عمليات التطور
من أَجْل فهْمِ الحياة على كوكب الأرض، نحتاج إلى معرفة الكيفية التي تعمل بها أجسام الحيوانات (ومن بينها البشر) والنباتات والميكروبات، وصولًا إلى مستوى العمليات الجزيئية التي يقوم عليها هذا العمل. هذا هو السؤال الخاص ﺑ «الكيفية» في علم الأحياء، وقد أَنتَج كمٌّ هائل من البحوث على مدار القرن الماضي تقدُّمًا عظيمًا نحو الإجابة على هذا السؤال. وقد بيَّن هذا الجهد أنه حتى أبسط الكائنات القادِرة على الوجود بشكل مستقِلٍّ — الخلية البكتيرية — هي ماكينة ذات تعقيد بالِغ، بها آلاف الجزيئات البروتينية المختلفة التي تعمل على نحو متناسِق فيما بينها من أجْل أداء الوظائف اللازمة لبقاء الخلية، ومِن أجْل انقسامها كي تُنتِج خليتين وليدتين (انظر الفصل الثالث). وهذا التعقيد يَصِير أكبر من هذا في الكائنات الأعلى كالذباب أو البشر؛ فهذه الكائنات تبدأ حياتها على صورة خلية وحيدة، مكوَّنة من خلال اندماج بويضة مع حيوان منوي، وبعد ذلك تحدث سلسلة محكومة على نحو دقيق من عمليات الانقسام الخلوي، مصحوبة بتمايُز الخلايا الناتجة إلى العديد من الأنواع المستقِلَّة. وفي نهاية المطاف تُنتِج عمليةُ النمو الكائنَ البالِغَ، ذا البنية العالية التنظيم المؤلَّفة من مختلف الأنسجة والأعضاء، وذا القدرة على أداء سلوك معقَّد. إن فهمنا للآليات الجزيئية التي يقوم عليها هذا التعقيد في البنية والوظيفة آخِذٌ في التوسُّع بشكل سريع. وبالرغم من أنه لا يزال هناك العديد من المشكلات غير المحلولة، يظل البيولوجيون مقتنعين بأنه حتى أعقد سمات الكائنات الحية، مثل الوعي الإنساني، إنما هي انعكاس لعمل عمليات كيميائية وفيزيائية قابِلة للتحليل العلمي.
وعلى كل المستويات — من بِنْية أيِّ جُزَيْء بروتيني منفرد ووظيفته إلى تنظيم المخ البشري — نرى العديد من الأمثلة على «التكيُّف»؛ ونعني به ملاءمة البِنْية للوظيفة على النحو الذي يَظهَر أيضًا في الماكينات التي يُصمِّمها البشر (انظر الفصل الخامس). كما نرى أيضًا أن الأنواع المختلفة لها خصائص متمايِزة، تَعكِس غالبًا عمليات التكيُّف مع البيئة التي تعيش هذه الأنواع فيها، وهذه الملاحظات تُثِير سؤالَ «لماذا» في علم الأحياء، والمعنيَّ بالعمليات التي تسبَّبت في كون الكائنات على النحو الذي هي عليه. قبل ظهور فكرة التطور، كان من شأن أغلب البيولوجيين أن يُجيبوا على هذا السؤال بالقول بوجود خالِقٍ. استُحدث مصطلح التكيُّف على يَدِ علماء لاهوت في القرن الثامن عشر زعموا أن مَظهَر التصميم في سمات الكائنات الحية يُثبِت وجود قوة غيبية هي التي قامت بعملية التصميم. وبالرغم من أنه تمَّ إثبات خطأ هذا الزعم من الناحية المنطقية على يد الفيلسوف ديفيد هيوم في منتصف القرن الثامن عشر، فإنه ظلَّ مسيطِرًا على أذهان الناس في ظل غياب أي بديل آخَر جدير بالتصديق.
تُقدِّم الأفكار التطورية مجموعةً من العمليات الطبيعية التي يُمكِنها تفسيرُ التنوع الشاسع للأنواع الحية، والخصائص التي تجعلها متكيِّفة بهذه الدرجة الطيِّبة مع بيئاتها، دون اللجوء لحجة التدخل الغيبي. وهذه التفسيرات تمتدُّ، بطبيعة الحال، إلى أصل النوع البشري نفسه، وهذا جعل التطورَ البشري أكثرَ الموضوعات العلمية إثارةً للجدل. لكن إذا تناولنا هذه القضايا دون تحيُّز سابق، فمن الممكن رؤية أن الأدلة المؤيِّدة للتطور بوصفه عملية تاريخية، لا تَقِلُّ قوةً عن تلك المؤيِّدة لنظريات علمية أخرى راسخة منذ وقت بعيد، مثل الطبيعة الذرية للمادة (انظر الفصلين الثالث والرابع). لدينا أيضًا مجموعة من الأفكار المُتحقَّق منها جيدًا بشأن مسبِّبات التطور، وإن كان هذا لا يمنع — كما هو الحال في أي فرع علمي مَتِين — وجودَ مشكلات مستعصية على الحلِّ، إضافةً إلى ظهور أسئلة جديدة مع تزايُد فَهْمنا (انظر الفصل السابع).
يتضمن التطور البيولوجي تغيُّرات تحدث على مرِّ الزمن في خصائص تجمعات الكائنات الحية، ويتفاوت النطاق الزمني لهذه التغيرات ومقدارها تفاوتًا ضخمًا. من الممكن دراسة التطور خلال فترة حياة شخص، حين تحدث تغيرات بسيطة في سِمَة منفردة، كما هو الحال عند زيادة معدل السلالات البكتيرية المقاوِمة للبنسيلين، في غضون سنوات قليلة تالية على الاستخدام الواسع الانتشار للبنسيلين في السيطرة على العدوى البكتيرية (وهو ما سنناقشه في الفصل الخامس). على طرف النقيض، يتضمن التطور أحداثًا مثل ظهور تصميم رئيسي جديد للكائنات، وهو ما قد يستغرق ملايين السنوات ويتطلب تغيرات في العديد من الخصائص المختلفة، كما في الانتقال من الزواحف إلى الثدييات (انظر الفصل الرابع). من الأفكار المحورية لمؤسِّسَيِ النظرية التطورية، تشارلز داروين وألفريد راسل والاس، فكرةُ أن التغيُّرات على كل المستويات من المرجَّح أن تتضمن الأنواع نفسها من العمليات. والتحولات التطورية الكبيرة تعكس بدرجة كبيرة النوعَ ذاته من التغيرات التي تعكسها الأحداث الصغيرة المتراكِمة على امتداد فترات زمنية أطول (انظر الفصلين السادس والسابع).
في النهاية يعتمد التغيُّر التطوري على ظهور أشكال متنوعة جديدة من الكائنات؛ أي «طَفَرات»، وهذه الطفرات تسبِّبها تغيُّرات مستمرة في المادة الوراثية، المنقولة من الوالدين إلى الأبناء. إن الطفرات التي تؤثِّر على جميع الخصائص الممكِنة في العديد من الكائنات المختلفة قد خضعت للدراسة في المختبر على يد علماء الوراثة التجريبيين، وصنَّف علماء الوراثة الطبية آلاف الطفرات في التجمعات السكانية البشرية. إن تأثيرات الطفرات على الخصائص القابلة للرصد للكائن تتباين بشدة من حيث قوتها؛ فبعض الطفرات ليس لها تأثير قابل للرصد، ومن المعروف أنها توجد فقط لأنه صار من الممكن الآن دراسة بنية المادة الوراثية مباشَرةً، كما سنصف في الفصل الثالث. لطفرات أخرى تأثيرات صغيرة نسبيًّا على سمة بسيطة، مثل تغيير لون العين من البني إلى الأزرق، أو اكتساب أحد أنواع البكتيريا مناعةً ضد المضادات الحيوية، أو تغيير عدد الشعيرات على جانب ذبابة الفاكهة. ولبعض الطفرات تأثيرات بالغة على النمو، مثل الطفرة التي تصيب ذبابة الفاكهة السوداء البطن، «دروسوفيلا ميلانوجاستر»، التي تُسبِّب نمو ساق في رأس الذبابة في مكان قرن الاستشعار. إن ظهور أي طفرة جديدة من نوع خاص لَهُو حَدَثٌ نادر للغاية، يَصِل معدَّل حدوثه إلى واحد في كل مائة ألف فرد لكل جيل، أو حتى أقلَّ من ذلك، وأي تغيير في حالة الصفة نتيجةً لطفرة — مثل مقاومة المضادات الحيوية — يحدث في البداية في فرد واحد، وعادةً ما يكون مقصورًا على نسبة صغيرة من تجمع تقليدي لأجيال عديدة. وكي تتسبب الطفرة في تغير ثوري، لا بد أن تتسبب عمليات أخرى في جعلها تزداد تواترًا داخل ذلك التجمع.
-
يولد من أفراد أي نوع عدد أكبر من ذلك الذي يستطيع العيش في المعتاد حتى سِنِّ النضج والتكاثُر بنجاح؛ ومِن ثَمَّ يوجد «صراع من أجْل البقاء».
-
هناك «تنوع فردي» في عدد لا يُحصَى من خصائص التجمع، والبعض منه قد يؤثِّر على قدْرة الفرد على البقاء والتكاثر؛ ومِن ثَمَّ فإن الوالِد الناجح لأي جِيل قد يتباين عن التجمع ككل.
-
من المرجَّح وجود «مكوِّن وراثي» في غالبية هذا التنوع؛ بحيث إن خصائص نسل أي والد ناجح ستختلف عن خصائص الجيل السابق، على نحو مشابه لما حدث مع والده.
إذا استمرت هذه العملية من جيل إلى آخر، فسيحدث تحوُّل تدريجي للتجمع، بحيث تتزايد مع مرور الوقت معدلاتُ وجود الصفات المرتبطة بالقُدْرة الأكبر على البقاء أو التكاثر بنجاح. هذه الخصائص المعدَّلة نشأتْ بفعل طفرات، لكن الطفرات التي تؤثِّر على أي سمة بعينها تَظهَر طوال الوقت، بغضِّ النظر هل كان الانتخاب يستحسنها أم لا. وفي الواقع، أغلب الطفرات إمَّا لا يكون لها تأثير على الكائن، وإما تُقلِّل من قدرته على البقاء أو التكاثر.
بفرض أن الظروف الخارجية لبلد ما تتغير … الآن، هل يمكن أن يكون هناك أي شك، من واقع الصراع الذي سيخوضه كل فرد من أجْل تأمين معيشته، في أن أي تغيير طفيف في البنية أو العادات أو الغرائز — من شأنه أن يكيِّف ذلك الفرد بشكل أفضل مع الظروف الجديدة — سيؤثِّر على قوته وصحته؟ في هذا الصراع ستكون لديه «فرصة» أفضل للبقاء، وكذلك سيتمتع من سلالته هؤلاء الذين يرثون هذا التغيير، مهما كان طفيفًا، بفرصة أفضل للبقاء. سنويًّا، يفوق عددُ المواليد عددَ القادرين على البقاء، وسيكون حتميًّا لأهون ذرة رمل موضوعة في الميزان أن تحدد، على المدى البعيد، مَن سيُصيبه الموت، ومَن ستُكتب له الحياة. ولنفترض استمرار عمل الانتخاب هذا من ناحية، والموت من ناحية أخرى، لآلاف الأجيال، فمَن له أن يتظاهر بالتأكيد على أن هذا لن يكون له أي أثر؟ …
لكن هناك آلية أخرى مُهِمَّة للتغير التطوري تُفسِّر الكيفية التي يمكن بها أن يتغيَّر النوع من حيث السمات التي لها تأثير طفيف — أو ليس لها تأثير على الإطلاق — على بقاء مالكها أو نجاحه التكاثري، والتي تكون بالتبعية غير خاضعة للانتخاب الطبيعي. كما سنرى في الفصل السادس، من المرجَّح أن يصحَّ هذا في حالة الفئة الكبيرة من التغيرات في المادة الوراثية التي ليس لها سوى تأثير طفيف — أو ليس لها تأثير على الإطلاق — على بنية الكائن أو أدائه الوظيفي. فإذا كان هناك تغيُّر «مُحايِد من المنظور الانتخابي»؛ بحيث إنه في المتوسط لا يوجد أي اختلافات في البقاء أو الخصوبة بين شتَّى أفراد النوع، لا يزال من الممكن لجيل الأبناء أن يختلف على نحو طفيف عن جيل الآباء؛ سبب هذا هو أنه في غياب الانتخاب الطبيعي، تكون الجينات الموجودة في تجمع الأبناء بمنزلة عينة عشوائية للجينات الموجودة في التجمع الأبوي. التجمعات الحقيقية محدودة الحجم؛ ومِن ثَمَّ سيختلف تركيب تجمع الأبناء بفعل المصادفة عن ذلك الخاص بجيل الآباء بدرجة ما، تمامًا مثلما لا نتوقع الحصول على الصورة خمس مرات والكتابة خمس مرات بالضبط عند إلْقاء عملة عشر مرات. يُطلَق على عملية التغير العشوائي هذه «الانحراف الوراثي». وحتى أكبر التجمعات البيولوجية، كتلك الخاصة بالبكتيريا، محدودةُ العَدَد؛ ومِن ثَمَّ سيؤدِّي الانحراف الوراثي عمله على الدوام.
إن التأثيرات المجتمعة لكلٍّ من الطفرات والانتخاب الطبيعي وعملية الانحراف الوراثي العشوائية، تسبِّب تغيرات في تركيبة أيِّ تجمع. وعلى مدار فترة طويلة بما يكفي من الوقت، تغيِّر هذه التأثيراتُ التراكمية التركيبَ الوراثي للتجمُّع، ويمكنها بالتبعية أن تغيِّر على نحوٍ عظيم من خصائص النوع مقارَنةً بأسلافه.
أشرْنا سابقًا إلى تنوع الحياة، المنعكس في العدد الكبير من الأنواع الحيةِ اليومَ. (كان عدد الأنواع الموجودة على امتداد تاريخ الحياة في الماضي أكبر بكثير، وهو ما يرجع إلى حقيقة أن المصير النهائي لكل الأنواع تقريبًا هو الانقراض، وهو ما سنتحدَّث عنه في الفصل الرابع.) من الواضح أن مشكلة الكيفية التي تتطور بها أنواع جديدة مشكلة محورية، وسوف نتناولها بالنقاش في الفصل السادس. إن مصطلح «النوع» صعب التعريف، ومن الصعب أحيانًا أن نرسم خطًّا واضحًا بين التجمعات المنتمية إلى النوع نفسه، والتجمعات التي تنتمي إلى نوع منفصل. عند التفكير بشأن التطور، من المنطقي أن ننظر إلى تجمعين من الكائنات المتكاثرة جنسيًّا بوصفهما نوعين منفصلين، إذا كانا يعجزان عن التزاوج أحدهما بالآخر، بحيث يكون مصيراهما التطوريان مستقلَّيْن بالكامل. وعلى هذا، فإن التجمعات البشرية التي تعيش في أجزاء أخرى من العالم تنتمي صراحةً إلى النوع نفسه؛ نظرًا لعدم وجود حواجز تُعِيق التناسل إذا حدث أنْ هاجَر أحد الأفراد من مكان لآخر. وهذه الهجرة تَمِيل إلى منع التركيب الوراثي للتجمعات المختلفة للنوع نفسه من التشعب بدرجة أكبر مما ينبغي. على النقيض من ذلك، من الواضح أن الشمبانزي والبشر نوعان منفصلان تمامًا؛ نظرًا لأن البشر والشمبانزي اللذين يعيشان في المكان عينه يستحيل التناسل بينهما. وكما سنصف في موضع لاحق، يختلف البشر عن الشمبانزي من حيث تركيبة مادتهما الوراثية بدرجة أكبر بكثير من اختلاف بعض أفراد أحدهما عن بعضه الآخَر. إن تكوين نوع جديد يجب أن يتضمَّنَ تطوُّرَ حواجزَ تمنع التزاوج بين التجمعات ذات الصلة، وما إنْ تتكون مثل هذه الحواجز حتى تستطيع التجمعاتُ التشعُّبَ بفعل الطفرات والانتخاب الطبيعي والانحراف الوراثي. وفي نهاية المطاف تؤدِّي عمليةُ التشعُّب، لا محالة، إلى تنوُّع الحياة، وإذا تفهَّمنا كيفيةَ تطور حواجز التناسل، والكيفية التي تتشعب بها التجمعات في النهاية، فسنفهم أصل الأنواع.
يصير قَدْر كبير من المعطيات البيولوجية مفهومًا في ضوء هذه الأفكار الخاصة بالتطور، التي وُضِعت على أساس راسخ من خلال وضع نظريات رياضية يمكن نمذجتها تفصيلًا، تمامًا مثلما يُنَمذِج علماء الفلك والفيزيائيون سلوك النجوم والكواكب والجزيئات والذرات من أجْل فهمها على نحو أكثر اكتمالًا، ومِن أجْل تصميم اختبارات مفصَّلة لنظرياتهم. وقبل وصْف آليات التطور بمزيد من التفصيل (لكن مع حذف التفاصيل الرياضية)، سيوضح الفصلان التاليان الملاحظات البيولوجية العديدة التي تصير منطقية في ضوء التطور، على النقيض من فكرة الخلق الخاص والْتجائها للتفسيرات المؤقَّتة.