كتب الأستاذ العقاد في أبريل ١٩٢٧م: «إن في كل أمةٍ لغة كتابةٍ ولغة حديث، وفي كل
أمةٍ
لهجة تهذيبٍ ولهجة ابتذال، وفي كل أمة كلام
١ له قواعد وأصول وكلام لا قواعد له ولا أصول، وسيظل الحال على هذا ما بقيت لغة
وما بقي ناسٌ يتمايزون في المدارك والأذواق.»
٢ وفي الأربعينيات من القرن الماضي كتب د. علي عبد الواحد وافي: «فاختلاف لغة
الكتابة عن لغة التخاطب ليس إذن أمرًا شاذًّا حتى نلتمس علاجًا له، بل هو السُّنة الطبيعية
في اللغات، ولن تجد لسُنة الله تبديلًا.»
٣
كان هذا الرأي حول الازدواجية اللغوية، الذي تلخصه فقرتا الأستاذ العقاد والدكتور
وافي،
سائدًا بين الكثير من النخبة المثقفة في النصف الأول من القرن العشرين، إذ كانت «النهضة»
في
أوجها و«التنوير» يمضي في عنفوانه مطمئنًا إلى نتائجه واثقًا من مآله،
٤ وأقرب ما ننعت به هذا الرأي المتفائل هو أنه «يحل المشاكل بإنكارها»، نعم، في
كل أمةٍ لغةٌ عامية ولغة فصحى، ولكن الفجوة بين العامية والفصحى في لغتنا ليست كنظيراتها
في
اللغات، إن بين عاميتنا وفصحانا فروقًا صوتية ونحوية وصرفية ومعجمية تجعل منهما، بقليل
من
التجوز، لغتين منفصلتين،
٥ كان هذا واضحًا حتى لابن خلدون (في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي)
الذي يقول في «المقدمة»: «اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مُضر القديمة
ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغةٌ أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل
العربي الذي لعهدها، وهي عن لغة مضر أبعد، فأما أنها لغةٌ قائمة بنفسها فهو ظاهر، يشهد
له
ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنًا.»
٦ ثمة نسقان نحويان متعارضان في قلب العربية: النسق الإعرابي المرن في الفصحى،
ونسق إسقاط الإعراب والاعتماد على الترتيب المقيد لعناصر الجملة في العامية، يمثل هذان
النسقان مرحلتين نحويتين في تطور اللغة. وثمة فروقٌ أخرى كبيرة: تخفيف الصوامت الثقيلة
في
النطق، إلغاء الحروف الأسنانية (الظاء والذال والثاء)، تقديم الفاعل على الفعل، الاستفهام
دون حرف استفهام اعتمادًا على تغيير مواضع النبر … إلخ.
في بحثٍ بعنوان «لسان العرب اليوم» المقدم إلى مجمع اللغة العربية عام ١٩٦١، يعرض
الأستاذ
أمين الخولي لتاريخ الصراع بين الفصحى والعامية عبر الزمن، ويخلص إلى مواقف عملية في
تقريب
اللغتين وصولًا للوحدة، ومنها الأخذ من فصيح العامية وتعميم استعماله، وأخذ المجمع من
الحياة وعدم الاكتفاء بإعطائها، وفي مناقشات الأعضاء للبحث يعقِّب الدكتور إبراهيم مدكور
بقوله: «… لغة التخاطب تختلف نوعًا ما عن لغة الكتابة في كل أمة وفي كل حضارة … أما توحيد
هاتين اللغتين فلا محل له بحال، ولا يتفق مع علم اللغات المقارن في شيء …» وفي تعقيب
الأستاذ أمين الخولي على التعقيب يقول: «… الصحيح أن الفرق هو بين لغة الأدب ولغة الحديث،
أما الفرق (بين لغة الكتابة ولغة الحديث) في اللغات الأجنبية فمعدوم أو كالمعدوم …» ويكفي
أن يقارن المرء بين لغة فيلم إنجليزي ولغة نشرة إنجليزية ليدرك صواب الشيخ أمين الخولي
فيما
ذهب إليه: فليس بين عامية الإنجليز وفصحاهم فرقٌ نوعيٌّ يذكر.
(١) تجربة من مختبر الحياة
معيار اللهجة إمكان التفاهم: فمحك التفرقة بين اختلاف اللهجتين واختلاف اللغتين هو
إمكان الفهم المتبادل، بمعنى أن صاحبي اللهجتين المختلفتين يفهم أحدهما الآخر، بعكس
صاحبي اللغتين المختلفتين. إذا كان هذا هو المحك فإن لدينا دليلًا حيًّا على أن عاميتنا
وفصحانا هما لغتان منفصلتان، وهو أن دارسي العربية الفصحى من الأجانب لا يفهمون شيئًا
إذا أنت حدثتهم بالعامية الخالصة، يعرف ذلك كل من أتيح له هذا المشهد الطريف وتعامل مع
أشخاص أجانب ممن درسوا العربية في جامعاتهم وأتقنوها. ولسوف يضطر إلى التخاطب معهم
بالفصحى، حتى في أمور الحياة اليومية؛ لكي يفهموا عنه! هذه تجربة سديدة بوسعك إجراؤها
في مختبر الحياة و«إعادة إجرائها» Replication كما
تشاء. فهذا الأجنبي يتقن العربية الفصحى وقد درسها أكاديميًّا مثلما درسناها في
مدارسنا، غير أنه، بحكم ظروفه الجغرافية، لم يعرف العامية ولم يتعرض لها قط، أي أنه
خلوٌ من الازدواجية اللغوية (الفصحى/العامية) التي نتحلى بها، إنه يمثل «الفصحى
الخالصة» أو المحضة التي لا تتوافر لأي منا من حيث إننا ثنائيون تعرضنا لكل من الفصحى
والعامية. مثل هذا الشخص هو وحده من يخبرنا أتكون الفصحى والعامية «لهجتين» أم
«لغتين».
(٢) ثنائية إفقار لا إثراء
ازدواجنا اللغوي إذن ليس كغيره من ضروب الازدواج (لغة الكتابة/لغة الكلام) في اللغات
الأخرى، غير أن «ذلك الازدواج لا يعني امتيازًا يتمثل في امتلاك لغتين، بل يعني
الافتقار إلى لغةٍ واحدة منسجمة مكتملة الحلقات كلغة، بكل ما تعنيه حالة أمةٍ بلا لغة،
أو حالة أمةٍ ذات لغة تعاني من الازدواج والانشطار والتشوه.»
٧ «العامية ليست لغةً مكتملة الحلقات كما أن الفصحى ليست لغة مكتملة الحلقات،
ذلك أن الفصحى عاجزة منذ قرون وقرون عن الاستمرار كلغة كلام وحياة يومية. وهي بذلك لغةٌ
ناقصة، كما أن هذا النقص، هذا الانفصال عن الحياة اليومية، يفقرها ويحرمها من حيوية
الحياة ويجرِّدها من القدرة على التعبير عنها بالحيوية المطلوبة … والعامية رغم كل
التطور الذي حققته والمكاسب التي أحرزتها تظل محرومة من ثروة خبرات الفصحى في التعبير
عن الثقافة العربية، فالفصحى هي حامل هذه الثقافة القومية. وهكذا نجد العامية عاجزة،
بحكم عدم الممارسة، وبحكم وقف النمو المفروض عليها، عن أن تكون لغة الفكر والفلسفة
والأدب … إلخ، وبهذا يتضح أن الازدواج يعني عدم اكتمال حلقات الحياة اللغوية، وضرب
التمكن والإتقان في الصميم، وبالتالي حرمان اللغتين (الفصحى والعامية) من اكتمال صفة
الفصاحة الضرورية لكل لغة لتكون لغةً بالمعنى الصحيح والكامل للكلمة.»
٨ وإذا كانت اللغة هي الفكر أو «دالة الفكر» (دي لاكروا)، وإذا كانت كل أمة
تتكلم كما تفكر وتفكر كما تتكلم (هردر)، فإن العقل العربي المشطور بين الفصحى والعامية
مهدَّد بالتشوش والاضطراب وانعدام الوضوح والدقة.
يستهل الأستاذ أمين الخولي كتابه «مشكلات حياتنا اللغوية» بالحديث عن ظاهرة «الازدواج
اللغوي» التي تجعل المجتمعات العربية «تحيا وتشعر وتتعامل وتتواصل بلغة يومية مرنة
نامية متطورة مطاوعة، ثم هي تتعلم وتتدين وتحكم بلغةٍ مكتوبة محدودة غير نامية، لا تطوع
بها الألسنة، وتتعثر فيها الأقلام، وهذا الازدواج اللغوي القهري يُصدِّع وحدتها
الاجتماعية ويفرِّقها طبقات ثقافية وعقلية، وبهذه الوحدة المرضوضة الواهنة تمارس الحياة
العملية وهي خائرة التماسك فاترة التعاون إن لم تكن فاقدته … اللغة التي هي وسيلة كسب
المعرفة قد صارت هي نفسها مادةً صعبة التعلم سيئة النتائج … وإذا الكثرة الكاثرة تحيا
حياةً تئود كل تقدمٍ وتعوق كل نهوض، بسببٍ من اللغة.»
٩
للأستاذ محمد العلائي، وهو من «الأمناء» — تلامذة الشيخ أمين الخولي — نظراتٌ تشخيصية
ثاقبة لأدواء العربية، منشئها وأعراضِها ومخاطرِها المحتملة. يقول في تقديمه لكتاب
أستاذه «فن القول»: «لقد كان لطبيعة الشخصية المصرية هذه منذ القدم نتائجها في استقبال
المجتمع للغة المفروضة، وفيما يأخذ به نفسه من المداراة والمصانعة، حين يتناول اللغة
الوافدة على أنها ضرورية، ويظل يلتوي بها وينحرف، حتى ينتزع من كيانها لباب دلالتها،
واضعًا مكان هذا اللباب ما يلتئم مع الفطرة المصرية، ويلتقي بملابساتها الإقليمية،
مفهومًا وإحساسًا. ومن أعراض هذه الحكمة المصرية ما حدث للعربية الفصيحة، حين جاءت
المصريين محفوفة بسلطان الدين، وسيف السياسة، فتناولتها الروح المصرية المستترة
بالملاطفة والمسايرة، حتى أفقدتها خصائصها الجذرية، وأفعمتها من ذات شخصيتها وأجوائها؛
ما أدى إلى انشعاب العربية إلى لغتين: عاميةٍ وفصيحة، وانزواء الفصيحة مكتفيةً بظاهر
من
الحياة في أجواء البيئة التعليمية، وفي الرسميات المفروضة على الملكات والألسنة، تاركةً
للعامية خصائصها المرهفة، في رصد الأعماق الشعبية، وفي تسجيل النزعات المتراجعة إلى هذه
الأعماق، بما تحمل من آلامٍ وآمال، وجعلت أمواج العامية والفصيحة تلتقي وتتنافر،
وتتقارب وتتدافع، حتى أصبح الكيان المصري، في هذه الحالة الأخيرة، على وضعٍ فني ممسوخ،
لا يتميز بلونٍ ولا طعم ولا رائحة، وأصبح الفن القومي على وضعه ذلك يستقبل الحياة من
نوافذ العقل بلغةٍ تغاير كل المغايرة وتختلف كل الاختلاف مع هذه اللغة التي يضطر إليها
حين يعبر عما استقبل من نوافذ الحياة، وتلك هي المحنة القومية البالغة، التي أمسكت
بالفن المصري وأصابته بالتيبس والجمود، وحالت بينه وبين أسباب النشاط، التي من شأنها
أن
تعمل على خلق الإحساس بالكرامة القومية، وتنمية العقيدة التي تحمي هذه الكرامة، وتتكفل
بتنظيم وسائلها، وتشخيص مقوماتها، وتكون مسئولةً أمام الوعي الجماعي عن استرخاء الملكات
الفنية وميوعة الضمير.»
١٠
(٣) انسداد طرق التطور
لا نحن نحيي الفصحى بالاستعمال والتعريب، ولا نحن نترك العامية تنمو وتكتمل
وتُنحِّيها.
إن حالنا في الثنائية اللغوية أشبه بحال أصحاب اللغات الرومانية
Romance languages (الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية ولغة
رومانيا) في نهاية العصور الوسطى وفي عصر النهضة وبداية العصر الحديث، فقد كان هؤلاء
ثنائيين: لغة كتابتهم لاتينيةٌ ولغة حياتهم عامياتٌ تنمو على ظهر اللاتينية، وكانت
عاميتهم مختلفة عن اللاتينية اختلافًا جوهريًّا في أصواتها ومفرداتها ودلالاتها
وقواعدها، «حتى إن الفرنسي مثلًا الذي لم يكن قد تعلم اللاتينية ما كان يستطيع أن يفهم
شيئًا يعتدُّ به من اللغة التي كان يكتب بها الناس في بلده وهي اللاتينية. وقد ظلت
اللاتينية القديمة لغة كتابةٍ حتى نضجت لهجات محادثاتهم وكمل نموها؛ فاستطاعت أن تنحِّي
اللاتينية عن وظيفتها وتحتل مكانها، فأصبحت الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية
ولغة رومانيا، التي كانت لهجاتٍ عاميةً تستخدم في المحادثة العادية فحسب، أصبحت لغات
كتابة وآداب، وقد تم ذلك حوالي القرن السابع عشر الميلادي.»
١١ ثم بدأت لغة الكتابة هذه تتباعد رويدًا رويدًا عن لهجات الحديث، ولكنا نرى
أنها لا تختلف حتى الآن اختلافًا نوعيًّا عن اللهجات، ولا نحسبها تختلف في المستقبل
المنظور نظرًا لارتفاع نسبة التعليم ومستواه في هذه البلاد، وبالنظر إلى ثورة الاتصالات
التي تحول دون انعزال اللهجات وتحوُّلها.
غير أن د. وافي سار بتقديراته في طريقٍ آخر، ولا ننسى أنه كتب هذا الكتاب عام ١٩٤٥،
فهو يرى أن الهوة بين عاميتهم وفصحاهم ستزداد اتساعًا «حتى تصل هذه الأمم إلى حالةٍ
شبيهةٍ بالحالة التي كانت عليها وقت أن كانت لغة الكتابة فيها هي اللاتينية. فاختلاف
لغة الكتابة عن لغة التخاطب ليس إذن أمرًا شاذًّا حتى نتلمس علاجًا له، بل هو السُّنة
الطبيعية في اللغات، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.» ولعل من الواضح الآن أن حديث الدكتور
وافي، في أحسن تقدير، لم يكن متسقًا مع ذاته، فهو من جهة يقول إن الانشعاب وانفصال
العاميات إلى لغات كتابة هو مآلٌ محتومٌ تفرضه سُنة التطور، ومن جهة أخرى يحذِّر من
كوارث الكتابة بالعامية، وينعى عليها اضطرابها وفقرها: «فاللغة العامية التي يرى هؤلاء
استخدامها في الشئون التي تستخدم فيها الآن العربية الفصحى لغةٌ فقيرة كل الفقر في
مفرداتها، ولا يشتمل متنها على أكثر من الكلمات الضرورية للحديث العادي، وهي إلى ذلك
مضطربة كل الاضطراب في قواعدها وأساليبها ومعاني ألفاظها وتحديد وظائف الكلمات في جملها
وربط الألفاظ والجمل بعضها ببعض، وأداةٌ هذا شأنها لا تقوى مطلقًا على التعبير عن
المعاني الدقيقة، ولا عن حقائق العلوم والآداب والإنتاج الفكري المنظم.»
١٢ وإننا لنضطر اضطرارًا في أحاديثنا العادية إلى اتخاذ الفصحى كلما احتجنا
إلى التعبير عن حقائق منظمة وأفكار مسلسلة لا تسعفنا فيها مفردات العامية ولا قواعدها،
«فإذا لم نجد أمامنا لا قدر الله إلا اللغة العامية نستخدمها في جميع شئون تفكيرنا
وتعبيرنا لتقطعت بنا أسباب الثقافة ونكصنا إلى الوراء قرونًا عديدة، وقُضي على نشاطنا
الفكري قضاءً مبرمًا؛ لأن الفكر إذا لم تسعفه أداةٌ مواتية في التعبير خمدت جذوته، وضعف
شأنه، وضاق نطاقه، واقتصر نشاطه على توافه البحوث وسفساف التأملات، فاللغة هي القالب
الذي يُصَبُّ فيه التفكير: فكلما ضاق هذا القالب واضطربت أوضاعه ضاق نطاق الفكر واختل
إنتاجه.»
١٣
ويمضي د. وافي في رصد الكوارث التي يمكن أن تُلحِقها الكتابة بالعامية، فيذكر منها
انعزال الأجيال القادمة عن تراث أمتها وعجزها عن فهمه والانتفاع به، والضرر القومي
البليغ المتمثل في تشرذم الأمة إلى جماعات لكل منها لغته الخاصة التي لا تفهمها
الجماعات الأخرى، كما أن العامية نفسها في كل بلد غير ثابتة على حال واحدة بل عرضة
للتطور السريع في أصواتها ومفرداتها ودلالاتها وقواعدها، وسرعان ما نجد أنفسنا أمام
المشكلة نفسها التي التجأنا في حلها إلى اتخاذ العامية لغة كتابة، «وذلك أن لغة الحديث
سوف تتطور وسوف ينالها كثيرٌ من التغير في أصواتها ودلالاتها وقواعدها وأساليبها، ولن
تزال كذلك حتى تبعد بعدًا كبيرًا عن لغة الكتابة؛ فنصبح وإذا بنا نكتب بلغةٍ ونتخاطب
بلغةٍ أخرى، فإذا صبرنا على هذا الازدواج ذهب كل ما عملناه في هذا السبيل أدراج الرياح،
وإذا أخذنا على أنفسنا العمل على القضاء عليه كلما ظهر باستخدام الوسيلة نفسها التي
استخدمناها في المرة الأولى، كان معنى ذلك أننا نضطر على رأس كل خمسين سنة أو كل قرن
على أكثر تقدير إلى تغيير لغة الكتابة بلغةٍ أخرى: وهذا هو أقصى ما يمكن أن تصل إليه
الفوضى في شعب إنساني.»
١٤ يضاف إلى هذا كله أن العامية تختلف داخل الشعب الواحد إلى عاميات بعدد
المناطق والطوائف، فالقضاء على الازدواج لا يكون إلا بأن تصطنع كل منطقة لغة كتابة تتفق
مع لغة حديثها، «وبذلك يصبح في البلاد العربية آلافٌ من لغات الكتابة بمقدار ما فيها
من
مناطق ومدن وقرى، ولا أظن عاقلًا ينصح بمثل هذه الفوضى.»
ويرى د. وافي أن حل الازدواجية بالصعود بلهجة الحديث إلى العربية الفصحى هي أمنيةٌ
غالية ولكنها غير ممكنة التحقيق؛ وذلك لسببين: الأول أن لغة المحادثة لا تُفرَض فرضًا
ولا يمكن النكوص بها إلى الوراء لأن من سنتها التطور والتبدل وفقًا لنواميس قاهرة لا
تخضع لإرادة الأفراد، والسبب الثاني أننا حتى لو افترضنا جدلًا أننا نجحنا في تعميم
الفصحى وجعلنا كل العرب يتحدثون بالفصحى، فإن هذه اللغة المفترضة لا تلبث بعد تداولها
على الألسنة أن تخضع لجميع القوانين التي تخضع لها اللغات الطبيعية، وسرعان ما تختلف
هذه اللغة من جماعة إلى أخرى وفقًا للظروف الجغرافية والاجتماعية والجينية الخاصة بكل
منها، وسرعان ما تختلف من جيل إلى جيل، وسرعان ما تنشعب هذه الفصحى الخيالية إلى لهجات
وتتسع الهوة بين هذه اللهجات «ولا بد أن تسير في المراحل نفسها التي سارت فيها العربية
الفصحى من القرن السابع الميلادي إلى الوقت الحاضر، وتنتهي إلى النتيجة نفسها التي
انتهت إليها. وهكذا لن يمضي زمن قصير أو طويل حتى تنبعث مرةً أخرى المشكلة نفسها التي
حاولنا القضاء عليها، وحتى نرى الناس يتحدثون بلهجات تبعد بعدًا كبيرًا عن لغة الكتابة.»
١٥
تعاني تنظيرات د. وافي من عدم اتساقٍ واضح؛ فقد أسهب في تبيان قوانين التطور وحتميته،
وحدد اتجاهه: من لغة كتابة تنشعب عنها عاميات ما تلبث أن تنضج وتنحي الفصحى القديمة
وتحل محلها … ثم يحذر في الوقت نفسه من تبنِّي العامية كلغة كتابة لأن مآلها التطوري
معلومٌ ووخيم! ومن البيِّن أنه بذلك يسد الطرق أمام اللغة، ويتركنا في موقفٍ أشبه
بالتوقف اللغوي: فلا نحن نملك إحياء الفصحى وتعميمها، ولا نحن ننصح بتبني العامية
وإنضاجها والكتابة بها!
وهناك موقفٌ آخر يبدو متناقضًا للوهلة الأولى ولكنه في الحقيقة متسقٌ (مع ذاته على
أقل تقدير)، وهو موقف د. رمضان عبد التواب إذ أسهب في كتابيه «التطور اللغوي» و«بحوث
في
فقه اللغة» في تبيان نواميس التطور وحتميته: «تلك سنة الحياة، وتاريخ اللغات يشهد بهذا،
ولا نعرف لغةً على ظهر الأرض جمدت على شكلٍ واحد مئات السنين»، ثم يعود ويستثني العربية
من هذه السنن لأن لها «ظرفًا خاصًّا لم يتوفر لأية لغة من لغات العالم، وهذا الظرف
يجعلنا نرفض ما ينادي به بعض الغافلين، عن حسن نية أو سوء نية أحيانًا، من ترك الحبل
على الغارب للعربية الفصحى، لكي تتفاعل مع العاميات، تأخذ منها وتعطي، كما يحدث في
اللغات كلها … لأنها ارتبطت بالقرآن منذ أربعة عشر قرنًا، ودوِّن بها التراث العربي
الضخم …»
١٦ ويدعم د. عبد التواب رأيه بقوله: «هذا هو السر الذي يجعلنا لا نقيس العربية
الفصحى بما يحدث في اللغات الحية المعاصرة، فإن أقصى عمر هذه اللغات، في شكلها الحاضر،
لا يتعدى قرنين من الزمان، فهي دائمة التطور والتغير، وعرضة للتفاعل مع اللغات
المجاورة، تأخذ منها وتعطي، ولا تجد حرجًا؛ لأنها لم ترتبط في فترة من فترات حياتها
بكتابٍ مقدَّس، كما هو الحال في العربية.»
١٧ ويزيد د. عبد التواب موقفه قوةً واتساقًا (ذاتيًّا) بقوله: «إن العربية
تحمل في طبيعة تكوينها عنصر التجدد والحياة، إن أفاد أهلها من منهجها العظيم في القياس،
والاشتقاق، والنحت، والتعريب.»
١٨
غير أن الاحتضار المشهود للفصحى اليوم ربما ينال من «الاتساق الخارجي» لنظرية د. عبد
التواب، ويتركها بحاجة إلى اكتمال، ونحن نخشى أن تكون الغيرة المفرطة على الفصحى عاطفةً
انتحارية أفضت إلى هذا الاحتضار المشهود. ويبدو أننا قد تجاوزنا مرحلة الكراهة والبغض
للفصحى إلى مرحلة السخرية والضحك، وهل تعد حيةً لغةٌ يضحك منها أهلها ولا يفهمونها ولا
يتحدثون بها في جدٍّ ولا هزل؟ أرى أن الفصحى في موقفٍ لا يحتمل أي نعرة أو تصلب أو
نرجسية جريحة، ويليق بنا أن نأخذ أمرها بشيءٍ من اللين والحصافة والقصد.
لقد استنفد المحافظون جهدهم طوال قرنٍ في مهاجمة العامية
١٩ وتتبع لحن العامية والتنديد به، بينما كانت العامية «تلقى هذا كله بقوةٍ
خفية، توشك أن تكون سحرية، هي قوة الحياة، وقوة المجتمع، فهي من الحياة وفي الحياة، وهي
تستجيب لسنن الاجتماع مرنةً طيعة، فلا تتأثر بتلك المهاجمة، بل مضت تنمو نموًّا مطردًا،
فتثري في مفرداتها، وتزيد طاقاتها الفنية، فتتخذ أوزانًا للفن القولي جديدة، غير تلك
التي عرفتها الفصحى، وبهذه القوة تقدمت فألْزمت الفصحى مكانها المحدود، في الحياة
الرسمية، دينيةً وحكوميةً، ومبلغ أمرها، في أحسن تصوير، أنها لغة القلم، والعامية لغة
اللسان، وإنما اللغات صناعة الألسنة.»
٢٠
(٤) دانتي وفصاحة العامية
قلنا: إن حالنا في الازدواجية اللغوية أشبه بحال أصحاب اللغات الرومانية
(الرومانسية/الشعبية)
Romance languages في عصر النهضة،
وكان دانتي واحدًا من هؤلاء. في بداية القرن الرابع عشر كتب دانتي دراسة (لم يكملها ولم
تصدر إلا بعد قرنين من كتابتها) بعنوان «في
فصاحة العامية»
De Vulgari Eloquentia٢١ مدح فيها مزايا اللغات المحكية التي يتعلمها الطفل تلقائيًّا وبشكل لا
شعوري، وقابل بينها وبين اللاتينية المكتوبة التي تُكتسَب بشكلٍ واعٍ في المدارس عن
طريق الأحكام القواعدية بوصفها لغةً ثانية. لقد تمت دراسة التغيرات الصوتية وتم
التعامل مع ظاهرة التغير اللغوي بطريقةٍ منهجية، وربما كانت هذه هي البداية الحقيقية
لعلم اللغة التاريخي كما نفهمه اليوم. لم تكن العاميات الرومانية مجردَ لاتينية فاسدة
بل لغاتٍ ذات جدارة وقائمةً بذاتها، ومرتبطة تاريخيًّا باللاتينية بطرق مثيرة. تمت
مناقشة هذا التغير اللغوي، وقد عزاه الكتاب إلى عوامل الاحتكاك والاختلاط اللغوي، وإلى
التغيرات التدريجية المستقلة التي تحدث مع انتقال اللغة المنطوقة من جيل إلى جيل.
٢٢
يقول دانتي في كتابه «في فصاحة العامية»: «إنني أعرف العامية بأنها اللغة التي
يكتسبها الأطفال ممن حولهم عندما يبدءون في نطق الكلمات، وباختصار أكبر، هي اللغة التي
نتعلمها بدون أي قواعد على الإطلاق من خلال تقليدنا لمربياتنا.»
٢٣
ويقارن دانتي هذا النوع من اللغة ﺑ «النحو»
٢٤ الذي يعني به اللغة الرسمية؛ لغة الكتابة، وهو ما يصطلح عليه الآن باللغة
الفصحى أو المعيارية (اللاتينية في زمن دانتي): «ولدينا بعدئذٍ كلامٌ ثانويٌّ آخر، سماه
الرومان النحو، وإن لدى اليونانيين وغيرهم أيضًا هذا الشكل الثانوي للغة … ولكن قلما
يكتسبها أحد لأن التمكن من قواعدها وفنها يتطلب وقتًا طويلًا ودراسة مثابِرة.» وبين
اللغتين (العامية والفصحى) يعتبر دانتي أن العامية هي الأنبل: «والآن بين اللغتين
فالأنبل العامية: أولًا لأنها اللغة الأولى التي نطق بها الجنس البشري، وثانيًا لأن
العالم كله يستخدمها وإن بضروبٍ متباينة من النطق والشكل، وثالثًا لأنها طبيعية بالنسبة
لنا، بينما الأخرى أكثر اصطناعًا وتعمُّلًا.»
وإن اللاتينية هي لغة الكنيسة، وهي لغة مقدسة، وسيبدو أقرب إلى الهرطقة إذا ما
اقترحنا أن اللغة العامية هي الأنبل، ولكن دانتي يعرب عن إعجابه بما هو «طبيعي» في
مقابل ما هو «اصطناعي»، أي كل ما يصنعه الفن
٢٥ … فالفن إنساني في جوهره، في حين أن الطبيعة إلهية في مصدرها. وفي كتابه
«المأدبة»
Il Convito الذي كتبه في نفس الفترة
التي كتب فيها «في فصاحة العامية»، يدعو دانتي إلى أن يستعمل الناس لغتهم الخاصة لأن
ذلك هو الأقرب والأوقع.
والحق أن العامية مغبونة، حتى في اسمها، الذي يومئ إلى تدنيها وسوقيَّتها، بينما
هي
في الواقع «فصحى الحياة»، ويغلب الاعتقاد بأنها «انحراف» عن اللغة المعيارية، أو تدهور
لها أو فساد، بينما هي في أحيان كثيرة «تطور» نحو المرونة والسهولة والاقتصاد والنجاعة
الاتصالية، يقول الشيخ أمين الخولي: «كلما بذلت محاولة لتمكين العربية من ابتلاع
العاميات قيل إننا ندعو إلى العامية، وبناء على هذا تضيع جهود التيسير وتبقى الفصحى في
عزلتها عن لغة الحياة وتبتلعها العامية.»
٢٦ لقد آن لنا أن نفرق بين ما هو عبث وتحلل لغوي و«لحن»، وما هو ارتقاء وإبداع
وحيوية … أن نقاوم العبث والتحلل ونشجع الابتكار والتجديد، ونواكب كل ذلك بالتنظير
اللغوي الحصيف، وإلى جانب تيار «لحن العوام» و«قل ولا تقل» نشجع أيضًا تيار «صواب
العامة» و«رفع الإصر» و«بحر العوام»،
٢٧ فلا نتحرج من اعتماد الألفاظ المولدة واستلهام العامية واسترفادها والإفادة
مما صح منها وفصح وساغ، وأن ننزل هذا العامي الفصيح في معاجم رسمية مصدَّقة معتمدة،
٢٨ وندرجه في مناهج اللغة بالمدارس؛ حتى يحس أبناؤنا أنهم لا يتعلمون لغةً
أجنبية بل لغة حياتهم المألوفة لهم الرفيقة بهم، وتزول تلك الجفوة العتيدة بين الدرس
والدارس، ويصير التعلم جهدًا ممتعًا ولا يعود كابوسًا ثقيلًا وعذابًا نكرًا، هنالك تكون
هذه العامية المزدراة هي حبل نجاة الفصحى ومجددة دمائها وباعثتها إلى الحياة من
جديد!