الأدلة المؤيِّدة للتطور: أوجه الشبه والاختلاف بين الكائنات
تفسِّر نظريةُ التطور تنوُّعَ الحياة، بكل الاختلافات المعروفة جيدًا بين أنواع الحيوانات والنباتات والميكروبات المختلفة، كما أنها تفسِّر أيضًا أوجُه الشَّبَه الأساسية بين هذه الكائنات؛ وأوجه الشبه هذه تكون في المعتاد جَلِيَّة عند المستوى السطحي للسمات المرئية من الخارج، ولكنها أيضًا تمتدُّ إلى أدقِّ تفاصيل البِنْية الميكروسكوبية والوظائف البيوكيميائية. سوف نناقش تنوع الحياة في موضع لاحِق (في الفصل السادس)، ونَصِف الكيفية التي تفسِّر بها نظريةُ التطور ظهورَ الأشكال الجديدة من أسلافها القديمة، لكننا سنركِّز هنا على وَحْدة الأنواع الحية. علاوةً على ذلك، سنستعرض العديدَ من الحقائق البيولوجية الأساسية التي ستُبنَى عليها الفصول اللاحقة.
أوجه الشَّبَه بين مجموعات الأنواع المختلفة
لطالما بُنِيت أنظمةُ التصنيف البيولوجي على الخصائص البنيوية المرئية بسهولة؛ فعلى سبيل المثال، وحتى قبل الدراسة العلمية للأحياء: كانت الحشراتُ تُعامَل بوَصْفها مجموعةً من الكائنات المتشابهة، وكانت قابلة للتميز على نحو واضح عن المجموعات الأخرى من اللافقاريات، مثل الرخويات، من خلال امتلاكها جسمًا مقسمًا، وستة أزواج من الأرجل المفصلية، وغطاءً واقيًا خارجيًّا صلبًا، وغيرها من الخصائص. تتقاسم الحشراتُ العديدَ من هذه السمات مع أنواع أخرى من الحيوانات مثل الكابوريا والعناكب، إلَّا أن عدد الأرجل قد يتبايَن (ثماني أرجل في حالة العناكب). هذه الأنواع المختلفة كلها مُجمَّعة في شعبة واحدة كبيرة، هي شعبة المفصليات. تتضمن المفصلياتُ الحشراتِ، وضمن الحشرات يشكِّل الذباب مجموعة منفصلة تتميز بحقيقة أنها تملك زوجًا واحدًا من الأجنحة، علاوة على العديد من السمات الأخرى المشتركة. تشكل الفراشات والعُثَث مجموعةً أخرى من مجموعات الحشرات، يملك أفرادُها جميعًا حراشفَ دقيقةً على زوجَيِ الأجنحة اللذين تملكهما. ومن بين الذباب نميِّز الذبابة المنزلية وقريباتها من المجموعات الأخرى عن طريق سمات مشتركة، ومن بين هذه نُسمِّي «الأنواع» الفردية، مثل الذبابة المنزلية الشائعة «موسكا دومستيكا». الأنواع بالأساس هي مجموعات من أفراد متشابهين قادرين على التناسل فيما بينهم، وتُجمَّع الأنواعُ المتشابهة في «الجنس» ذاته، وهي مجموعة يربط بين أفرادها سماتٌ لا تشاركها معها الأجناسُ الأخرى. يعرِّف علماء الأحياء كل نوع قابل للتمييز بِاسْمَيْن؛ اسم الجنس متبوعًا باسم النوع نفسه، مثل الإنسان العاقل أو «هومو سابينز»؛ فكلمة هومو هي اسم الجنس، وسابينز هو النوع.
مثلت الملاحظة التي تقضي بأنه يمكننا تصنيف الكائنات هرميًّا إلى مجموعات — تتشارك على نحو متزايد في المزيد والمزيد من السمات التي تفتقر إليها مجموعات أخرى — تقدُّمًا مُهمًّا في علم الأحياء. وقد تطورت عملية تصنيف الكائنات إلى أنواع، ومنظومة التسمية الخاصة بالأسماء، قبل داروين بوقت طويل؛ فقبْلَ أن يَبدَأ علماء الأحياء التفكير في تطور الأنواع، كان من المهم على نحو واضح أن يكون لديهم مفهوم الأنواع بوصفها كيانات متمايزة. والسبيل الأبسط والأكثر طبيعيةً لتفسير النمط الهرمي للتشابهات هو أن الكائنات الحية تطورت على مرِّ الزمن، بدايةً من أشكال قديمة تمايزت كي تنتج المجموعات الموجودة على قيد الحياة اليومَ، علاوةً على عدد لا يُحصى من الكائنات المنقرضة (انظر الفصل الرابع). وكما سنناقش في الفصل السادس، من الممكن الآن تبيُّن هذا النمط المستدلِّ عليه لعلاقات النَّسَب بين مجموعات الكائنات، عن طريق الدراسة المباشرة للمعلومات الموجودة في مادتها الوراثية.
النمو الجنيني والأعضاء اللاوظيفية
ليست أوجه الشبه مقصورة على المراحل الجنينية فحسب، فلقد تنبَّهنا منذ زمن إلى أن «الأعضاء اللاوظيفية» ما هي إلا بقايا لبِنًى كانت عامِلة في أسلاف الكائنات الموجودة حاليًّا. إن تطوُّرها مُثِير للاهتمام كثيرًا، لأن هذه الحالات يُمكِنها أن تُخبِرنا بأن التطور لا يَخلق دومًا بنًى جديدة أو يُحسِّنها، وإنما في بعض الأحيان يختزلها. ومن الأمثلة المعروفة لذلك الأمرِ الزائدةُ الدودية لدى الإنسان، التي هي نسخة مختزلة من جزء كبير الحجم من القناة الهضمية لدى قِرَدة الأورانج أوتان. أيضًا الأطراف اللاوظيفية لدى الكائنات عديمة الأرجل معروفة بدرجة كبيرة، وقد عُثِر على حفريات لثعابين بدائية لها أطراف خلفية كاملة تقريبًا، وهو ما يُشِير إلى أن الثعابين تطورت من أسلاف أشبه بالسحالي تملك أرجلًا. يتكون جسد الثعبان في وقتنا الحالي من صدر مستطيل، به عدد كبير من الفقرات (أكثر من ٣٠٠ لدى ثعبان البايثون). في البايثون، الانتقال من الجسم إلى الذيل يميِّزه فقرات ليس بها أضلاع، وفي هذا الموضع يمكن العثور على بقايا الأطراف الخلفية. يوجد حزام حوضي وزوج من عظام الفخذ الضامرة التي يتبع نموها المسار الطبيعي في الفقاريات الأخرى، مع ظهور لنفس الجينات التي تتحكم في المعتاد في نمو الأطراف. ويمكن تطعيم جناح فرخ طائر بنسيج الطرف الخلفي للبايثون من أجْل حثِّه على تكوين إصبع إضافي، وهو ما يُبيِّن أن تلك الأجزاء من منظومة الأطراف الخلفية النمائية لا تزال موجودة في البايثون. أما أنواع الثعابين الأكثر تقدمًا فهي عديمة الأطراف بالكامل.
التشابه في الخلايا وفي الوظائف الخلوية
الخلايا مصانع بالغة التعقيد فائقة الصغر تصنِّع المواد الكيميائية التي تحتاجها الكائنات، وتولد الطاقة من مصادر الغذاء، وتنتج بنًى جسمانية مثل عظام الحيوانات. أغلب «الآلات» والعديد من البنى الموجودة داخل تلك المصانع هي «بروتينات». بعض البروتينات عبارة عن «إنزيمات» تأخذ مادة كيميائية وتقوم بأداء مهمة معينة عليها، مثل قص مركَّب كيميائي إلى مكونين منفصلين، وكأنها مقص كيميائي. والإنزيمات المستخدمة في المنظفات البيولوجية تقص البروتينات (كبروتينات الدم والعَرَق) إلى قِطَع أصغر يمكن إزالتها عند غسيل الملابس المتسخة، وتقوم إنزيمات مشابهة في أحشائنا بتكسير الجزيئات الموجودة في الغذاء إلى قِطَع أصغر يمكن للخلايا الاستفادة منها. البروتينات الأخرى في الكائنات الحية تؤدِّي وظائف تتعلَّق بالتخزين أو النقل؛ فالهيموجلوبين الموجود في خلايا الدم الحمراء يحمل الأكسجين، ويقوم بروتين موجود في الكبد يُدعَى الفيريتين بتثبيت الحديد وتخزينه، وهناك أيضًا بروتينات بِنَوية، كالكيراتين الذي يكوِّن الجِلْد والشعر والأظافر. علاوةً على ذلك، تصنع الخلايا البروتينات التي توصل المعلومات إلى الخلايا الأخرى وإلى الأعضاء الأخرى. الهرمونات بروتيناتُ تواصُلٍ مألوفةٌ تدور في مجرى الدم وتتحكم في العديد من الوظائف الجسمانية، وتوجد بروتينات أخرى على سطح الخلية وتشترك في عملية التواصل مع الخلايا الأخرى. هذه التفاعلات تتضمن إرسالَ إشاراتٍ للتحكُّم في سلوك الخلية خلال النمو، والتواصل بين البويضة والحيوان المنوي في عملية الإخصاب، والتعرف على الطفيليات من جانب الجهاز المناعي.
صنَّف مختصو الكيمياء الحيوية الإنزيماتِ الموجودةَ في الكائنات الحية إلى أنواع متعددة، وكلُّ إنزيم معروف (ويبلغ عددها آلافًا مؤلَّفة في أي كائن معقَّد كالبشر) له رقمٌ في نظامِ ترقيمٍ دولي. ونظرًا لوجود عدد كبير للغاية من الإنزيمات في خلايا نطاقٍ واسعٍ من الكائنات، يصنِّف هذا النظامُ الإنزيماتِ بحسب الوظيفة التي تؤدِّيها، وليس بحسب الكائن الذي أَتَتْ منه. بعض الإنزيمات، كالإنزيمات الهضمية، تقطع الجزيئات إربًا، والبعض الآخر يربطها معًا، فيما تقوم إنزيمات أخرى بأكسدة المواد الكيميائية (أي ربطها بالأكسجين)، وهكذا دواليك.
إن الدراسات التي تناولت البنى الثلاثية الأبعاد للإنزيمات أو البروتينات نفسها، في أنواع مختلفة اختلافًا عريضًا؛ تُظهِر أن هذه الإنزيمات أو البروتينات عادةً ما تكون متشابهةً للغاية عبر مسافات تطورية هائلة، كتلك الموجودة بين البكتيريا والثدييات، حتى لو كان تتابع الأحماض الأمينية قد تغيَّر كثيرًا. مثال على ذلك: بروتين الميوسين الذي تحدَّثنا عنه من قبلُ، المشترك في عملية نقل الإشارات في أعيُن الذباب وآذان البشر. هذه التشابهات الجوهرية إنما تعني، على نحوٍ مُثِير للذهول، أنه من الممكن عادةً تصحيحُ عيبٍ أيضي في خلايا الخميرة عن طريق إدخال جين حيواني أو نباتي فيها تكون له الوظيفة عينها؛ فخلايا الخميرة التي بها طفرة تتسبب في عجْزها عن امتصاص النشادر «عُولِجت» عن طريق إدخال جين بشري في خلاياها (الجين المسئول عن بروتين مجموعة الدم الريصي، آر إتش جي إيه، الذي اشتُبِه في أن له وظيفة ذات صلة). إن النسخة الطبيعية (غير المتحوِّرة) لهذا البروتين لدى الخميرة، بها العديد من الاختلافات المتعلقة بالأحماض النووية مقارَنةً بنسخة البشر، ومع ذلك يستطيع الجينُ البشري في هذه التجربة أداءَ وظيفته في خلايا الخميرة التي تفتقر إلى نسخة طبيعية خاصة بها. تخبرنا نتيجة هذه التجربة أيضًا أن أي بروتين به تغيير في تتابع الأحماض الأمينية الخاصة به يستطيع العملَ أحيانًا بشكل طيب.
الأساس الوراثي واحد لدى الكائنات كافة
من أجل تصنيع المنتج البروتيني الخاص بتتابع الدي إن إيه الخاص بالجين، يُنسَخ أولًا هذا التتابع إلى «رسالة» مصنوعة من جزيء مشابِه، هو الحمض النووي الريبوزي (آر إن إيه)، الذي يُنسَخ تتابُعُ «الحروف» الخاص به من ذلك التتابُعِ الخاص بالجين بواسطة إنزيم نسخ. تتفاعل رسالة الآر إن إيه مع آلة خلوية معقدة، مؤلَّفة من تجمُّع للبروتينات وجزيئات الآر إن إيه الأخرى، من أجْل ترجمة الرسالة وإنتاج البروتين المحدد بواسطة الجين. هذه العملية واحدة في جوهرها في كل الخلايا، بالرغم من أنها تحدث في حقيقيات النوى داخل السيتوبلازم، ويجب أن تنتقل الرسالة أولًا من النواة إلى مناطق الخلية التي تحدث بها عملية الترجمة. بين الجينات الموجودة على الكروموسومات توجد خيوط من الدي إن إيه لا تشفِّر أي بروتينات، وبعضٌ من هذا الدي إن إيه غير المشفِّر له وظيفة مهمة؛ إذ يكون بمنزلة مواقع لربط البروتينات التي تنشِّط عملية إنتاج رسائل الآر إن إيه الخاصة بالجينات أو تثبِّطها بحسب الحاجة؛ على سبيل المثال: تُنشَّط الجينات الخاصة بالهيموجلوبين في الخلايا التي تنمو لتكون خلايا دم حمراء، لكنها تُثبَّط في خلايا المخ.
أغلب جينات بدائيات النوى (بما فيها العديد من الفيروسات) هي أيضًا تتابعات من الدي إن إيه مُنظَّمة على نحو مختلف بدرجة طفيفة عن تلك الموجودة في كروموسومات حقيقيات النوى. أنواع كثيرة من البكتيريا تتألَّف مادتُها الوراثية فقط من جزيء دي إن إيه دائري، لكن بعض الفيروسات — كفيروسات الأنفلونزا والإيدز — لديها جينات مصنوعة من الآر إن إيه. إن عملية التصحيح التي تحدث عند نسْخِ الدي إن إيه لا تحدث عند نسْخِ الآر إن إيه؛ ولهذا تملك تلك الفيروسات معدلاتِ تطافُرٍ عاليةً للغاية، ويمكنها التطوُّرُ بسرعةٍ كبيرة داخل جسد العائل. وكما سنصف في الفصل الخامس، يعني هذا أنه من الصعب تطوير لقاحات مضادة لهذه الفيروسات.
تتباين حقيقيات النوى وبدائيات النوى تباينًا شاسعًا من حيث مقادير الدي إن إيه غير المشفِّر الموجودة بها؛ ففي البكتيريا الإشريكية القولونية (وهي في المعتاد نوع غير ضار من البكتيريا يعيش في أمعائنا) يوجد حوالي ٤٣٠٠ جين، وتشكِّل التسلسلاتُ المشفِّرة تتابعاتٍ بروتينيةً نحو ٨٦ بالمائة من الدي إن إيه الخاص بهذا النوع. على النقيض من ذلك، أقل من ٢ بالمائة من الدي إن إيه الموجود في جينوم الإنسان يشفِّر تتابعات بروتينية. وتقع الكائنات الأخرى بين طرفي النقيض هذين؛ فمثلًا ذبابة الفاكهة «دروسوفيلا ميلانوجاستر» بها نحو ١٤ ألف جين مؤلَّفة من نحو ١٢٠ مليون «حرف» من الدي إن إيه، ونحو ٢٠ بالمائة من الدي إن إيه الخاص بها مخصَّص لتشفير التتابعات. لا يزال عدد الجينات المختلفة في الجينوم البشري غير معروف بدقة، وأفضل تعداد حالي يأتي من عملية تحديد تتابعات الجينوم الكامل، وهذا يمكِّن علماء الوراثة من التعرف على التتابعات المحتمل أنها تؤلِّف جيناتٍ، بناءً على ما نَعرِفه من الجينات التي خضعت للدراسة من قبلُ. من الصعب العثور على هذه التتابعات في خضم المقدار الهائل للدي إن إيه الذي يؤلف جينوم أي نوع، خاصة الجينوم البشري ذا المحتوى الضخم للغاية من الدي إن إيه (أكبر بخمس وعشرين مرة من ذبابة الفاكهة). يبلغ عدد الجينات في الإنسان نحو ٣٥ ألف جين، وهو عدد أقل بكثير مما كان يُظَن في ضوء عدد أنواع الخلايا والأنسجة التي تؤدي وظائف مختلفة، وعدد البروتينات التي يستطيع الإنسان تصنيعها من المرجح أن يكون أكبر بكثير من هذا العدد؛ لأن طريقة العَدِّ هذه تَعجِز عن رصد الجينات الصغيرة للغاية، أو غير التقليدية (على سبيل المثال: الجينات الواقعة داخل جينات أخرى، وهو الأمر الموجود في كائنات عِدَّة). ليس معروفًا بعدُ مقدار الدي إن إيه غير المشفِّر الضروري لحياة الكائن، بالرغم من أن معظمه يتكون من فيروسات وغيرها من الكيانات المتطفلة التي تعيش في الكروموسومات، وبعضها له وظائف مهمة. وكما ذكرنا بالفعل، هناك تتابعات من الدي إن إيه تقع خارج الجينات يمكنها الارتباط بالبروتينات التي تتحكم في عملية تحديد الجينات التي يتم «تنشيطها» داخل الخلية، ومن المؤكد أن عملية التحكم في نشاط الجينات أكثر أهميةً بكثير في الكائنات العديدة الخلايا منها في البكتيريا.
إضافةً إلى اكتشاف أن كائنات متبايِنة تباينًا شاسعًا لها المادة الوراثية ذاتها من الدي إن إيه، كشف علم الأحياء الحديث أيضًا النقاب عن أوجه شبه عميقة في دورات حياةِ حقيقياتِ النوى، على الرغم من تنوُّعها، بدايةً من الفطريات الوحيدة الخلية كفطر الخميرة، ومرورًا بالنباتات والحيوانات الحولية، ووصولًا إلى الكائنات الطويلة العمر (وإن كانت ليست خالدة) كالبشر والأشجار. العديد من حقيقيات النوى، وإن لم يكن كلها، يمر بمراحل جنسية في كل جيل، يتحد فيها جينوما الأب والأم الخاصان بالحيوان المنوي والبويضة (وكلٌّ منهما مؤلَّف من العدد (ن) من الكروموسومات المختلفة، بحسب النوع محل الحديث) من أجل تكوين فردٍ يحمل العددَ (٢ن) من الكروموسومات؛ وحين يقوم الكائن بتصنيع بويضات أو حيوانات منوية جديدة (بحسب جنسه)، فإن الحالة (ن) تُستعاد عن طريق نوع خاص من الانقسام الخلوي. في هذا النوع، يصطفُّ كل زوج من كروموسومات الأب والأم، وبعد ذلك (بعد تبادل المادة لتكوين كروموسومات هي مزيج في جزء منها من دي إن إيه الأب ودي إن إيه الأم) تنفصل أزواج الكروموسومات بعضها عن بعض، بصورة مشابهة للطريقة التي تنفصل بها الكروموسومات المتضاعفة حديثًا في عمليات الانقسام الخلوي الأخرى؛ وفي نهاية العملية يكون عدد الكروموسومات في كل بويضة أو حيوان منوي قد قلَّ إلى النصف، لكن كل بويضة أو حيوان منوي يملك مجموعةً كاملة من جينات الكائن؛ وستُستعاد المجموعةُ المزدوجة عند اتحاد البويضة بنواة الحيوان المنوي عند الإخصاب.
من المؤكد أن الملامح الأساسية للتكاثر الجنسي قد تطورت قبل تطور الحيوانات والنباتات العديدة الخلايا — التي حلَّت متأخِّرة على المشهد التطوري — بزمن طويل، ويتضح هذا جليًّا من الملامح المشتركة الظاهرة في تكاثر الكائنات الوحيدة الخلية والعديدة الخلايا الجنسي، ومن الجينات والبروتينات المتشابهة، التي اكتُشِف أنها منخرطة في عملية التحكم في الانقسام الخلوي وسلوك الكروموسومات في مجموعاتٍ متباعدٍ بعضها عن بعض تباعُدَ فطرِ الخميرة عن الثدييات. في أغلب حقيقيات النوى الوحيدة الخلية، نجد أن الخلية (٢ن) المنتجة بواسطة اندماج زوج من الخلايا، كلٌّ منها له العدد (ن) من الكروموسومات؛ تنقسم على الفور كي تنتج خليتين لهما العدد (ن) من الكروموسومات، على النحو المبيَّن أعلاه في حالة إنتاج الخلايا الجنسية في الحيوانات العديدة الخلايا. وفي النباتات، يحدث اختزال عدد الكروموسومات من (٢ن) إلى (ن) قبل تكوُّن الأمشاج الأنثوية وحبوب اللقاح، لكن نفس النوع من عملية الانقسام الخلوي الخاصة يحدث مجددًا؛ ففي الأشنات — على سبيل المثال — توجد مرحلة ممتدة من دورة الحياة تشكل فيها كروموسومات عددها (ن) نبات الأشنة، وفوقها تتطور المرحلة الطفيلية ذات العدد (٢ن) من الكروموسومات، بعد أن تكون الأمشاج الأنثوية وحبوب اللقاح قد تكوَّنت ويكون الإخصاب قد حدث.
هذه التعقيدات التي تتميز بها مثل هذه العمليات الجنسية غير موجودة في بعض الكائنات العديدة الخلايا. في مثل هذه الأنواع «اللاجنسية» تُنتِج الكائناتُ الأمُّ الكائناتِ الوليدة دون اختزال عدد الكروموسومات من (٢ن) خلال عملية إنتاج البويضة. ومع هذا، كل الكائنات اللاجنسية العديدة الخلايا تُظهِر علامات واضحة تكشف أنها منحدرة من أسلاف كانت تتكاثر جنسيًّا؛ على سبيل المثال: الهندباء الشائعة لا جنسية، وبذورها تتكون دون الحاجة إلى جلب حبوب اللقاح إلى أزهارها، كما هو ضروري في حالة أغلب النباتات كي تتكاثر. تمثل هذه مزية لعشب ضار كالهندباء الشائعة، التي تُنتِج بسرعة أعدادًا كبيرة من البذور، وهو ما يمكن أن يراه كلُّ مَن يملك رقعة عشب أمام منزله. إلا أن أنواع الهندباء الأخرى تتكاثر بالتزاوج الطبيعي بين الأفراد، والهندباء الشائعة مرتبطة على نحو وثيق بهذه الأنواع؛ ومِن ثَمَّ فهي لا تزال تصنع حبوب لقاح تستطيع إخصاب أزهار الأنواع الجنسية.
الطفرات وآثارها
على الرغم من وجود آلية التصحيح التي تصوِّب الأخطاء عند نسْخ الدي إن إيه خلال عملية الانقسام الخلوي، فإن الأخطاء تحدث لا محالة، وهذه الأخطاء هي مصدر الطفرات. إذا نتج عن الطفرة تغيُّرٌ في تتابع الأحماض الأمينية لأحد البروتينات، فقد يصير البروتين معطوبًا؛ فمثلًا: قد لا يلتفُّ حولَ نفسه على النحو الصحيح؛ ومِن ثَمَّ يعجز عن القيام بوظيفته على النحو الملائم. وإذا أصاب التغيُّر أحد الإنزيمات، فقد يتسبَّب هذا في جعل المسار الأيضي الذي ينتمي الإنزيم إليه يسير بصورة بطيئة، أو يتوقَّف تمامًا، كما في حالة طفرات المَهَق التي ذكرناها سلفًا. قد تتسبَّب الطفرات التي تصيب البروتينات البنوية أو تلك الخاصة بعمليات التواصل، في إعاقة وظائف الخلايا أو إعاقة نمو الكائن؛ فالعديد من الأمراض التي تصيب البشرَ تسبِّبها طفراتٌ؛ على سبيل المثال: الطفرات التي تصيب الجينات المشتركة في التحكُّم في عملية الانقسام الخلوي تزيد مخاطِرَ ظهور السرطان. وكما ذكرنا من قبلُ، فإن الخلايا تملك نُظُمَ تحكُّمٍ دقيقة من أجل ضمان أنها تنقسم فقط حين يكون كلُّ شيء على ما يرام (فلا بد أن تكتمل عملية البحث عن طفرات، ويجب ألَّا تُظهِر الخلية أيَّ علامات على العدوى أو أيَّ تلفٍ آخَر، وهكذا دواليك). يمكن أن تتسبَّب الطفرات التي تصيب نُظُمَ التحكُّم هذه في عمليات انقسام خلوي غير خاضعة للسيطرة، وفي نمو خبيث للسلالة الخلوية. ولحُسْن الحظِّ أن من المستبعَد أن تُصيب الطفرات كِلتَا نسخَتَيِ الجينات الموجودة في الخلية، وعادةً ما تكون نسخةٌ واحدة غيرُ طافرة من زوج الجينات كافيةً كي تعمل الخليةُ بشكل صحيح. أيضًا تتطلب السلالة الخلوية في المعتاد تعديلات أخرى كي تصير سرطانًا، ولهذا تكون الأورام الخبيثة غيرَ شائعة. (يحتاج الورم إلى إمداد من الدم، ويجب أن تتفادى السماتُ غير الطبيعية للخلايا الرصدَ من جانب الجسد.) ومع ذلك، يُعَدُّ فهْمُ الانقسام الخلوي والتحكم فيه جزءًا مهمًّا من الأبحاث المعنية بالسرطان. إن العملية متشابهة في خلايا الكائنات الحقيقية النوى لدرجة أن جائزة نوبل في الطب لعام ٢٠٠١ مُنِحت للأبحاث المُجراة على الانقسام الخلوي في فطر الخميرة، التي بيَّنتْ تعرُّضَ أحد الجينات المشاركة في نظام التحكم الخاص بخلايا فطر الخميرة للطفرة في بعض أنواع السرطان الوراثية لدى البشر.
الطفراتُ التي تجعل الجسم أكثر قابليةً لتكوين أورام سرطانية نادرة الوجود، مثلُها مثل جميع الطفرات المسبِّبة للأمراض. أكثرُ الأمراض الجينية شيوعًا في التجمعات السكانية التي تقطن شماليَّ أوروبا هو التليُّفُ الكيسي، لكنْ حتى في هذه الحالة، فإن التتابع غير الطافر للجين المتصل بالمرض يمثِّل أكثر من ٩٨ بالمائة من نُسَخ الجين في ذلك التجمع. إن الطفرات التي تسبِّب فشلَ أحد الإنزيمات أو البروتينات المهمة قد تخفض القدْرةَ على البقاء أو الإخصاب لدى الأفراد المصابين بها؛ ومن ثَمَّ فإن التتابع الجيني الذي يؤدِّي إلى وجود إنزيم غير عامل سيكون حاضرًا بنسبةٍ أقلَّ في الجيل التالي، وفي النهاية سيُمحَى من التجمُّع تمامًا؛ فأحدُ الأدوار الأساسية للانتخاب الطبيعي هو أن تظلَّ البروتينات والإنزيمات الأخرى لمعظم الأفراد تعمل جيدًا. وسنعاود الحديث عن هذه الفكرة في الفصل الخامس.
يؤدِّي أحد الأنواع المهمة من الطفرات إلى عدم إنتاج كمية كافية من بروتين معين بواسطة الجين الخاص به، ويمكن أن يحدث هذا بسبب مشكلة في نظام التحكم الطبيعي الخاص بذلك الجين، تتسبَّب إمَّا في تنشيط الجين حين ينبغي عدم فعل ذلك، وإمَّا في عدم إنتاج البروتين بالكميات الكافية، وإمَّا في وقف إنتاج البروتين قبل اكتماله. وتوجد طفرات أخرى لا تتسبَّب في وقف عملية إنتاج الإنزيم، لكن قد يكون الإنزيم معيبًا، تمامًا مثلما يمكن أن يُعاق خطُّ الإنتاج أو يتوقَّف إذا تضرَّرَتْ إحدى الأدوات أو الماكينات الضرورية بصورةٍ ما. إذا غاب واحد أو أكثر من الأحماض الأمينية المكوِّنة للبروتين، فقد لا يعمل البروتين بصورة سليمة، ويمكن أن يحدث الأمر عينُه لو ظهر حمض أميني مختلف في موضع معيَّن على السلسلة، حتى لو كانت بقية الأحماض الأمينية صحيحة. إن الطفرات المسبِّبة لفقدان الوظيفة يمكن أن تُسهِم في عملية التطور حين يتوقف الانتخاب الطبيعي عن التخلص منها (انظر الفصل الثاني والسادس لمعرفة الكيفية التي يمكن بها لطفرات محايدة من المنظور الانتخابي أن تنتشر). نحو ٦٥ بالمائة من جينات المستقبِلات الشمِّيَّة لدى البشر هي «جينات لا وظيفية» لا تُنتِج مستقبلاتٍ بروتينيةً عامِلة؛ ولهذا السبب نملك وظائفَ شمِّية أقلَّ من الفئران أو الكلاب (وهو أمر ليس مُثِيرًا للدهشة في ضوء أهمية حاسة الشم لدى هذه الحيوانات في الحياة اليومية والتفاعلات الاجتماعية، مقارَنةً بدورها الثانوي لدينا).
هناك أيضًا اختلافات بين الأفراد الطبيعيين في النوع ذاته؛ على سبيل المثال: يتباين الأفراد داخل التجمعات البشرية من حيث قدرتهم على تذوق أو شم مواد كيميائية معينة، أو على تكسير بعض المواد الكيميائية المستخدمة كمواد تخدير؛ فالأشخاص الذين يفتقرون إلى إنزيم يقوم بتكسير المادة المخدِّرة قد يُعانون من ردِّ فعلٍ سيِّئ لها، لكن نقصان هذا الإنزيم لن يكون له أيُّ تأثير آخَر خلاف ذلك. تُعَدُّ الاختلافات المشابهة في القدرة على التعامل مع العقاقير، وأحيانًا الأطعمة، جانبًا مهمًّا للتنوع لدى البشر، ومعرفةُ هذه الاختلافات ضروريةٌ للطب الحديث، الذي تُستخدَم فيه عادةً عقاقيرُ قويةٌ.
التصنيف البيولوجي وتتابعات الدي إن إيه والتتابعات البروتينية
في الفصل التالي سنشرح الأدلة المؤيِّدة للتطور بناءً على السِّجِلِّ الحفري، ومن واقع المعطيات المبنية على التوزيع الجغرافي للأنواع الحية؛ وهذه الملاحظات تكمل تلك المذكورة في هذا الفصل، من حيث إنها تبيِّن أن نظرية التطور تقدِّم تفسيرًا طبيعيًّا لنطاق واسع من الظواهر البيولوجية.