تعريب العلم
تعليم الأمة بلغتها ينقل العلم بكليته إليها، أما تعليمها إياه بلغة غيرها فإنه ينقل أفرادًا منها إلى العلم.
لم يفهم الرجل السؤال أول مرة، وظن أن في الأمر «لعبة»؛ فالسؤال غريبٌ عنده غرابة التعريب عندنا! لقد نشأنا نرى العلم يُدَّرس عندنا بالإنجليزية فحَسبْنا ذلك أمرًا طبيعيًّا، وما هو بالطبيعي، وإنما «أعمانا الإلف فلم نعد نرى في الغريب غرابته» باستعارة تعبير د. زكي نجيب محمود (في مقامٍ آخر)، و«اكتسب المؤقت والاستثنائي (عندنا) ديمومةً بل شرعية» باستعارة تعبير د. مفيد أبو مراد. يبدو أن في جِبلَّة العقل البشري، بوصفه رهين الثقافة وصنيعتها، أن يعبر «فجوة هيوم» وثبًا؛ فيقفز مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، ويميل إلى أن يرى أوضاعه التي نشأ عليها، مهما بلغت من سوءٍ وشذوذ، لا كمجرد أوضاعٍ معطاةٍ «للوصف» و«النقد» و«التغيير»، بل كمقاييس للصواب والسواء والخير و«معايير» للقيمة. هذا ما جعل أستاذًا في الطب مثل د. نادر عبد الدايم يصف دعوة تعريب الطب ﺑ «النكبة» و«الكارثة»، وكأن تسمية «الهارت» ﺑ «القلب» ستصيبه بأزمة، أو أن تسمية «الأَبْدومِن» ﺑ «البطن» ستحول دون فتحه!
(١) التعريب ضرورة قومية
لغة الأمة هي وعيها وضميرها، وكبرياؤها وعرضها، والأمة التي لا تصون لغتها من العبث والتحلُّل لن يبقى لها شيءٌ تصونه.
كان من روابط وحدة اليونانيين في مقاومة الغزاة الفرس أن المجتمع اليوناني بأكمله تربطه صلة الدم الواحد واللسان الواحد.
مهدَّدون نحن بالذوبان في عصر العولمة إذا لم نُحكِم قبضتنا على جمرة اللغة.
(٢) التعريب ضرورة علمية
كذلك لغة المرء هي الأقرب إليه؛ لأنها الألصق به إذ هي اللغة التي تحضر وحدها، وقبل كل الأخريات، في عقله.
إني لأعجب لمن يريد أن يتضلع في الفلسفة والعلم وهو لا يعرف العربية.
إن التعليم بلغة أجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة، ولا ينتج عنه توطين العلم أو تعميم نفعه.
(٢-١) اللغة الأجنبية تشجع الحفظ دون الفهم
(٢-٢) شهادة التاريخ للعربية
(٢-٣) تحفُّظ د. فؤاد زكريا
وكما تكون اللغة واسطة العقد أفقيًّا بين التخصصات المختلفة، فإنها واسطة العقد بين مختلف المستويات العاملة في التخصص الواحد: بين العامل والفني والتكنولوجي والمهندس، أو بين الفنيين الصحيين والممرضين والأطباء … إلخ.
(٢-٤) المصطلحات ليست مشكلة
«ينغلق المصطلح على حاله ويتدرَّع بأقواسه؛ لكي يضمن ثباته في كل سياق، ويتفادى ما في اللغة الطبيعية من غموضٍ وتلونٍ وتحولٍ وسيولة.»
-
قوالب لفظية متواضَع عليها لكي تستوعب معاني محددة.
-
تنحو إلى التركيز والترميز لا إلى الحشو والإطناب المضادين للغة العلوم.
-
نوعية في دقتها وترميزها، أي من طراز رياضي.
-
تواضعية صرف، للعلماء كامل الحرية في وضعها.
-
لا يعدو المصطلح أن يكون عنوانًا أو رمزًا لفكرةٍ شاملة أو صورةٍ مملوءة بالتفاصيل التي لا يعبر عنها المعنى الحرفي إلا لمامًا، وقد يتجاوز المصطلح معناه الحرفي تمامًا، على أن خاصة التواضع فيه تحول دون الخلاف حوله ومن هنا قال القدماء: «لا مشاحة٢٨ في المصطلح.»
-
تحتاج إلى الشرح ولو كانت عربية.
-
عالمية مشاع بين الأمم على اختلاف لغاتها.
-
اصطناعية بالأساس، ولا شأن لها بالوساد اللغوي الطبيعي الذي يحتويها.
من الممكن إذن، إذا فشلت الترجمة والتوليد والنحت، أن نعرِّب المصطلح، أي نجعله عربيًّا بإخضاعه لمقتضيات العربية الصوتية والصرفية، ومن الممكن حتى إبقاؤه باللغة التي وضع بها حتى يتم (أو لا يتم) الاتفاق على مقابل له بالعربية، فلا حياة للمصطلح بدون استعماله، والمصطلح أيًّا كانت لغته ليس هو جوهر المشكلة وإنما المشكلة هي اللغة من حيث هي وسيلة الطالب في التلقِّي والاستيعاب والتعبير، بل وفي التفكير والتصور، والنص العلمي ليس مجموعة من المصطلحات بل هو وصف وشرح وعرض وتحليل تتخللها المصطلحات، ولسنا في هذا الأمر بدعًا بين الأمم؛ فإن روسيا تأخذ المصطلحات الغربية وتكتبها بحروف سلافية، والصين تأخذ مصطلحات الفريقين وتكتبها بحروف صينية، ولا ننس أن أسلافنا العرب في العصر العباسي عند بدء تعريبهم العلوم اليونانية القديمة استعلموا الكثير من المصطلحات اليونانية كما هي فقالوا: قاطيغورياس، إيساغوجي، طوبيقا، أنالوطيقا، أريتيميتي، الدوسانتر، المالينخوليا، الديابيطس … إلخ. لم يكن السلف في صعودهم يعانون عقدة النقاوة اللغوية؛ فأقبلوا بثقة على تعريب المصطلحات التي تعذرت ترجمتها بمقابلٍ عربي دقيق من السريانية والإغريقية والفارسية. ومن المعلوم أن ابن سينا قد عرَّب ثلث المصطلحات التي استخدمها في الفلسفة والطب.
(٣) التعريب ضرورة لغوية
إن لغةً لا تسقى بماء العلوم هي لغةٌ في طريقها إلى الموت.
لقد أدى هذا السلف العظيم مهمته على خير وجه، وها نحن نقف على محك مماثل، وقد عرضت علينا أمانةٌ تاريخية فهل نحن حاملوها؟ أمانة خدمة اللغة وإثرائها وتجديد دمائها، وعصرنتها بحيث يمكنها أن تكون لغةً بحق: تعبر عن قضايا العصر وعلومه، وتسهم في بناء الحضارة بسهم.
(٣-١) تعريب العلم أفتك سلاح ضد الإرهاب
لا تعشش الخرافة وتفرخ إلا في خرابٍ لغوي.
حين تجري الحداثة والمفاهيم العلمية والفلسفية الجديدة في عروق اللغة، فإنها بالفعل ذاته تجري في العقول التي تشكلها اللغة. العلم حق، ويوم يتحدث العلم بالعربية ستتبدد من عقولنا، تلقائيًّا، قطع الظلام وتفر الخرافة التي لا تعشش ولا تفرخ إلا في العقول المظلمة الكسولة. تعريب العلم خروجٌ بنا من كهفنا التاريخي، وحلٌّ لكل ما نعانيه من مواتٍ واستنامة وانكفاء، العلم حق، وتعريب العلوم بمثابة جيشٍ من جند الله الحقيقيين كفيل مع الزمن بدحر قوى الظلام في عقولنا دون إراقة نقطة دم واحدة، لماذا لا نجرب هذا الحل؟
يسيء الظن بالعربية من يخشى على العربية من لغة العلوم، العربية لغة شديدة المرونة هائلة الجرم تتطور «من داخلها»، تهضم العلم ولا يهضمها العلم، وكل ما يتم في العربية من ترجمة أو تعريب هو رصيد يضاف إلى العربية ويثريها، ويفتق فيها عوالم جديدة، وينقل إليها أجواءً ومناخاتٍ مغايرة، ولا ضير البتة من أخذ اللفظ الأجنبي كما هو وتعليمه العربية! أعني «تعريبه»: أي تطويعه للمقتضيات الصوتية والصرفية للغة العربية، بحيث «يستعرب» ويصبح عربيًّا ونكاد ننسى أصله الأجنبي: فنقول: «أكسجين»، «أكسيد»، «هدرجة»، «بلمرة»، «بروتون»، «بروتين»، «هرمون»، «إنزيم»، «برلمان»، «فلسفة»، «جيولوجيا»، «جغرافيا»، «بيولوجيا» … من شأن ذلك أن يحيي العربية ويضيف إليها البعد العلمي، ويبعثها من رقادها لتكون لغة حياة ولا تعود لغة موت، هنالك يتعذر على الكهفيين اختطافها واختطاف «تراثها» المجيد وإخراسه وتسخيره لخدمة الظلام والتخلف.
(٣-٢) النبوءة المحققة لذاتها
لا يزال الناعي الكاذب ينعب حتى يَصْدُق نعيه!
ثمة صنفٌ من النبوءات يتصف بصفةٍ عجيبة: أنه يصْدق إذا صدقناه!
«العربية عاجزةٌ عن نقل العلوم» — تنتمي إلى هذا الصنف، فكيف كان ذلك:
ونحن حين نتنبأ بأن العربية عاجزة عن نقل العلوم فإننا نتردد ونتلكأ في التعريب، ويطول هجرنا وإهمالنا للعربية؛ فتجف وتضمر، وتهزل وتذبل، وتعجز عن العطاء لأنها حرمت من الأخذ! ومن ثم يرفع نُذُر الشؤم عقيرتهم ويعلنون عجزها وقد جعله تنبؤنا حقًّا!
(٤) التعريب ضرورة نفسية/اجتماعية
ولخزيهم الأبدي وبؤسهم أولئك الأوغاد من الإيطاليين الذين يمدحون لغة الأغيار ويحتقرون لغتهم، أود أن أقول إن لديهم في ذلك خمسة بواعث مقيتة هي: عمًى فكريٌّ، وأعذارٌ خبيثة، وتوقٌ إلى الاختيار، وحجةٌ قائمة على الحسد، وأخيرًا وهن الروح أي الجبن. ولكل من هذه الشرور أتباعٌ كثر، وقلَّما يبرأ منها أحد.
(٤-١) التبعية اللغوية مظهرٌ جديد للاستعمار العقلي
الإنسان الذي يتحدث لغة غيره دون ضرورة هو إنسانٌ مستعمَر، إنسانٌ محتل، وليته محتلٌّ في أرضه أو داره، إنه محتل في عمق أعماق وعيه، وقدس أقداس روحه، وإذا وجدتَ أمةً تتباهى بالحديث بلغة غيرها فاعلم أنها شاخت، وهانت على نفسها، وصارت على غيرها أهون.
(٤-٢) جذور عقدة النقص
يشير ابن منظور في مقدمة معجمه «لسان العرب» إلى شيوع الخطأ على الألسنة في عصره (القرن السابع الهجري)، وتراجع مكانة العربية، واتجاه الناس إلى النطق باللغات الأجنبية، وما أشبه الليلة بالبارحة! فيقول: «فإنني لم أقصد بتأليفه سوى حفظ أصول هذه اللغة النبوية وضبط فضلها؛ وذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنًا مردودًا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودًا، وتنافس الناس في تصانيف الترجمات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير العربية. فجمعتُ هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعتُه كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون.»
ويمضي د. الخطيب في تتبع المسار التاريخي للنهضة العربية الحديثة وموقفها من التعريب، فيقول: «مع بدايات عصر النهضة العربية الحديثة أوائل القرن الماضي انطلقت العربية تأخذ طريقها مجددًا إلى دنيا العلوم والحضارة الحديثة، وكان طبيعيًّا أن تتخذ مدارس محمد علي القاهرية منذ تأسيسها عام ١٨٢٥، في الطب والهندسة والزراعة والعسكريات، اللغة العربية وسيلة لها في تعليم المناهج على كل المستويات — مدعمة بمدرسة الألسن وجهود المبعوثين في مختلف فروع العلم. وكذلك كانت الحال في الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية في بيروت لاحقًا) أواسط القرن الماضي أيضًا، حيث مؤلفات المستشرقين الأمريكان تغطي برامج الدراسة في علوم الطب والفيزياء والكيمياء والصيدلة والرياضيات والفلك وسواها بلغة عربية سليمة ومستوًى علمي جيد، ولم يكن يخطر ببال رواد النهضة الحديثة، عربًا أو أجانب من المخلصين، التدريس بغير العربية — تطبيقًا لمنطقٍ علمي براجماتي بسيط ما زال هو المنطق العلمي الصحيح اليوم كما سيكون غدًا.»
فماذا كانت استجابة العربية لمناخ العلم؟ انتعشت ونمت وأصدرت المعاجم التراثية وجدد بعضها، وأصدرت معاجم علمية مترجمة، وقد كان يرجى للغة العربية في هذا العهد أن تبلغ درجات الرقي لو أتيح لها أن تكون وتستمر لسان حال النهضة العلمية العصرية، ولكن سياسات الغرب الاستعمارية حالت دون ذلك، فما إن ثبت الاجتياح البريطاني أقدامه في مصر حتى عرقل هذه المسيرة — أولًا بتحويل التدريس في مدرسة الطب إلى اللغة الإنجليزية عام ١٨٨٧، ثم إغلاق مدرسة الألسن ونفي رفاعة الطهطاوي ومؤيديه إلى السودان، وتوجيه البعثات إلى إنجلترا (بدل فرنسا وإيطاليا)، «وما هو إلا عام أو بعضه حتى حذا الأمريكيون في الكلية السورية الإنجيلية حذو البريطانيين، فتحول التدريس فيها، للأسف، من العربية إلى الإنجليزية بدءًا من ١٨٩٠ (بعد حوالي ربع قرن من تدريس الطب والصيدلة والعلوم الطبيعية الأخرى فيها بالعربية بمستوًى راقٍ مرموق)، وهكذا حُرِمت اللغة العربية من فرصتها الذهبية وغُرست بذور الشك والريبة في نفوس أبناء العربية بلُغتهم — بأهم مقومات أصالتهم وحضارتهم.»
ولعل القارئ الآن قد عرف على وجه اليقين لماذا كان ذلك: لعقدة الدونية المزروعة في أعماقنا منذ قرون وقد اشتد عودها واستوت على سوقها، وجعلتنا بعد رحيل الاستعمار المادي نهفو إلى الاستعمال العقلي وننشده طوعًا واختيارًا، وننشئ مزيدًا من المدارس الأجنبية ومدارس اللغات والأقسام الجامعية الأجنبية، ونحشر فيها الأنبغ والأقدر من أبنائنا ليجري مسخه حثيثًا، ونفتح سوق العمل ونمنح أعلى الأجور لمن يجيد الرطانة ويحسن التنفُّج.
صفوة القول أنَّ ما نفعله بأنفسنا هو انتحارٌ جماعي بشع، يتضاءل بجانبه كل ما عانيناه من كروبٍ وحروب، وأن تعريب التعليم، العام والجامعي، قد أصبح ضرورة بقاء، تستدعي منا استنفار كل جهودنا وتجنيد كل طاقاتنا.
تصور مصرفًا (بنكًا)، كأفضل وأمثل ما يكون المصرف، يُدار على نحوٍ أمينٍ قويم، وهو كأي مصرف لديه سيولة نقدية معقولة، ولكن معظم أصوله بطبيعة الحال مستثمرة في أعمالٍ ومشروعات، وذات يوم تصادف أن كان هناك تزاحم على المصرف، وهو ما أزعج العملاء فسرَتْ شائعة بأن المصرف موشك على الإفلاس، وسرعان ما تقاطر بقية العملاء على المصرف يطالبون بسحب ودائعهم، وبالطبع لم تتوافر السيولة الكافية لسد مطالبهم، فنفدت السيولة وأعلن المصرف إفلاسه!
تبين لنا هذه الحكاية الخيالية أن التعريفات الشائعة لموقفٍ ما (التنبؤات أو التوقعات) تصبح جزءًا مدمجًا بالموقف، وتؤثر بذلك على التطورات اللاحقة، وهو أمر يخص الشئون البشرية ولا يوجد في الطبيعة المستقلة عن الفعل الإنساني: من ذلك أن التنبؤات بعودة مذنب هالي لا تؤثر في مداره الفعلي، بينما أثرت إشاعة إفلاس المصرف في المآل الفعلي للمصرف. إن نبوءة الإفلاس أدت إلى تحقيق ذاتها! ويخلص مِرتون إلى أن الطريقة الوحيدة لكسر حلقة «النبوءة المحققة لذاتها» هي أن نعيد تحديد القضايا التي تستند إليها من الأصل افتراضاتها الكاذبة.
وفي المجال التربوي لوحظ دائمًا أن أداء التلاميذ يأتي متفقًا مع توقعات مدرسيهم، وفي دراسة شهيرة أجريت عام ١٩٦٨ أنبأ الباحثون عددًا من مدرسي المرحلة الابتدائية بأن بعض تلاميذهم تبين امتلاكهم قدراتٍ كبيرةً للنمو المعرفي، على حين أن هؤلاء التلاميذ كان قد تم تحديدهم عشوائيًّا! وبعد انقضاء ثمانية أشهر أجريت اختبارات ذكاء على تلاميذ المدرسة، فحصل هؤلاء التلاميذ المحددون عشوائيًّا على درجات أعلى بصفةٍ عامة من أقرانهم، وقد صارت هذه الظاهرة تعرف باسم «أثر بيجماليون» Pygmalion Effect نسبة إلى مسرحية برناردشو.
ومن الحكايات الواقعية الشهيرة ما حدث في يناير عام ١٩٤٠: فقد كان ماركوس جرافي، داعية التعاون الأفريقي، يعاني سكتة دماغية نجا منها بالفعل، غير أنه فوجئ بنعيه منشورًا بطريق الخطأ في جريدة شيكاغو دفندر، واصفًا إياه بأنه «انسحق وحيدًا مغمورًا»، فصُدم حين قرأ هذا النعي صدمةُ شديدة أصابته بسكتة دماغية ثانية توفي إثرها، وبذلك صدق النعي!
وقد أشار كارل بوبر إلى هذه الظاهرة وأسماها «الأثر الأوديبي» Oedipal Effect بمعنى تأثير النظرية أو التوقع أو النبوءة على الحدث الذي تتنبأ به أو تصفه، إذ كانت السلسلة السببية التي أدت إلى قتل أوديب لوالده في الأسطورة قد بدأت بنبوءة «الوحي» بهذا الحدث. يقول بوبر في «عقم المذهب التاريخي»: «… أود أن أطلق اسم الأثر الأوديبي على تأثير النبوءة في الحادث المتنبأ به، أو على تأثير المعرفة عامةً في وقوع الحادث أو في منعه، ومن أمثلة التأثير المنعي أن التنبؤ بأن سعر الأسهم سوف يأخذ في الارتفاع على مدى ثلاثة أيام ثم يهبط بعدها؛ سوف يدفع الناس إلى أن تبيع أسهمها في اليوم الثالث، وبذلك يهبط السعر ويكذب التنبؤ. نحن إذن في العلوم الاجتماعية بإزاء تفاعلٍ شامل معقَّد بين المشاهِد والمشاهَد، بين الذات والموضوع. ومن المحتمل أن يكون لوعينا بوجود الاتجاهات التي قد تسبب في المستقبل حادثًا معينًا، ولإدراكنا أيضًا أن التنبؤ قد يؤثر هو نفسه في الحوادث المتنبأ بها؛ من المحتمل أن تكون لكل ذلك آثاره في مضمون التنبؤ، وقد يكون من شأن هذه الآثار أن تخل بموضوعية التنبؤات وغيرها من نتائج البحث في العلوم الاجتماعية.» ويقول بوبر في كتابه Unended Quest: «كنت أعتقد يومًا أن الأثر الأوديبي يميز العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية، ولكن في البيولوجيا أيضًا، وحتى في البيولوجيا الجزيئية، كثيرًا ما تلعب التوقعات دورًا في إحداث ما كان متوقعًا.»