الثمن، السلعة، العمل …)، وقل «تقويم»، ولا تقل «يقَيِّم» وقل «يُقَوِّم»؛ لأن الفعل واوي، أما كلمة «قيمة» فياؤها منقلبة عن واو، وفي الإعلال أن كل واو تقلب ياءً إذا كانت ساكنة وكُسر ما قبلها.
ومن هذا الباب كلمة «تَرَيَّضَ» بمعنى «خرج للتنزه»، فقد رفضها من رفض لأن الكلمة واوية، غير أن معجم «الأساسي» ذكرها بمعنى خرج للمشي على سبيل الرياضة، وقد تبين لنا الآن أنها صحيحة بالاشتقاق المباشر من كلمة «الرياضة»، مثلما أن «التقييم» صحيحة بالاشتقاق من كلمة «القيمة».
نفس، وعين
يقولون: لا تقل «جاء نفس الرجل»، والصواب «جاء الرجل نفسه»؛ لأن كلمتَي «نفس، وعين» إذا كانتا للتوكيد وجب أن يسبقهما المؤكد، وأن تكونا مثله في الضبط الإعرابي، وأن تضاف كل واحدة منهما إلى ضمير مذكور حتمًا، يطابق هذا المؤكد في التذكير والتأنيث والإفراد والتثنية والجمع.
ونقول: نعم، لنلتزم بذلك وسعنا فهو أقوم وأسعد، ولكن أسبقية التوكيد تكون أوضح وأسمح في سياقات معينة، فلمَ التضييق ومجال القول ذو سعة؟ ولماذا لا نطاوع ضغط اللغة المحكية والأجنبية وكلتاهما تقدم التوكيد على المؤكد؟ العقل نفسه، والخاطر والشعور، كثيرًا ما يقدم التوكيد على المؤكد! وفي سياقات معينة تُوقِعنا القاعدة القديمة في اللبس والاضطراب، وبخاصة حين يكون المؤكد مضافًا، يعرف ذلك كلُّ من له باع في الترجمة: هبني أريد أن أؤكد: بنود الوصية، أو درجات الطالبة … إلخ، هل أقول «في بنود الوصية نفسها»، و«على درجات الطالبة نفسها»، أرأيت إلى الالتباس؟ تراني أؤكد هنا البنود أو الوصية؟ الدرجات أم الطالبة؟ ويزداد الأمر اضطرابًا إذا تَعَقَّدَ السياق: «بنود وصية السيدة نفسها»، «درجات طالبة الدفعة نفسها»، هذه عقدة جوردية، حلها بسيط جدًّا: أن نقطع القاعدة بحد السيف، ونقول: يجوز تقديم التوكيد على المؤكد إذا حكم التعبير واقتضى الحال وساغ النغم.
-
ابن جني في الخصائص: «إنما هو منصوب بنفس عليك …» (ج١، ص٢٨٤)، «لا لشيء رجع إلى نفس، أو» (ج١، ص٣٤٩)، «وهذا نفس الحق» (ج٣، ص٢٦).
-
د. طه حسين: «وإخضاعي إياه لنفس المُثلة» (في ترجمة كتاب ثيسيوس وأوديب لأندريه جيد، ص١٤٨).
-
د. شوقي ضيف: «يتخذون نفس لغات العلوم …» (توحيد المصطلح العلمي في النقل والتعريب، مجلة مجمع اللغة العربية ج٤٥، ١٩٨٠).
-
د. أحمد درويش: «هي نفس الفصحى …» (لإنقاذ الفصحى من أيدي النحاة، قضايا فكرية، العدد ١٧-١٨، ١٩٩٧، ص٨٣).
هام/مهم
تخرج من المعهد
والآن لنخلع عصابة الزَّمْت: نعم لقد تخرج «في» المعهد أو الكلية بالتأكيد، ولكن ماذا عن «يوم التخرج» أو «تاريخ التخرج» الذي نعني به «اليوم» المحدَّد الذي نال فيه الشهادة التي تشهد بأنه قد تعلم في الكلية «سنوات»، فإذا قلنا: إنه قد تخرج «في» كلية الطب في السابع من يوليو عام ١٩٧٧ والتزمنا بتزمُّت المتزمتين فمعنى ذلك أنه تعلم فيها الطب في هذا اليوم الواحد، وهو باطل مُحال! ولماذا لا نضيف للغة غنًى وإمكانات دلالية جديدة فنقول: إنه «تخرج في» كلية الطب في التسعينات و«تخرج منها» في يوليو ١٩٩٧؟
زوج/زوجان
يقولون: لا تقل «اشتريت زوجًا من الأحذية» وقل «زوجين»؛ لأن الزوج في العربية هو الفرد المزاوج لصاحبه. جاء في كتاب «درة الغواص» للحريري: «يقولون للاثنين: «زوج»، وهو خطأ؛ لأن الزوج في كلام العرب الفرد المزاوج لصاحبه، وأما الاثنان المصطحبان فيقال لهما: زوجان، كما قالوا: عندي زوجان من النعال … وكذلك يقال للذكر والأنثى من الطير: «زوجان»، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى … وقال: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ (هود: ٤٠)، أي ذكرًا وأنثى.»
كل هذا حسن وجميل، ولكن في سياقات معينة يكون ثقيلًا ومسترذلًا ومتعثرًا في الدلالة: هبني اشتريت سبع علبٍ من الأحذية لي ولأبنائي في كل علبة زوجان، أو هبني اشتريت ثلاث عشرة علبةً، فماذا أقول بالله عليك: اشتريت أربعة عشر زوجًا من الأحذية، أو ستة وعشرين زوجًا في الحالة الثانية؟ أهذا بربك يمكن أن يقال في الحياة الحقيقية؟ أليس هذا بثقيلٍ ملتبس الدلالة؟ أليس الأقرب للسليقة أن أقول اشتريتُ سبعة أزواج من الأحذية، ومفهوم أن كل زوج هو حذاءان اثنان وليس فرد حذاء بالطبع والبديهة؟! وماذا لو علمنا أن الصحاح واللسان والتاج ومد القاموس ومتن اللغة قد أجازت جميعًا أن يقال للاثنين: هما زوجان، وهما زوج؟ لماذا نضيق على العربية مجال الدلالة وفيها متسع، لماذا نقلص الدلالة وننقصها من أطرافها؟ ولمصلحة من نُفقر هذه اللغة الرَّخِيَّة الرحيبة؟ وأي طائلٍ دلالي أو جمالي نناله من وراء التضييق؟
لغتنا رَخِيَّةٌ سخية رحيبة: تجيز أن نستعمل المفرد بمعنى المثنى (اشتريت حذاءً جديدًا، خلع نعله، تحلَّت أذناها بقرط، ضعف الشيء أي مثلاه، رأيته بعيني …)، ونستعمل المثنى للمفرد (قفا نبك، قص شاربيه، يحمل همومه على كاهليه …)، والجمع للمفرد (قص شواربه، وأردف أعجازًا …)، والجمع للمثنى (فتوردت وجناته، ضحك ملء أشداقه، كحلت عيونها، عريض الأكتاف، مشى على أقدامه، قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا …).
منسوب الماء
ويقولون: لا تقل «منسوب الماء» والصواب: «مستوى الماء»؛ لأن المنسوب في العربية هو ذو الحسب والنسب، أو الشِّعر المنسوب أي الذي فيه نسيب أي غزل، أو الخط المنسوب أي ذو القاعدة. وأقول: لماذا لا نضيف هذا المعنى الجديد إلى المعاني القديمة؛ لدقته الدلالية وبخاصة في مجال العلم (منسوب الماء في البئر أو في النهر أثناء الفيضان أو منسوب السائل في المخبار …)، وكلها مختلفة في معناها عن مجرد «المستوى»: إنها «الارتفاع» الحاصل في المستوى محددًا ومقيسًا، لماذا نحبس الدلالة في حذاء صيني ونخنق العربية بأيدينا؟ لماذا نقف بالألفاظ حيث وقف الأسلاف ونوجس من توسيع الدلالة في زمنٍ تتسع فيه المعاني وتتفجر بلا توقف؟
يسري (الحكم)
استضاف
يقولون: لا تقل «يستضيف البرنامج الأستاذ …»، أو «استضافت القاهرة أعضاء المؤتمر»؛ لأن «استضاف» في العربية تعني: طلب من غيره أن ينزله عنده ضيفًا، أي طلب الضيافة، أو طلب أن يُضيَّف. يقول ابن المقفع: «إن استضافك ضيفٌ وأنت لا تعرف أخلاقه فلا تأمنه على نفسك.»
وتفيد صيغة «استفعل» في العربية معاني كثيرة أهمها الطلب: مثل استغفر اللهَ أي طلب غفرانه، ومثل استطعم واستكتب واستفتى واستعطف … إلخ، وإذا كان الطلب من جانب الضيف هو السائد في الثقافة العربية بحكم الظروف البيئية فلقد تبدلت أشكال الحياة وأصبح المضيف هو الذي يطلب الضيف، الطلب إذن ذو اتجاهين: فقد يكون من الضيف إلى المُضيف، وقد يكون من المُضيف إلى الضيف، أي من المضيف إذ يطلب ضيافة الغير عنده، أي «يستضيفه»؛ وعليه يجوز أن «يستضيف البرنامج الأستاذ …»، وأن «تستضيف القاهرة أعضاء المؤتمر».
استبدل ﺑ
اعتدَّ (بنفسه)
يقولون: لا تقل اعتد بنفسه وقل اعتز بنفسه؛ لأن اعتدَّ تعني أشياء أخرى مثل: صار معدودًا، اعتد الأمر لعبًا: حسبه وظنه، اعتد الشيء: أحضره، اعتد للشيء: تهيأ له، اعتدت المطلقة: دخلت في أيام عدتها، لا يعتد به: لا يهتم به.
وأقول: «الاعتداد» المقصود في هذا المقام غير «الاعتزاز» وأكثر رهافة وعمقًا، هو يعتد بنفسه أي يَقْدُرُها ويحترمها ويعتبرها ويَعُدُّها شيئًا، ألا تقول العرب: «هذا شيء لا يعتد به»؟ فلنضف إلى معجمنا هذا المعنى الجديد الشائع الراسخ، والجائز من ثمَّ والمشروع، أضف إلى ذلك أن «اعتد» جاء في الوسيط بمعنى اهتمَّ، وفي الأساسي بمعنى وثق بنفسه، وفي المنجد بالمعنييْنِ.
انطلى
يقولون: لا تقل «انطلت عليه الحيلة» والصواب «جازت عليه الحيلة»؛ لأن الفعل المطاوع «انطلى» لا وجود له في كلام العرب.
رغم
يقولون: لا تقل «فعل كذا رغم كذا»، ولا تقل «رغم فلان» أو «رغم أنف فلان». يقول د. جواد: واللغة العالية هي في استعمال «على»، أي «على الرغم من أنفه» و«على رغم أنفه»، ودونها لغة استعمال الباء أي «برغم»، وغير الفصيح هو قولهم «رغم»، وللشعر ضرورات لا تسوغ للناثر الحر المختار، فقل «على الرغم» و«بالرغم» ولا تقل «رغم» إلا في الشعر.
وأقول: إن استعمال «رغم» فيه اقتصاد وخفة وليونة، سواء جاءت في بداية العبارة أو في نهايتها، وكثيرًا ما يحتم هذا الاقتصاد استعمالها، وبخاصة إذا كان الوزن العروضي يحبذها. ألست ترى أن «على الرغم من» ليست أكثر من «رغم» وقد تعكَّنت وثقلت بلا أي مقابل دلالي يذكر؟! وقد اعترف د. جواد بسواغها في الشعر، غير أن للنثر موسيقاه وإيقاعه، كما بينت ذلك في موضعه (في فصل «مزايا العربية»)، ومن ثم فإن علينا إجازة كل ما يُثري جماليات الكتابة ويضع أمام الكاتب بدائل عديدة يختار من بينها الأنسب، ما دامت هذه البدائل صحيحةً فصيحة.
الرئيس/الرئيسي
جيب
أهمية هذا اللفظ أنه يمثل كلمة لم ترد بمعناها في كلام العرب؛ لسبب بسيط هو أنهم لم تكن لديهم جيوب في ملابسهم! فالجيب عند العرب هو طوق الثوب عند النحر، أي فتحة الثوب عند الرقبة، والجيب أيضًا الصدر أو القلب، وقد كانت العرب تضع الأشياء الثمينة في صدور ثيابها، وفي الذكر الحكيم: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ (النمل: ١٢)، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ (النور: ٣١)، أي صدورهن أو موضع القطع في القميص حيث يدخل الرأس.
لم تكن للعرب جيوب في ملابسهم. حسن، ولكن ماذا عن جيوبنا نحن التي في ملابسنا؟ ماذا نسميها؟ أين غطاؤها الرمزي؟ ما أظن أن هذا السؤال يعني المتزمت الذي وقف الزمن عنده في القرن الثاني أو الثالث الهجري.
لعب دورًا
مثل: «لعب دورًا مهمًّا في السياسة الخارجية.»
كتب الأستاذ العقاد رحمه الله هذا الكلام منذ أكثر من نصف قرن، وقد كان على حق في وقته، غير أن نصف قرن من السنين حدثت فيه تحولات وجرت مياهٌ كثيرة، وتطورت دلالة «اللعب» تطورًا عظيمًا، وأصبحت في جميع الثقافات معادلًا للأداء والممارسة، واتشحت بوشاح «الجد»، ودخل أنالوجي (مماثلة) «اللعب» في نظريات فلسفية كثيرة، وحتى الألعاب الرياضية أصبحت مؤسسات محلية ودولية هائلة، لديها تمويلات طائلة وفعاليات خطيرة.
قناعة
هل «كذا» أم «كذا»؟
يقولون: لا تقل هل كذا أم كذا؛ لأن «هل» لا تأتي بعدها «أم» المتصلة (وإنما تأتي بعدها «أو»).
غير أن استعمال «هل» لطلب التعيين قد شاع وانتشر بحيث لا يمكن رده، ويستخدمون بعدها «أو» لتجنب الخطأ، ولكن «أو» توقع في الالتباس وهو الخطأ بعينه! ولا حل لهذه العقدة إلا باتباع «ما ذهب إليه بعض النحاة من أن «هل» قد تكون بمعنى «الهمزة» فيعطف ﺑ «أم» بعدها: جاء في الحديث الشريف: «هل تزوجت بكرًا أم ثيبًا؟» وقال الشاعر:
بمثابة
كرَّس تكريسًا
يقولون: لا تقل «كرَّس نفسه للعلم»، والصواب «وقف نفسه للعلم، أو على العلم»؛ لأن «كرَّس» هنا لفظة دخيلة على العربية (يونانية)، أما في العربية فإن للفعل «كرَّس» معاني أخرى: كرس الأشياء: ضم بعضها إلى بعض، كرس البناء: أسسه، كرس اللآلئ والخرز: نظمها في خيوط، فهي مكرسة.
حار/احتار
بواسل
من الأفضل بالطبع ألا نجمع فاعلًا المذكر العاقل على فواعل إلا للكلمات الشهيرة الرائجة، حتى نحتفظ بفواعل للمؤنث العاقل (حوامل، عوانس، طوالق …) ونحفظ للغة فصاحتها ودقتها، وإنما ركزنا على هذه التخطئة لأنها تكشف لنا أن الادعاء بأن العرب لم تقل كذا فيه مجازفة، وتهيب بنا ألا نسارع بتخطئة الناس. وقد حسم المجمع هذا الأمر ﻓ «أجاز جمع فاعل، وصفًا لمذكر عاقل، على فواعل؛ وذلك لما ورد من أمثلته الكثيرة في فصيح الكلام، وقد ورد الجمع «فواعل» في شعر أورده ديوان الحماسة كقول الفرزدق:
كَلَل
كلنا يقول على السجية: «دون كلل» أو «لا يعرف الكلل»، ولا يخطر له أن هناك من يخطئون هذه الكلمة لأنها لم ترد في المعاجم القديمة، والمستعمل في العربية: الكلال والكلالة، أما الكلل والكِلَّة فمعناها الحالة، فيقال: بات فلان بكلل سوء، أي بحالة سوء، غير أن «السليقة» العربية تبقى غير مقتنعة: لماذا يجوز لي أن أقول «ملل» ولا يجوز أن أقول «كَلَل»، والمبدأ يقول: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب؟! لماذا يحظر علينا أن نقول: «دون كللٍ أو ملل»، ذلك التعبير السلس الرفيق المسعف؟
نوايا
يقولون: لا تقل «نوايا»، والصواب «نيات»، وأقول: نعم، جمع «نية» على «نوايا» فيه شذوذ ولم تقل به العرب، ولكن «نوايا» شائعة وسلسة (نفترض حسن النوايا) وميزانها الصرفي والعروضي مختلف عن «نيات»، فلماذا نتنازل عنها وهي تزيد من ثراء العربية التعبيري والموسيقي، لماذا نقطع هذه النبتة اللفظية الجميلة؟
صدفة
يقولون: لا تقل «قابلته صدفةً»، والصواب «مصادفة»؛ لأن «صدفة» لم ترد عن العرب، و«صادفه» وجده أو لقيه أو قابله، وهي لا تحمل معنى المفاجأة، تقول «صادف نجاحًا عظيمًا» أي لقي نجاحًا وإن كان متوقعًا، واستخدامها بمعنى اللقاء على غير موعد هو استخدام جديد مولَّد، أما الفعل «صَدَفَه» فمعناه «صَرَفَه»، و«صَدَفَ» عنه: أعرض، وصَدَفَه عن كذا أي أمال وعدل به «وفي الذكر الحكيم: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (الأنعام: ١٥٧)، أي: يُعرِضون.»
مستديم/مستدام
كلمة «مُستدام» من الألفاظ التي تسهم في توسيع الفجوة بين الفصحى والمحكية دون مقابل. فكنتا درجنا على استخدام كلمة «مستديم»، كما في «مرض مستديم»، «عاهة مستديمة»، «عجز مستديم»، ولم نصادف في ذلك مشكلة، ولم نسبب لأحد مشكلة، حتى خرج علينا من يقول «مستدام» ويلح في قولها، فوقر في ظن الجميع أنها الصواب، بحكم قاعدة (تقر في أعماق الجميع) بأن الغريب أصوب من المألوف.
وتُحقق في الأمر علميًّا فتجد أن الفعل «استدام» (الذي استعملته العرب في الغالب متعديًا بمعنى طلب الدوام وعليه يكون اسم المفعول «مستدام» فصيحًا بمعنى «مطلوب دوامه» — هذا الفعل قد ورد أيضًا لازمًا بمعنى «دام»، فتكون مستديم بمعنى «دائم»، وهي صحيحة وأفضل من «مستدام»: أولًا لأنها آلف منها وأساس، وثانيًا لأنها اسم فاعل ولذا يليق استعمالها في جميع الأغراض دون حرج: ﻓ «التنمية المستديمة» هي التنمية الدائمة، و«العجز المستديم» هو العجز الدائم، ولا يصح أن يقول أحد «عجز مستدام» لأن العجز لا يُطلب دوامه!
وصفوة القول أننا إذا شئنا تيسير الاستخدام اللغوي ووضع الإصر عن مستخدمي اللغة فمن الأسلم والآمن أن نعمم «مستديم»؛ لأنها صائبة في كل مقام، و«مستدام» صائبة في مقام الخير وحده.
المباشَر/المباشِر
من تقاليع النطق أيضًا هذه الأيام قول المذيعين «البث المباشَر»، و«الاتصال المباشَر»، فما الخطب؟!
ولكن هل هذا، بعَيْشِ أبيك، هو المعنى الذي يقصده المذيع؟ الأغلب أن البث هو الذي «يباشِر» هنا، أي يباشر المشاهدين أو المستمعين، ويتصل بهم حالًا بدون واسطة، وأن المذيع لا يقصد غير هذا: البث مباشِر للجمهور فكأنه يلامس بشرتهم لأنه يتم بدون واسطة، ويتم حالًا؛ وعليه فإن «مباشِر» بكسر الشين أصح وأسلم في عامة الأحوال من «مباشَر».
مُفاد/مَفاد
وليس يخفى أن «مَفاد» بفتح الميم أخف نطقًا وأعم استخدامًا، ولكن هل هي حقًّا خطأ صرفي ومعجمي وفي استعمالها التباس كثير؟
ولنبدأ بالالتباس: لا يقاس الالتباس بكم المشترك، بل بإمكان التشابه في السياقات المختلفة، ولا نظن أن حصول الفائدة يشتبه مع الحياد أو الموت أو التبختر! وما دمتَ آمنًا من الاشتباه فقل وثِقْ بفهم المخاطب.
تساءل/سأل
يقولون: لا تقل «تساءل الرجل عن الأمر» أو «تساءلت عن هذا الأمر»، وقل «سأل» و«سألت»؛ لأن «تساءل» تقتضي المشاركة، مثل «تساءل الرجلان أو الرجال عن الأمر» أي سأل بعضهم بعضًا، فصيغة «تفاعل» تدل على المشاركة وهي غير متحققة هنا.
ويبقى الذوق غير مستريح: ففي سياقات معينة أريد أن أقول «كنت أتساءل» ولا أقول «كنت أسأل» (وما أسهلها وأبردها)، وخاصة حين أريد أن أبرز معنى التحير والتقليب والتداول مع كيان آخر (ربما كياني نفسه!). وما زادت «تساءل» عن «سأل» إلا لزيادة هذا المعنى بالذات، وفي هذه الحالة تكون «سأل» ناقصة قاصرة، وفاترة كسولًا غير مسعِفة.
ساهم/أسهم
داهَمَ/دَهَمَ
يقولون: لا تقل «داهمنا العدو» أو «داهم رجال الشرطة وكر اللصوص» أو «الوقت يداهمنا»؛ لاستخدام صيغة «فاعل» بمعنى «فعل»، وقل «دهَمَنا يدهمنا دهمًا».
اعتذر عن الحضور
لا تقل «اعتذر عن الحضور» وقل «اعتذر عن عدم الحضور»؛ لأن عدم الحضور، أو الغياب، هو المعتذَر عنه، وليس الحضور، نعلم ذلك، ولا أظن أن أحدًا لم يسمع بهذا الخطأ الشائع وتصويبه.
نلعب في الوقت الضائع
إذا كانت اللغات جميعًا لغاتٍ تمشي فإن العربية لغةٌ تطير!
قال تعالى: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ، لا بدله أو نتاجه بل هو، ولقد أهدرنا وقتًا (ضائعًا) وها نحن نلعبه (واحتذاءً بالآية: هذا ما أضعتم من وقتٍ فالعبوا ما أضعتموه)، بل انظر إلى قوله تعالى: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ولم يقل «عنبًا» (باعتبار ما سيكون).
لكي نفهم الظاهرة اللغوية فإن علينا أولًا أن نتعوَّذ من وسواس المنطق: اللغة التي تجيز أن نقول: «عامر»، ونعني «معمور»، و«فاقد» ونعني «مفقود»، ونقول: «لا عاصم»، ونعني «معصوم»، ونقول: «كاسية» ونعني «مكسوة»، ونقول: «لا غني ولا فقير»، و«لا حلو ولا حامض»، و«لا شرقية ولا غربية»، ونقول لصبينا: اذهب إلى السوق وهات عنبًا حامضًا، ونقول: أكل المال، شرب الكأس، قتل الوقت (لهوًا)، قتل الأمر (بحثًا)، تركت لمن «كان» بعدي، والموعد الله — مثل هذه اللغة لا تؤتى بالمنطق الأرسطي ولا الإقليدي، بل بمنطقها، هي لغةٌ تتكئ على فهم المخاطب وتلتئم بمعقوله وتثق في ذكائه. يقول الجاحظ: «للعرب إقدامٌ على الكلام، ثقةً بفهم المخاطب من أصحابهم عنهم.»
كم ذا أضرَّ باللغة وآذاها هواة قُل ولا تقل، وها هو حصاد زرعهم: ناسٌ طيبون أصابهم القنوط، فانفضوا عن العربية (وفي القلب ثأرٌ كظيم)، ولم يعودوا يقدرون على صواب ولا على خطأ.
-
استخدام كلمة «فصام» (ويقولونها شيزوفرينيا من باب التعالم) بمعنى وجود شخصيتين مختلفتين للفرد (وهو اضطراب شديد الندرة، إلا في الروايات، يسمى «ازدواج الشخصية» (Double personality))، أما الشيزوفرينيا فهي بعيدة عن هذا المعنى بعد المشرقين!
-
استخدام كلمة «ظاهراتية» (فينومينولوجيا) بمعنى بحث ما هو ظاهر للملاحظ، حتى لقد استخدم أحيانًا في الطب النفسي بمعنى رصد الأعراض Symptomatology!
-
استخدام مصطلح «مثالية» Idealism الفلسفي بمعنى الكمال والسمو، مثلما نتحدث عن الأخلاق المثالية، والطالب المثالي، والفتاة المثالية!
-
استخدام مصطلح «ميتافيزيقا» Metaphysics بمعنى ذلك العلم (لا أدري أين هو) الذي يضطلع بدراسة العالم غير المادي، أو العالم الروحي، ورصد ظواهره وتجلياته!